أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل خليل - جعفر السعدي .. أب المسرح العراقي















المزيد.....


جعفر السعدي .. أب المسرح العراقي


فاضل خليل

الحوار المتمدن-العدد: 1822 - 2007 / 2 / 10 - 11:22
المحور: الادب والفن
    


المطر متواضع .. والدخان مغرور[*]
حين تتناول الفنان في [الولي- الأب] ، فأنك تختصر الكثير من المسافات ، والكثير من المعاني ، لأن صفات الأولياء تسهل عليك عناء البحث عن معان سامية . لكن عليك أولا أن تحدد تلك الصفات في الأب ، وهل تصلح لكل الآباء ؟ إذا ما اتفقنا على أن ليس كل الآباء بنفس الصفات : لأن منهم من يمتلك الحرص والنصيحة ، ومنهم من لا يمتلك من الأبوة غير الحصافة ، وربما الحكمة مسبوغة بالتوجيه . وليس أسهل منها جميعا في صفات الآباء ، شرط أن تكون خالية من البخل – ولا اقصد به بخل المال فقط - الذي يفسد الأبوة . ولك أن تطبق بعدها ما تريد وستجدها بكل بساطة مجتمعة في جعفر السعدي ومشروطة بخلوها من البخل بأنواعه ؟؟ ولصعوبة الخوض فيها جميعا . أراني مضطرا لاختيار صفتين فيه متفردا بهما هما صفتي : الحرص ، وعدم البخل على الأبناء . فلا أحرص منه على أبناءه سواء كانوا طلابه أو المتعاملين معه ، وان لم اك يوما ما نرجسيا إلا أنى سأبدأ من واحدة من حكاياته معي : يوما اختارني بطلا لمسرحيته [عرس الدم] للوركا . كان بيته يبعد عن مسرح التمارين في أكاديمية الفنون الجميلة خمسون مترا لا أكثر ، ولأنه لم يكن يستغني عن القيلولة كان يجدول دروسه في الساعات الأولى من الصباح كي يكون في البيت بعدها مباشرة ليتناول طعام الغداء على عجل فيأخذ القيلولة التي يعشق ، لينام ثم ينهض نشطا بعدها ليأتي إلى التمرين في الثالثة ظهرا وبقية خلق الله من الطلبة الممثلين يئنون من التعب . ولك أن تتصور تمرينا في ظهر العراق الذي تبلغ فيه درجة الحرارة خمسون مئوية في الظل . وفي قاعة لم يعرف التكيف العادي طريقه إليها ، وأنت فيها ممثلا لاتملك بيتا وطعامك محسوب بالغرامات ، وعليك أن تؤدي تمرينا يرضى عليه الجميع ، لاسيما وأنت [المقصود أنا] تحب النوم كما يحبه السعدي [القيلولة] ظهرا بعد وجبة غداء معقولة . وهي في حكم المستحيل هنا في بغداد بعيدا عن اهلك ومنزلك ، فالدوام رسميا ينتهي في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر كل يوم ، والتمرين في الثالثة ، أي انك تمتلك نصف ساعة لكل مستلزمات المواطنة والمطاولة في ماراثون مضني لتكون بعدها جاهزا للتمرين مع السعدي في [عرس الدم] . بمعنى أدق انك لاتملك الوقت للراحة أو الاسترخاء ، كي تكون مستعدا فعلا لتمرين مثالي . في هكذا ظرف تأخرت يوما عن التمرين مع السعدي خمسة دقائق [وفي رواية للسعدي أنها ربع ساعة] بعد حملة تعنيف فيها قسوة الأب ، زعل علي وقاطعني دون أن يكلمني عاما ونصف العام ، لكنه ظل معي على نفس المحبة ، وهي ميزة الآباء الحريصين على تربية أبنائهم . بعد ما يقرب من الأربعين عاما التقيته أتحدث عن تجربته في برنامج تلفزيوني استضافه على الفضائية الشرقية ، ذكرته بما مضى وقلت له :
- عندما اخترتني بطلا لمسرحيتك "عرس الدم" و تأخرت عن التمرين 5 دقائق
قاطعني مصححا :
- لم تكن خمس دقائق بل كانت ربع ساعة ، أي خمسة عشر دقيقة .
اتفقت معه فليس من صفة الابناء المعطيعين معصية اباءهم ، لاسيما الاباء من صنف ابونا جعفر السعدي ، أكملت - كما تحب ربع ساعة وليست بخمس دقائق ، بعدها زعلت أنت علي وقاطعتني أكثر
من عام ونصف العام ، ثم استبدلتني بممثل آخر ، ماذا قصدت من ذلك ؟
أجابني بكل صدق الأباء الحريصين على اولادهم الذين يعتقدون انهم ربما إذا سامحوا عن خطأ قد يكرر الاولاد الخطأ ثانية بخطأ آخر :
- لأنك ابني وأنا احبك لزاما علي أن أعلمك الصحيح ، إلا أني ورغم زعلي عليك استمر اعتزازي بك ، كنت أحبك ، بل وأحببت كل من درستهم ، فكلهم أولادي أقولها بكل صراحة .
وهنا ولست مستغربا من بساطة إجابته لأني أدرى بالسعدي ، لكني هتفت فرحا لأني كنت قد تأكدت من تشخيصي له الذي أكد عندي فيه الأستاذ - الأب :
- إن عمقك في البساطة التي تتمتع بها أيها الجليل الجميل، وأنت هكذا دائما أستاذي وأبي .
واعتقادا منه أني بتذكيري له بمثل هذه الأحداث ، ربما أكون حاملا عليه [غيظا مستحيلا] باحتمال المعنين فاسترسل قائلا :
- الشيء المهم الذي افتخر به هو أنكم أولادي .
ولجلج بضحكة هادرة تميز بها صوته القوي ، وهي دالته النبيلة التي تقع فيه ما بين طفولته وامتدادها ، وبين طيبته المتناهية التي لا تشبهها طيبة . وكان هذا رهاننا عليه دائما ، ثم أكمل:
- وهو المطلوب .[واستمر بذات الضحكة التي لم تفارقه ، حتى أنه مات وهو يضحك ؟؟!! وقد يكون مات من الضحك . ربما ... لا بل من المؤكد انه مات من الضحك .
إذن هو أمر غاية في البداهة أن يتصرف [الأب ، المخرج ، الأستاذ] حين يعنف [ابنا ، ممثلا ، طالبا] مثلي ؟ بالطريقة التي تصرف بها السعدي معي : يوم استبدلني بآخر عقابا لي عن تأخري عن التمرين ، وما همه فيما ستؤول إليه نتائج العمل المسرحي ، ولا إلى ما سيؤول إليه العرض بالنهاية . كما لم يأبه إلى من سيكون هذا البديل ، أهو اقل مني كفاءة وموهبة ، أم لا ؟؟ كل ذلك لكي ينتصر : للالتزام ، للأخلاق المسرحية أولا ، وللتربوي في الأستاذية ثانيا . كان هذا في مسرحية في [عرس الدم] التي أخذها " كمثال لغارسيا لوركا . لم ينضبط عمله فيها أو يتمحور في اتجاه ولم يمل إلى نزعة "(1) هذا ماراه [عبيدو باشا] - الذي أخالفه الرأي - في كوني انطلق من إن السعدي يكاد يكون من القلة التي تمتلك صواب الرأي [أستاذا أكاديميا] - كما وصفه الباشا . مضافا أن السعدي لم يأت من فراغ حين تعامل مع الحسي بعيدا عن المجاهرة ، وما همه في ذلك رأي الكثيرين ممن يتهمونه بالشكلاني الذي لاتهمه الجوانب الإبداعية في التعامل مع الجمال . بل هناك من يعتبره يفرط بالإبداعي والفني على حساب التربوي التعليمي – ورغم أن هذا أمر يفخر به هو – بل هناك من يرى إن " مسرحه البارد ، من مزيجه المتموضع بين الواقعية المشوبة ببعض العناصر الفنتازيا "(2) . التي تحققت بفضل تعامله مع مجموعة متميزة من المصممين من أمثال كاظم حيدر في [الديكور] وامتثال الطائي في [الأزياء] والحاج ناجي الراوي وماركريت العبودي في [الماكياج] وفاضل قزاز في [الإضاءة] .. وغيرهم . هذا الاهتمام غير العادي بالتقنيات ربما متأت من رغبته في دراستها في أمريكا عندما " اختير السعدي ضمن البعثة العراقية لعام 1957 للتخصص في الإنارة المسرحية والسينمائية وبالنظر لعدم وجود هكذا فرع في الولايات المتحدة الأمريكية،فقد نسب إلى فرع الإخراج المسرحي "(3) . مخرجا كان يعتبر التكامل الفني في العرض المسرحي إنما يأتي من الاعتناء بالمهمات – التي قد تبدو صغيرة في نظر الآخرين وما هي بصغيرة - مثل الاعتناء بالحوار من خلال الإصرار على ضبط اللغة العربية في أداء الممثل بل لقد كان يعتقد أن في ضبطها طريق للوصول إلى ضبط المكملات الأخرى لكامل مقومات العرض المسرحي ، والسبيل الأهم في الأداء لوصول غاياته وبلاغه ووصول خطابه إلى المتلقي . وكان من مقاييسه في نجاح أي عرض هو في نجاح ممثليه في ضبط لغتهم والتمكن من حوارهم – لذلك كان يطلب في الكثير من الأحيان أن يقوم بتدريس مادة الصوت والإلقاء لطلبة الصفوف الأولى انطلاقا من أن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر – كان احترامه بالغا للممثلين الذين يعتنون باللغة ويعتبرهم من أهم الممثلين . على أن نعرف بأن الشائع في مسرحنا أن أهم الممثلين فيه كانت ينقصهم ضبط اللغة العربية ، لكن مع الحاج السعدي صار قسم كبير من الممثلين يهتم في ضبط اللغة و " ثمة خصلة يتحلى بها السعدي ، هو إدراكه لخطورة اللغة الفصحى [.....] أما فيما يتعلق بالأسس التي يجدها حاسمة في عمله النظري والتطبيقي فهي : الوضوح ، والبساطة ، والجمال [.....] بالحوار والحركة والإيماءة ووضوح الأفكار "(4) اكثر مما كان يعنيه تحقيق الدهشة في الصورة المسرحية من حيث تشكيلها ووضعها ضمن تنسيق الفضاء المسرحي في التكوين والتشكيل والابتكار . وقد بالغوا فيما ذهبوا إليه لأنه كان يعتني بمكونات الدهشة وعلى سبيل المثال تأكيده على أهمية [الإيقاع في العرض المسرحي] .
كانت دفعتنا في الدراسة تتكون من خمسة عشر طالبا يتراوح طموحهم بين ، المهووس بالمسرح ، وبين الذي يعتبر المسرح متنفسا لطرد كل ذنوبه في دنياه . وهو ما تعلمناه توا [حين كنا في المرحلة الأولى] الـ catharsis – ومعناه [التطهير] . قاتلنا لكي نعرف معنى [الإيقاع] لكثرة ما كان يحكي بها كل من أراد أن يوضح لنا سخفنا ، أو لكي يعطينا علامة لفهمه . فكان لإلحاحنا على أستاذنا السعدي أن يعرفنا بـ[الإيقاع] وما تعنيه الكلمة . كان يومها يدرسنا [الصوت والإلقاء] وكنا نأخذ الدرس على مسبح المعهد في الهواء الطلق ، وكنا ندور حول [حوض السباحة] كنوع من عمليات [الإحماء] على طريقة الرياضيين ، نهرول مع إلقاءنا الحوار . وفي إحدى الاستراحات ألححنا عليه أن يبدا بشرح الإيقاع – مؤرقنا - ، فما كان منه إلا أن يبدأ وبطريقته الأبوية المعهودة بتسهيل كل الصعب :
السعدي : إن الإيقاع يا أولادي هو الوحدة الزمنية المحسوبة بين أمرين على سبيل المثال
أشعار أحمد شوقي في مسرحيته [ مصرع كليوباترة] كما في بيت الشعر هذا :
أسطولها إلى مراسيه أوى وجيشها ألقى السلاح ، ونجى
التي عند تقسيمها إلى وحدات فستكون :
أسطولها / إلى مراسيه أوى / وجيشها أل / قى السلا / ح ، ونجى
ح ، ونجى
ح ، ونجى
واستمر بتكرار [ح ، ونجى] حد أننا أخذنا المسبح بتظاهرة ونحن نهتف بالوحدة الإيقاعية [ح،ونجى] مع الضحك والمتعة العالية . وللان نحن طلاب تلك الدفعة كلما التقينا تذكرنا الـ [ح،ونجى] ونغرق بالضحك .
ولو عدنا لنقاش هذا الدرس بعقلانية اليوم ، لا بالحالة الارتجالية الصبيانية التي كنا عليها ، آنذاك يوم كنا طلابا – وهي حالة طبيعية - لوجدنا أنها كانت درسا بليغا بل وغاية في الأهمية . استطعنا من خلاله معرفة ما كان يعنيه الإيقاع فعلا و بشكله العلمي . حين كان يشقى الكثيرون ويعجزون ، ممن لا يمتلكون خبرته وصدقه في إيصال المعنى بالتبسيط الذي سلكه السعدي في إيصاله إلينا وببساطته المعهودة . فحق أن نصفه بالسهل الممتنع أو .. [العمق في البساطة] .
حين تطيل النظر في عينيه ، أو تختصره ، فلن ترى منه إلا القلب الذي يحمل الإنسان فيه . لقد خّرج أجيالا من المبدعين ، ما يكن ينظر إليهم طلابه فقط ، بل كان يحسبهم أولاده . وحتى لو تقدم بهم الزمن وكبر الأولاد ، عمرا ، أو فنا ، يظلون في نظره أولاد الأمس : فيوم عاد [د .عوني كرومي] من دراسته للمسرح في ألمانيا وهو يحمل شهادة الدكتوراه ، وقد اصبح بعدها أستاذا في أكاديمية الفنون الجميلة/ قسم المسرح الذي كان يرأسه آنذاك جعفر السعدي . وبحكم العمل ، احتدم النقاش يوما بينهما حدا ، جعل السعدي يبدأ بتعنيف عوني بأبوية وبصوت عال ، تماما كما لو كان عوني طالبا كأيام زمان ، وليس أستاذا كما كان عليه حينها . الأمر الذي جعل عوني يترك المكان حزينا حد البكاء . فما كنا مني وكنت جالسا يومها – شاهد عيان - إلا أن أتدخل ، فقلت له :
- أستاذ جعفر ، انك تعامل د.عوني وكأنه طالب الأمس لديك ؟ لاتنس ، فنحن أولاد اليوم قد كبرنا وصرنا أساتذة مثلك – وحتى لو كنا لازلنا طلاب الأمس لديك ، لكنا الان زملاء لك ولا يجوز أن تعاملنا بهذا الشكل .
فما كان منه إلا أن نظر إلى بعين تكاد تدمع لفرط العطف والمحبة والاحترام ، ليجبني بكل هدوء و حنكة :
- ابني مهما كبرتم وصرتم فأنا لا انظر إليكم إلا أولاد الأمس الأعزاء الذين افخر بهم وبعلمهم اليوم ، لكني اعتبركم مهما كنتم قد بلغتم لستم إلا ما يعنيه قول الشاعر احمد شوقي في مسرحيته [مجنون ليلى] :
- لم تزل ليلى بعيني طفلة لم تزد عن أمس إلا إصبعا
فأسكتني بقناعة ، رحت بعدها اعتذر له خجلا قبل عوني الذي ذهبت إليه أعنفه : كيف تجرأ فتزعل من الأستاذ جعفر ، بل كيف تترك المكان هكذا . واعترف كلانا بخطأه هو في زعله وتركه المكان ، وأنا لعتابي عليه ، فذهبنا إليه سوية لنقبله ، ولنعتذر منه .
هو إذن " واحد من المربين الأساتذة الذي عمل أولا كأستاذ ، ثم جرب هذه الأستاذية في المسرح على صعيد الإخراج "(5) . لقد كان [الأستاذ في المخرج] ولم يكن [المخرج في الحرفة ، أي ، الـ profitonal] . لقد اهتم بالتربية قبل الفن ، اهتم بها لاعتقاده إن امتلاكها هو الذي يصنع الفنان . لأن أية موهبة مهما علت حين تبتعد عن التربية وأصولها ، تظل بعيدة عن امتلاك الخاصية الأهم في الفن : [الأخلاق] التي بدونها تصعب الحياة وتموت الموهبة مهما عظمت ، ولا يكون الفنان – بدونها - فنانا . لم يكن ليخفي انه تربوي أولا ومنذ سنينه الأولى في الفن ، حين يقول :
- "عندما كنت طالباً و[مدرسا مخرجا]ً في معهد الفنون الجميلة ، أخرجت العشرات من المسرحيات ومعظمها كانت من تأليف [أحمد شوقي] "(6) .
متعمد أنا ، حين حصرت قوله في [ مدرسا مخرجا ] بين قوسين لأؤكد بها توصيفه لنفسه . ذلك التوصيف المطابق لمحتوى المبحث الذي نحن فيه . ولأنه لم يكن يعتبر الاعتراف بها مثلبة كما هو شأن الآخرين ، بل ولا أبالغ إن قلت انه كان يتباهى ، حين ينطلق منها للصدق الذي يتمتع به ، والزهد الذي يتصف به حد التماهي . فلم يعتبر نفسه في الفن إلا [هاويا] وكل المحيطين به [محترفين] لها ، بل والأهم منه في الصنعة ، وهذا في رأينا مناف جدا للحقيقة . كما ويؤمن بأن صفة [الفنان] أمنية بعيدة المنال ، لا يحظى بها إلا النادر من مستحقيها ، وهو زهد آخر مبالغ فيه . لأنه ما فكر يوما في أن يقدم الفن إلى الناس لقاء ثمن ، فالثقافة – في مفهومه - لا تكال بمكيال وهي تهدى مثل النصيحة . على أن نعرف بأن معاناته لخلق جمهور للمسرح ما قل عن معاناته لخلق ممثلين وفنيين ومصممين وباقي مستلزمات العمل المسرحي ، وله حديث عن الجمهور الذي لم يعرف طريقه إلى المسرح خلال عرض مسرحي كان من إخراج بهنام ميخائيل ، وكيف انه وقف في طريق المارة على باب المسرح يدعوهم لمشاهدة العرض فلم يجد غير بائع الشلغم الذي دعاه بقوله : "لماذا لاتدخل وتتفرج" – وحسبه – انه دخل وحده وجلس السعدي إلى جانبه جمهورا لذاك العرض . لكن وفي العرض الذي تلاه بدأ البعض من الجمهور ونتيجة التثقيف الذي مارسوه عليه أن يتوجه إلى المسرح ، وبالتدريج بدءوا يألفون المسرح ، حتى انهم وفي مسرحية [عطيل] التي أخرجها جاسم العبودي ، بدأ الجمهور يطلب التذاكر قبل العرض بأيام ، حتى أنها أصبحت تباع في السوق السوداء . كان هذا في مسرح معهد الفنون الجميلة [المكان – المحراب] ، المسرح الذي يعمل فيه وهو [الأستاذ] الموظف في الدولة الذي يتقاضى عن وظيفته راتبا . وعليه فأن مبالغ التذاكر ممكن ان تنفع في إنتاج مسرحية أخرى بعد أن يتوزع قسم منها على الطلبة الفقراء من الممثلين والعاملين . وحسب السعدي انه ، وحتى العام 1979 لم يستلم من المسرح أي مبلغ ، بل يقول :
- نحن من كان يصرف على المسرح . والمرة الأولى في حياتي استلمت فيها مبلغا لقاء عملي في المسرح كانت عن عملي في مسرحية [نفوس] ، المعدة عن مكسيم غوركي والتي أخرجها قاسم محمد لفرقة المسرح الفني الحديث . عندما استضافتني الفرقة وقتها ، وقدمنا العرض على [مسرح بغداد] . فقدموا لي بعد العرض أجرا كان 56 دينار ، وهي المرة الأولى في حياتي أتقاضى فيها أجرا من عملي في المسرح . أما قبلها فعلى العكس كنا نستقطع من رواتبنا نهاية كل شهر كي ندفع إيجار مقر الفرقة ، وبعض المستلزمات التي يتطلبها العمل المسرحي فيها (7) .
ولعن الزمن الذي اصبح فيه المسرح يدفع الأجر للفنان عن جهوده التي يبذلها في المسرح – وهو رأي غاية في الزهد - وهذا يتقاطع مع طبيعة العمل في المسرح بشكل عام ، هنا ، وفي كل بقاع الدنيا . لكن له اعتباراته في ذلك ، فهو يعتقد أن المال أفسد الفنان فساق المسرح إلى منزلق التجارية فصار [مسرح تجاري] . أما أهم الذي أخذه [هو] من الفن فليس اكثر من بعض الرضا عن النفس في إشباع رغبته منه ، يوم قرر كسر المألوف في مدينته الدينية الصغيرة التي كان يقطنها ، [ الكاظمية ] ، التي صنع على ساحلها المطل على دجلة مسرحا من القصب ، قدم عليه عروضا بسيطة مع شلة من الهواة من أبناء مدينة الكاظمية . وكانت هذه هي الطريقة التي بواسطتها ، استطاع أن يحرر مدينته من قيود التزمت التي كانت تحكمها . ولنا أن نعرف أن جعفر السعدي ، قد ارتقى المسرح لأول مرة عام 1934 عندما كان تلميذا في مدرسة المفيد الابتدائية في الكاظمية ، أما أول مشاركة مسرحية له خارج حدود المدرسة فكانت في العام 1937 وكان شابا يافعا وقد قام بدور صغير في مسرحية عنوانها [مظالم الاستعمار] تحكي عن دور النضال الليبي ضد الاستعمار آنذاك . كان يغلب على عروضهم الطابع الوطني ، فقد نشأ جيل السعدي على حب العراق الذي كان مستعمرا من قبل الإنجليز فقدموا مسرحية كبيره – حسب السعدي – عنوانها [مثلنا الأعلى] وكانت الحركة الوطنية في اوجها وكان الفنانون منها في الطليعة يدعون لمحاربة الاستعمار . وقد يكون هذا الهاجس هو الذي دفعه مع مجموعة من خريجي معهد الفنون الجميلة عام 1947 فقرروا تشكيل [الفرقة الشعبية للتمثيل] . وكانت حافزا لتشكيل فرق أخرى في بغداد . وقد حاولت هذه أن تسعى جاهدة على إعطاء السمات المميزة للمسرح العراقي التي تفرقه عن سمات المسرح في بقية الأقطار العربية . لم يكن في العراق يومها إلا مسرحا واحدا ، هو مسرح الثانوية المركزية . حتى العام 1950 ، حيث شيدت [قاعة الملك فيصل] ، وألتي تحول اسمها بعد ثورة 14تموز 1958 إلى [قاعة الشعب] .لقد قدمت الفرقة الشعبية للتمثيل على هذا المسرح مسرحية [فلوس] للكاتب التقدمي التركي [ناظم حكمت] . وكانت المسرحية – حسب السعدي - طويلة ، وتحتوي على 6 أدوار نسائية ، في الوقت الذي كان فيه الحصول على ممثلة واحدة في العراق يعتبر من ضروب المستحيل . ومع ذلك تم تذليل هذه الصعوبة بهمة السعدي ومجموعة الممثلين الهواة الذين رافقوه ، وكان من بينهم سامي عبد الحميد الذي يقول : " إن الأستاذ السعدي من اكبر المسرحيين على الإطلاق ، تعرفت عليه في بداية الخمسينات ، عندما أحيا [أسس] الفرقة الشعبية للتمثيل ، أتذكر انه استدعاني للتمثيل في مسرحية [فلوس] وكان معي مجموعة من الهواة وقدمت في قاعة الشعب ولمست منه الإخلاص والحماس"(8) . ومما تجدر الإشارة إليه ، إن هذه المسرحية التي لاقت استحسان من شاهدها من الجمهور ، ولم تلاق استحسان السلطة التي يرأس حكومتها آنذاك نوري السعيد ، وذلك بسبب دعوتها إلى الاشتراكية . في الوقت الذي كان فيه حرف الـ [شين] من الاشتراكية ممنوع فكيف بالاشتراكية كلها – حسب السعدي - ، فحاصرت الشرطة المسرح بعد أن أوقفت العرض ، وذهب الجميع إلى بيوتهم . لقد " نشأ مسرحنا في أحضان السياسة ومن خلاله عكسنا تمسكنا بالوطن والامة والإنسان وهذه هي ميزة المسرح العراقي"(9) . وظل الهاجس الوطني ، ملازما له حتى آخر عمل قام بإخراجه وهو مسرحية [رقصة الأقنعة] للشاعر العراقي [شاكر السماوي] وكان لهذه المسرحية أيضا قصة ومعاناة طويلة – كما يصفها السعدي - لأنها شهدت خروج نصف الممثلين العاملين فيها من العراق باتجاه المنافي ، كان ذلك قبل موعد تقديمها بأسبوع واحد الأمر الذي اضطره إلى الاستعانة بزوجته التي كانت قد حفظت الدور النسائي الرئيسي في المسرحية وذلك بسبب حضورها اليومي إلى التمارين – وهو محض صدفة – لقد كان الدور مسندا للفنانة [وداد سالم] التي غادرت العراق باتجاه بلغاريا ، كما استعان بأبنائه ، وبعض الأصدقاء من اللذين ساعدوه على تقديم المسرحية بنجاح .



الهوامش
*) مريد البرغوثي : منطق الكائنات [شعر] ، إصدارات دار المدى ، عمان – الأردن 1996 ، ص 76
**) حوار دار بيني وبينه : قدمته شاشة قناة الشرقية ، في لقاء خاص معه قبل وفاته ببضعة أشهر ، كما نشر الحوار على موقع مسرحيون أيضا .
1)2) عبيدو باشا : ممالك من خشب – المسرح العربي عند مشارف الألف الثالث ، دار رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت – كانون الثاني/ يناير 1999 ، الطبعة الأولى ، ص421 .
3) أحمد فياض المفرجي : الحركة المسرحية في العراق ، مطبعة الشعب ، الطبعة الأولى/ بغداد – شباط 1965 .
4) د.عقيل مهدي يوسف : الواقعية في المسرح العراقي ، وزارة الثقافة والإعلام / دار الشؤون الثقافية – بغداد 1990 ، الطبعة الأولى ، ص 39 .
5) عبيدو باشا :ممالك من خشب ، 421 .
6)7)8) لقاء الفضائية الشرقية .
9) احمد فياض المفرجي : الحركة المسرحية في العراق ، 40 .



#فاضل_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فرقة المسرح الفني الحديث
- أسباب غياب الخصوصية في المسرح العربي
- المسرح الشعبي العربي
- الهيمنة والحداثة - ومشكلة غياب الهوية العربية في المسرح
- إشكالية محنة الوحدانية في المونودراما
- تاريخ فن الدمى في العراق
- تأريخ المسرح العربي


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل خليل - جعفر السعدي .. أب المسرح العراقي