محمد عبد المومن
الحوار المتمدن-العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 10:36
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
- مقدمة:
تمثل مدينة سبتة، الواقعة في الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، إحدى أكثر النقاط الجغرافية والسياسية إثارة للجدل في حوض البحر الأبيض المتوسط. فمنذ أن سيطرت عليها إسبانيا خلال القرن الخامس عشر، ظلت المدينة شاهدا على صراع استمر عدة قرون بين المغرب من جهة والقوى الإيبيرية من جهة ثانية.
بغض النظر عن الأبعاد التاريخية، تعد سبتة اليوم واحدة من أكثر المناطق التابعة لإسبانيا والاتحاد الأوربي عزلة وهشاشة، بالرغم من موقعها الاستراتيجي كهمزة وصل بين أوروبا وإفريقيا.
تعيش المدينة حالة من الانكماش الاقتصادي والتراجع الديمغرافي والانغلاق المجالي، حيث تحاصرها الأسلاك الشائكة من الغرب، والمياه من باقي الجهات، كما تعاني من التهميش في إسبانيا، والتجاهل من المؤسسات الأوربية. هذه العزلة المركبة، التي لا تعبر عنها بالخرائط فقط، بل بالأرقام والمؤشرات والوقائع اليومية، جعلت من سبتة "هامشا منسيا" داخل الفضاء الأوربي، وأفقدتها دورها المفترض كميناء للتكامل والتواصل العابر للقارات.
لتتبع مسار تدهور سبتة، لا مناص من العودة إلى الكتب التي نشرها المحامي والاقتصادي السبتي خوسيه ماريا كامبوس على مدى ثلاثة عقود، وهي:
- "سبتة: مشاكل وحلول" (1997)
- "سبتة: داخل المتاهة" (2005)
- "صرخة في القفار" (2010)
- "سبتة: المدينة المنسية" (2020)
بمنظور يجمع بين الحس النقدي والانفعال الوجداني، يخلص كامبوس إلى أن سبتة مشلولة سياسيا، ومحبطة اقتصاديا، ومعلقة بين بحرين وقارتين دون أفق واضح.
ينتقد كامبوس ما يسميه "فشلا استراتيجيا ممنهجا"، حيث تغيب السياسات العمومية التنموية، ويتم إهمال التفاعل الضروري مع المغرب باعتباره الامتداد الطبيعي والمباشر، بينما تمارس العاصمة الأوربية بروكسيل سياسة الصمت والتجاهل إزاء ما يقع على حدودها الجنوبية.
في مقابل هذا الوضع القاتم، لاح أمل في الأيام الماضية يتمثل في اتفاق غير مسبوق بين الاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة بشأن مستقبل جبل طارق الخاضع للسيادة الاسبانية والواقع في الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق قبالة سبتة، تضمن إجراءات عملية لتسهيل الحركة، وتقاسم الوظائف السيادية، والتكامل الاقتصادي، مع إبقاء النزاع السياسي حول السيادة معلقا.
هذا الاتفاق، الذي وصفه الطرفان بـالتاريخي، يفتح الباب أمام سؤال يطرح نفسه بقوة هو، هل يمكن إعادة التفكير في وضعية سبتة ضمن منطق مماثل؟ وهل يمكن أن يشكل نموذج جبل طارق أساسا لتصور جديد لعلاقة ثلاثية بين المغرب وإسبانيا والاتحاد الأوربي، تحفظ التوازنات السياسية، وتخرج المدينة من عزلتها القاتلة؟
يسعى هذا المقال إلى تفكيك مظاهر أزمة سبتة، كما وردت في خطاب كامبوس، ثم استشراف سبل الخروج من هذا المأزق من خلال تصور اتفاق بديل، يستلهم تجربة جبل طارق، ويعيد لسبتة موقعها الجيوسياسي والاقتصادي كمنطقة تفاعل لا عزلة، وتكامل لا قطيعة.
أولا: مظاهر الأزمة في سبتة من خلال أعمال خوسي ماريا كامبوس
في أعماله حول سبتة، يرسم خوسيه ماريا كامبوس صورة قاتمة لمدينة تبدو وكأنها خارج الزمن السياسي والاقتصادي الحديث، تعيش في ظل حدودها أكثر مما تنفتح على إمكانياتها. يتعامل كامبوس مع سبتة بوصفها ضحية تجمع بين لعنة الجغرافيا وخذلان السياسات العمومية، ويوثق جملة من المظاهر البنيوية لأزمتها المتعددة الأوجه، التي نورد أبرزها فيما يلي:
- الانغلاق الاقتصادي وهيمنة القطاع العمومي:
يرى كامبوس أن سبتة تَسير على خطى اقتصاد ريعي مغلق، يسميه النموذج الكوبي، حيث تتكفل الدولة ــــــــ ممثلة في الإدارة العمومية ـــــــــ بجل الوظائف، وتمارس نوعا من الرعاية المزمنة التي تخنق روح المبادرة والاستثمار.
في ظل هذا الوضع، أفرغت المدينة من ديناميتها التجارية التقليدية، وأصبح اقتصادها يعتمد بشكل مفرط على التحويلات المركزية، والمناصب العمومية، والمشاريع الصغرى ذات الأفق المحدود، دون أي قدرة على خلق بنية إنتاجية قادرة على التصدير أو حتى التوسع الذاتي.
والأسوأ من ذلك، هو أن القطاع الخاص المحلي يتآكل نتيجة ثنائية البيروقراطية والولاءات الحزبية، مما أدى إلى نفور المستثمرين وغياب أي تنافسية حقيقية، سواء في سوق الشغل أو في النسيج المقاولاتي، بل تحولت سبتة إلى ما يشبه الاقتصاد المعزول داخل الاقتصاد الإسباني ذاته.
- فوضى المعابر الحدودية وتراجع التدفق البشري
يحظى معبر "باب سبتة" باهتمام كبير في كتابات خوسي ماريا كامبوس، إذ يعتبره الكاتب نقطة عبور تفتقد الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية والمعايير الأمنية واللوجستية.
فالمعبر كان يشهد اكتظاظا غير منظم، وخلطا بين أنواع العابرين: من العمال والنساء الحمالات إلى السياح والمهربين، في مشهد يعكس ليس فقط غياب التنسيق المغربي الإسباني، بل كذلك غياب أي تدخل أوروبي حقيقي لضمان مراقبة إنسانية ومنتظمة.
أدى هذا الوضع إلى تدهور صورة المدينة، ونفور الكثير من الزوار المغاربة الذين كانوا يشكلون رئة اقتصادية طبيعية لها. كما ساهمت إجراءات الإغلاق المتكرر، خاصة بعد 2020، في تجفيف حركة التجارة العابرة التي كانت تغذي الأسواق والخدمات، ما عمق من عزلة المدينة، وفرض عليها الاعتماد الحصري على الداخل الإسباني، وهو ما لا يلبي حاجاتها الأساسية.
- الجمود السياسي وفقدان الرؤية الاستراتيجية
يُحمّل كامبوس المسؤولية لما يسميه بـ: "الطبقة السياسية المحلية الفاقدة للبوصلة"، والتي يرى أنها اكتفت بتسيير يومي بيروقراطي للأزمة دون السعي إلى طرح حلول جذرية أو استشرافية.
ويظهر في تحليله أن هذه النخب ـــــــــ سواء البلدية أو الإدارية ــــــــ اختارت الانصياع لسياسات مدريد المركزية دون طرح أي مبادرات ذاتية أو اقتراح نماذج متجددة للتعاون مع المغرب أو الانفتاح على محيطها الجغرافي.
كما فشل الفاعلون المحليون، وفقا للكاتب، في تقديم سبتة كموقع جيوـــــــ استراتيجي قابل للتحول إلى منطقة عبور أوروــــ متوسطية، وهم مستمرون في التعامل معها كمجرد نقطة حدودية ينبغي تأمينها، لا مدينة يجب تنميتها.
- غياب العدالة الحدودية مقارنة بجبل طارق
يطرح كامبوس مقارنة مفصلة ومؤلمة بين طريقة تعامل الاتحاد الأوربي مع جبل طارق، ومع سبتة. ففي حين تدخلت المؤسسات الأوربية بشكل مباشر للدفاع عن حركية الأشخاص والبضائع في جبل طارق، وسعت إلى تقنين وتيسير العبور وضمان الكرامة والمراقبة المزدوجة، فإنها في حالة سبتة تلتزم صمتا مريبا، وتتخلى عن مسؤولياتها باعتبار المدينة جزءا من الحدود الخارجية للاتحاد الأوربي.
هذه المفارقة، حسب المؤلف، تعكس ازدواجية في منطق السيادة والتعاون الحدودي. فإذا كان الاتحاد الأوربي مستعدا لعقد اتفاقات مرنة مع بريطانيا لضمان مصالح سكان جبل طارق، فلماذا لا يملك الجرأة على اقتراح اتفاق مشابه مع المغرب بشأن سبتة، يوازن بين احترام السيادة الإسبانية وحق الجوار المغربي ومصالح السكان المحليين؟
ثانيا: إمكانيات إنعاش سبتة عبر اتفاق مشابه لنموذج جبل طارق
يعد الاتفاق الموقع في يونيو 2025 بين الاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة بشأن جبل طارق منعطفا ديبلوماسيا في العلاقة بين الطرفين منذ البريكسيت، جسد نموذجا جديدا في التعامل مع القضايا الحدودية الشائكة والسيادة المتنازع عليها، من خلال آلية مرنة تجمع بين تثبيت المصالح الميدانية وتجميد النزاع الترابي.
هذا الاتفاق لم ينه الخلاف الاسباني البريطاني، لكنه نجح في خلق فضاء عملي للتنقل والتبادل والتعاون، دون المساس بالمطالبات السيادية. وهو ما يجعله إطارا مرجعيا يمكن البناء عليه لتصور صيغة توافقية جديدة بخصوص سبتة، تكون قادرة على إخراجها من مأزقها البنيوي وتحويلها من نقطة احتكاك إلى نقطة اتصال بين ضفتي المتوسط.
فيما يلي أبرز مداخل هذا الإحياء الممكن:
- إلغاء الحاجز الحدودي المادي وتحويل المعبر إلى فضاء للعبور المنظم:
يُعد الحاجز الفاصل بين سبتة والمغرب أحد أكثر الرموز المادية لعزلة المدينة، إذ لم يعد مجرد وسيلة أمنية بل تحول إلى سور نفسي وثقافي واقتصادي يفصل سبتة عن محيطها الطبيعي.
استلهام تجربة جبل طارق، حيث تم إلغاء الحواجز المادية وتعويضها بأنظمة عبور ذكية ومنظمة، يمكن أن يمثل بداية لتفكيك هذه العزلة.
فتح الحدود أمام حركية بشرية وتجارية منظمة من شأنه أن ينعش قطاعات السياحة، والتجارة، والمقاولات الصغرى، ويعيد للمدينة جاذبيتها كمركز خدماتي مفتوح لا مغلق.
إن تحويل المعبر من نقطة عبور أمنية صارمة إلى بوابة تواصل مرنة، هو شرط أساسي لاستعادة الثقة في المدينة، سواء من طرف الفاعلين الاقتصاديين المحليين أو من قبل ساكنة الشمال المغربي الذين انقطعت علاقتهم بها بسبب الإجراءات المقيدة والمهينة.
- مراقبة "ثنائية" تحت إشراف ثلاثي: مغربي ـــــــ إسباني ـــــــ أوروبي
من بين أكثر جوانب الاتفاق المتعلق بجبل طارق ابتكارا، اعتماد نظام مراقبة مزدوجة على المنافذ البحرية والجوية، يدار بشكل مشترك بين سلطات جبل طارق وإسبانيا، بإشراف الاتحاد الأوربي، مع إلغاء المراقبة البرية المباشرة.
تطبيق صيغة مماثلة في سبتة سيسمح بتحقيق توازن دقيق بين السيادة والتعاون، وبين الأمن والانفتاح.
فبدلا من الحدود الصلبة، يمكن إقامة آليات تفتيش جمركي مشترك في الموانئ والمعابر البحرية، يشرف عليها ضباط من كلا البلدين، مع دعم تقني ولوجستي من الوكالات الأوربية.
وهذا من شأنه أن يُعيد الثقة في بنية المعبر الحدودي، ويُخفف من مخاوف الجانبين، ويضع حدا للاتهامات المتبادلة بالتراخي أو التسييس، خاصة في ملف التهريب والهجرة.
- نظام تأشيرات خاص بسكان المدن القريبة
أثبتت التجربة السابقة لاتفاقية شنغن وجود استثناء خاص فئة من المغاربة من ولوج سبتة ومليلية دون تأشيرة شاملة، ما داموا يقطنون ضمن نطاق جغرافي معين.
غير أن هذا النظام تعرض للجمود والانكماش نتيجة الإغلاق الأمني والتوترات السياسية، ما أدى إلى حرمان سبتة من أحد أهم روافدها الاقتصادية والبشرية.
استعادة هذا النظام ـــــــ وتطويره ــــــــ عبر منح تأشيرات محلية متعددة الدخول مخصصة لسكان شمال المغرب، وفق ضوابط قانونية دقيقة، من شأنه أن يفتح بابا جديدا أمام تدفق منظم وآمن للزوار المغاربة، وينعش الحياة التجارية والخدماتية في المدينة.
بل أكثر من ذلك، يمكن أن يصبح هذا النظام جزءا من نموذج أوروـــــــ متوسطي مبتكر لحركية محلية عابرة للحدود، دون أن يثير حساسية السيادة أو شبهة التهريب.
- إدماج سبتة في مشاريع أورو ـــــ متوسطية مشتركة: من النزاع إلى التكامل
إن إحدى أكبر المعضلات التي تواجه سبتة هي انفصالها المؤسسي عن محيطها المغربي، رغم تقاربها الجغرافي والثقافي والاقتصادي. ولهذا، فإن إدماج المدينة ضمن برامج أوروبية مغربية مشتركة في ميادين مثل:
• الطاقة المتجددة: لما تتوفر عليه المنطقة من إمكانات معتبرة.
• التعليم والتكوين المهني: خاصة في المجالات الرقمية والتقنية.
• النقل البحري واللوجستيك: ارتباطا بميناء طنجة المتوسط.
• التبادل الثقافي والحوار الديني: في إطار التعددية الدينية واللغوية والثقافية للمدينة.
كلها مشاريع من شأنها أن تُحوّل سبتة إلى جسر للتكامل بدل أن تبقى نقطة خلاف وتوتر.
بل ويمكن تخيل تأسيس منصة أوروــــــ متوسطية دائمة للتعاون الحدودي تكون سبتة مقرا لها، ما يُعيد الاعتبار الجيوسياسي للمدينة، ويجعلها نقطة إشعاع لا عزلة.
ثالثا: شروط نجاح الاتفاق البديل – من الرغبة إلى الإرادة الفاعلة:
إن الطموح إلى إرساء نموذج بديل ينهض بمدينة سبتة، على غرار ما تحقق في حالة جبل طارق، يظل رهينا بمجموعة من الشروط الحاسمة التي تتجاوز البنيات التقنية أو المقاربات الإجرائية، لتلامس جوهر العلاقات السياسية والتفاعلات المجتمعية، بل وطرق التفكير في مفاهيم مثل السيادة، التعاون، والتكامل الحدودي.
إن تحويل سبتة من "ملف سيادي مجمد" إلى "مساحة تنموية مشتركة" يقتضي تحولا عميقا في الوعي السياسي لدى الأطراف المعنية، وجرأة في مغادرة منطق الاصطفاف والمواجهة لصالح مقاربة واقعية تنطلق من المنفعة المتبادلة والمسؤولية المشتركة.
وفيما يلي أبرز الشروط التي ينبغي أن تؤسس لهذا التحول:
• إرادة سياسية ثلاثية : مدريد ــــــ الرباط ـــــــ بروكسيل
يعد توفر الإرادة السياسية من أهم مفاتيح الانتقال من التشخيص إلى الفعل. فالرهان على اتفاق مستوحى من نموذج جبل طارق يتطلب من كل من إسبانيا، المغرب، والاتحاد الأوربي:
• التخلي عن المقاربات الأحادية التي تنظر إلى سبتة إما كمجرد امتداد ترابي للسيادة الوطنية، أو كمجرد نقطة حدودية لمكافحة الهجرة والتهريب؛
• والانتقال نحو رؤية تعتبر المدينة منصة تعاونية محتملة، لا عبئا سياديا ولا استثناء جغرافيا.
فمن جهة، ينبغي لإسبانيا أن تعيد تعريف علاقتها بالمدينة ليس فقط كملف سيادة، بل كرهان تنموي واقتصادي قابل للتفاوض الذكي. ومن جهة ثانية، على المغرب أن يتعامل مع سبتة كواقع ميداني يمكن التفاعل معه مرحليا دون التنازل عن موقفه التاريخي، مع الانخراط في بناء نموذج إداري واقتصادي مشترك.
أما الاتحاد الأوربي، فعليه أن يتجاوز منطق الحذر المفرط، ويتحمل مسؤوليته في حماية وتطوير حدوده الجنوبية بشكل منسق ومتوازن، خاصة وأنه كان الطرف الحاسم في الدفع باتجاه اتفاق جبل طارق.
- إشراك المجتمع المدني والمقاولات المحلية: من النخبة المركزية إلى الفاعلين الحقيقيين.
لا يمكن لأي صيغة تعاونية أن تنجح إن بقيت حبيسة القاعات المغلقة بين العواصم، أو أسيرة الرؤية المركزية للدول.
إن إنجاح اتفاق بشأن سبتة يتطلب إشراكا واسعا للمجتمع المدني، الفاعلين الاقتصاديين، والجامعات والمؤسسات البحثية، باعتبارهم الطرف القادر على ترجمة بنود الاتفاق إلى مشاريع ميدانية ومبادرات محلية.
يجب أن تكون الغرف التجارية، جمعيات التجار، الحرفيين، المستثمرين المحليين، والمقاولات الصغرى والمتوسطة جزءا من هندسة الحل، لأنهم المتضررون المباشرون من الجمود القائم، كما أنهم الحلقة المحورية في أي دينامية انتعاش اقتصادي حقيقية.
وبالمثل، يمكن للجامعات ومراكز البحث في سبتة وتطوان ــــــ وحتى في غرناطة أو الرباط ـــــــ أن تلعب دورا حاسما في تصور نماذج تعاون حدودي، وإنتاج المعرفة اللازمة لصياغة سياسات عقلانية وعابرة للحدود.
• تأجيل مناقشة مسألة السيادة
لطالما شكّل ملف السيادة على سبتة (ومليلية وعدد من الجزر الصغيرة) حجر عثرة أمام أي تقدم في العلاقات المغربية الإسبانية بشأن المدينتين. أثبتت اتفاقية جبل طارق أن تأجيل أو تجميد النقاش حول السيادة مؤقتا لا يعني التفريط، بل يعد شرطا لفتح مجالات التعاون البراغماتي.
إن تحويل سبتة إلى فضاء للتنمية لا يمر بالضرورة عبر حسم السيادة لصالح أحد الطرفين، بل يمكن ـــــ كما في اتفاق جبل طارق ــــــــ اعتماد صيغة مرنة تحتفظ كل دولة بموقفها الرمزي، مع الدخول في ترتيبات عملية تهم المعابر، التأشيرات، التجارة، وحركية الأشخاص.
بهذه الطريقة، يتم فك الارتباط بين منطق "الهيبة السيادية" ومنطق "الفعالية الاقتصادية"، ويتاح للطرفين - ومعهما الاتحاد الأوربي — التركيز على الأولويات المشتركة، مثل التشغيل، الأمن، التكامل اللوجستي، والحد من الاقتصاد غير المنظم.
- خاتمة
في ضوء ما تقدم، تبدو مدينة سبتة نموذجا مكثفا لأزمة حدودية مركبة، تتقاطع فيها الجغرافيا بالسياسة، والتاريخ بالمصالح الاقتصادية، والسيادة بالواقع المعيشي اليومي. فقد تحولت المدينة، في ظل الانكماش الاقتصادي وغياب الرؤية الاستراتيجية والتوتر الحدودي المستمر، إلى نقطة هامشية داخل الفضاء الأوربي، رغم موقعها المركزي في الخريطة الأور ــــــ متوسطية.
تعاني المدينة أيضا من التهميش الإداري، والفوضى الحدودية، والشلل الاقتصادي، وفقدان المبادرة السياسية، مما يعكس حالة مدينة محاصرة بين صمت مدريد، وتوجس الرباط، ولا مبالاة بروكسيل.
لكن في مقابل هذه الصورة القاتمة، يمنح اتفاق جبل طارق الموقع مؤخرا نموذجا عمليا لتحويل الملفات المعقدة من مجالات للتنازع إلى منصات للتعاون، شريطة توفر الإرادة السياسية، وتحرير السياسات من أسر السيادة الرمزية. إن تجربة جبل طارق برهنت على أن الإبداع الديبلوماسي والبراغماتية الواقعية يمكن أن يتغلبا على الجمود السياسي، وأن ينشئا ترتيبات ذكية تعود بالنفع على السكان، وتحفظ التوازنات الكبرى دون أن تتورط في قضايا السيادة.
وفي هذا السياق، يمكن أن يشكل اتفاق ثلاثي ــــــ يجمع بين إسبانيا، المغرب، والاتحاد الأوربي ـــــــ فرصة تاريخية لإنقاذ سبتة من مأزقها الحالي، وإعادة توجيه مسارها نحو أفق تنموي جديد، يجعل منها جسرا للتواصل والتكامل بدل أن تبقى عقدة حدودية وأمنية.
مثل هذا الاتفاق يجب ألا ينظر إليه كتنازل سياسي، بل كاستثمار مشترك في الاستقرار، ورافعة للتنمية، ووسيلة لإنصاف مدينة أُهملت لعقود، رغم ما تختزنه من إمكانات بشرية وجيو ــــ سياسية.
إن مستقبل سبتة لن يرسم بالخرائط وحدها، بل بجرأة الخيال السياسي، وشجاعة التفاوض، وواقعية التنمية العابرة للحدود. حينها قد تتحول المدينة من "منسية" إلى "منطلقة اقتصاديا، وثقافيا"، كما سيتغير معنى السيادة والحدود والتعاون في غرب المتوسط.
- الأفكار الواردة في هذا المقال تنطبق أيضا على مدينة مليلية وقد اقتصرنا على سبتة لأسباب منهجية.
- José María Campos Martínez
- Campos Martínez, J. M. (1997). Ceuta: problemas y soluciones. Intersevicios. Departamento de Publicaciones. Ceuta.
- Campos Martínez, J. M. (2005). Ceuta en su laberinto. Intersevicios. Departamento de Publicaciones. Ceuta.
- Campos Martínez, J. M. (2010). Predicando en el desierto. Intersevicios. Departamento de Publicaciones. Ceuta.
- Campos Martínez, J. M. (2020). Ceuta cuidad olvidada. Intersevicios. Departamento de Publicaciones. Ceuta.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟