محمد السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 12:22
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
أهداني الصديق والرفيق الدكتور عبد الحسين شعبان. كتابه المعنون ” بشتاشان .. خلف الطواحين .. وثمة ذاكرة ” . شهادة وليست رواية . الكتاب بواقع ٢٤٧ صفحة من القطع المتوسط . جهد الدكتور شعبان واضح من خلال الجرأة والمصارحة والاناقة والروعة والجذب في تبويب عناوين الكتاب ومحاوره ، حيث يضم الكتاب بين دفتيه ستة فصول ، وكل فصل من تلك الفصول يتألف من عدة محاور جلها تصب في رئة الحدث وتداعياته ، وينهي خاتمة الكتاب بملاحق مع صور من وقع المكان، وقد نشر المؤلف قائمة بأسماء الشهداء ونداء ورجاء بتدقيق بعض الأسماء والمعلومات، وهو نداء موجه إلى الأنصار.
أهمية الكتاب وفصوله في تقديري ورغم مرور أربعة عقود، ترجع الى أهلية الدكتور شعبان في سردية مأساة ما حصل بأمانة ودقة وموضوعية وتداعيات يومياته بإعتباره ناقدًا وباحثًا وأمينًا في تناول وقائعه ، وهو من الناجين من المجزرة .
بشتاشان قرية صغيرة تغفو على سفح جبل قنديل، ظلت مهملة ، بعد أن هجرها ساكنيها عام ١٩٧٥، أثر إتفاقية الجزائر بين الحكومتين الإيرانية والعراقية ، حيث اشترطت في واحدة أسرار وقف الدعم الإيراني الى الثورة الكردية المسلحة بقيادة الملّا مصطفى البارزاني، الذي اضطّر إلى العبور الى الاراضي الإيرانية كلاجئ سياسي . ولم تكن قرية بشتاشان بمعزل عن تلك التطورات الخطيرة فأهملتها الجغرافية .
في عام ١٩٨٢ ، دخلت بشتاشان التاريخ من أوسع أبوابه ، عندما توافد إليها مئات من الشيوعيين العراقيين ، لتكون ساحةً ومسرحًا لحياة سياسية جديدة وظلّ اسمها يتردّد إلى يومنا الحاضر، حيث أصبحت بشتاشان اسمًا مألوفًا ومطروقًا يتناوله العراقيون ويسألون عن حقيقة الجريمة التي وقعت في يوم ١ آيار ١٩٨٣، التي اقترفها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بحق الشيوعيين العراقيين .
في آيار عام ١٩٨٧ ، مررت بها ولأول مرة طيلة فترة وجودي في الجبل ، التي أمتدت لخمسة سنوات ، كنت مع مفرزة ، أنطلقت من وادي ” دولا كوكا ” . وبرفقة المرحوم علي الجبوري بمهمة سريّة مشتركة الى العاصمة بغداد عبر منافذ قرى كرميان . وفي العام ٢٠٠٩ ، وبجهود شخصية ومن عندياتي في التواصل مع قناة البغدادية وبالتنسيق مع الدكتور حميد عبدالله ، فتحنا ملف بشتاشان ولأول مرة عبر شاشة البغدادية، مما أزعج الكثير من الرفاق وتردّد البعض منهم في الظهور على شاشة البغدادية والإدلاء بدلوهم وقول كلمة حق بحق الشهداء وإدانة الجريمة.
في يومها كانت التبريرات ساذجة وغير مقنعة ، "إنه ليس وقتها" ، مثلما ليس وقت مراجعة سياسة الزعيم قاسم تجاه الشيوعيين ، وبغض النظر عن الدعم غير المحدود الذي تلقّاه من الشيوعيين الى يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣ ، لكن ذلك لم يمنع من الإطاحة به على يد البعثيين والقوميين، والإجهاز على منجزات ثورة تموز ، وهذا التاريخ أيضاً بحاجة الى مراجعة وتحديد موقف والمسؤوليات.
منذ اليوم الأول لجريمة بشتاشان في ١ آيار ١٩٨٣ ، وأنا أتابع كل تفاصيلها عبر المواقع والصحف والتلفزة والمقالات وشهادات الناجين منها ، والكتب التي صدرت حولها ، وكان أولها كتاب ” بشتاشان بين الآلام والصمت ” للنصير الشيوعي قادر رشيد ” أبو شوان ”. والذي قدمت حوله مطالعة كاملة ، نشرت في حينها بعدة مواقع وصحف ، وكان لديّ ملاحظات حول الاسماء والموقع والنتائج ، وعززت هذه النقاط في لقاء لاحق مع المرحوم قادر رشيد في العاصمة ” أستوكهولم ” في بيت النصير الشيوعي البصراوي سالم الشذر ” دكتور وسام ”. وفي حوار موضوعي حول معركة ” خورنوزان ” . والأشكالية في نتائجها ، مما دعا المرحوم قادر رشيد على ضوء المعطيات ، التي قدمتها له ، بإعتباري أحد الشهود من قلب الحدث ، تبنى تلك المعطيات من وقائع وأحداث في طبعة كتابه الثانية معززة بالأسم والصورة الشخصية لي .
كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان حول جريمة بشتاشان ، يختلف عن كل من سبقه في تناول الحدث بحكم موقعه كناقد وسياسي وباحث محايد يغوص في حيثيات التاريخ على أسس علمية ومادية ، حيث تناول الحدث من زاويا أخرى ، بعيداً عن المجاملات والمصالح .لقد تناول ذلك من وجهة نظره كناجي أولًا، وشاهد عيان ثانيًا، وباحث ثالثًا، حيث قدّم عرضًا دقيقًا ليوميات الحدث منذ البداية ، أي منذ الايام الأولى ، عندما بدأت الفكرة بنقل مواقع إدارة الحزب من مواقع ” ناوزنك / نوكان ”. الى موقع قرية ” بشتاشان ” خلف الطواحين ”. كموقع قيادي عسكري وسياسي إعلامي والظروف التي أحيطت بهذا القرار المستعجل وغير المدروس والآراء المضادة ضد هذ القرار . وقدرة الاحتياطات والتحوطات والحذر تجاه أي تطورات عسكرية وأمكانية الانسحاب وتجنب الخسائر البشرية والمادية ، كل هذه النقاط والسجالات والمواقف يرويها الدكتور شعبان في كتابه، خصوصًا وأنه كان سكرتير منظمة الإعلام المركزي للحزب الشيوعي، حيث كانت الإذاعة وجريدة طريق الشعب ونشرة مناضل الحزب، لكنه تناول ذلك بموضوعية بما فيها النقد الذاتي، مبينًا عناصر القوّة وعناصر الضعف ومواقف البعض البطولية ومواقف آخرين المتخاذلة، لذلك يستحق الكتاب أن يقرأ بعيداً عن الضغائن والشماتة والحقد والانتقام، لنجعل منها وثيقة مهمة في بناء المواقف واستخلاص الدروس من التجربة .
في أكثر من موقع ، يؤكد الدكتور شعبان حول تداعيات الجريمة كما يسميها بدون مواربة في قتل الشيوعيين ، ويدعو الطرف المعتدي بالاعتذار من عوائل الشهداء والكشف عن قبورهم وتسليمهم الى ذويهم ، وإدانة عملية قتل الأسرى العرب بإعتباره جريمة إنسانية وأخلاقية وقانونية يعاقب عليها القانون ولا تسقط بالتقادم.
ويروي الدكتور شعبان ويدين النوايا السيئة السابقة في قتل الشيوعيين، ويؤكد في حديثه خطاب المرحوم مام جلال الناري والمنشور على اليوتوب في حث مقاتليه في إبادة الشيوعيين بخطاب شوفيني، وكان ذلك عربونًا للمفاوضات مع سلطة بغداد.
ويورد شعبان في صفحات كتابه اعترافات ملّا بختيار الواضحة والمؤلمة في النوايا السيئة والحقد الشوفيني في قتل الشيوعيين العرب من جانب المرحوم ناوشروان مصطفى الذي حاوره على صفحات الكتاب باعتباره المخطط والمسؤول والقائد لعمليات الهجوم.
لا يخفي شعبان في حواره مع مصطفى أن ما حصل كان جريمة حرب ولا يمكن السكوت عنها والمطالبة بالاعتذار للتخفيف من وطأة الغضب بين أوساط الشيوعيين، ومثل هذا الموقف كان بمنتهى المسؤولية والجرأة والصراحة ، لكن ناوشروان حاول التهرّب من المسؤولية مبررًا أن الشيوعيين حملوا السلاح ضدنا بعد تحالفهم مع حزب البعث، وسمونا بالجيب العميل، ولم يقدموا الاعتذار المطلوب بعد أن انفرطت الجبهة مع البعثيين. وينتقد ناوشروان الشيوعيين من الإلحاح في كثرة الكلام حول معركة بشتاشان كما يحلوا له أن يسميها، ويخاطب الدكتور شعبان قائلاً له : لماذا لا تتحدثوا عن مجازر ٨ شباط ١٩٦٣ ؟ بل ذهبتم وعقدتم جبهة وطنية مع الجناة البعثيين عام ١٩٧٣ ، وطويتم الصفحة وتجاهلتم دماء شهدائكم.
يروي الدكتور شعبان في صفحات كتابة كشاهد وناجي عن اللحظات الأولى قبل الهجوم الغادر وطريقة وأسلوب مواجهته والانسحابات غير المنظمة وعدد الشهداء وحرق الاذاعة ” إذاعة صوت الشعب العراقي ”. ومعاناة الانسحاب في ظروف غير طبيعية وسط أكوام من الثلوج وطرق مجهولة ، ويشيد بمواقف وبطولات الانصار الشيوعيين في مواجهتهم للهجوم الغادر.
الجدير بالذكر أن عددًا من قادة الحزب كريم أحمد وأحمد باني خيلاني والكادر المتقدّم قادر رشيد وقعوا في الأسر، وكان موقفهم متخاذلًا، حيث صمتوا عن قتل رفاقهم الشيوعيين العرب ، وأصدروا بيانًا مشؤومًا عبر إذاعة الاتحاد الوطني الكردستاني بالرغم من الجراح والدماء التي سالت على قمم ووديان جبل قنديل ، وفي تصريح لاحق لكريم أحمد حول اعتذاره عن موقفه قال : أنا اعتذرت بأمر من المكتب السياسي ، لكن قناعتي الداخلية غير ذلك . أما أحمد باني خيلاني فقد كرمّته القيادة بتنصيبه المسؤول الأول عن قاطع السليمانية وكركوك بدلاً من القيادي بهاء الدين نوري ، والأخير أزيح عن مسؤولياته أثر أتفاقية ” ديوانه ”. التي وقعها مع ملا بختيار القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني لمنع سفك الدماء في عشية جريمة بشتاشان. يومها كنت من الغاضبين على تصرف بهاء الدين نوري ، لكن في قراءة متأخرة أعطيته الحق بعيداً عن اللوم والغضب مراعاة الظروف آنذاك وتوازن القوى .
ينهي الدكتور شعبان صفحات كتابة . ذاكراً ” لقد طويت تلك الأيام ، ولم يعد استذكار ما حصل في بشتاشان يثير الحساسية السياسية القديمة ذاتها . لكن الجيل الحالي ، والاجيال المقبلة تظل تستفسر وتبحث عن الحقيقة ، حتى وإن كان الفريقان ، المرتكب والمخطيء أو من يدعي تمثيل الضحايا ليس لديه مصلحة استعادتها أو استذكارها ، لاعتبارات سياسية ، لكن ذلك مطلب الضحايا وعوائلهم ، كي لا يخيم الصمت الذي هو أقرب إلى التواطؤ ، والهدف هو بناء علاقات صحيحة ، أساسها النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء ، من دون ثأر أو أنتقام أو كيدية ”.
في ختام قراءتي لصفحات الكتاب وبقدر المتعة والمعرفة والمعلومة ، انتابتني الغصة ومرارة التجربة وضياع الحلم بوطن آمن ومعافى . خلال رحلتين متتالتين إلى بلدي العراق في العام ٢٠٢٤ ، وما لمسته في شوق اللقاء برفاق وأصدقاء تركتهم لأربعة عقود مضت ، لاحظت شغفهم في الاطلاع على أحداث ويوميات جريمة بشتاشان وأحداث أخرى لم تصلهم بصورة صحيحة، إضافة الى ما تمخضت عنه ظروف الصراع الداخلي في الحزب قبل وبعد المؤتمر الرابع ١٩٨٥ ، من مواقف ووقائع وملابسات وتصريحات.
ربما يجد القارئ بعضا من الإجابات في كتاب الدكتور شعبان، التي ستمنحهم وقتاً للاطلاع والتفكير والتأمل.
محمد السعدي - مالمو
#محمد_السعدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟