|
غزة تعيد رسم التوازنات في أوروبا، لكن مَن يوقف الحرب عليها؟
سنية الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 14:03
المحور:
القضية الفلسطينية
تشهد دول القارة الأوروبية تحولات خطيرة باتجاه الإقرار بالحق الفلسطيني، بعد عقود من إنكاره لصالح إسرائيل والتزاماً بتوجهات الحليف الأميركي، وتاريخها الاستعماري. فحرب غزة بويلاتها حركت الشارع الغربي لصالح إنصاف الفلسطينيين، وهو بدوره ضغط على صناع القرار في دول القارة العجوز، للمطالبة بوقف الحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية. ورغم أن تلك التطورات لا تزال محدودة، ومحصورة ضمن حراك سياسي فقط، إلا أنه من المأمول أن يتجاوز الدور الأوروبي المستوى السياسي إلى المستوى العقابي الاقتصادي والعسكري لردع إسرائيل، وتحقيقاً للعدالة وحقوق الإنسان، وهي الشعارات التي طالما تبنتها دول القارة ودافعت عنها. قد يكون هناك عوامل أخرى تساعد على حدوث تحولات لصالح الفلسطينيين في القارة العجوز، على رأسها توتر العلاقة مع الولايات المتحدة، وتصاعد ضغط الأحزاب اليسارية، في ظل حراك شعبي واسع دعماً لفلسطين، وهي ذات العوامل التي حركت دول القارة اللاتينية قبل أكثر من عقد، لصالح الاعتراف بفلسطين والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، إلا أن الدور الأوروبي، اليوم، قد يحرز نتائج عملية أكبر، بسبب طبيعة الحرب في غزة مقارنة بالحروب السابقة عليها، وبسبب طبيعة العلاقات العميقة الأوروبية الإسرائيلية.
اعتبرت الدول الغربية، والتي يتمركز جلها في القارة العجوز، الأقل تأييداً للحق الفلسطيني في تقرير المصير، والتحرر من الاحتلال، وتجسد ذلك في حجب تلك الدول الاعتراف بفلسطين، طوال العقود الماضية. فبينما يعترف أكثر من 90% من دول القارتين الآسيوية واللاتينية بفلسطين، وأكثر من 96% من دول القارة السمراء، لم يتعدَ من اعترف بفلسطين من قبل دول الاتحاد الأوروبي قبل الحرب الأخيرة على غزة سبع دول، من بين دول الاتحاد الـ 27، منها ست دول اعترفت بفلسطين في العام 1988، في إطار اعتراف دول الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتي بفلسطين خلال الحرب الباردة، بينما اعترفت السويد كأول دولة أوروبية غربية بفلسطين في العام 2014. ويبقى الاعتراف الأوروبي والغربي محدودا بفلسطين، على المستوى الأوروبي الأوسع، والذي يضمن أكثر من 44 دولة. وارتبطت معظم الدول الغربية، ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص بعلاقة شراكة وتحالف وطيدة مع إسرائيل على جميع المستويات، السياسية والاقتصادية، والعسكرية، والعلمية، والتكنولوجية، فتعتبر إسرائيل الحليف الأقرب للاتحاد من خارجه.
بعد الحرب على غزة، ومواصلة إسرائيل لجرائمها، دون رادع أو محاسب، وانكشاف مآسيها في الشارع الغربي، تحرك الرأي العام في الشارع لوقف الحرب، وبات هناك انفتاح على واقع القضية الفلسطينية، الذي حجب رسمياً عن الرأي العام الغربي لعقود لصالح تبني الرواية الإسرائيلية. لقد كشفت استطلاعات الرأي في الدول المركزية في القارة العجوز كفرنسا وبريطانيا وغيرها تأييداً متصاعداً للفلسطينيين، خصوصاً في أوساط الشباب، خلال العامين الماضيين. وانعكس ذلك بوضوح في تأييد تلك الشرائح الشابة للأحزاب اليسارية أو يسار الوسط، والتي تعاظم ثقلها في توازنات الحكم وصنع القرار. إن هذه التحولات انعكست في قرارات حكومات مركزية كفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وحتى ألمانيا وغيرها، التي بات من الصعب عليها إنكار واقع الاحتلال في فلسطين والحرب والاستيطان والاعتراف بحقوق الفلسطينيين. اعترفت من دول الاتحاد بفلسطين كل من إيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا، والنرويج من خارجه، ووعدت فرنسا وبريطانيا ومالطا، بالاعتراف بفلسطين في الشهر المقبل، وهناك دول مثل البرتغال ولكسمبورغ وبلجيكا وفنلندا وليتوانيا وألمانيا يمكن أن تعترف بفلسطين، في ظل تفاعل ذات العوامل فيها، وهو إن تحقق يعني أن حوالي 60% من دول الاتحاد الأوروبي ستعترف بفلسطين، والذي سيفتح الطريق أمام اعتراف باقي دول العالم بفلسطين.
قبل أكثر من عقد، وتحديداً بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، في العام 2008 و2009، اعترف عدد كبير من دول القارة اللاتينية بفلسطين. تتقاطع العوامل بين الحدثين، فالحرب حركت الشعوب، سواء في أوروبا في الحرب الحالية على غزة، أو في القارة اللاتينية في حرب العام 2009، لحماية الفلسطينيين وإنصافهم، وصعود أحزاب يسارية، تدعم حقوق الشعوب المضطهدة ساهم في تبني الحكومات مواقف رسمية تعكس رغبة الشارع. فشهدت الدول اللاتينية في تلك الحقبة ما عرف بالمد الوردي، عندما حكمت أحزاب يسارية وقومية في تلك البلدان، مثل فنزويلا والبرازيل وبوليفيا والإكوادور والأرجنتين، وهو ما ساعد على التحام الموقف الشعبي بالرسمي لصالح الفلسطينيين والاعتراف بحقهم. واليوم، يتحكم الشارع الغربي، في ظل أنظمة تتأثر بنبض الشارع، وهو ما يفسر تصاعد تأثير الأحزاب اليسارية ويسار الوسط في صنع القرار الخارجي، انطلاقا من نبض الشارع.
هناك عامل ثالث يجمع بين الحالتين اللاتينية والغربية، فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية وحرب غزة. في الحالة اللاتينية، تمردت الأحزاب اليسارية في الحكم على التبعية الأميركية، وباتت حكومات الدول اللاتينية تتخذ قراراتها بمعزل عن واشنطن، واقتربت في علاقاتها أكثر نحو روسيا، في ظل اضطرابات في العلاقات السياسية والاقتصادية، وتراجع النفوذ الأميركي في القارة. واليوم، تواجه دول القارة الأوروبية حربا اقتصادية من قبل الولايات المتحدة، والتي تعد أقرب حلفائها، بعد أن فرضت أميركا تعريفات جمركية على دول الاتحاد وصلت إلى 30%، وكانت قبل ذلك تتراوح بين 1 و1.5% فقط. وفي التفاهمات الأخيرة وافقت الولايات المتحدة على تخفيضها إلى 15%، وهو ما لم ترضَ عنه معظم دول الاتحاد، ويعرضها لخسارة كبيرة. يزداد الأمر تعقيداً على دول الاتحاد عندما يقترن ذلك بنتائج الحرب الروسية الأوكرانية، التي أججتها الولايات المتحدة، وأقحمت أوروبا فيها، رغماً عنها. اليوم، تعتمد أوروبا على الغاز الأميركي الأكثر تكلفة والأقل جودة، دون وجود بدائل أخرى. كما ألزمت الولايات المتحدة دول «الناتو» بتحمل التكلفة الدفاعية، بعد أن كان جلها يأت من الولايات المتحدة، وتجبر دول «الناتو»، اليوم، على رفع ميزانية الدفاع إلى 5% من ميزانياتها، لتتناسب مع ما هو مطلوب منها في إطار المساهمة المالية في ميزانية الحلف. كما تلزم الولايات المتحدة دول «الناتو» بشراء الأسلحة منها، ضمن معايير معينة، موجودة فقط في إطار المنظومة الصناعية العسكرية الأميركية. كما تحمل الولايات المتحدة تلك الدول مسؤولية تسليح أوكرانيا، بعد أن انسحبت من التزاماتها. وفرضت الولايات المتحدة أيضا على دول الاتحاد الاستثمار في الولايات المتحدة بقيمة 600 مليار دولار إضافية، في ظل كل تلك الأعباء المالية على الأوروبيين.
ألا يشكل ذلك إعلان حرب من قبل الولايات المتحدة على حلفائها في القارة العجوز، بعد أن أشعلت حربا في المنطقة، تستنزف الكثير من مقدرات القارة، وبثت الفتنة والعداء مع حليف كان مهماً لدول أوروبا. وبقيت الولايات المتحدة المنتصر الوحيد في جميع تلك الأحداث، بينما تضعف سياساتها الآخر، سواء كان حليفاً أم عدواً. ألا يدق ذلك جرس إنذار لأوروبا، التي تحتاج للتحرر خصوصاً بعد أن فرضت عليها الولايات المتحدة تبعية في مجال الطاقة والتسليح. لا يمكن الاستهانة بقدرات أوروبا على الصعيد الصناعي والاقتصادي والتجاري، ولا بمكانتها ودورها السياسي والدبلوماسي والقانوني والأخلاقي العالمي. وبعد أن ثبت للأوروبيين أن الاعتماد على الأيديولوجيا في رسم التحالفات، غير مضمون، اليوم، في عالم تحكمه المصالح فقط، كما أعلنتها الولايات المتحدة صريحة مدوية «أميركا أولاً»، على أوروبا أن تتحمل مسؤولياتها، والمسؤولية الأخلاقية، اليوم، هي إنصاف الفلسطينيين، والوقوف في وجه من يتحدى العدالة والقانون الدولي.
رغم أنه من الصعب اتخاذ قرار عقابي توافقي موحد في إطار الاتحاد الأوروبي، الشريك المقرب لإسرائيل، لوقف الحرب في غزة، خصوصاً في ظل وجود دول تعطل اصدار مثل تلك القرارات، كالمجر والتشيك والنمسا وغيرها، التي تدعم إسرائيل بثبات، إلا أن الإجراءات الفردية التصعيدية العقابية من شأنها أن تحرج دول الاتحاد الأخرى، وتخلق حالة مؤثرة ضاغطة على إسرائيل، خصوصاً من قبل منظومة طالما دعمتها وحمتها، وتتحمل جزءاً من المسؤولية معها. واستدعت إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال سفرائها من تل أبيب، وألغت بلجيكا وإسبانيا اتفاقيات عسكرية وتجارية مع إسرائيل. لوحت بريطانيا وفرنسا وكندا بصفة مشتركة في شهر أيار الماضي بفرض عقوبات على المسؤولين الإسرائيليين، في سابقة هي الأولى من نوعها. وانضمت لندن إلى فرنسا وكندا في التهديد باتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل، إلا أنها لم تعلن بعد عن تجميد شامل لتصدير السلاح. وأما ألمانيا، الحليفة الأقرب لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، والأكثر تصديراً للسلاح لإسرائيل على المستوى الأوروبي، فثلث واردات إسرائيل العسكرية تأتي من ألمانيا، وتعتبر التزامها التاريخي والأخلاقي تجاه إسرائيل مصلحة عليا، قد أعلنت في شهر أيار الماضي أنها لن تصدّر أي أسلحة تُستخدم في خرق القانون الإنساني الدولي أو تُستخدم في إحداث المزيد من الأذى، في سابقة لم تعرفها العلاقات مع إسرائيل من قبل. وتطالب دول أوروبية مختلفة بإعادة النظر في اتفاقية الشراكة الأوروبية – الإسرائيلية، التي تعد إحدى الركائز الاقتصادية للتبادل التجاري، وتمنح إسرائيل امتيازات تجارية ضمن السوق الأوروبية، بسبب إخلالها المتكرر ببنود تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان في الاتفاق. إن تكاتف الجهود الأوروبية الفردية للجم إسرائيل من شأنها أن تخلق حالة سياسية متطورة في المنظومة الدولية، تتصدى للهيمنة الأميركية، وتضع معايير جديدة تدعم مكانة القارة العجوز، تقوم على أسس العدالة والقانون، وتفتح الباب أمام قرارت أوروبية أكثر شمولاً لمصلحة دول القارة، ولصالح المنظومة الدولية برمتها.
#سنية_الحسيني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما الذي يوقف جموح إسرائيل؟
-
إسرائيل بين تناقض السياسات ووضوح الاستراتيجية في سورية
-
هل وقف الحرب في غزة ممكن في ظل نوايا حكومة نتنياهو؟
-
هل الضفة بعيدة عن حرب غزة؟
-
المستقبل النووي الإيراني بعد الحرب
-
ثلاثة عوامل تحسم نتائج هذه الحرب
-
إسرائيل ترفع القناع عن وجهها القبيح وعزلة دولية في انتظارها
-
أميركا وإسرائيل بين تحالف والتزام تاريخي وتباين في المصالح
-
القضية الفلسطينية في مواجهة التحديات
-
حصاد أول 100 يوم من حقبة ترامب الثانية
-
المفاوضات النووية والهيمنة الأميركية
-
القرارات الدولية بحاجة لقوة تنفيذية وإلا باتت حبراً على ورق
-
حرب ترامب الاقتصادية إلى أين؟
-
هل سينجح ترامب في الترشح لولاية رئاسية ثالثة؟
-
ما بين غزة والضفة..الاحتلال يخطط لحسم الصراع
-
هل تنجح أوروبا بالتحرر من تبعيتها لواشنطن؟
-
واقع جديد يتشكل بعد 7 أكتوبر
-
الحرب ضد مخيمات الضفة ليست لاعتبارات أمنية فقط
-
ترامب أمام تعقيدات تجعل طريقه غير يسير
-
العلاقات العربية الأميركية على مفترق طرق
المزيد.....
-
قوات روسية تخترق دفاعات أوكرانية في دونيتسك قبل أيام من قمة
...
-
الانتقال إلى إيطاليا قد يكون خطة جيمي كيميل البديلة
-
إسرائيل: حرب ردود بين وزير الدفاع ورئيس الأركان.. و-التعيينا
...
-
- فلسطين حرّة-.. رسالة من مراقب جوي فرنسي إلى طياري شركة -إل
...
-
شركة -البحري- السعودية تنفي نقلها أسلحة لإسرائيل على متن سفي
...
-
رونالدو وجورجينا.. خطوبة وقصة حب وقيراطات ألماس ثمنها ملايين
...
-
-قبة حرارية فوق أوروبا!-.. جفاف وحر وحرائق وجو يحبس الأنفاس
...
-
لماذا اغتالت إسرائيل أنس الشريف؟
-
سرايا القدس تبث مشاهد لقصف مستوطنتين إسرائيليتين بغلاف غزة
-
نشطاء يشيدون بنباهة طفل يمني أنقذ شقيقته من محاولة اختطاف
المزيد.....
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
/ سعيد مضيه
-
تمزيق الأقنعة التنكرية -3
/ سعيد مضيه
-
لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي
/ سعيد مضيه
-
ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ
...
/ غازي الصوراني
-
1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت
...
/ كمال احمد هماش
-
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية
/ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
المزيد.....
|