أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - محمد عبد المومن - سبتة والظاهرة الجهادية: تقاطعات الهوية والهشاشة في مجال حدودي















المزيد.....


سبتة والظاهرة الجهادية: تقاطعات الهوية والهشاشة في مجال حدودي


محمد عبد المومن

الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 20:54
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


مقدمة:
منذ مطلع الألفية الثالثة، برزت مدينة سبتة، إلى جانب مليلية، في الخطاب الأمني والإعلامي الإسباني والأوروبي بوصفها فضاء ذا خصوصية في علاقة بظاهرة التطرف العنيف. فبينما شكّلت مدريد أو برشلونة مسارح لأحداث إرهابية بارزة مثل تفجيرات 2004، برز اسم سبتة في الإعلام كمشتل للجهاديين المحتملين أكثر منه مجالا لوقوع العمليات الإرهابية الفعلية وقد غذى هذا التصور الإعلامي سياقا أوسع يتمثل في بروز ظاهرة "الجهادية الأوروبية" التي تسارعت بعد الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 وما تلاه من اضطرابات إقليمية، لتبلغ ذروتها مع تدفق مئات المقاتلين الأجانب إلى سوريا بعد 2011 تبرز سبتة كحالة خاصة لعدة أسباب متشابكة. فمن الناحية الجغرافية والسياسية، تشكل المدينة إحدى الحدود البرية القليلة للاتحاد الأوروبي مع إفريقيا، وهو ما يجعلها نقطة تماس بين فضاءين سياسيين وثقافيين مختلفين، ومعبرا لظواهر متداخلة مثل الهجرة غير النظامية، التهريب، والجريمة المنظمة. هذه الخصائص البنيوية تضعها في خانة "السيناريوهات المعرضة للخطر" وفق تصنيفات الدراسات الأمنية أما من الناحية الاجتماعية، فإن سبتة تتسم بتركيبة سكانية فريدة في إسبانيا، حيث يتقاسم المسيحيون والمسلمون الحيز الاجتماعي في وضع شبه متكافئ من حيث العدد، لكن مع تفاوتات واضحة في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. فقد أظهرت دراسات سوسيولوجية أن معدلات الفقر والهشاشة والبطالة والرسوب المدرسي أعلى بكثير بين الساكنة المسلمة، وهو ما يخلق شعوراً بالتمييز و"المواطنة من الدرجة الثانية" لدى جزء معتبر من السكان هذا الواقع يغذي الإحساس بالهوية الدينية كعنصر مركزي في الانتماء الاجتماعي والسياسي، ويجعل فئات من الشباب أكثر قابلية للتأثر بالخطاب الجهادي.
تضاف إلى هذه العوامل المحلية مؤثرات خارجية. فمنذ اندلاع الحروب في أفغانستان والعراق وسوريا، تزايدت قدرة الشبكات الجهادية على التأثير في الشباب المحلي عبر الخطاب الدعائي العابر للحدود. بل إن تقارير أمنية ودراسات أكاديمية أشارت إلى أن سبتة ومليلية شكلتا ابتداء من 2013 أهم بؤرتين للجهادية " المحلية " في إسبانيا، حيث إن ثلاثة أرباع المعتقلين الإسبان في قضايا الإرهاب الجهادي ولدوا في هاتين المدينتين. وهو ما يثير التساؤلات حول العلاقة بين البنية الاجتماعية للمدينة والتحولات الجيوسياسية العالمية.
على هذا الأساس، تشكل دراسة الظاهرة الجهادية في سبتة مدخلا مزدوج الأهمية: فمن جهة، تتيح فهماً معمقاً لعلاقة العوامل البنيوية (الهشاشة، التهميش، الهويات الدينية) بآليات التجنيد والتطرف. ومن جهة ثانية، تساعد على تقييم فعالية السياسات الأمنية والوقائية التي اعتمدتها الدولة الإسبانية في مواجهة الظاهرة، ومدى انسجامها مع ضرورات تعزيز العيش المشترك في مدينة متعددة الأديان والهويات.
يتركب هذا المقال من ثمان نقاط رئيسية تسعى إلى الإحاطة بجوانب متعددة من الظاهرة الجهادية في سبتة. فهو، من جهة، يحاول تفكيك بعض أسباب نشأتها محليا في ضوء البنى الاجتماعية والدينية والاقتصادية، ومن جهة ثانية، يستشرف انعكاساتها على التماسك المجتمعي والعيش المشترك في مدينة ذات طابع حدودي متعدد الهويات.
أولا: البنية الاجتماعية:
تعد سبتة من المدن الإسبانية ذات الخصوصية الديموغرافية البارزة، إذ لا يشبه تركيبها السكاني أي مدينة أخرى داخل التراب الإسباني. فالمدينة التي تضم حوالي 84 ألف نسمة تعرف انقساما إثنيا ودينيا يكاد يكون متوازنا بين جماعة مسيحية ذات أصول إيبيرية، وجماعة مسلمة ذات أصول مغربية، إضافة إلى أقليات صغيرة يهودية وهندية وصينية لا تتجاوز نسبتها 1% هذا التوازن العددي بين المسلمين والمسيحيين منح المدينة طابعا فريدا، لكنه في الوقت ذاته جعل الهويات الدينية والإثنية عاملا أساسيا في تعريف الذات والآخر داخل الحياة اليومية.
غير أن هذا التوازن الكمي يخفي وراءه تفاوتات بنيوية عميقة. فقد أبرزت الدراسات أن الساكنة المسلمة تعاني من معدلات أعلى بكثير في البطالة، والفقر، والفشل المدرسي، مقارنة بنظرائها المسيحيين. ففي حين أن الفقر يمس حوالي 15% من غير المسلمين، تصل النسبة إلى نحو 65 % بين المسلمين. كما أن نسب الرسوب الدراسي لدى الأطفال المسلمين تفوق 70 %، وهو مؤشر خطير على استمرار حلقة الإقصاء الاجتماعي عبر الأجيال. هذه الفجوات البنيوية تسهم في خلق شعور واسع بالهامشية و" المواطنة من الدرجة الثانية "، وتوفر بذلك بيئة خصبة لخطابات الضحية التي توظفها الجماعات المتطرفة في عمليات الاستقطاب.
تتجلى هذه التفاوتات بوضوح في الجغرافيا الحضرية للمدينة، حيث يتركز جزء كبير من السكان المسلمين في أحياء مهمشة مثل حي البرينسيبي الذي صار رمزا اجتماعيا وإعلاميا للهشاشة والتهميش. هذا الحي، الذي يقطنه نحو 15 ألف نسمة، يعاني من معدلات مرتفعة في البطالة، اقتصاد غير مهيكل، ضعف البنية التحتية، انتشار المخدرات والجريمة المنظمة، وصعوبات في ولوج الخدمات الأساسية. وقد شكل بذلك مجالا خصبا ليس فقط للجريمة المنظمة المرتبطة بتهريب المخدرات عبر مضيق جبل طارق، بل أيضا لنشاط شبكات التجنيد الجهادي التي استفادت من هشاشة الشباب ومن محدودية الرقابة الأمنية والمؤسساتية.
إلى جانب العوامل الاقتصادية والاجتماعية، فإن البعد الديموغرافي يلعب دورا إضافيا في تعقيد المشهد. فمعدلات النمو السكاني في سبتة تعد من بين الأعلى في إسبانيا، حيث تمثل الفئة العمرية دون 30 سنة أكثر من 40% من مجموع السكان. هذه التركيبة السكانية الشابة، في ظل غياب بدائل اقتصادية وتعليمية كافية، تجعل المدينة عرضة لظواهر الانحراف والتطرف، خصوصاً في ظل حضور شبكات عابرة للحدود تستغل الروابط العائلية والاجتماعية مع مدن مجاورة في المغرب مثل تطوان والفنيدق وطنجة.
إجمالا، يمكن القول البنية الديموغرافية لسبتة تكشف عن مفارقة أساسية: فهي من جهة مدينة متعددة الأديان والثقافات يمكن أن تكون نموذجاً للتعايش، لكنها من جهة أخرى تعاني من اختلالات اجتماعية واقتصادية تجعلها أكثر عرضة لاختراق الشبكات الجهادية، التي وجدت في هشاشة بعض الأحياء وفي شعور التهميش أرضية خصبة لتكثيف نشاطها.
ثانياً: العوامل الدينية والرمزية
تلعب العوامل الدينية والرمزية دورا محوريا في فهم الظاهرة الجهادية بسبتة، إذ لا يمكن تفسير بروزها فقط بالهشاشة الاجتماعية أو الفقر، بل أيضاً بخصوصية البنية الدينية والرمزية للمدينة. فالدين يشكل أحد المكونات المركزية للهوية الجماعية لدى السكان، حيث يعرف أغلب السكان عن أنفسهم ك : " مسيحيين " أو" مسلمين "، بغض النظر عن مستوى التدين الفردي. هذا الطابع الهوياتي للدين يعزز الاستقطاب الإثني-الديني في المجال العام، ويزيد من هشاشة التعايش حين تدخل عناصر راديكالية جديدة.
عرفت المدينة خلال العقود الأخيرة اختراق تيارات إسلامية راديكالية متنوعة، منها جماعة التبليغ التي ركزت على الدعوة الدينية والتأطير الروحي داخل الأحياء الشعبية والسجون، وجماعة العدل والإحسان ذات البعد الصوفي والسياسي، إضافة إلى التيار السلفي الذي رغم كونه أقلية فقد ارتبط بأحداث عنف رمزية مثل حرق أضرحة الأولياء في 2006. ارتبطت بعض الشخصيات الدينية المحلية بخطابات متشددة؛ فقد سجلت حالات لأئمة يدعون إلى مقاطعة مؤسسات الدولة أو يلعنون قوات الأمن بعد اعتقال متهمين في قضايا إرهاب. هذه التحولات في المشهد الديني أدت إلى بروز خطاب أكثر تشددا مقارنة بالتدين المالكي التقليدي السائد في شمال المغرب وسبتة لعقود طويلة.
على الصعيد الرمزي، اكتسبت سبتة (وكذلك مليلية) مكانة خاصة في الخطاب الجهادي العالمي. فمنذ منتصف العقد الأول من الألفية، وردت في بيانات قادة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم الدولة الإسلامية باعتبارها " أرضاً محتلة " ينبغي "تحريرها " على غرار فلسطين أو الشيشان.
إذن، لا يمكن اختزال الظاهرة الجهادية في سبتة في أبعادها الأمنية أو الاجتماعية فقط. فالعوامل الدينية والرمزية أسهمت في إضفاء شرعية خطابية وأخلاقية على مشاريع التجنيد، كما عززت حضور المدينة في الخيال الجهادي العابر للحدود، لتتحول من فضاء للتعايش التاريخي بين الأديان إلى رمز صراع يوظفه المتطرفون في دعايتهم.
ثالثاً: شبكات التجنيد والتعبئة:
تعد سبتة من أبرز البؤر التي نشأت فيها شبكات تجنيد جهادية محلية في إسبانيا خلال العقدين الأخيرين. فقد كشفت الدراسات الأمنية أن المدينة، إلى جانب مليلية، تحولت منذ 2013 إلى المركز الأهم للجهادية " المحلية " أو " الوطنية " في البلاد، حيث إن نحو 75,8% من المعتقلين الإسبان المولودين في إسبانيا والمتورطين في أنشطة إرهابية ينحدرون من سبتة ومليلية هذه المعطيات تعكس أن الظاهرة ليست عابرة أو مستوردة بالكامل، بل مرتبطة بشكل وثيق بسياقات اجتماعية محلية.
- آليات التجنيد:
تعمل الشبكات الجهادية في سبتة عبر مستويات متعددة. فمن جهة، يتم التجنيد في الأحياء الهامشية مثل حي البرينسيبي، حيث يعيش آلاف الشباب في ظروف هشاشة اقتصادية وتعليمية واجتماعية. وتستغل هذه الشبكات الشعور بالتهميش والتمييز، لتقدم " الجهاد " كمسار بديل يمنح الفرد مكانة واعترافا.
من جهة ثانية، تلعب المساجد والمراكز الدينية غير الخاضعة للرقابة الكافية دوراً في نشر أفكار راديكالية. وقد لوحظ أن بعض الأئمة أو الدعاة المستقلين يقدمون خطابات تُهيئ الشباب لتقبّل خطاب أكثر تشددا.
كما يضاف إلى ذلك البعد الافتراضي، حيث تستثمر الشبكات الجهادية في المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي للتأثير على الشباب، خصوصاً منذ صعود تنظيم " الدولة الإسلامية ".
- أنماط الشبكات:
تُظهر التحقيقات الأمنية أن أغلب الشبكات في سبتة لم تكن كيانات كبيرة أو هرمية، بل مجموعات صغيرة أو "خلايا" تتراوح بين 3 و10 أفراد، غالبا ذات طابع عائلي/محلي (بسبب القرابة أو روابط الحي). هذه الخلايا كانت تتوزع أدوارها بين:
• التعبئة والدعاية عبر نشر مواد جهادية وترجمتها.
• التجنيد والاستقطاب للشباب والفتيات.
• التسهيل اللوجستي، خصوصاً تنظيم السفر نحو سوريا والعراق.
وقد أظهرت إحدى الدراسات أن ما يقرب من95% من المعتقلين المرتبطين بهذه الشبكات انخرطوا في أنشطة تجنيد أو دعاية، بينما انخفضت نسبة الانخراط المباشر في أنشطة عملياتية داخل إسبانيا.
هذا يبرز أن وظيفة سبتة لم تكن أساساً تنفيذ الهجمات، بل لعبت دور "المصدر" للمقاتلين والأفكار.
- دور المرأة والشباب:
بعكس الصورة النمطية، لم تقتصر هذه الشبكات على الرجال. إذ سجلت أجهزة الأمن حضوراً متزايداً للنساء في عمليات التجنيد، سواء عبر الفضاء الافتراضي أو في محيط الأسرة. فقد أظهرت الإحصائيات أن حوالي 15,8% من المعتقلين في قضايا جهادية بإسبانيا منذ 2013 كن نساء، وعدد منهن من سبتة ومليلية. أما على صعيد العمر، فإن غالبية المجندين من الشباب بين 15 و29 عاماً، ما يعكس هشاشة هذه الفئة وغياب بدائل اقتصادية واجتماعية قوية.
- الارتباطات الإقليمية والدولية
لا تعمل هذه الشبكات في فراغ، بل ترتبط عضوياً بمحيطها الإقليمي. فالعلاقة الاجتماعية والعائلية بين سبتة ومدن مغربية مجاورة مثل تطوان والفنيدق وطنجة خلقت جسوراً لعبور الأشخاص والأفكار والموارد. بعض الخلايا كانت متعددة المواقع، حيث يُعتقل بعض عناصرها في سبتة وآخرون في مدن مغربية قريبة. كما ارتبطت هذه الشبكات مباشرة بتنظيمات جهادية عالمية، أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية الذي أصبح منذ 2013 التنظيم المرجعي لكل الخلايا تقريباً.
رابعا: الاغتراب والهامشية
يعد الشعور بالاغتراب والهامشية من أبرز العوامل البنيوية التي تُفسر قابلية شباب سبتة للانخراط في شبكات التطرف. فقد أوضح كارلوس رانتومي أن الشباب المسلمين في المدينة يعيشون وضعية " هوية مزدوجة ": فهم إسبان من الناحية القانونية، لكنهم غالبا ما يدركون أنفسهم باعتبارهم "آخر" في دولة ذات أغلبية مسيحية وثقافة أوروبية.
هذا الوضع يولد إحساساً بالانفصال عن المجتمع العام، ويغذّي شعوراً بالمواطنة الناقصة أو من الدرجة الثانية، خصوصاً حين يقترن بمؤشرات مرتفعة للبطالة والفقر والتهميش التعليمي التي تعاني منها الساكنة المسلمة مقارنةً بغيرها.
وقد استغلت الشبكات الجهادية هذا الشعور بالاغتراب لتوسيع قاعدة استقطابها، إذ قدّمت للشباب المتأثر سردية بديلة تقوم على الانتماء إلى "الأمة الإسلامية العالمية"، بما يوفر لهم إطاراً رمزياً يتجاوز حدود الدولة الوطنية. هذا الخطاب، المدعوم بتجارب جهادية في العراق وسوريا، وجد صداه بين فئات من الشباب الباحثين عن معنى ومكانة، فحوّل الإحساس بالهامشية إلى محفز على الانخراط في مشروع عالمي يتجاوز الواقع المحلي.
خامسا: التهريب والاقتصاد غير المهيكل
تُعتبر سبتة، بحكم موقعها الحدودي، فضاء متداخلا مع اقتصاد غير مهيكل لطالما ارتبط بظاهرة التهريب. وقد أشار الباحث لويس دي لا كورتي إلى أن التهريب التجاري عبر الحدود مع المغرب شكّل أحد الملامح المميزة للمدينة ومليلية على السواء، حيث اعتمدت آلاف العائلات على هذا النشاط كمصدر أساسي للعيش.
لكن هذا الاقتصاد الموازي لم يكن مجرد نشاط اقتصادي بسيط، بل ارتبط بشبكات منظمة من الجريمة، وشكّل مجالاً لتهريب المخدرات، وتجارة غير مشروعة للسلع، بل وأحياناً موارد مالية غير مباشرة لشبكات التجنيد الجهادية.
يبرز حي البرينسيبي مثالا دالا على هذا التداخل، إذ يُعتبر أحد أكثر الأحياء ارتباطا بالاقتصاد غير الرسمي. هنا يتعايش التهريب الصغير مع تجارة المخدرات، وتنتشر البطالة والهشاشة، ما يخلق بيئة مثالية لتقاطع الانحراف بالتطرف. هذا الوضع سمح لبعض الشبكات الجهادية بتوظيف القنوات التي يوفرها الاقتصاد غير المهيكل لتسهيل أنشطة التجنيد أو تمويل السفر نحو بؤر القتال في الشرق الأوسط. وهكذا، يصبح التهريب أكثر من مجرد نشاط اقتصادي غير مشروع، بل أحد العناصر البنيوية التي تُغذي هشاشة الدولة في ضبط المجال، وتفتح ثغرات أمام توغل التنظيمات الراديكالية.
سادسا: الانفلات الأمني وانتشار الأسلحة
تشير التحليلات الأمنية إلى أن بعض الأحياء الهامشية في سبتة، وعلى رأسها حي البرينسيبي، شهدت خلال العقدين الأخيرين مظاهر متزايدة من الانفلات الأمني. فقد سجلت معدلات مرتفعة للجريمة، بما في ذلك عمليات إطلاق نار مرتبطة بتصفية حسابات بين شبكات المخدرات، وانتشار الأسلحة الخفيفة بشكل غير مشروع.
هذا الوضع لا يعكس فقط ضعف السيطرة الأمنية في بعض المناطق، بل يكرس ما سماه بعض الباحثين بـ" الهامش الأمني " الذي تصبح فيه سلطة الدولة محدودة، بينما تكتسب الجماعات المنحرفة نفوذا اجتماعيا واقتصاديا.
هذا الانفلات يخلق بيئة مثالية لعمل الشبكات الجهادية، إذ يسهّل اندماجها في نسيج الجريمة المنظمة، ويوفر لها غطاءً للتحرك والتجنيد. كما يعقّد عمل الأجهزة الأمنية، التي تجد صعوبة في التمييز بين النشاط الإجرامي العادي والنشاط الإرهابي، خصوصاً حين يتقاطعان في نفس الفضاءات. وفي هذا السياق، لا يمكن النظر إلى الظاهرة الجهادية في سبتة بمعزل عن هذه البيئة الأمنية الهشة التي تسمح بمرونة أكبر للشبكات الراديكالية.
سابعا: المخاطر على التعايش الاجتماعي
من أبرز التحديات التي تطرحها الظاهرة الجهادية في سبتة أنها لا تختزل في بعدها الأمني فقط، بل تحمل أيضا أثرا عميقا على النسيج الاجتماعي والتعايش الديني والثقافي داخل المدينة. فسبتة مدينة متعددة الهويات بتركيبتها السكانية الفريدة: مسيحيون ومسلمون بأعداد شبه متكافئة، إلى جانب أقليات يهودية وهندية. هذه الخصوصية جعلت منها، تاريخياً، فضاءً ممكناً للتعايش، لكنها في الوقت نفسه أرضية هشّة يمكن أن تهتز تحت تأثير الاستقطابات الدينية والسياسية.
- وصم المجتمع المسلم
التركيز الإعلامي المتكرر على سبتة باعتبارها " معقلاً للجهادية " خلق وصما جماعيا يطال خصوصا السكان المسلمين. فحتى وإن كان المنخرطون فعليا في شبكات التطرف لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة جدا، إلا أن صورة المسلم في سبتة ارتبطت في المخيال العام الإسباني بخطر التطرف. هذا الوصم ينعكس في الحياة اليومية عبر أشكال من التمييز، ويعزز شعور "الاغتراب الداخلي" لدى شباب المدينة المسلمين
- تفكك الثقة المتبادلة
أشار رُنتومي إلى أن تصاعد التيارات الجهادية قد أدى إلى تآكل الثقة المتبادلة بين المجموعتين الرئيسيتين في سبتة (المسيحيين والمسلمين). فبينما يرى جزء من المسيحيين في صعود الخطاب الراديكالي تهديداً مباشراً لأمنهم وهويتهم، يشعر المسلمون أن السلطات والمؤسسات تنظر إليهم بعين الريبة، وتتعامل معهم باعتبارهم "مجتمعات مشتبه فيها" بشكل دائم. هذه الحلقة المفرغة من الشكوك المتبادلة تقوض أسس العيش المشترك.
- الهويات المتنازعة
يضاف إلى ذلك البعد الرمزي والديني الذي يمنح للمدينة مكانة خاصة في خطاب الجماعات الجهادية. فاعتبارها "أرضاً محتلة" يدخلها في سردية دينية-سياسية عابرة للحدود، ما يعزز لدى بعض الشباب المسلمين شعوراً بالانتماء إلى قضية أوسع تتجاوز حدود الدولة الإسبانية. وبذلك، يصبح الانتماء الديني والسياسي متداخلاً بشكل يُضعف فكرة المواطنة المشتركة، ويهدد بتفكيك الهوية المدنية الجامعة.
- انعكاسات اجتماعية طويلة الأمد:
النتيجة المباشرة لهذه التحولات هي خلق أشكال من العزلة والانغلاق داخل الأحياء المسلمة، حيث يسود الانفصال عن بقية المجتمع، ويترسخ خطاب "نحن" مقابل "هم". هذا الوضع يسهّل عملية التجنيد والتطرف، لكنه أيضاً يهدد المدى الطويل قدرة المدينة على الحفاظ على نموذجها التعددي. كما أن الأجيال الجديدة التي تنشأ في ظل هذا المناخ قد تحمل معها تصورات أكثر استقطاباً، ما يعمّق الأزمة عبر الزمن.
- خطر زعزعة التعايش
من منظور أشمل، لا يقتصر الخطر على وقوع أعمال إرهابية، بل يمتد إلى تهديد التماسك الاجتماعي والسياسي لسبتة باعتبارها مدينة متعدّدة الأديان. فالتطرف يعمل كعامل مفسد للثقة والمؤسسات، ما قد يقود إلى توترات بين المجموعات الإثنية والدينية، ويضعف قدرة الدولة على إدارة التعددية الثقافية في واحدة من أكثر مدنها حساسية من الناحية الجيوسياسية.
ثامنا: دور الدولة وأجهزة الأمن
منذ منتصف العقد الأول من الألفية، وضعت الدولة الإسبانية مدينة سبتة في قلب استراتيجيتها الوطنية لمكافحة الإرهاب الجهادي. فقد تزايدت المؤشرات على نشاط شبكات تجنيد محلية، في وقت كانت فيه إسبانيا تعيش تداعيات تفجيرات مدريد 2004، وما تبعها من ضغوط أوروبية ودولية لتعزيز آليات مكافحة الإرهاب.
وهكذا تحولت سبتة، إلى جانب مليلية، إلى مجال أمني استثنائي يتطلب مراقبة دقيقة وعمليات متواصلة.
- العمليات الأمنية والقضائية
أولى العمليات الكبرى تعود إلى سنة 2005 حين اعتُقل شخصان في سبتة للاشتباه في تخطيطهما لاستهداف خط العبارات نحو الجزيرة الخضراء. ومنذ ذلك التاريخ وحتى 2015، نُفذت 19 عملية أمنية في سبتة ومليلة، أسفرت عن اعتقال أكثر من 70 شخصاً.
من أبرزها عملية "دونا" (2006) التي استهدفت 11 مشتبهاً، رغم أن أغلبهم بُرِّئ لاحقاً لضعف الأدلة، مما أثار جدلاً واسعاً حول فاعلية التحقيقات وجودة المعلومات الاستخباراتية. وعلى النقيض، اعتبرت عملية "سيستو" (2013) نموذجا ناجحا، إذ تمكنت من تفكيك خلية كانت تنشط في تجنيد الشباب وإرسالهم إلى سوريا، وأسفرت عن إدانات قضائية شاملة. هذا التباين بين العمليات يوضح صعوبة التمييز بين النشاط الدعوي والعمليات الجهادية الفعلية، ويكشف أيضاً عن التحديات القانونية المرتبطة بملفات الإرهاب.
- الاستراتيجية الوقائية
إلى جانب الاعتقالات، تبنت السلطات مقاربة وقائية متعددة الأبعاد. أولا، جرى تعزيز الرقابة على المساجد والجمعيات الدينية، عبر مراقبة خطب الأئمة وإغلاق الجمعيات التي يُشتبه في تبنيها خطابات متشددة. ثانيا، اعتمدت إسبانيا على التعاون الاستخباراتي الدولي، خاصة مع المغرب، بحكم الطبيعة العابرة للحدود للشبكات الجهادية. وقد أفضت بعض العمليات المشتركة إلى اعتقال عناصر في مدن مغربية قريبة مثل تطوان والناظور
ثالثاً، تم تشديد إجراءات المراقبة الحدودية، سواء على الأفراد أو على البضائع، لقطع أي خطوط إمداد لوجستي محتملة بين المدينة ومحيطها الإقليمي.
- النتائج الملموسة
أسفرت هذه الجهود عن نتائج ملموسة، إذ جرى تفكيك شبكات للتجنيد كانت فاعلة في إرسال مقاتلين إلى سوريا والعراق، ومنعت احتمالية وقوع هجمات كبيرة داخل سبتة. كما عززت إسبانيا تنسيقها مع الاتحاد الأوروبي، بحيث باتت سياسات مكافحة الإرهاب في سبتة منسجمة مع الأجندة الأمنية الأوروبية الأوسع، خصوصاً فيما يتعلق بالرقابة على الحدود الخارجية للاتحاد.
- التحديات والانتقادات
رغم النجاحات الأمنية، واجهت المقاربة الإسبانية عدة تحديات. أولها الطابع المتجدد للشبكات، إذ كانت الخلايا تُعاد تشكيلها بسرعة حتى بعد تفكيكها، غالباً بالاعتماد على نفس الروابط العائلية أو الحيّزية، ما يؤكد أن المعالجة لم تصل إلى جذور الظاهرة. ثانيها التوترات الاجتماعية، حيث اعتبر فاعلون محليون أن التركيز الأمني المفرط على الأحياء ذات الأغلبية المسلمة أسهم في تعزيز شعور "الوصم الجماعي"، وربط الهوية الإسلامية بالتطرف، وهو ما قد يُغذي، بشكل غير مباشر، آليات التطرف بدل احتوائها.
أما ثالثها فهو البعد الرمزي، إذ إن توصيف المدينة إعلامياً وأمنياً كـ" معقل للجهاديين " رغم غياب هجمات فعلية، ساهم في تكريس صورة سلبية عن سبتة وأضعف ثقة السكان المسلمين في مؤسسات الدولة.
- الحاجة إلى مقاربة شمولية
تؤكد الأدبيات الأكاديمية أن المقاربة الأمنية وحدها غير كافية لمواجهة الظاهرة الجهادية. فرغم فعاليتها في تقليص التهديدات المباشرة، إلا أنها لم تُعالج العوامل البنيوية الميسِّرة للتجنيد، مثل البطالة، الفقر، التهميش الحضري، وضعف اندماج الشباب.
لذا، يرى باحثون أن مواجهة الظاهرة تستدعي الجمع بين التدخل الأمني وسياسات إدماج اجتماعي وثقافي، تهدف إلى تعزيز التماسك الأهلي وتفكيك سرديات الضحية التي تستثمرها الشبكات الجهادية في خطابها الدعائي.
- خاتمة:
تكشف دراسة الظاهرة الجهادية في سبتة عن خصوصية مركبة تجعلها مجالا بالغ الحساسية أمنيا واجتماعيا. فهي لم تنشأ في فراغ، بل جاءت نتيجة لتقاطع عوامل محلية، من هشاشة اجتماعية واغتراب هوياتي وانتشار اقتصاد غير مهيكل قائم على التهريب، مع مؤثرات إقليمية ودولية ناجمة عن الاضطرابات في العراق وسوريا وصعود تنظيمات جهادية عابرة للحدود. هذا التفاعل بين المحلي والعالمي أسهم في تحويل المدينة إلى أحد أبرز بؤر التجنيد والتعبئة، دون أن تتحول فعليا إلى ساحة لتنفيذ الهجمات.
غير أن السياق شهد تحولا نوعيا مع جائحة كورونا وما رافقها من إغلاق للحدود مع المغرب، الأمر الذي أدى عملياً إلى القضاء على التهريب، وهو النشاط الذي شكل لعقود إحدى ركائز الاقتصاد غير الرسمي في المدينة. وقد أفرز هذا التحول واقعاً جديداً في سبتة، تتقاطع فيه تداعيات الانكماش الاقتصادي مع إعادة تشكيل علاقات القوة الاجتماعية، وهو ما يستوجب إعادة تقييم الظاهرة الجهادية في ضوء المتغيرات المستجدة.
كما أبرزت التجربة أن المقاربة الأمنية، رغم أهميتها في تفكيك الخلايا وتعطيل الشبكات، تظل محدودة ما لم تدعم بسياسات إدماج اجتماعي واقتصادي وثقافي تستهدف معالجة جذور التهميش والتمييز. فغياب هذه المقاربة الشمولية قد يفاقم منسوب الشكوك المتبادلة ويضعف أسس العيش المشترك في مدينة متعددة الأديان والهويات.
إن سبتة تقدم بذلك نموذجا دالا على أن الجهادية ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون أمنية، وأن تفكيكها يستلزم توازنا بين الوقاية والزجر، بين المحلي والإقليمي، وبين متطلبات الأمن واحترام الحقوق.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سبتة بين العزلة والانفتاح: نحو تصور لاتفاق أورو مغربي مستلهم ...


المزيد.....




- مجلس الأمن يصوّت الجمعة على إعادة العقوبات على إيران.. ماكرو ...
- الجيش الإسرائيلي يشن ضربات مكثفة على جنوب لبنان.. وبيروت تنا ...
- تحت وطأة القصف والهجوم البري.. أكثر من 250 ألف مدني ينزحون م ...
- رشيد روكبان ضيف برنامج “السلطة الرابعة” لمناقشة إصلاح المنظو ...
- -النيران الصديقة- تنقذ ليفركوزن من الخسارة أمام كوبنهاغن
- بريطانيا ترحل أول مهاجر إلى فرنسا في إطار اتفاق الهجرة الجدي ...
- مجلس الأمن يصوّت غدا لإعادة فرض العقوبات على إيران
- اتهامات أميركية وإسرائيلية للموظفين الأمميين بعدم الحياد بشأ ...
- تصعيد إسرائيلي جديد.. هل تخضع بيروت لشروط تل أبيب؟
- تقنية -سلاغنغ- الكورية صيحة جمالية تجتاح منصات العناية بالبش ...


المزيد.....

- حين مشينا للحرب / ملهم الملائكة
- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - محمد عبد المومن - سبتة والظاهرة الجهادية: تقاطعات الهوية والهشاشة في مجال حدودي