|
جدلية الحرية و الامن و بناء الدولة الحديثة
ماهر التمران
الحوار المتمدن-العدد: 8442 - 2025 / 8 / 22 - 04:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جدلية الأمن والحرية ومعادلة بناء الدولة الحديثة
الحرية العامة والشخصية ليست ترفًا أخلاقيًا، بل شرطًا تأسيسيًا لأي مشروع حضاري مستدام. الأمن ضرورة لحماية المجتمع، لكنه بطبيعته حالة قريبة الأمد واستثنائية، بينما الحرية هي القاعدة الدائمة التي تُنتج الكرامة والابتكار والفاعلية المجتمعية. هذا البحث يقدّم إطارًا فلسفيًا وقانونيًا-مؤسسيًا ومقارنًا عمليًا يبرهن أن «الحرية أولًا» ليست شعارًا، بل سياسة عامة قابلة للتطبيق عبر منظومة قوانين ومؤسسات رقابية وأمنية مهنية تحمي الحقوق ولا تُعطّلها.
لماذا الحرية أولًا؟
يتأسس الاستقرار العميق على عقد اجتماعي يسبق القوة ويضبطها. فالمجتمع الذي تُصان فيه الحريات الأساسية (التعبير، التنظيم، التجمع السلمي، الخصوصية) يُنتج ولاءً مدنيًا طوعيًا، وقدرةً أعلى على المبادرة وتحمّل المخاطر الاقتصادية والمعرفية. أما الأمن حين يُستدعى لملء فراغ الشرعية أو لتغطية فشل السياسات، فإنه يتحوّل إلى «أمنٍ ضد المجتمع» بدل أن يكون «أمنًا للمجتمع». الأساس النظري: من برلين إلى سن الحرية السلبية والإيجابية: ميّز آيزيا برلين بين الحرية كتحرّر من التدخّل (السلبية) والحرية كقدرة على الفعل والاختيار (الإيجابية). في البيئات الانتقالية، يتطلّب البناء المؤسسي الجمع بينهما: كبح تعسّف السلطة وحيازة المواطنين على شروط الفعل العام. مبدأ عدم الإضرار: عند جون ستيوارت ميل، لا تُقيّد حرية الفرد إلا لمنع ضررٍ ملموسٍ بالغير، لا بدافع الوصاية الأخلاقية أو الذوق العام. التنمية كحرية: يرى أمارتيا سن أن التنمية تُقاس بتوسيع «قدرات» البشر على العيش الذي يختارونه؛ أي أن الحقوق ليست ثمار التنمية بل محرّكها. هذه الركائز النظرية لا تُنتج «مثالية»؛ بل تُترجم إلى قواعد ضبط دقيقة تحدّد متى وكيف ولماذا تُقيد الحقوق. الشرعية الحقوقية: ما الذي يتيحه القانون الدولي وما الذي لا يتيحه؟ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يقرّ حرية الرأي والتعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، ويجيز تقييدها بشروط صارمة: قانون واضح ومعلن، هدف مشروع محدّد (الأمن القومي، النظام العام، الصحة، الآداب، حقوق الغير)، ووسيلة «ضرورية ومتناسبة». حالات الطوارئ ليست رخصةً مفتوحة: الاستثناء مؤقّت ومعلن ويخضع للرقابة القضائية والبرلمانية، ولا يجوز المساس بجملة حقوقٍ غير قابلة للتقييد، مع التزام عدم التمييز. مبادئ سيراكوزا وجوهانسبرغ قدّمت اختبارات عملية لتكييف القيود: الشرعية، الضرورة، التناسب، الملاءمة، وعدم التمييز، مع عبء تبريرٍ مُعزَّز على السلطات لا على الأفراد. حرية التعبير «حتى لما يُزعج»: تُجمِع الاجتهادات الحقوقية المقارنة على أن حماية التعبير تشمل ما «يصدم ويقلق ويخالف الدولة والمجتمع»، طالما لا يبلغ حدّ التحريض المباشر على العنف والكراهية المجرَّم. الأمن باعتباره مهنة قانونية لا حالة سياسية أمنٌ فعّال يعني أجهزةً مهنيةً خاضعةً للمساءلة، لا سلطاتٍ مُعفاةً من القانون. وتقوم المعادلة المهنية على أربعة مبادئ: الضرورة: لا استخدام للقوة إلا عند استحالة البدائل. التناسب: الوسيلة الأقل إضرارًا لتحقيق الهدف المشروع. التمييز: الفصل الدقيق بين السلوك المُجرَّم والسلوك المحمي المساءلة: توثيق، مراجعة قضائية، وتعويضٌ فعال للضحايا. وعمليًا، تُدار التجمّعات السلمية عبر: ترخيصٍ إخباري لا إذني، خطط تواصل بين الشرطة والمنظّمين، مناطق إخلاء آمنة، توثيق فيديو مستقل، وحظر شامل للذخيرة الحية في ضبط الحشود. ماذا تقول الأدلة والبيانات؟ الديمقراطية والنمو: تُظهر أبحاث اقتصادية متينة أن التحوّل الديمقراطي يرفع دخل الفرد على المدى الطويل عبر قنوات الاستثمار، والتعليم، والإصلاحات، وخفض الاضطراب الاجتماعي. مسار العالم: رغم موجة «النكوص السلطوي» في العقدين الأخيرين، تُظهر بيانات المقارنة أن قابلية الأنظمة للتحوّل الإيجابي قائمة، لكنها تتطلّب صمودًا مؤسسيًا وحمايةً دائمةً لفضاءات الحرية. القمع والتطرّف: تُظهر دراسات ميدانية واسعة أن انتهاكات الدولة والظلم الإدراكي محركاتٌ مركزيةٌ للتجنيد في العنف السياسي، ما يجعل العدالة والحقوق جزءًا من «استراتيجية الأمن الوطني» لا رفاهيةً أخلاقية. الخلاصة: الحرية ليست عبئًا على التنمية أو الأمن، بل مُضاعِف فاعلية لهما. دروس مقارنة مختصرة الديمقراطيات الناشئة في شرق آسيا (كوريا الجنوبية، تايوان) ربطت تحرير السياسة بإصلاح الدولة وتوسيع التعليم والبحث والابتكار؛ فجاء الأمن أكثر مهنيةً وأقل كلفةً اجتماعية. العدالة الانتقالية (جنوب أفريقيا ونماذج أمريكا اللاتينية) أثبتت أن معالجة انتهاكات الماضي تُقلّص دوافع العنف وتُعيد الثقة بالشرطة والقضاء. هذه الخبرات ليست وصفات جاهزة، لكنها تبيّن أن «الأمن داخل الحرية» قابلٌ للتطبيق. معادلة «الأمن في الحرية»: اختبار ثلاثي + مؤسسات حارسة
اختبار القيود الثلاثي 1. الشرعية: نصّ قانوني واضح ومتاح ويحظر التفويض الفضفاض. 2. الضرورة: لا بدائل أقل تقييدًا تحقق الهدف المشروع. التناسب: أقل قدرٍ من التقييد وبأضيق نطاقٍ زمني وجغرافي. ب) مؤسسات حارسة للحرية قضاء مستقل مع رقابة دستورية فاعلة وإلغاء الجرائم «المطاطية» (إشاعة/وهن نفسية/إساءة سلطة عامة…). شرطة مدنية بهيكلة مهنية، تدريب على ضبط الحشود، وحدات شكاوى مستقلة. هيئات مستقلة: مفوّض وطني لحقوق الإنسان، حماية المبلّغين، وهيئات نفاذ للمعلومات. سياسات رقمية: حماية البيانات، حدٌّ صارم لزمن احتفاظ الأجهزة بالمعلومات، حظر المراقبة الشاملة من دون إذن قضائي. حرية الإعلام: إلغاء الحبس في قضايا النشر، قوانين شفافية الملكية الإعلامية، وتمويل مستدام للإعلام العام المستقل. خارطة طريق تشريعية وسياساتية (قابلة للتكييف) قانون تجمع سلمـي قائم على الإخطار لا الترخيص، مع بروتوكولات شرطة-منظمين. قانون حق الوصول للمعلومات مع استثناءاتٍ ضيقة واختبار ضرر/مصلحة عامة. قانون حماية البيانات ومعيار «الضرورة والتناسب» لأي معالجة أمنية. تجريم التحريض المباشر على العنف والكراهية وفق خطة «رباط» (حدود عالية، وتفريق بين الخطاب المسيء والخطاب المحرّض). إلغاء جرائم الرأي واستبدالها بمواد مسؤولية مدنية واضحة. إنهاء الطوارئ المفتوحة: تعريف ضيق، سقوف زمنية، رقابة برلمانية وقضائية، وإخطار دولي. مبادئ استخدام القوة في القانون الوطني: تدرّج الوسائل، الحظر المطلق للتعذيب، وتجريم الإخفاء القسري. استقلال النيابة العامة وآليات مساءلة شفافة عن انتهاكات الموظفين العموميين. حماية المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين: تأمين، خطوط ساخنة، ومراكز مساعدة قانونية. تعليم مدني ومناهج حقوق تبني ثقافة الحق لا ثقافة الإذن. أسئلة شائعة والردود المختصرة هل تؤدي الحرية إلى فوضى؟ الفوضى تنشأ من غياب قواعد متّفق عليها ومن تعسّف السلطة معًا. الحرية المقيّدة بالقانون والمحمية بقضاء مستقل تقلّل دوافع العنف وتزيد الامتثال الطوعي. هل الديمقراطية تضر بالنمو؟ الأدلة المقارنة تميل إلى العكس: الديمقراطية تعظّم الاستثمار البشري وتقلّل الاضطراب السياسي، وترفع دخل الفرد على المدى البعيد. هل يجوز تقييد التعبير الديني/القومي الحاد؟ نعم عندما يبلغ حدّ التحريض المباشر والقابل للتنفيذ على العنف والكراهية ضد جماعة محددة، مع اختبار «الضرورة/التناسب» وحدودٍ عالية لتفادي إساءة الاستخدام. «الحرية أولًا» ليست ترفًا لغويًا ولا مقامرة أمنية. إنها هندسةٌ مؤسسيةٌ دقيقة تعيد تعريف وظيفة الأمن بوصفه حارسًا لحقوقٍ مُصانة لا بديلًا عنها. وعندما تُطبَّق هذه الهندسة—قوانين واضحة، قضاء مستقل، شرطة مهنية، ومجال عام مفتوح—يتحوّل الأمن من حالة طارئة إلى مكسبٍ مستدام، وتتحرّر طاقات المجتمع في الاقتصاد والمعرفة والإبداع. هكذا فقط تُبنى الأوطان على المدى الاستراتيجي.
#ماهر_التمران (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستقبل التنوير الغاية و الأثر
-
الاستراتيجية الدولية في تقليم مخالب إيران في سورية
المزيد.....
-
نجل مروان البرغوثي لـCNN: والدي شريك عظيم للسلام لكن نتنياهو
...
-
مصر.. نجيب ساويرس يقترح -حلا سهلا- لأزمة الديون الخارجية وين
...
-
إيطاليا.. صاحبة مطعم بيتزا تتعقب سائحتين هربتا دون دفع فاتور
...
-
ألمانيا: محكمة تسمح لمتحف -بوخنفالد- برفض دخول الأشخاص الذين
...
-
سجن سائحين سعوديين في أذربيجان
-
عمر سنجر.. كيف سقط طيار شراعي اللبناني في البحر؟
-
كيف وصل خليفة حفتر إلى السلطة في ليبيا؟
-
Les syndicats africains : une force agissante pour le dévelo
...
-
إسرائيل تمنع عمدة برشلونة من الدخول بسبب موقفه من إبادة غزة
...
-
محكمة تايلندية تبرئ رئيس الوزراء السابق وأحكام أخرى تنتظر أس
...
المزيد.....
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|