إلياس سعادة
الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 20:47
المحور:
الادب والفن
بتشوف الموت
فصل رقم(16) من رواية قصة حياتى ما بين الحياه والموت
سعدنى السلامونى
............................................
الحلقة "١٦" من رواية
مابين الحياة والموت
سعدني السلاموني.
.....................................
بتشوف الموت،
بتشوف الموت وتكلمه،
وهو سامع،
الموت بيتمشى مع الموت،
وللبيوت طالع،
والموت الكبير واقف،
مستنيهم على باب الشارع.
نعم، هي روحي. لا، أنا روحها. لا، روح واحدة في جسدين.
أنا آخر العنقود، آخر أبناء بنتها، واللي أعز من الولد ولد الولد، كما يقولون. وهذا اليوم تختتم به عمرها الذي تجاوز الثمانين عامًا، ثمانين عامًا من الشقاء. تعيش ولا تعرف الشكوى، وحين يشتد عليها ألم الروح تبكي، وتبكي وتبكي.
والآلام هي رمل الروح، والبكاء لا يستطيع أن يطيح برمل الروح.
الرمل لا يحرقه إلا التعديد (العديد). نعم، نعم، الغناء هو الذي يحرق رمل الروح.
وجدتي أكبر معدِّدة للمياتم، والتعديد في قريتنا يغسل رمل أرواحنا، لأنه خلاصة الشعر، خلاصة الغناء، خلاصة الطرب.
وبرغم أنه مصدر رزقها، إلا أنه يحتل المرتبة الأولى في حياتها عندما يشتد عليها ألم الروح، لأنه روحها، حزنها وفرحها، جرحها وحلمها وكابوسها، هو جرحها وشفاؤها.
وكل حين تخطف ابنتها — التي هي أمي — إلى صحن الدار، ويغلقون كل الأبواب خوفًا من أن يأتي والدي فجأة ويجدهم يعددون. يحررون رؤوسهن، وكل واحدة تجلس في مواجهة الثانية، وجدتي تعدد وأمي ترد بين بحرين من الدموع:
ـ بيعايرني بيك يا أمي...
ـ يا ساكنة روحي وساكنة دمي...
ـ يِعايرك بيا يا بنتي ليه!؟
ـ صنف واطي ابن واطي...!!!!
ـ وأعمل إيه؟
جدتي تقصد والدي، هو من عائلة واطية حسب قولها، لأن والدي يكره التعديد كرهه للموت، منذ جاء إليه أحد علماء الإسلام بقريتي وقال له:
ـ لمّ حماتك يا عبد الفتاح، العديد يحرق الميت في قبره، دا حرام، وسوف تتحمل وذره، أنت أمام الله والملائكة.
قام والدي مفزوعًا من جوار الشيخ، متوجهًا لأمي، وكاد أن يفتك بها، وهو يقسم بالطلاق ثلاثة وأربعة، حسب قسمه، لو سمع عديد جدتي في الشارع أو عند ميت أو في الحمام أو فوق السطح، سوف تكون طالق بالثلاثة والأربعة.
ولهذا كانوا يعددون سرًا من وراء باب الدار.
والحق يُقال: بعد كل تعديد تصغر جدتي عشرات السنين، وتعود إلى صباها وكأنها بنت بنوت لم تتزوج. وحين ينظر لها والدي يعرف على الفور، حين يراها متماسكة والجمال يكسو وجهها وبحور الفرح والأمل تملأ عينيها:
ـ كنتي بتعددي فين يا مرة؟
ـ أعدد فين؟ ما أنا قدامك أهه، والنبي يا أبو فتحي ما عددت ولا حصل، أتسبب في طلاق بنتي يعني؟
ينظر لها والدي في خبث ويقول: ماشي.
التعديد روحها، وهو الذي يجعلها تنتصر على كل أحزانها وأفراحها وهزائمها أمام الحياة. تقاوم القهر وحزن ورمل الروح بالتعديد.
وحين يموت أحد في القرية، أكون عكازها وعيونها التي ترى بهما، وها نحن ذاهبان إلى أهل الميت، وها هو رجل بلحيته ينظر لجدتي ويقول:
ـ أعوذ بالله من غضب الله، امرأة وش فقر.
تسمعه جدتي وتنظر له بطرف عينها ولا تهتم.
والآن، في طريقنا إلى بيت أهل الميت، وقبل أن نصل إلى البيت بعدة أمتار، سوف تتخلص جدتي من يدي الصغيرة، وترفع ذراعيها إلى السماء وكأنها تخاطب الله في شيء ما، وتقول:
ـ اتخطف شاب، خطفوه عرسان السماء، صوتي يا بت، صوتي حتى البكاء.
تجري إليها نساء القرية، تتقدمهن نساء الميت، يشكّلن دوائر خلف دوائر، وهن يرددن وراء جدتي:
ـ ابكي عليه وقولي دا كان راجل شملولي،
ـ ابكي عليه يا صغيرة،
ـ روحه طالعة منوّرة.
جدتي تشعل حفلة الموت، وتتركني تمامًا كعادتها، وأنا أقوم بدوري في البحث عن أطفال الميت لألعب معهم. حتى تنتهي جدتي من التعديد وتناديني، وهي تضع يدها في يدي لأكون عكازها وعينيها، وتأتي زوجة الميت وتضع عدة قروش في يد جدتي، ونتجه إلى الدار.
والحق أقول: الميت في قريتي لا تُقاس قيمته بالغنى أو الفقر، لا، والفلوس لا، بل بكمية العديد وكمية الصوات.
وجدتي قبل التعديد غير بعدها، قبل كنت أسحبها وكادت تسقط مني على الأرض في الشارع، وبعد التعديد هي التي تسحبني وكادت أن تطير بي من على وجه الأرض.
وفي آخر أيامها، حين تقدم بها السن والتزمت فراش المرض — مرض الالتباس — تناديني مرة باسم شقيقتي، وتنادي شقيقتي باسمي، ترى أمي على أنها والدي والعكس. تقول لأمي:
ـ اطلعي يا اللي تنشلي في قلبك.
يرد والدي ويقول:
ـ نفسي أعرف ربنا مش بياخد روحك ليه!؟
حينها تنتبه أنه والدي.
كل الصور البصرية تختلط في ذهن جدتي، وهذا لم يحدث في البيت فقط، بل أول ما حدث، حدث عند أهل الميتة، حين التفت عليها النساء ليقمن بحق الميتة، وبدأت جدتي تقول:
ـ اتخطف شاب...
جاءت سيدة لأذن جدتي ونبهتها:
ـ الميت واحدة عجوزة يا هانم أم محمد، ما تفضحيناش.
وحين تكرر هذا عدة مرات، تندب على الميت على أنه ميتة والعكس، قررت نساء القرية ألا يدعونها لأي ميت، خوفًا من الإحراج.
وها هي على فراش الموت، ترى عملاقًا مجهولًا يقف على باب الشارع، وهي تقذفه بأفظع الشتائم، تناديه بالموت:
ـ روح يا واد، شوف الموت على باب الشارع، الموت هايخطف روح جدك جوزي حبيبي، حوش حوش حوش، ابعد يا موت.
ينظر والدي إلى جدتي ثم ينظر لأمي ويقول:
ـ أمك بتخرف، الظاهر إنها سخنة، تخريف سخونية.
جدتي تعشق زوجها، وهو يعشقها، ولكنه هجرها لسبب ما، ولا يعرف أحد أسباب الفراق.
ـ أبو فتحي، أبو فتحي، قوم حوش الموت، الموت هايخطف روح جوزي حبيبي، قوم قوم ابعد يا موت.
ـ هو فين الموت يا هانم؟ هو لو فيه موت في الدنيا كان ساب روحك!؟
ـ الموت دخل الدار، ابعدوه، ابعدوه.
منذ أسبوع وجدتي لم تخرج من فمها جملة صحيحة، فهي تنادي على أسماء الأموات طول الوقت. اندهش والدي لالتباس ذهنها، طار وهو في قلق وحيرة إلى بيت جدي والد أمي، وبعد نصف ساعة رجع والدي رجلًا آخر، رجلًا في انكسار شديد، كاد أن يُغمى عليه.
وأمي تقول له:
ـ مالك يا أبو فتحي؟
ـ فيه إيه، مالك يا معلم؟
بدأ ينظر لجدتي بدهشة، تحمل عشرات الاعتذارات، ثم نظر لأمي في دهشة أكبر، وهو يقول لها:
ـ الباقية في حياتك، أبوك مات
#إلياس_سعادة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟