بولات جان
كاتب و باحث
(Polat Jan)
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 00:11
المحور:
القضية الكردية
مقدمة
في سياقات الصراع السياسي والهوياتي، كثيرًا ما يُلجأ إلى اختلاق شخصيات رمزية تخدم أهدافًا دعائية. تُعرف هذه الظاهرة في الدراسات الإعلامية والسياسية بمصطلحات مثل (الشخصيات الوهمية الدعائية) أو (الأساطير المُصنّعة لأغراض خطابية). وقد استُخدمت تاريخيًا لتقويض الروايات المنافسة، من خلال تقديم "أصوات داخلية" تبدو وكأنها تنتمي للمجتمع المستهدف، لكنها تخدم أجندات معادية.
في هذا السياق، بدأتُ منذ عام 2015 ألاحظ تكرار اسم "عمر ميران" في الفضاءات الرقمية الناطقة بالعربية. يُقدَّم بوصفه "مؤرخًا كرديًا"، "حاصلًا على دكتوراه من السوربون"، "عاش في شقلاوة"، و"اغتاله مسعود البارزاني شخصيًا". الأخطر من ذلك أن مقولات منسوبة إليه تُستخدم بشكل ممنهج في حملات تشويه ضد الشعب الكردي، حيث تُستشهد بها بوصفها "دليلًا داخليًا كرديًا" يُدين الكرد ويتهمهم بالخيانة والعمالة و"الدخالة" على الجغرافيا الكردية. وقد وُجهت هذه المقولات في البداية ضد كرد العراق تحديدًا، ثم جرى توسيع استخدامها لاحقًا لتشمل كرد سوريا، وبالأخص تجربة روجافا.
في بداية الأمر، ظننته مجرد شخصية مثيرة للجدل، أو ربما من أولئك الذين انسلخوا عن قضاياهم واختاروا الاصطفاف مع أعداء شعبهم. غير أن ما بدأتُ ألاحظه من تناقضات لوجستية وسردية، إضافة إلى غياب أي معلومات موثّقة عنه، دفعني إلى التوقف مطولًا أمام هذه الظاهرة، فتبلورت لدي فرضية: أن "عمر ميران" ليس شخصية حقيقية، بل بناء وهمي صُنع رقميًا لأداء وظيفة دعائية ضمن حرب سرديات ضد الكرد.
من هنا، انطلقتُ في تحقيق تحليلي يتجاوز مجرد إثبات الغياب البيوغرافي، إلى تفكيك رمزية هذه الشخصية، ودراسة السياقات التي تُستحضر فيها، والجهات التي تروّج لها، والدلالات السياسية والثقافية التي تمثلها. وقد استند هذا البحث إلى أدوات تحقق رقمي، ومراجعة قواعد بيانات أكاديمية مثل سجلات الباحثين وسجل الأطروحات الفرنسية Thèses.fr))، وتحليل أنماط الخطاب وتكرار الظهور في الزمان والمكان.
فقط بعد استكمال هذا المسار التحققي، تبيّن بشكل قاطع أن لا وجود لأي أثر أكاديمي أو بصري أو شفهي لهذا "المؤرخ" المزعوم، سواء في الأوساط الكردية أو الفرنسية أو حتى في الذاكرة المحلية، رغم الادعاء بأنه عاش 81 عامًا ودرّس في أهم الجامعات.
ما يلي هو تفكيك ممنهج للخرافة المسماة "عمر ميران"، وتفنيد دقيق لكل ما يرتبط بها، مع دعوة إلى الباحثين والمثقفين الكرد للاستمرار في هذا النوع من الجهد التحليلي الضروري لحماية الوعي الجماعي من التزييف.
أولاً: الغياب الكامل عن السجلات الأكاديمية والمصادر المستقلة
رغم الادعاءات بأن "عمر ميران" "حاصل على دكتوراه من جامعة السوربون"، فإن اسمه لا يظهر في أي قاعدة بيانات أكاديمية موثوقة. لا وجود له في أرشيفات النشر العلمي، ولا في منصات الباحثين مثل ( Google Scholar)، (JSTOR) أو(WorldCat. ) و الأهم: البحث في السجل الرسمي لأطروحات الدكتوراه في فرنسا ([Thèses.fr](https://www.theses.fr))، لا يُظهر أي أطروحة باسم "عمر ميران" في جامعة السوربون أو غيرها من الجامعات الفرنسية.
أما الزعم بأنه "نال الدكتوراه عام 1952"، فهو غير منطقي من الناحية التاريخية: فالسفر إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، والدراسة الأكاديمية فيها لطالب كردي من العراق، كان أمرًا بالغ الصعوبة. كما أن العراق حينها كان تحت الوصاية البريطانية، وكان الطلاب العراقيون يُرسلون غالبًا إلى بريطانيا، وليس فرنسا، وبالأخص من العائلات البغدادية أو الموصلية الثرية، وليس من أبناء بلدة صغيرة مثل شقلاوة.
ثانياً: التناقض الجغرافي والعشائري
الكنية "ميران" تعود إلى واحدة من أكبر العشائر الكردية (الكرمانجية) في مناطق بهدينان والموصل. أما بلدة شقلاوة، التي يُقال إن "عمر ميران" وُلد فيها عام 1924، فهي منطقة تسكنها عشيرة خوشناو، ولا توجد فيها عائلات كرمانجية معروفة باسم "ميران". الغياب التام لأي تداخل بين السياق العشائري المفترض والموقع الجغرافي يضع علامات استفهام حول النسب المنسوب إليه.
والأغرب، أن لا أحد من المثقفين أو القوميين الكرد - خاصة من عشيرة ميران - سمع باسمه قط، أو أشار إليه في مناسبة قومية، أو استعان به في بحث تاريخي، رغم أن المئات من أبناء هذه العشيرة ينشطون في الصحافة، الأكاديميا، والسياسة.
ثالثاً: لا سيرة، ولا صورة، ولا شاهد
رغم الادعاء بأن "عمر ميران" "عاش 81 عامًا وتوفي مقتولاً عام 2005"، لم تُنشر له صورة واحدة. لا يُعرف له قبر، ولا يُذكر له صديق، أو زميل، أو طالب، ولا سيرة ذاتية موثقة. كما لا توجد أي مقابلة مرئية، أو محاضرة صوتية، أو مشاركة في ندوة، أو مقال أكاديمي منشور باسمه في أية مجلة علمية أو دورية محترمة في أي مكان في العالم.
ولفهم مدى غرابة هذا الغياب، يمكن مقارنته بحالات اغتيال موثقة مثل كاوه كرمياني وزردشت عثمان، وهما صحفيان كرديان شابان قُتلا بسبب مواقف سياسية. ورغم حداثة سنهما، لا تزال صورهما وسيرتهما ومقالاتهما حاضرة بقوة في الوعي العام الكردي، وتُستذكر ذكراهما سنويًا. فهل من المعقول أن يتم تغييب "بروفيسور كردي مرموق" - كما يُزعم - بهذا الشكل التام، دون أثر، ودون أن يُوثق من قِبل أي ناشط أو مؤسسة حقوقية كردية؟
رابعاً: لحظة الظهور المريب
أول ذكر موثق لاسم "عمر ميران" في الإنترنت كان في نوفمبر 2005 على موقع (الألواح الطينية) من خلال مقال هزيل موقع تحت اسمه. ثم ذُكر في تعليق على مأرب برس عام 2007. لا وجود له قبل ذلك لا في كتب، ولا مجلات، ولا أرشيفات، ولا في شهادات مكتوبة أو شفهية. ثم ابتداءً من 2011، بالتزامن مع توتر العلاقات بين إقليم كردستان وحكومة المالكي، وظهور الحركة الكردية بقوة في سوريا، بدأ استحضار اسم "عمر ميران" بكثافة في سياقات معادية للكرد، خصوصًا لدى بعض الأصوات المسيحية والسنية العراقية والسورية. البعض منهم استشهدوا به في مقالاتهم و حتى بعض الكتب التي تتنازل الشأن الكردي من منظور عنصري الصادرة من مراكز تابعة للإخوان المسلمين.
خامساً: الاستخدام الدعائي العدائي
يُستدعى اسم "عمر ميران" اليوم ضمن خطاب تحريضي ومعادٍ للكرد، لا يستند إلى أي إنتاج علمي أو مساهمة أكاديمية معروفة. لا يُقتبس له أي تحليل تاريخي، ولا تُنسب له دراسات موثقة، بل يُستشهد به في عبارات متكررة، من قبيل: "الأكراد دخلاء على الجزيرة السورية"، "الكرد عملاء الغرب وزُرعوا كاليهود لخدمة مصالحه", أو "الكرد الحاليون لا يمثلون الكرد الحقيقيين".
اللافت أن هذه الاقتباسات تتكرر حرفيًا في مئات المنشورات، لكنها تعود دومًا إلى مصدر واحد: مقال إلكتروني رديء الصياغة، مجهول النشر، مليء بالكراهية والشتائم، دون أي توثيق علمي أو إشارة إلى مراجع تاريخية معتمدة. هذا "المقال" هو ما يُبنى عليه كامل السرد، ويُروّج له من قبل صفحات ومنتديات ومجموعات ذات توجهات معادية للكرد، سواء قومية أو دينية أو طائفية، دون أي تحقق من صحة نسب المحتوى.
الأخطر أن تلك الاقتباسات تُرفق بلقب "بروفيسور" أو "مؤرخ كردي حاصل على الدكتوراه من السوربون"، ما يمنح الخطاب التحريضي غلافًا زائفًا من الشرعية الأكاديمية، رغم انعدام أي دليل على وجود هذا الشخص في السجلات العلمية أو الصحفية أو الجامعية، كما أُثبت سابقً، بل عدم وجود من الأساس.
سادساً: غياب المعايير الأكاديمية في اللغة والأسلوب
ضمن هذا التحقيق، أُجري تحليل نصي دقيق للمقال المنسوب إلى "عمر ميران"، مع مقارنة أسلوبه بمستويات الكتابة الأكاديمية المعروفة. وقد أظهرت هذه المقارنة أن النص لا يمتّ بصلة إلى الكتابة العلمية، لا من حيث اللغة ولا من حيث المنهجية. فبدلًا من التزام الحياد، والدقة، والاعتماد على مصادر موثقة، اتسم النص بأسلوب تعبوي مليء بالأحكام المسبقة، والمصطلحات الشعبوية، واللغة العاطفية المنفعلة.
يكثر في المقال استخدام الضمير الشخصي (أنا/نحن)، وهو ما يتعارض مع أولى القواعد التي تُدرَّس في الجامعات لطلاب العلوم الإنسانية، ناهيك عن الباحثين المتقدمين. كما يفتقر النص إلى أي توثيق أو إحالة تاريخية، ويقدّم ادعاءات كبيرة دون سند، وهو أمر غير مقبول في أي مستوى من مستويات البحث العلمي. وفي حين أن الأكاديمي الحقيقي يُظهر وضوحًا منهجيًا، فإن هذا النص يُظهر ارتباكًا بنيويًا وتداخلًا بين السرد الدعائي والخطاب الشخصي.
إن هذه الهوة بين ما يُفترض أنه نتاج بروفيسور مخضرم، خريج السوربون، وبين الواقع الركيك للمحتوى، تمثّل بحد ذاتها قرينة دامغة على زيف السردية. فالتحليل الأسلوبي يثبت أن النص لا يمكن أن يكون من إنتاج شخصية أكاديمية أمضت حياتها في البحث والتدريس، بل يُرجّح أنه كُتب على عجل من قِبل جهة غير متمرسة في البحث العلمي، لأغراض سياسية محددة.
خلاصة ودعوة
بعد تتبّع دقيق للمصادر، والتحقق من السجلات الأكاديمية، وتحليل السياق الإعلامي والتاريخي، يتضح بما لا يدع مجالًا للشك أن ما يُعرف بـ"عمر ميران" ليس إلا شخصية وهمية تم اختلاقها بعناية واستخدامها لأغراض دعائية معادية للكرد. نُسبت إليه ألقاب من قبيل "بروفيسور"، و"مؤرخ كبير"، و"خريج السوربون"، دون أن يوجد أي دليل واحد يؤيد هذه المزاعم في أي أرشيف علمي، أو سجل جامعي، أو مصدر إعلامي موثوق.
الخطير في الأمر أن هذه الشخصية الوهمية لم تُستخدم لترويج أفكار أكاديمية أو مواقف علمية، بل كانت أداة للهجوم على الكرد وتاريخهم، ووسيلة لزرع الشك والانقسام داخل البيت الكردي نفسه، من خلال الادعاء بأن "أكرادًا شرفاء" يعارضون نضال الشعب الكردي ويتهمونه بالخيانة والعمالة.
الأدهى أن بعض المنصات والموسوعات المفتوحة، مثل كوربيديا، وقعت في هذا الفخ وضمّت "عمر ميران" إلى قوائم الشخصيات الكردية، ما يعكس خللًا في التحقق والتمحيص، ويُظهر الحاجة المُلحّة إلى يقظة معرفية متقدمة لدى الباحثين والإعلاميين الكرد.
بناءً على ما سبق، يصبح من الضروري اعتماد مقاربة نقدية عند التعامل مع الشخصيات والمقولات المنسوبة إلى باحثين مجهولين أو غير موثّقين. يتطلب ذلك فحصًا دقيقًا لمصادر المعلومات، والسؤال عن السيرة الأكاديمية، والأثر البحثي، والحضور المؤسسي لأي اسم يُقدَّم كمرجعية تاريخية أو فكرية. فحماية السردية الكردية من التلاعب والتزوير لا تتحقق بالشعارات، بل بالتحقيق، والتحقق، والمراجعة الجماعية الدقيقة.
#بولات_جان (هاشتاغ)
Polat_Jan#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟