غانية ملحيس
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 18:15
المحور:
قضايا ثقافية
ينطوي مقال الأستاذ حسن خضر، وتحفظاته حول حفل تكريم 31 شخصية من المفكرين والمؤرخين الفلسطينيين، على أهمية خاصة. ذلك أنه لا يتوقف عند حدث عابر، بل يكشف بنية الخلل في الحقل الثقافي الفلسطيني، ويذكرنا بأن ما جرى في حفل التكريم ليس سوى أحد تجليات الانحدار السياسي المؤسس، الذي تسبّب في انهيارمنظومة القيم واختلال المعايير، وامتد أثره إلى الثقافة والاقتصاد والإدارة والمجتمع.
فباتت الثقافة تختزل في مراسم بلا معيار، والتكريم والألقاب تمنح على أساس الولاء، ضمن منظومة متكاملة، بنيت على تغييب السياسة كمجال للفعل المعرفي المؤثر والمساءلة عن الأداء قياسا بالهدف الوطني التحرري، وتحولها إلى مساحة للتدجين.
وعليه فان إصلاح الحقل الثقافي يتعذر أن يتم دون تفكيك العطب السياسي الذي أفرغ الحقول كلها من معناها. وفي قلب هذا كله، تشتعل غزة اليوم، ليس بنار القصف وحدها، بل بلهيب الحقيقة أيضا. ففي غزة، لا أحد يحتاج لقب “مفكر” ليكتب العالم من رماد المخيم، ولا أحد ينتظر من يمنحه صفة الشهيد أو يعترف بموقفه.
غزة، بهذا المعنى، ليست فقط ساحة للبطولة، بل مرآة كاشفة لهوة تتسع بين الجوهر والادعاء.
ومن واجبنا، كمثقفين وكتاب، ألا نسمح لثقافة المديح أن تكمم أفواه الأسئلة، وألا نداري زيف التكريم بينما الحقيقة تكتب هناك بالدم.
فكل الشكر للأستاذ حسن خضر لفتحه هذا النقاش في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى استعادة معنى الفعل الثقافي كجزء من المعركة، لا كزينة على هامشها.
لقد أثار المقال تفاعلات مهمة سواء لجهة توقيت الحدث المتزامن مع الحلقة الأحدث من حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني المتواصلة منذ أكثر من قرن، والمحتدمة وقائعها منذ نحو عامين في قطاع غزة، ومخيمات الضفة، وسائر فلسطين الانتدابية ومحيطها العربي.
وكذلك لملابسات الحدث المتصلة بضبابية المفاهيم والمعايير.
وفسر بعض المعلقين النقد كانتقاص من أهلية المكرمين، رغم أن المسألة لا علاقة لها بالاستحقاق الشخصي، حيث لا أحد في موقع يخوّله إصدار أحكام فردية على الأشخاص أو تقييم منجزاتهم. وإنما الموضوع يتصل باختلاط المفاهيم وغياب المعايير الثقافية العامة، والافتقار لمرجعيات موضوعية متوافق عليها يقاس بها هذا “الاستحقاق”.
نحن إزاء لحظة فلسطينية فارقة، لا يجوز أن نخوضها بترهل رمزي أو فوضى في التقدير، بل بحس نقدي حاد يميّز بين الجوهر والسطح. لذلك لا بد من التوقف عند عدة نقاط:
أولا: تحديد مفهوم “الوطن الفلسطيني” الذي نكرّم باسمه
ليتسع هذا المفهوم لكل المكونات الفلسطينية داخل الوطن وفي الشتات، بما يعكس حقيقة الشعب الفلسطيني الذي، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في منتصف 2025، يبلغ تعداده نحو 15.2 مليون نسمة. منهم 7.8 مليون خارج فلسطين الانتدابية، معظمهم في الدول العربية ( 6.5 مليون)، فيما يقيم نحو 7.4 مليون داخل فلسطين التاريخية، بين أراضي 1948 (1.9 مليون نسمة)، والمناطق المحتلة عام 1967 (5.5 مليون)، من بينهم 2.1 مليون في غزة التي فقدت نحو 10٪ من سكانها بفعل حرب الإبادة المستمرة منذ عامين.
ثانيا: حساسية اللحظة التاريخية
إذ يخوض شعبنا معركة وجودية هي الأخطر في تاريخه الحديث، وينفرد قطاع غزة - بدمه ولحمه بشرا وحجرا وتاريخا وذاكرة - بالتصدي لنظام الهيمنة الكولونيالي الغربي، دفاعا عن فلسطين، وعن عموم الأمة العربية والإسلامية وهويتها الحضارية، بل عن القيم الإنسانية برمّتها. في مثل هذا الظرف، يصبح سؤال المعنى والمستحقين لتكريسه أكثر إلحاحا، لا رفاهية فكرية.
ثالثًا: ضرورة ضبط المصطلحات
ما معنى أن نصف شخصا بأنه مفكر أو مؤرخ أو مثقف أو فنان؟
ما المعايير؟
هل نكرم الاسم أم المنجز؟
التأثير أم الأيديولوجيا؟ الشهرة أم العمق؟
إن انفلات التعريفات يجعلنا أمام تصنيفات ضبابية ومقاربات ذوقية يصعب مساءلتها أو الاستناد إليها في البناء الوطني.
رابعا: إعادة تعريف مفهوم “الاستحقاق”
المسألة لا تتعلق بمقارنة بين الأشخاص، بل بمقارنة بين معايير. الاستحقاق لا يتم بمدح أسماء بعينها، بل بقياس الأثر وفق أدوات ومعايير واضحة، تأخذ في اعتبارها الزمان والموضوع، وتراعي أولوية التكريم بناء على مدى المساهمة في بلورة الوعي الوطني، وتعزيز المشروع التحرري، ليس بناء على الانطباعات والتوجهات الفصائلية أو الجهوية أو العلاقات الشخصية.
وقد بدا أن ثمة خلطا بين النقد البنيوي للمنهج، والتشكيك في الأفراد، وهذا ما يتوجب توضيحه، فالمسألة لا تتعلق بأسماء بعينها، بل بمنطق التكريم ذاته، حين يفرغ من معناه في غياب معايير موضوعية ومقاييس عادلة ومعلنة.
نحو ثقافة تحررية: إصلاح المعايير قبل الاحتفاء
في ظل التصدع الرمزي الذي نعيشه، لا يكفي أن نكتب جيدا. نحتاج إلى بيئة ومؤسسات تحمي معنى الكتابة، وتعيد الاعتبار للجدارة، لا للانطباع. وهناك بعض الخطوات العملية لبناء منظومة تكريم فلسطينية مهنية وعادلة:
1. تشكيل لجنة تحكيم وطنية دائمة
من خبراء في التاريخ، الفكر، النقد، والفنون، يتم انتخابهم دوريا من داخل الجسم الأكاديمي والثقافي الفلسطيني (الجامعات، المراكز البحثية، اتحاد الكتّاب…).
2. إصدار معايير معلنة وواضحة تستند إلى:
• أصالة الإنتاج المعرفي أو الإبداعي.
• عمق التأثير في المجال العام الفلسطيني والعربي والعالمي.
• الالتزام النقدي والوطني، بعيدا عن التوظيف السياسي أو السلطوي أو الفصائلي.
3. شفافية إجراءات الترشيح والتقييم
بفتح باب الترشيحات عبر استمارات رقمية، ونشر قائمة المرشحين مع تقديمات موجزة تشرح منجزاتهم وأسباب ترشيحهم.
4. فصل فئات التكريم بوضوح
لتمييز المؤرخ عن المفكر عن المثقف عن الفنان… وتفادي الخلط الذي يربك الفهم ويضعف مصداقية التكريم.
5. ربط التكريم بخطة معرفية بحيث يرفق بكل تكريم ورقة تحليلية أو كتيب صغير يعرف بالمنجز المعرفي للمكرّم، وينقده بميزان علمي، بعيدا عن التهويل أو المجاملة.
نحن أمام سؤال مصيري: كيف نبني جهازا ثقافيا يليق بشعب يخوض حربا وجودية؟
الجواب يبدأ من مساءلة رمزية الجوائز، ووظيفة التكريم، وجدوى الاحتفاء في زمن المجازر.
وأكاد أجزم أن من أهم أدوار المثقف الحقيقي اليوم ليس مجرد الاعتراض، بل إعادة تعريف المعايير، واقتراح البدائل، وفتح نوافذ للفعل، في زمن تغلق فيه الأبواب.
فالوعي سلاح المقاومة الأول، والثقافة ليست زينة، بل لب المعركة على المعنى. وليست شكلا، بل مضمون المواجهة المقبلة.
Hassan Khader
بعيدا عن لهيب القيامة الذي يشتعل في غزة، وقريباً من لهيب القيامة الذي يشتعل في غزة، ثمة ما ينبغي أن يُقال:
شهد حقل رام الله الثقافي مؤخراً ظاهرة تستحق التفكير والتدبير، فقد جرى تكريم 31 فلسطينياً، بلا سبب واضح او مناسبة، وتراوحت الصفات التي اسبغت عليهم ما بين مؤرخ ومفكر، في حفل عام.
واذا وضعنا الجهات المشاركة بالتكريم جانباً (تستحق مناقشة مستقلة)، فلنقل أن ما جرى يعاني من ثلاث نواقص
اولاً، لا تكريم بلا لجنة علنية تتكون من اصحاب اختصاص
ثانياً، لا تكريم بلا مسوّغات تخص المعنيين كأفراد، وتفسّر إسهاماتهم
ثالثاً، من الواضح ان غياب الامرين الاؤّل والثاني أدى الى فوضى ومجانية الصفات.
ورغم ان العنوان الرئيس للتكريم كان عن "المؤرخين"، إلا ان القائمة ضمت "مفكرين" ايضاً. وأسوأ ما في موضوع الخلط ان عددا قليلا من المكرّمين تنطبق عليهن صفة المؤرخ، واقل منهم بكثير من ذُكروا في عداد المفكرين. لا ينتقص هذا الكلام، بالضرورة، من مكانة المذكورين في القائمة، فهم اصحاب اختصاص، ويمكن تكريمهم في مجال الاختصاص، فهناك الروائي والناقد والباحث، ولكن حشر الغالبية العظمى من هؤلاء في تعريفين اعتباطيين و ضيقين يقلل من جدوى وصدقية التكريم.
الخلل وثيق الصلة بما اصاب الحقل الثقافي الفلسطيني عموماً. وهذا موضوع آخر
#غانية_ملحيس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟