سنية الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 17:46
المحور:
القضية الفلسطينية
تعتبر غزة اليوم منطقة منكوبة، بعد أن دمر الجيش الاحتلال الإسرائيلي معظم مبانيها وبنيتها التحتية، وقتل عشرات الآلاف من أبنائها، خلال أقل من عامين، أمام عالم دولي متفرج، أعلن مؤخراً عن تعرضها للمجاعة، رغم تكدس المواد الغذائية والدوائية على حدودها مع مصر، والتي تتحكم إسرائيل في دخولها. ويتعرض السكان في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر لعمليات مبرمجة من الإبادة الجماعية، متجسدة بالقتل والتدمير والتجويع والتهجير، ويشهد العالم جانباً منها على الشاشات المرئية. ورغم أن القضية الفلسطينية قد حسمت عدالتها عبر أروقة المحاكم والمنظمات الدولية عبر عقود ماضية، إلا أن الفلسطينيين قد تركوا لمواجهة مصيرهم المحتوم وحدهم، في التصدي لاحتلال مدعوم من قبل جميع القوى الغربية، وشعب فلسطيني أضعف عمداً واستهدفت صموده ومقاومته للاحتلال. يأتي ذلك رغم المسؤولية، التي تقع على عاتق العالم "الحر"، ويفرضها القانون الدولي وقرارات المحاكم ومواثيق المنظمات الدولية، لتحقيق العدالة للفلسطينيين، ووقف المجازر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مدار عقود، إلى أن بلغت أوجها بجرائم الابادة المفتوحة في غزة.
لم تبدأ الجرائم التي تقترف في غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، فقد اعتبرت الصحفية الاسرائيلية أميرة هاس في صحيفة هآرتس، بعد حدوث تلك الأحداث، بأنها ذكرت الإسرائيليين بما كان يحدث بشكل شبه يومي في فلسطين. رغم أن الحكاية قد بدأت قبل ذلك بكثير، فمنذ عام 1917، عندما تعهدت بريطانيا بخلق وطن لليهود في فلسطين، لم يكن عدد اليهود فيها قد تجاوز الـ 3 في المائة، وسخرت قدراتها وإمكانياتها كدولة عظمي، لتمكين اليهود وقمع الفلسطينيين، خلال سنوات احتلالها ثم انتدابها، رغم انتهاك ذلك صراحة لمسؤولياتها كدولة منتدبة. ورغم أن تلك الحقبة انتهت سياسياً كما رسم لها من قبل القوى العظمي، والذي جسده قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة عام 1947، وقف العالم متفرجاً أمام أول حلقة من حلقات الابادة الجماعية في العام 1948، عندما ارتكب الآباء الأوائل لإسرائيل الجرائم والقتل والتدمير والتهجير بحق الفلسطينيين، في ظل عالم ومؤسسات دولية وقفت متفرجة. وسيطرت الدولة الناشئة الجديدة على 78 في المائة من مساحة فلسطين في تلك الفترة، بعد أن شردت نصف السكان الفلسطينيين، وقتلت عشرات الآلاف على اقل تقدير، رغم أن توثيق تلك الجرائم يبقى في حوزة ذلك الاحتلال، الذي لم يكشف إلا عن نسبة ضئيلة منه.
استكمل الاحتلال مخططاته عندما أقدم على احتلال الأراضي المتبقية من فلسطين في العام 1967، وصدر قرار عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 يدعو لانسحابها، والذي بقي حبراً على ورق، تماماً كباقي القرارات التي صدرت حول القضية الفلسطينية في المنظمات الدولية. في العام 1982، شنت دولة الاحتلال حرباً على لبنان، للقضاء على المقاومة الفلسطينية الآتية من خارج الأراضي الفلسطينية. وفي العام 1993 وقع الاحتلال إتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، والذي منح الفلسطينيين إدارة مدنية، في ظل البقاء الفعلي للاحتلال، ووعود بالتفاوض المستقبلي على أساس القرار 242، أي الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وهو الأمر الذي لم يحدث. استمر الاحتلال بمصادرة الأراضي في الضفة الغربية وبناء المستوطنات ونقل المستوطنين اليها وتسليحهم في محيط فلسطيني أعزل، وشجع على حدوث الانقسام بين غزة والضفة، وأخضع غزة تحت حصار خانق منذ العام 2007. ومنذ أحداث السابع من أكتوبر تقف غزة وحدها أمام أهوال إبادة جماعية، تخطت في إجرامها ما سبقها من جرائم، وتسعى لسلب الفلسطينيين وسائل مقاومتهم للاحتلال، بعد أن وصف العالم "الحر" هذه الـمقاومة بـ "ارهاب"، في ظل تنكره لتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بفلسطين.
كتب جون كويجلي، الأستاذ المخضرم في جامعة أوهايو والخبير في القانون الدولي والمقارن، مؤخرا مقالاً استعرضه في مؤتمر علمي، عن الإبادة الجماعية في غزة، جاء بعنوان: "ثلاث إبادات جماعية: رحلة محامٍ عبر تاريخ كئيب"، ركز فيه على جريمة الإبادة المستمرة في غزة، واتفاقية الإبادة الجماعية، التي سمحت لجنوب أفريقيا بمقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وقارن كويجلي بين الملابسات التي سمحت بالمحاكمة في كمبوديا خلال سبعينيات القرن الماضي وفي يوغوسلافيا في تسعينيات ذات القرن، انطلاقا من دوره المشارك في تلك المحاكمتين، مؤكداً أن ما يجري في غزة يشكل مقدمة لمحاكمة إسرائيل. يؤكد كويجلي في ورقته، أن الجرائم التي ارتكبت في كمبوديا، والتي ارتكزت على تهجير الناس من بيوتهم، وإرغامهم على الرحيل في ظروف غير إنسانية معقدة تشبه إلى حد كبير ما يجري في غزة، وإن فاق ما يحصل فيها ما جرى في كمبوديا، حيث لم تدمر البيوت والبنية التحتية المدنية على رؤوس أصحابها. حوكم مقترفو الجرائم في كمبوديا، كأول محاكمة للإبادة الجماعية في العالم، جرت في إطار صراع داخلي. وعلى العكس كانت محاكمة يوغسلافيا، التي جاءت في إطار صراع خارجي، بعد انفصال البوسنة، إلا أنها خضعت للنظر في إطار قواعد إتفاقية الابادة الجماعية التي وقعت في الـعام 1948، ودخلت حيز النفاذ في العام 1951. وخضعت معايير إثبات الجرم في حالة يوغسلافيا في إطار القانون الدولي العرفي المتخصص بمسؤولية الدول، حيث تشترط المحكمة قناعتها بأن الادعاءات المقدمة تعكس جريمة الإبادة وفق المادة الثالثة من الاتفاقية والنية باقترافها، وهو ما ثبت في حالة يوغسلافيا، حيث أكدت المحكمة أنه يمكن استنتاج النية من أفعال الدولة. فحسب كويجلي في حالةغزة يمكن الجمع بين الإجراءات والتصريحات الإسرائيلية بسهولة. وحسب قرارات المحكمة يحق لأية دولة طرف في الاتفاق مقاضاة أية دولة أخرى طرف، يشتبه بارتكابها جرائم ابادة جماعية لدى محكمة العدل الدولية، وهو ما أقدمت عليه بالفعل دولة جنوب أفريقيا، وانضم اليها العديد من الدول. ويحق للدول الأطراف أيضاً مقاضاة الدول التي تقدم المساعدات العسكرية لإسرائيل، حتى وإن لم تشارك بنفسها في تلك الجرائم. كتب جون كويجلي، الذي درس جميع مراحله الجامعية في جامعة هارفارد العريقة، عشرات من الكتب والمقالات حول القضية الفلسطينية، مؤمناً بعدالة هذه القضية، وإنني أقترح في هذا السياق ترجمة كتبه ومقالاته الخاصة بالقضية الفلسطينية إلى العربية، كي يستفيد طلابنا من علمه وخبرته.
رغم أن محكمة العدل الدولية قد تستغرق وقتا غير قليل في البت في جرائم غزة، وليس من المضمون محاكمة إسرائيل، في ظل عودة قرارات المحكمة لمجلس الأمن، الذي يكبله الفيتو الأميركي. كما تنظر المحكمة الجنائية الدولية في قضية مشابهة للتحقيق مع مسؤولين إسرائيليين متهمين باقتراف جرائم مستمرة في غزة، وليس هناك ما يضمن إلقاء القبض عليهم. وهناك كذلك عشرات القرارات الأممية التي تطالب بوقف الهجوم الاسرائيلي على غزة، دون التوصل لقرار تنفيذي واحد، وفق الفصل السابع لمحاسبة إسرائيل. إلا أننا أمام واقع جديد يفرض نفسه اليوم، فالرواية الفلسطينية باتت المسيطرة حتى في عالم الغرب، الذي طالما تبنى الرواية الصهيونية لعقود، وقرارات المحاكم الخاصة بفلسطين، بما فيها الآراء الاستشارية، ستدرس لطلاب الحقوق عبر دول العالم أجمع. ويبدو جلياً اليوم للفلسطينيين، أن التوجه للمحاكم والمحافل الدولية، وإن كان مهماً، الا انه لا يكفي لتغيير الواقع المعقد للقضية الفلسطينية، فقد أسفر السياسات والحراكات المناصرة للقضية الفلسطينية لنتائج مهمة، وما تشهده جامعات العالم وشوارع عواصمه ومحاكم دوله دليل على ضرورة التحشيد السياسي، في عالم قد تؤثر منظماته وجمعياته، على قرارات حكوماته، خصوصا في أوروبا. ورغم الإنجازات الهامة التي يحققها الفلسطينيون لايزال الطريق أمامهم طويلاً ومثقلاً بالأشواك، إلا أن الحق لا يموت، طالما بقي الفلسطينيون صامدين.
#سنية_الحسيني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟