أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جهاد حمدان - قراءة سياسية نفسية في روايتي عبد الرحمن منيف -شرق المتوسط- (1975) و-الآن… هنا- (1991)















المزيد.....


قراءة سياسية نفسية في روايتي عبد الرحمن منيف -شرق المتوسط- (1975) و-الآن… هنا- (1991)


جهاد حمدان
أكاديمي وباحث وناشط سياسي

(Jihad Hamdan)


الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 18:27
المحور: قضايا ثقافية
    


قراءة سياسية نفسية في روايتي عبد الرحمن منيف
"شرق المتوسط" (1975) و"الآن… هنا" (1991)
مقدمة
تشكل روايتا "شرق المتوسط" (1975) و"الآن… هنا" (أو شرق المتوسط مرة أخرى) (1991) مشروعًا أدبيًا متكاملاً لعبد الرحمن منيف في تناول القمع السياسي وانتهاك الحريات في العالم العربي. الأولى تمثل صرخة احتجاج صاخبة ضد بطش الأنظمة، بينما تُعدُّ الثانية تأملًا عميقًا في الندوب النفسية التي يتركها القمع على الوعي الفردي والجماعي. بين الروايتين نلمح تحولًا جوهريًا في رؤية الروائي من مواجهة بطش السلطة مباشرة إلى الغوص في أعماق ما يتركه القمع من ندوبٍ على الوعي الفردي والجماعي. وتقدّم هذه الدراسة قراءةً سياسيةً ونفسيةً للعملين، مركّزةً على الرؤية السياسية وتطور الرسالة، والتحول النفسي بين الروايتين، مع التوقف عند دلالات الحرية والمعارضة، وواقع التعذيب، وأبعاد شخصيتي أنيسة وهادي، إضافة إلى الرموز والتحولات الدلالية، وصولًا إلى تساؤلات حول ما بعد "الآن… هنا" في ضوء استمرار أسئلة الراوي وراهنية رؤيته.
أولًا: الرؤية السياسية وتطور الرسالة
في رواية "شرق المتوسط"، يواجهنا منيف بنص حاد وصادم يفضح فيه الاستبداد العربي، حيث تتحول السجون إلى آلات سحق للإرادة الإنسانية. لا يحدد الكاتب اسم الدولة التي يزدهر فيها كل هذا القُبح والقمع ولا اسم الحزب الذي ينتمي إليه بطل الرواية، لأن هدفه تعميم هذا السياق على المنطقة كلها.
تتمحور الثيمة الرئيسة حول وحشية السلطة وقدرتها على تعذيب الجسد لكنها تعجز عن قتل الفكرة أو كسر كرامة المناضل الحر التي تجسدها شخصية رجب إسماعيل ؛ إذ يتحمل التعذيب الوحشي ويرفض أنْ يستنكر الحزب أو يخون رفاقه، رغم فظاعة الألم. ووطأة القهر.
أما في "الآن… هنا" (1991)، فقد تغيّرت نبرة منيف. بعد ستة عشر عامًا، صار أكثر مرارة وأعمق تحليلًا. لم يعد القمع محصورًا في أجهزة الأمن فقط، بل تسلل إلى المجتمع ذاته، وصار الصمت والخوف والنسيان أدوات فعالة للسلطة. هنا لا يتوقف القمع عند سحق الأجساد، بل يمتد إلى اغتيال الوعي وطمس الحلم الجمعي بالحرية. الرواية الثانية إذن ليست فضحًا للجلاد فقط، بل مساءلة لمجتمع يشارك، عن قصد أو خوف، في استمرار آليات القهر.
ثانيًا: التحول النفسي بين الروايتين
في "شرق المتوسط"، يعيش رجب صراعًا مباشرًا مع السجان، ويتحول السجن إلى ساحة مواجهة بين الصمود والانكسار، بين الخوف والكرامة، بين شرف الحزب والاستنكار. الألم شديد، لكنه يجد في داخله قوة للتحدي. نرى البطل هنا رمزًا للمواطن المقاوم الذي يضع الحياة المغمسة بالدم في كفّة ووعد الجلاد له بالحرية الذليلة في كفة أخرى، فيختار الأولى لأنها المعادل الموضوعي لشرفه النضالي وشرف قضيته وحزبه، أما الحرية المضمخة بالذل فهي الموت ولا شيء سواه .
لكنّ رجب الذي خرج من السجن في "الآن… هنا" لم يعد هو نفسه. جسده منهك وروحه مثقلة بالكوابيس وفقدان معنى الحياة. تُدخلنا الرواية إلى عالم صدمة ما بعد التعذيب والسجن: عزلة، انكسار نفسي، اغتراب عن المجتمع وحتى عن الذات. يتحول السجن من مكان مادي إلى ذاكرة مزمنة؛ الزنزانة تلاحق البطل خارج أسوارها، والتعذيب يستمر داخله حتى في غياب الجلاد.
ثالثًا: الحرية والمعارضة بين المثالية والاغتراب
ظهرت الحرية في الرواية الأولى باعتبارها قيمة مطلقة لا تقبل المساومة، أما معارضة السلطة الحاكمة فاكتسبت بعدًا مثاليًا. وجسّدت شخصيات مثل رجب وهادي الإرادة الحديدية للمناضلين التي تتحمل أقسى أشكال التعذيب دون أنْ تنكسر. هادي تحديدًا مثّل أيقونة الصمود داخل الزنزانة، ظلّ يزرع في نفوس رفاقه الأمل بأنّ السلطة مهما اشتدت قسوتها لن تنتصر على جذوة الروح.
في الرواية الثانية، تسقط المثالية في مواجهة الواقع. حين يخرج رجب إلى العالم الخارجي، يكتشف أنّ المجتمع الذي ناضل من أجله نسيه، بل ربما تواطأ بعضه مع السلطة بالصمت أو الخوف. انسحب بعض المعارضين، وخان بعضهم القضية، واستسلم آخرون لقنوط هزموه في الزنازين. هنا تتحول الحرية إلى حلم بعيد، ويصير الصراع وجوديًا أكثر من كونه سياسيًا. بدا منيف في هذا العمل أكثر انكفاء وقسوة، فالتراجع تجاوز هزيمة الفرد أمام الجلاد، إلى تراجع مشروع جماعي ضحى الرفاق من أجله بحياتهم ليزهر حرية وعدالة اجتماعية بل واشتراكية.

رابعًا: التعذيب … من سحْق الجسد إلى محْو المعنى
في "شرق المتوسط"، يقدّم منيف تصويرًا صادمًا ووحشيًا للتعذيب، ليضع القارئ في مواجهة مباشرة مع واقع السجون العربية. نقرأ عن التعليق والجلد والصعق بالكهرباء وسكب الماء البارد والساخن، لكن أكثر المشاهد قسوة هو مشهد الكيس مع القطة:
"جاؤوا هذه المرة بكيس، أدخلوا فيه رأسه وربطوه بإحكام عند العنق. بعد لحظات شعر بجسم صغير يتحرك داخله، يخمش وجهه ويعضه. حاول أنْ يصرخ، لكنّ الكيس كان محكمًا فابتلع صراخه. أخذ يختنق، والكائن الصغير في الداخل يزداد جنونًا كلما ضربوا الكيس بالعصي. أدرك أنه قط، قط محبوس مثله، لا يعرف من أين يخرج. وبدأت المخالب تمزق جلده والأسنان تغرز في لحم وجهه" (ص 112)*.
هذا المشهد ليس تفصيلًا عابرًا، بل رمزٌ للا إنسانية الجلاد وحجم الانحدار الأخلاقي للسلطة. وهو الأكثر شهرة وقسوة في الرواية، حيث يجمع بين التعذيب الجسدي (تمزيق الوجه) والتعذيب النفسي (الاختناق والفزع). ويشير إلى أنّ الأنظمة القمعية لا تكتفي بإيذاء الجسد، بل تسعى إلى تحطيم إنسانية الفرد بالكامل. القط هنا ضحية أيضًا، لكنه أداة لتدمير ضحية أخرى، في مفارقة قاسية.
في "الآن… هنا"، يغيب تركيز الكاتب على تفاصيل الألم الجسدي، ليمنح مساحة أكبر للتعذيب النفسي الطويل الأمد. فالرواية ترصد النتائج الكارثية لسنوات السجن على الروح: الخوف الذي لا ينتهي، العزلة وفقدان الثقة بالآخرين، تدمير الروح بدل الجسد، السجن الذي يلاحق الخارجين، وإحساس دائم بالذنب والخيانة. التعذيب هنا لم يعد عملية جسدية لحظة الاعتقال، بل غرسٌ للخوف داخل الوعي الجمعي، بحيث يعيش السجين والمجتمع بأسره داخل دائرة قمعية حتى بعد الخروج.
"لم يكن السجن أسواره العالية، بل ذلك الخوف الذي زرعوه فينا، الخوف الذي لا يزول حتى بعد أنْ نخرج. كنا نحمل السجن معنا أينما ذهبنا" (ص 89).
"تعلمنا في السجن كيف نرتاب في كل شيء… حتى في وجوهنا. لم نعد نعرف من معنا ومن علينا. كانت العزلة جدارًا آخر يبنونه داخلنا" (ص 104).
"لم يكونوا يريدون قتل أجسادنا، بل أرادوا أن يقتلوا أرواحنا أولًا. كانوا يعرفون أن الجسد قد يشفى، لكن الروح إذا انكسرت فلن تعود أبدًا" (ص121).
"خرجنا من الزنازين لكننا لم نخرج من السجن. أصوات المفاتيح، صرير الأبواب الحديدية، صرخاتنا المكتومة… كلها بقيت فينا، تسكن وجوهنا وأحلامنا" (ص 137).
"أسوأ ما يفعله التعذيب أنك تتصالح مع الخيانة… يزرعون داخلك إحساسًا بالذنب لا يفارقك، حتى لو كنت بريئًا، لتعيش أسيرًا له إلى الأبد" (ص 146).
خامسًا: دور أنيسة وضغطها النفسي على رجب
تعكس شخصية أنيسة في الرواية الأولى صراع العائلة العربية في ظل القمع السلطوي. فهي الأخت التي تمزقها المأساة بين حبها لأخيها وخوفها عليه، وبين الرغبة في نجاته وضغط السلطات عليها لدفعه إلى الاستنكار والتبرؤ من الحزب. هنا بداية انكسارها:
"رجاءً يا رجب… قل لهم ما يريدون سماعه… قل لهم إنك نادم… أعترفْ لهم حتى يتركونك، أريدك أن تعود إلينا" (ص 129).
"نحن لم نعد نحتمل يا رجب… أمي مريضة… أبي لا ينام… بيتنا محاصر بالعيون. لماذا تصرّ على عنادك؟ ماذا ستكسب غير الخراب؟" (ص 141).
لم يكن هذا بدافع التواطؤ مع السلطات أو الخيانة بقدر ما كان نتيجة ما بثته الأجهزة الأمنية من خوف وتهديد في عائلتها. أنيسة هنا ليست شخصية ثانوية، إنها تجسد الضغط الأسري والاجتماعي الذي يوازي التعذيب الجسدي في قسوته.
يُدرك رجب عمق المأساة، فيعاتبها بحزن وألم عميقين:
"أتعلمين يا أنيسة؟ لم أكن أظن أنكم ستصبحون جزءًا من جلاديّ." وترد أنيسة بحرقة واستكانة:
"لا تقل ذلك… أنا أحبك يا رجب، لكنني لا أملك إلا أنْ أرجوك… حياتك أهم من كل شيء" (ص 156).
لكنّ رجب لم يستجب، فبقيت أنيسة رمزًا للعجز والخذلان القسري.
أما في "الآن… هنا" ، فيكاد يختفي حضور أنيسة، وهو غياب مقصود يعكس فجوة العزلة التي خلقها السجن بين رجب وعائلته. لم يعد للأواصر القديمة أثر يذكر. فالمعاناة صارت داخلية فردية، دون سند عائلي أو جماعي يمنح البطل القوة.
رجب: "لم أعد أراهم كما كانوا… لم تعد لهم ملامح… حتى أنيسة، لم أعد أعرفها، كأنّ سنوات السجن أغلقت بابًا لن يُفتح أبدًا" (ص 84).
أنيسة حاضرة في السرد. لكنّ غيابها يرمز إلى انهيار الروابط الأسرية تحت وطأة المعاناة الطويلة، حيث تتفكك الأواصر التي كانت تجمع العائلة، وإلى الفجوة النفسية بين رجب والمجتمع الخارجي، بعد أنْ أصبح أسير ذاكرته وتجربته القاسية، وصار ألمه فرديًا صامتًا.
سادسًا: هادي… من أيقونة الصمود إلى طيف في الذاكرة
في "شرق المتوسط"، يقدّم هادي صورة للمناضل الصلب الذي لا يخضع مهما اشتد العذاب، فيصبح مصدر إلهام لرجب ورفاقه في الزنزانة. وجوده في الرواية يمنحها طاقة أمل خفية، ويؤكد أنّ هناك أشخاصًا قادرين على مقاومة آلة القمع حتى النهاية. يقول رجب:
"كنا نسمع صراخ الآخرين في الليل… أما هادي، فقد كان صمته أعلى من كل صراخ. لم يطلب ماءً، لم يتوسل أحدًا… كان حاضرًا فينا جميعًا، كأنه يعطينا من قوته دون أنْ يتكلم" (ص 173).
هادي لم يكن مجرد جسد يتحمل الألم؛ بل كان واعيًا بمعنى المقاومة. كان يدرك أنّ المعركة الحقيقية ليست على الجسد، بل على الروح، ولذلك كان حريصًا ألا يمنح سجّانيه انتصارًا معنويًا. فها هو يقول لرجب بهدوء:
"إنهم لا يريدونك أن تعترف لأنهم لا يعرفون شيئًا… يريدون أنْ يكسروك فقط. إذا انكسرتَ يا رجب، لن تعود كما كنت" (ص 181).
وظل هادي يمنح رجب قوة خفية في لحظات الضعف ووصول حافة الانكسار:
"حين شعرت أنني سأنهار، تذكرت هادي… تذكرت عينيه الصافيتين وصمته الثقيل. قلت لنفسي: إذا كان هادي ما زال واقفًا، فأنا أيضًا أستطيع أن أتحمل" (ص 192).
"رفعوا هادي عن الأرض، جسده كله ينزف… لكنه لم يصرخ. كان يحدّق فيهم بعينين دامعتين، لكنهما ثابتتان كأنهما تقولان: لن أنحني" (ص 204).
لكن في "الآن… هنا"، يغيب هادي عن السرد المباشر ويعود فقط كذكرى في ذهن رجب، كأن هذا يحمل في طياته أنّ زمن البطولة الفردية انتهى. فقد تحول هادي إلى رمز لفكرة الصمود المفقودة، ولجيل من المناضلين سحقهم القمع أو غيّبتهم الخيبات المتلاحقة. استعادة رجب لهادي هنا ليست ممزوجة بالقوة بل بالحنين المجبول بالأسى والخذلان.
"أتذكر هادي أحيانًا… كان صمته يملأ المكان… كان أقوى من كلنا مجتمعين، لكن أين هو الآن؟ لا أثر له، كأن الأرض ابتلعته" (ص 93).
"كان هادي يعلّمنا أنّ الكرامة أثمن من الحياة… لكننا خسرنا الكرامة والحياة معًا. هادي الآن مجرد ذكرى، أما زمنه فقد مضى بلا رجعة" (ص 126).
"في الليل، كنت أغمض عينيّ وأتخيله إلى جانبي… لكن الصوت الذي كان يطمئنني لم يعد موجودًا. ما عاد أحدٌ يذكّرني بأننا أقوى منهم" (ص 144).
سابعًا: الرموز والتحولات الدلالية
يتناول هذا الجزء أربعة محاور أساسية في الروايتين: السجن، الكتابة، القطة ومشهد الكيس، والذاكرة والصدمة.
1. السجن: من الرمز المادي إلى الحالة الوجودية
في "شرق المتوسط" (1975) - السجن رمز لسلطة الدولة القمعية
السجن هو المكان الذي يُمارَس فيه القمع بأبشع أشكاله. وتمثّل الجدران الأربعة والزنازين الضيقة قوة الدولة المباشرة، وسلاحها الرئيس التعذيب الجسدي لكسر إرادة المعتقلين.
تعامل رجب مع السجن كعدو خارجي، سلاحه الصمود الجسدي والنفسي ضد سلطة تعرف كيف تُحطم الإنسان جسديًا.
"كانوا يضحكون وهم يدفعونني إلى الحفرة الضيقة… لا شيء هنا غير الجدران، غير السياط التي تنهال كالمطر، غير القسوة التي تتدفق من كل عين تراقبني" (ص118).
السجن هنا آلة سيطرة مباشرة، يُجبرك على مواجهة الخوف في صورته العارية.
في "الآن… هنا" (1991) - السجن حالة وجودية
لم يعد السجن مكانًا فحسب، بل صار حالة نفسية تسكن الداخل. ولم تعد الجدران هي المشكلة، بل ذكريات الجدران، فالخوف صار يسكن الذات. يعيش رجب زمنً ما بعد السجن، لكن صدى الزنزانة لا يفارقه.
"خرجت من السجن، لكن السجن لم يخرج مني… الأبواب الحديدية ما زالت تُغلق في أذني، ورائحة الرطوبة تلاحقني حيث أذهب" (ص 77)
2 . الكتابة: من أداة مقاومة إلى محاولة لترميم الذات
في "شرق المتوسط" (1975) - الكتابة أداة مقاومة
في الرواية، تمثل الكتابة سلاح رجب الأخير في مواجهة آلة القمع، إذ يلجأ إليها كوسيلة لإثبات الذات والتشبث بالكرامة الإنسانية في مواجهة محاولات سحقه. الكتابة هنا فعل تحدٍّ مباشر ضد السلطة، وصوتٌ خافت لكنه ثابت في زنزانة يسكنها الصمت والألم. حتى في غياب الورق والقلم، يكتب رجب بأظافره على الجدران ليؤكد وجوده أمام سلطة تريد محوه.
"كنت أكتب على الجدران بأظافري، أردت أنْ أترك أثرًا يقول إنني كنت هنا، أنني لم أستسلم لهم" (ص 136).
الكتابة في هذا السياق فعلٌ وجودي، طريقة ليقول رجب "أنا هنا"، رغم كل محاولات الطمس.
"الكتابة كانت آخر ما تبقّى لي…حين أعجز عن الكلام، كان الحرف هو سلاحي الوحيد ضدهم" (ص 142).
في "الآن… هنا" (1991) - الكتابة محاولة لترميم الذات
لم تعد الكتابة سلاحًا في وجه السلطة، بل أصبحت وسيلة للنجاة من الداخل. بعد الخروج من السجن، يتحول رجب إلى إنسان محاصر بالذكريات، والكتابة هنا ليست للتحدي بل للتخفيف من الألم.
"أكتب لأتذكر… أكتب لأنسى… لكنني حين أنتهي من السطر الأخير، أكتشف أنّ الجرح ما زال مفتوحًا" (ص 149).
الكتابة لم تعد صراعًا مع السجان، بل مع الذاكرة نفسها، فهي أداة للتوازن النفسي، لكنها غالبًا لا تنجح:
"لم تعد الكتابة تحديًا لهم، بل محاولة يائسة لإنقاذي من نفسي… كنت أكتب كي لا أنهار تمامًا" (ص 161).
3. القطة ومشهد "الكيس": من أداة وحشية إلى رمز للصدمة
في "شرق المتوسط" (1975) - القطة رمز لوحشية التعذيب الذي تمارسه السلطة السلطة
يُعدّ مشهد الكيس والقطة من أكثر المشاهد قسوة في الرواية، حيث يُدخلون رأس رجب في كيس صغير بداخله قطة حية، ثم يضربون الكيس حتى تثور القطة وتبدأ في تمزيق وجهه. القطة هنا ليست مجرد أداة تعذيب، بل تتحول إلى رمز للسلطة العمياء التي توظّف كل شيء لإذلال الجسد وتحطيم الكرامة.
"أدخلوا رأسي في الكيس… شيء يتحرك داخله… ضربوا الكيس بعصا غليظة فهاجت القطة، وبدأت مخالبه تمزّق وجهي… حاولت الصراخ لكن فمي امتلأ بالدم." (ص 112).
لا يتوقف العنف هنا عند الألم الجسدي، بل يتضاعف حين يختلط مع الإذلال النفسي أمام قسوة الجلادين الذين يجدون في صرخات السجين عرضًا للتسلية:
"لم أعد أرى شيئًا، كان الألم يشتعل في وجهي كالنار… وكنت أسمعهم يضحكون، كأنهم يشاهدون عرضًا ممتعًا" (ص 114).
ف هذا السياق، القطة في شرق المتوسط هي أداة تعذيب مادي مباشر، تمثل وحشية السلطة وانعدام الحدود الإنسانية في ممارساتها.
في "الآن… هنا" (1991) - القطة تتحوّل إلى رمز للصدمة النفسية
هنا تختفي القطة كأداة تعذيب حاضرة لكنها تستمر في ذاكرة رجب كندبة أبدية. يتحول المشهد إلى صدمةٍ متجددة، يلاحقه في أحلامه وكوابيسه، ويصبح الرعب النفسي أقسى من الألم الجسدي الذي زال.
"رأيت القطة في حلمي… شعرت بمخالبها تخترق وجهي من جديد… فتحت عينيّ، فوجدت الدم يتصبب من قلبي لا من جلدي" (ص 153
وهكذا ينتقل الرمز من تمزيق الجسد في الرواية الأولى إلى تمزيق الوعي في الرواية الثانية.
4. الذاكرة والصدمة: جروح لا تلتئم
في "شرق المتوسط" (1975) - أثر الصدى أكثر من الألم
في الرواية الأولى، يبدو التعذيب وكأنه ينتهي حين يتوقف الفعل، لكن صدى الألم أبقى من الألم ذاته. يعيش رجب لحظات يظن فيها أنّ الصبر كفيل بإنهاء العذاب، لكنه يكتشف أنّ الأصوات والصور حفرت عميقا.
"كنت أظن أنني إذا صبرت سينتهي كل شيء، لكنّ أصواتهم بقيت في أذني حتى بعد صمتهم… كانوا يتركون صدى الألم أكثر من الألم نفسه" (ص 148).
في "الآن… هنا" (1991) - الصدمة تتحوّل إلى كيان داخلي
في الرواية الثانية، تتضخم هذه الندبة لتتحول إلى حالة وجودية. يخرج السجن من الجدران ليسكن في الذات، وتصبح الذاكرة نفسها أداة قمع جديدة، أقسى من السياط والزنازين.
"لم يخرج السجن مني… كان يسكن أحلامي وملامحي ونظراتي… حتى وأنا في قلب المدينة، كنت أسمع صرير الأبواب الحديدية" (ص 137)
تتحول التجربة هنا إلى مواجهة داخلية مع الماضي، حيث تعيش الصدمة وتعيد إنتاج نفسها باستمرار، وتصبح الذاكرة عبئًا وجوديًا دائمًا:
"الذاكرة أشد قسوة من السياط… إنها لا تمنحك فرصة للهرب، بل تقتلك ببطء في كل لحظة" (ص 184).
في "الآن… هنا"، لم يعد الألم مرتبطًا بالمكان أو الوقت، بل صار زمنًا ممتدًا لا يغادر وعي السجين.
ثامنا: خاتمة المقارنة
إذا كانت "شرق المتوسط" صرخة في وجه القمع، فإنّ "الآن… هنا" مرثية للحلم الضائع. في الأولى، الصراع بين الجلاد والسجين مباشر وملتهب، والرسالة واضحة: يمكن سحق الجسد لكن لا يمكن قتل الفكرة. أما الثانية فتأخذنا إلى مستوى أعمق، المعركة لم تعد مع السجان وحده، بل مع النسيان والخوف والخذلان الجماعي. لم يعد الهدف كسر الجسد بل قتل المعنى وإفراغ المجتمع من القدرة على الحلم.
معًا، تشكل الروايتان وثيقة أدبية سياسية ونفسية عن حكاية الإنسان العربي في مواجهة الاستبداد: من أمل الحرية إلى انكسار الفكرة، ومن بطولة الفرد إلى خذلان الجماعة أو صمتها. إنهما ليستا روايتين منفصلتين، بل نص واحد على فصلين: الأول يصرخ في وجه القمع، والثاني يبكي على ما تبقى من إنسانية وكرامة في عالم عربي يزداد انكسارًا.
تاسعا" ماذا بعد "الآن... هنا"؟
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على صدور "الآن… هنا "1991، يظل سؤال الروايتين مفتوحًا: هل تغيّر حال العالم العربي أم أنّ القمع تبدّل في صيغته وشكله فقط؟ في روايتيه، رصد منيف مسارين متكاملين:
• في "شرق المتوسط " (1975)، فضح بشاعة السلطة العارية، حيث كان القمع ماديًا مباشرًا، يجلد الجسد ويسحق الإرادة.
• في "الآن… هنا " (1991)، حوّل البوصلة نحو الداخل، حيث يعيش الإنسان العربي في سجنٍ لا جدران له، يحمل خوفه معه حتى خارج الزنزانة، ويكتشف أن المعركة صارت وجودية بقدر ما هي سياسية.
لو كان منيف بيننا اليوم، ربما لرأى أنّ العالم العربي لم يغادر تلك المتاهة. تغيّرت الأقنعة، لكن جوهر السلطة القمعية ثابت: تحوّل السوط إلى قوانين استثنائية، والجدران إلى خوارزميات تراقب أنفاسنا، والزنزانة إلى ذاكرة جماعية مُستباحة.
ثم تأتي مأساة غزة لتُعرّي هذا الواقع أكثر: دماء تسيل، وبيوت تُهدم، وأطفال يُقتلون، بينما تصمت أنظمة أو تتواطأ أو تمنع شعوبها حتى من التظاهر.
نستبصر هذا المستقبل في نصوص الروايتين: إذا استمر القمع في سحق المعنى، وإذا استمر المجتمع في قبول الخوف كقدر، فإننا ننتقل من "شرق المتوسط" إلى "الآن… هنا"، ثم "إلى غدٍ أكثر عتمة"، حيث لن يبقى للألم صدى، لأن الذاكرة نفسها ستُطمس تحت ركام الهزائم. ربما كان منيف سيقول:
"الجلاد تغيّر شكله، لكن رجب لم ينجُ بعد. كلنا رجب، لكننا لم نعد نحمل حتى حلمه."
هكذا لا ينتهي مشروع عبد الرحمن منيف، بل يمتدّ كنبوءة مفتوحة عن حاضر عربي يكرر نفسه، وعن مستقبل مهدّد بالغياب الكامل للحرية إذا استمرت آليات القمع والخذلان الجماعي دون مقاومة حقيقية.
ربما لو كان عبد الرحمن منيف بيننا اليوم، لابتسم بحزن وقال:
"لم يتغيّر شيء… لم نخرج من الزنزانة بعد."
تبدّلت أسماء المدن والسجون، تغيّرت الوجوه واللافتات والشعارات، لكنّ الخوف هو نفسه، والصمت هو ذاته، والجلاد وإن خلع بزته القديمة، فقد ارتدى أقنعة أكثر براعة وخداعًا.
في "شرق المتوسط"، كان رجب يقاتل سياط الجسد وضيق الزنزانة، وفي "الآن… هنا"، صار يقاتل سجونه الداخلية، ظلال الكوابيس التي تلاحقه حيث يذهب، جدرانًا لا تُرى ولا تُهدم … وهكذا جدراننا اليوم.
للنظر إلى غزة… يموت الأطفال تحت القصف، والبيوت تتحول إلى رماد، بينما تقف العواصم العربية على الشرفة، تتفرج أو تساوم أو تصمت. ومن بعيد، تُحاصر المظاهرات، ويُسجن من يصرخ طلبًا للحرية أو نصرةً لفلسطين.
لو عاش منيف هذه اللحظة، لكتب رواية ثالثة، ليست عن سجون المخابرات ولا الزنازين المظلمة، بل عن سجن كبير اسمه الوطن.
كان سيكتب عن شعوبٍ أُرهِقت من الانتظار، عن قلوبٍ امتلأت بالعطب، عن أحلامٍ ذبلت قبل أنْ تكتمل، عن جيلٍ أرادوه أنّ يتنفس الخوف كما يتنفس الهواء. وسيقول لنا:
"لقد صنعوا سجنًا واسعًا بما يكفي ليبتلع المدن والذاكرة والكرامة معًا. في الأمس كانت القطة تنهش وجه رجب… واليوم تنهشنا جميعًا، لكننا صرنا نصمت حتى لا نوقظها."
لكنّ سؤالا يظل يُلحّ عليّ قبل أنّ أختم هذه الدراسة: لماذا لم يترك الروائي فسحة أمل، واكتفى بضيق العيش؟ لو أبقى عبد الرحمن منيف هادي بوصلة تشير إلى الأمل الذي ينبعث شعاعا من بين الركام في "الآن… هنا"، لكان رجب وجد في صمته القديم امتدادًا للحياة، وفي حضوره طاقة لمواجهة العزلة التي ابتلعت روحه بعد الخروج من السجن. يمكننا أن نتخيّل هادي يخاطب رجب قائلًا:
"لم ننكسر يا رجب، حتى لو بدونا محطّمين. كل ما فعلوه كان ليجرّدونا من ذواتنا، لكننا ما زلنا هنا. السجن ليس جدرانًا يا صديقي، السجن أن نصدّق أنهم انتصروا. لا تسمح لهم أنْ يربحوا المعركة داخل قلبك."
بهذا الحضور الرمزي، كان يمكن لهادي أن يكون جسرًا بين الماضي والحاضر، يذكّر رجب وبقية رفاقه أن ّالتعذيب لم يمحُ المعنى، وأنّ الحرية لا تُختزل في الخروج من الزنزانة، بل في القدرة على حماية ما تبقى من الروح. وجود هادي الحيّ كان سيمنح الرواية الثانية توازنًا دراميًا بين قسوة التجربة وقوة الإرادة، ويترك للقارئ بصيصًا من النور في مواجهة العتمة النفسية التي تهيمن على النص.
غياب هذا الصوت جعل "الآن… هنا" أكثر قتامةً وانطواءً، إذ حوّل معاناة رجب إلى مأساة صامتة بلا سند، وأفقد الرواية أحد أهم خيوط الأمل التي جعلت "شرق المتوسط" صرخةً في وجه القمع يمكن أنّ تُفضي إلى الحرية بدل أنْ تكون مجرّد مرثية للهزيمة.
*جميع الاقتباسات الواردة في هذه الدراسة مأخوذة من روايتي عبد الرحمن منيف: "شرق المتوسط"، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1975، و"الآن… هنا" ( شرق المتوسط مرة أخرى)، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1991.



#جهاد_حمدان_Jihad_Hamdan (هاشتاغ)       Jihad_Hamdan#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل ستكون الصين الرابح الأكبر من سياسات ترامب؟ ميلفين أ. غودم ...
- الاستيطان الصهيوني يتمدد إلى الأغوار


المزيد.....




- -كافية لقتل كل سكان فلوريدا-.. خفر السواحل الأمريكي يصادر كم ...
- -أنا رجل يتمتع بفطنة سليمة عظيمة وذكاء-.. رد فعل ترامب على م ...
- ماذا يحدث عند انفجار جهاز يحمله غالبية المسافرين على متن الط ...
- -استقبلت 18 طفلًا برصاص في الرأس-.. طبيبة مُنعت من العودة إل ...
- ألمانيا ـ قطاع السيارات يخسر أكثر من خمسين ألف وظيفة
- لبنان يتسلم الرد الإسرائيلي وحزب الله يكرر رفضه التخلي عن ال ...
- مجلس الأمن يرجئ البت بمصير قوة اليونيفيل في جنوب لبنان: ما ن ...
- برّاك ينقل رسائل من إسرائيل إلى لبنان
- في 10 أعوام.. الاحتلال يدمر 1986 بئرا وبركة وخزان مياه بالضف ...
- ترامب يقيل محافظة الاحتياطي الفدرالي ومخاوف من التداعيات


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جهاد حمدان - قراءة سياسية نفسية في روايتي عبد الرحمن منيف -شرق المتوسط- (1975) و-الآن… هنا- (1991)