محمد السراي
الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 03:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يذهب كثير من المفكرين الاجتماعييَن والفلاسفة، ومنهم ابن خلدون، الى ان الانسان كائن اجتماعي بطبعه. ويعرف ارسطو الانسان بانه ( حيوان اجتماعي). بينما يذهب ابن القيم الى ان الانسان مدني بالطبع لا بد له ان يعيش مع الناس.
لكني ارى على العكس من ذلك، اي ان الانسان بطبعه كائن انعزالي بشكل اكبر نسبيا. وربما ان جان جاك روسو هو من الفلاسفة القلائل الذين يرون ان الانسان كائن غير اجتماعي بطبعه. ان الانسان لا يطيق الانخراط في هياكل اجتماعية كبيرة او معقدة، نعم هو فيه جانب اجتماعي يميل الى ابناء جنسه والى التفاعل معهم، لكن في نطاق اجتماعي محدود. فهو يميل اكثر للتفاعل مع الجماعات الصغيرة وليس الجماعات الكبيرة او الانخراط في مجتمع كبير. وهذه الهياكل الإجتماعية الكبيرة التي خلقتها الحضارة البشرية في الحقبة الاخيرة من تاريخها فقط، حيث لم يبدأ الانسان بتأسيس بذرة هذه الهياكل الاجتماعية الا منذ ١٠ او ١٢ الف سنة، عندما قرر البشر زراعة الارض والاستقرار وتشكيل القرى البشرية الاولى. لكن البشر عاشوا ولطور طويل من تاريخهم- بل اغلب تاريخهم- وهم يتفاعلون ضمن نطاق بشري او جماعة بشرية محدودة لا تتعدى بضعة افراد ضمن جماعات الصيد. وهذا الشكل او الهيكل الاجتماعي المحدود هو ماعاشه الانسان طوال مئات الالاف من السنين، فطبيعي ان ينطبع ذلك النسق الاجتماعي في الجهاز السايكولوجي للانسان ويصبح جزءا لا يتجزا منه. ويضرب لنا شوبنهاور مثلا عن ذلك التقارب الاجتماعي المؤذي، او مشكلة عدم توافق الانسان مع البيئة الاجتماعية المحيطة به، بمثاله عن معضلة القنفذ. حيث لاحظ شوبنهاور ان القنافذ تقوم في الليالي الباردة بالاقتراب من بعضها البعض بشدة وذلك لاجل الحصول على الدفء والحرارة المنبعثة من اجساد افرادها لتتقي بذلك البرد القارس. لكنها ستكون هنا امام مشكلة كبيرة اخرى، حيث انها ستشعر بالالم نتيجة الوخز الذي تناله من اشواك بعضها البعض، لذلك ستعود للابتعاد والتفرق عن بعضها، ولكنها حين ذلك ستشعر مرة أخرى بالبرد ولذا تعود كرة اخرى لتتجمع وتقترب من بعض للحصول على الدفء مرة أخرى، وايضا سيجبرها شعور الم الوخز على الابتعاد والتفرق من جديد. وهكذا ستظل تفعل القنافذ هذا السلوك اي الاقتراب والابتعاد مرة بعد اخرى، حتى تجد الحل المثالي في ما اسماه شوبنهاور بالمسافة الامنة، وهي ان تجتمع القنافذ على مسافة امنه نسبيا اي لا تقترب من بعضها بشدة بل تترك نسبيا مسافة في ما بين اجسادها، وبهذا ستتقي هذه الملخلوقات البرد القارس وكذلك ستحصل على نسبة الم اقل.
ان البشر من وجهة ما يمرون بنفس هذه المعضلة الشوبنهاورية، فالانسان كما ذكرنا قد عاش دهرا طويلا يقدر بمئات الالاف من السنين وهو يحيى ويعيش ويتفاعل ضمن نطاق مجموعة بشرية محددة تتمثل بمجموعة او جماعة الصيد. ويبدو ان هذا الهيكل الاجتماعي البسيط قد انطبع في الانسان فاصبح جزءا من تكوينه السايكولوجي. وهذا النوع او النسق من التنظيم الاجتماعي يبيح للانسان ان يتمتع بخصائص وملكات فردية مثل الانانية والفردية وحب الانا والعدوان وغريزة التملك وربما غريزة القتل حتى- كما يذهب لذلك فرويد- وغيرها من الغرائز الذاتية والانانية التي ستكون لاحقا جزءا اصيلا من تكوينه، او ربما ان الانسان خُلق اصلا بهذه الغرائز والصفات السلوكية. لكن لما قررت البشرية لاحقا، وخصوصا بعد مرحلة الزراعة قبل ١٠ الى١٢ الف سنة، او ما يعتبرها المختصون في مجال الانسان والتاريخ انها بداية مرحلة الحضارة، حيث سيعمل الانسان بعد ذلك الى تكوين الهياكل الاجتماعية الكبرى المتمثلة بالجماعات الاكبر التي يحتاجها مجتمع الزراعة المستقر والمستوطن في ارض ما، على العكس من الهياكل الاجتماعية البسيطة التي يحتاجها الانسان في حقبة الصيد والالتقاط. وهنا سيتطور مسير البشرية الاجتماعي لاحقا حتى نكون ازاء هيكل اجتماعي غريب على البشر، اي تشكيل المجتمعات. وعلى الرغم من ان الانسان يميل الى ابناء جنسه والى الانخراط والتعاون والعيش معهم، وخصوصا ان هذا ما تحصله عبر اغلب تاريخه الذي يمثل الجزء الاكبر منه حيث عاش في حقبة الصيد والالتقاط، الا انه لا يميل الى هذا الشكل الاجتماعي المكثف جدا، اي العيش ضمن نطاق مجتمعات كبرى وخصوصا بعد انشاء المدن والدول. فهذه الاشكال او الهياكل الاجتماعية الكبرى اخذت تصنع لها منظومة احتماعية عملاقة تنظم العلاقة بين افرادها وجماعاتها متمثلة في القوانين والاعراف والتقاليد والقيم والممنوعات والمحرمات، كي تحافظ على كيانها ونسيجها الاجتماعي من التفتت والاندحار. لكن هذا الفعل آخرا هو ضد طبيعة الانسان الغريزية والفردانية التي تميل الى الانخراط الاجتماعي في جماعة، لكن تكون جماعة صغيرة تسمح له بممارسة كافة غرائزه وسلوكياته التكوينية الدفينة التي تحصلها نتيجة تاريخ طويل. وهنا سنكون ازاء وضع يشبه وضع القنافذ في معضلة شوبنهاور، اي ان الانسان وبدافع اجتماعي يريد ان ينخرط في النشاط والفضاء الاجتماعي العام، لكنه في ذات الوقت يريد ان يمارس وينفس عن غرائزه الدفينة ومنها غريزة العدوان، وهذا ما سيصيبه بالعصاب النفسي نتيجة للقيود الاجتماعية الصارمة التي يفرضها المجتمع على سلوكه. وهذا هو المفصل الذي سيظهر عنده صراع الخير والشر، فالانسان الذي لا يستطيع السيطرة على غرائزه وانانيته وعدوانيته، وهو في هذا الحال سيكون مخلصا لتكوينه النفسي الموروث، سيلجأ الى ارتكاب الافعال التي يعتبرها المجتمع عيبا او حراما او جريمة وربما سينال هذا الانسان العقوبة جراء افعاله وسلوكياته تلك. وهولاء هم قلة من افراد المجتمع الذين سيصمهم المجتمع بوصم الاشرار او المجرمين، بيد ان هولاء الافراد هم الاكثر شجاعة واخلاصا لموروثنا السيكولوجي، فهم اذا احتاجوا اقدموا على الاخذ بالقوة واذا اُعتُدي عليهم اعتدوا باشد منه واذا اشتهوا القتل قَتلوا. انهم الوحيدون الذين يمارسون الحرية الكاملة، وان نسبيا. اما اغلبية افراد المجتمع الاخرين فهم الذين نالهم التدجين والتهجين، فتحولوا الى افراد مسالمين وطيببن ولطيفين، يخضعون للمنظومة المجتمعية رهبة او رغبة. وكذلك لا يحلون نزاعاتهم او يبتغون قضاء حاجاتهم الا عن طريق القنوات والطرق القانونية والشرعية. وهولاء هم من نطلق عليهم المواطنين الصالحين، واغلبنا اليوم مواطن صالح. لكن مع كوننا مواطنين صالحين الا ان رغباتنا وغرائزنا الدفينة تغلي تحت السطح، لكننا عملنا بجهد على خنقها او اسكاتها واخفاتها خوفا او امتثالا لقوانين واعراف المنظومة الاجتماعية الصارمة. وضلت تعاودنا رغبة اطلاقها حينا بعد حين ونحن نعاني ذلك الصراع النفسي والاجتماعي. وعلى الرغم من اننا نستهجن افعال اولئك الذين أطلقوا العنان لهذه الغرائز الدفينة وتمتعوا بالحرية الكاملة، الا اننا في قرارة انفسنا نغبطهم احيانا ونعجب بهم سواء شعرنا ام لم نشعر. وربما اعتبرناهم مثل اعلى، وهذا ما يحدث دائما حين نتعاطف اكثر مع البطل الشرير في الاعمال السينمائية والدراما ونعجب بالبطل الذي يخرق القوانين والثوابت، بينما نستهجن او نحتقر احيانا الابطال الضعفاء.
يذهب عالم النفس الشهير سيجموند فرويد الى ان البشر لم يخلقوا للحضارة ولم تخلق الحضارة لهم. فهو يقول في جوهر نظريته في كتابه (الحضارة وسخطها)١ أن هناك توترًا أساسيًا ودائمًا بين رغبة الفرد في الحرية الغريزية، ومتطلبات الحضارة المتمثلة في قمع هذه الغرائز لضمان الرفاهية الجماعية. فيرى فرويد أن البشر لديهم غرائز فطرية قوية، مثل الرغبة في القتل والإشباع الجنسي وغيرها. لكن الحضارة ترى ضرورة قمع هذه الغرائز حيث تفرض الحضارة قوانين وعقوبات صارمة لقمع هذه الغرائز، لما تسببه من ضرر على سلامة المجتمع. في هذا الصراع، يسعى الفرد لتحقيق لذته الغريزية (مبدأ اللذة)، بينما تُفرض عليه قواعد الحضارة (مبدأ الواقع)، مما يولد لديه شعورًا دائمًا بالاستياء والضيق. نتيجة لهذا التناقض الجوهري، لا يمكن أن يتحقق الانسجام التام بين الفرد والحضارة، فكل منهما يتعارض مع الآخر.
.......
١. الفقرات الاخيرة من المقال فيما يخص نظرية سيجموند فرويد، تم اقتباسها من برنامج الذكاء الاصطناعي.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟