أزاد خليل
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 14:01
المحور:
الادب والفن
الساعة الثانية فجرًا، هنا في أقصى شمال الأرض، حيث أقيم بعيدًا عن دياري. ظلام دامس يلفني، لا ضوء يخترقه، لا ضجيج يعكره، لا أحد يشاركني سكون الليل سوى نبض قلبي. أفكاري تتلاطم كموج محيط هائج، تحملني بين ذكريات الوطن البعيد وغربة الحاضر القارس. هنا، في هذا العالم المتجمد، أعيش كغريب بين وجوه شاحبة تنظر إلي بعيون تقول: "أنت لا تشبهنا".
أعيش وحدي. أقتسم طعامي مع ظلي، وأصغي إلى همس هاتفي وسط صمتٍ عقيم لا يمطر سوى الأسئلة. أخبار العالم تصلني كسيول لا تتوقف: موتٌ وقتل، حربٌ وحصار، سلامٌ يتلاشى وحزنٌ يتكاثر. في هذا العالم، لا يربح سوى الأشرار، وأنا، ذلك المنفيُ الذي هاجر من أرضه، أرقب من بعيد، أحمل في قلبي وطنًا لم يعد ملكي إلا في الذاكرة.
لكنني لست وحيدًا تمامًا. كل صباح، تزورني الطيور. أشاركها فتات الخبز، أحادثها بعينيّ، وأرى فيها أملًا خافتًا يقاوم قسوة الغربة. في داخلي، عالمٌ ينبض بالحياة، عالمٌ من الذكريات والأحلام التي لم تمت رغم رحى الزمن التي تطحن بلا هوادة. أتساءل: لمَ الوحدة؟ ثم أبتسم لقدري. أليست الوحدة معركة صامتة يكتشف فيها المرء ذاته؟ أليست هي القدر الذي صيغ لي، أنا الذي أحمل هوية شعبٍ عاش الشتات والمقاومة؟
الوحدة ليست ترفًا، بل صراعٌ يومي. إنها رحى تدور في عقلي، تطحن ماضيًا ماتت فيه أحلام الشباب، وحاضرًا ينزف هزائم المنفى، ومستقبلًا أترقبه بحذر وخوف. أنحني أحيانًا، أنكسر أحيانًا أخرى، وأصرخ كشجرة سنديان تقاوم عاصفة الشتاء. لكنني لا أستسلم. كصخرة صماء، تتحطم على جبهتي أمواج اليأس العنيدة. أختنق، أبكي، ثم أبتسم وأهمس لنفسي: "القادم أجمل، ما دام القلب ينبض".
كباحث يغوص في عالم السياسة ، أعرف أن العالم لا يرحم. الحروب التي شهدتها أرضنا، الظلم الذي عاشه شعبنا، والشتات الذي نعيشه، كلها دروس في الصمود. لكن هنا، في أقصى شمال الأرض، أواجه معركة أخرى: معركة الذات. لا أعرف فن الهروب، ولا أريد أن أتعلمه. أقف شامخًا كالسنديان، لا أنحني، حتى لو واجهت العالم وحدي. إرادتي تعرف الخوف، لكنها تتجاوزه. إنها إرادة شعبٍ عاش المقاومة، وإرادة كاتبٍ يرفض أن يسكت قلمه.
في حضرة هذا الصمت المهيب، أكتب لأحيى، أكتب لأقاوم، أكتب لأثبت أنني هنا، حيٌ، نابضٌ بالحياة. الوحدة ليست نهاية، بل بداية. إنها المساحة التي أجد فيها ذاتي، وأجد فيها صوت شعبي الذي لا يزال ينبض في قلبي، حتى في أقصى شمال الأرض.
#أزاد_خليل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟