فارس خاشو
الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 00:43
المحور:
الادب والفن
يتمدّد ألبوم أصالة نصري الجديد، ”ضريبة البُعد،“ على وساعة صوتيّة تعادل ديوانين ودرجة،(1) إذا ما احتسبنا التآلفات المُضمَنة في بطانة الكورس الذي تُؤدّيه أصالة ذاتها. لا يأخذ الألبوم تجربة أصالة لآفاق جديدة، لكنّه يؤكّد، مرّةً أخرى، تمسّك أصالة بمكانة متقدّمة لا ينازعها فيها كثيرون من حيث الجهد الغنائيّ والجودة التنفيذيَّة.
في الأغنية التي تحمل اسم الألبوم، كلمات أحمد عيسى تأليف مدين توزيع أمين نبيل، نسمع عاميّة مصريّة سلسة، تلمس ثيمات نفسيّة: الإنهاك، والفقد، وتآكل الذات. يبدأ النص بمشهد اعتيادي: ”صحيت م النوم“ لكن ما من شيء عادي حين تبدأ فكّ الارتباطات السامّة. لا القهوة تنفع، لا السيجارة، ولا الوقت نفسه. ينبسط اللَّحن على امتداد أوكتاف ورابعة تقريبًا. بنبرة منهكة، تؤدّي أصالة قفزة أوكتافيّة من القرار لا الثَّالثة (A3) في ”عندي حياة“ إلى لا الرابعة (A4) في ”عملت القهوة ورمتها،“ بنبرة يتصاعد فيها التوتّر ويهجم القلق. لا يمكن تجاهل التحوّل الدّرامي في الأداء؛ الجملة الموسيقيّة تقذفك من حياد السّمع إلى قلب التّعب. في الدقيقة 1:17–1:18، ينفلت صوت أصالة من عقال مداه الرّنان في إحدى تكرارات ”تعبت بجد“ إلى جواب الري (D5) بحدة يزيدها وجود حرف العين الآتي من أقصى الحلق وتصويته بحاجة لاحتكاك غير انسيابي، ومع بعض الشَّد المرادف لأداء أصالة في الجوابات نجد أنفسنا أمام حدَّة جارحة، جميلة، بالنسبة لي لا لكنها مُعبِّرة جدًا عن التّعب الّذي يحكي عنه الكلام. هنا، نلاحظ تدخّل المكسجة والمسترة بخفض مستوى الصوت (Volume) تحديدًا عند هذه القفلة. ماذا عن أداء هذه القفزة على المسرح؟ لا بدّ من حيلة: إمّا تقنيّات جديدة، أو جهوزية عالى على صعيد الهندسة الصوتية، أو الابتعاد المحسوب عن المايكروفون، أو… التّخلِّي عنها.
في كورس ”ضريبة البعد،“ تتكرّر إحدى ذروات الأداء، حيث تؤدّى درجتا لا وسي الرابعة بصوت صراخ تحديدًا في ”فراق بذل وعقلي اتشل." الصراخ هنا مُعبِّر؟ نعم، لكن موضعة الصوت وتدوير أصوات العلِّة تميل صوب البلعوم، أو إلى التجويف الأنفيّ، ما يُحدث طنينًا خشنا. وبما أن أصالة تصل إلى المنطقة ذاتها بسلاسة أكبر في ”سجارتي في نصها طفيتها،“ فيمكن المُحاججة أن التّصويت الحاد في ”فراق بِذل...“ مقصود.
نبلغ في أنا هنساك، (كلمات أحمد المالكي، لحن محمّد عبد المجيد، توزيع هشام البنَّا، تسجيل صوتي م. علي الأمير، دوزنة صوتيَّة فادي إبراهيم)، ذروة التّطلُّب الأدائي في الألبوم من حيث المساحة الصوتيّة، إذ تمتد الجمل المغنّاة على أوكتافين كاملين. لكن اللافت ليس هذا الاتّساع بحدّ ذاته، بل طريقة تسخيره دراميًّا عبر التّوزيع الذكي والتّبطين التآلفي (الليرنغ) لجزء من المدى غير الرَّنان من صوت أصالة بمقاربة تمنح الجملة امتدادًا وزخمًا، دون أن نشعر أنَّ الصوت يهجم علينا بحدّته على آخِرها.
نص ”أنا هنساك" أحد أكثر نصوص الألبوم تماسكًا ونفاذًا. في لحظة، تقول الشّخصيَّة: ”أنا هنساك.. وأما هافتكرك مش هافتكرك غير بأذاك.“ هنا لا تتهرّب الذاكرة، بل تتواطأ مع الجرح ليصبح حارسًا. هذا الانقلاب في آليّات الدفاع النفسيّ ليس شائعًا: بدلًا من تشويه الذكرى أو دفنها أو انتقاءها، تبقيها المتكلّمة على قيد الحياة، مثل جرحٍ لم يُطبّ، لا جلدًا للذات، بل حمايةً لها. في خلفيّة المشهدية الصّوتية، ينساب دودوك أرمني بزفرته الخشبيّة، كأنّ الدائرة الوجوديّة لهذه الشّخصيَّة الّتي تدفع ضريبة القرب/البعد تتنهّد من أطرافها كلّها. ثم يأتي الكلارينيت، يربّت على التعب لكن لا يخفّف توتر مشهديَّة صوت.
في ”المال السايب،“ (كلمات: عليم، ألحان: إسلام رفعت، توزيع: يوسف حسين)، تُغنّي أصالة البيّاتي، مُسنِدةً صوتها إلى توزيع شرقيّ ترقِّصه الطّبلة مع خيوط لحنية/توزيعيَّة يعزفها القانون، والناي، والجيتارات، والوتريات، في صياغة تُعيدنا إلى بنية الأغنية الشعبيّة التحذيريّة، التي لا تُؤدّى فحسب، بل تُقال وتُتَناقل. يُفتتح النصّ كما تُفتتح الحِكم المعلّقة على جدران دكاكين الحواري أو مؤخرة توكتوك أو مواصلة عامَّة، ”لاتصلّح مرّة العايب.. ولا تبقوا فمرّه نسايب.“ لكنّه لا يقف عند العتبة الشعبيّة، بل ينطلق منها إلى وعظٍ يُقال من حِدانا، من عِشرة، ومن فطرة جمعيّة. لا يتكلّف النّص بيانًا، بل يجاملك، يحدّثك كما المصري يُداري الحكمة بالنكتة.
في جملة مثل ”لو تحت البيت منّه اتهرّب،“ سخرية ظريفة تمنح الأغنية لياقتها الشعبيّة. وأصالة تؤدّيها بصوت باسم ساخر، يرقص دون أن يسقط في التهريج. ومن أجمل ما في الأغنية تعامل أصالة مع أبعاد البيّاتي. ترسم ثلاثة الأرباع حسب التقليد المصري، تُنزلها عن الركوز "المثاليّ حسابيًّا“ بمقدار محسوب ع الحِلّ، بنكهة مصريّة لا غبار عليها: فيها طراوة، وفيها حِرفة. يُذكَر أن عفق أصالة لهذه الدرجة في معظم أدائها المُشرَّق يأتي مصريّ الرسم—حتى حين تغنّي لبنانيًّا أو شاميًّا.
بالعود إلى أوّل ما صدر من ألبوم ضريبة البُعد، تبرز أغنية كلام فارغ (كلمات: مِنّة القيعي، ألحان: تامر عاشور، توزيع: فهد) مثالًا على ما بات يُحسب دومًا لأصالة: المحافظة على مستوى جودة لا تهبط عنه. فالمتوقّع منها كثيرًا ما يكون أفضل من الممتاز عند كثيرين سواها.
تنفيذ العمل متقَن، كأصوات وتوزيع. خطوط التوزيع حملت اللحن برشاقة، خصوصًا الكولة، بصوتها الحادّ، الشعبيّ في استحضاراته، الذي يكاد يُغريك بموال يبقى معلقًا في حنجرة أصالة.
جماليات صوت أصالة في ”كلام فارغ“ حاضرة: فالأداء في القرار والوسط متين، وأصالة تبرع في رسم الكورد وتعشيقه بالحجاز. لكن في الجواب، يغيب المبرّر الدلالي للتصعيد المفاجئ في ”طموحي،“ ما يجعل الصوت حادًا على نحو لا حاجة له، تداركته أصالة في أدائها المباشر الأوَّل للقطعة. يُذكر أنَّ المساحة الغنائية ليست ضيّقة: تمتدّ على نحو ديوان ونصف. من جماليات الأداء حضور ”نفس“ أصالة في غير موضع، لكن يلحظ اختفاؤه في مطالع الجوابات، وكأن التسجيل استُؤنف بعد انقطاع، لا بتدفق واحد. خذ مثلاً النقلة من ”أنا كنت ليك مكسب“ إلى ”واديك ضيّعته،“ تشعر بانفصال في الأداء، والعبارة الأخيرة تنطق وكأنها تُرمى على عجل. كذلك في ”خطوتي فدّان،"على رغم رشاقة التشبيه، نجد الأداء يصلها بنبرة باهتة.
ملاحظة عامَّة على الصّوت: تُلحَظ في بعض المواضع خزّة أو غلظة غير صحيّة، بطابع يشي بأن منشأها عدم التحام وتري الصوت تمامًا. يسمح هذا الخلل بمرور هواء يخلق هسّة أقرب إلى تلك الّتي يخلّفها التّدخين، لا الحزن. فخزّة الحزن تُحدِث انزلاق شرخي. لذا، نرجو من أصالة الاعتناء بصوتها أكثر. سيجارتها، مجازًا وماديًّا، تستحق أن تُطفَأ من أوّلها لا من نصفها. فصوتها ليس أداتها فحسب، بل جزءٌ من ذاكرة العرب وقلوبهم.
من زاوية أخرى، يبخل الألبوم علينا بأغنية شاميّة أو لبنانيّة جديدة تُعيد ربط الصوت بجذوره. غيابٌ تكرّر حتى في الإعلان الترويجيّ، إذ وُضِعَ علم سورية بين مجموعة أعلام عربيّة شقيقة أخرى كما لم يكن البلد الأم لهذا الصوت، فيما تصدّر الإعِلان علَمَي السعودية ومِصر، رغم أن موعد الإصدار في سوريَّة ومِصر والسّعوديَّة كان بتمام السّاعة ذاتها!
على صعيد المقولة العامة، يتّخذ الألبوم منحًى ثنائيًّا: استعادةٌ للذّات الأنثويّة من جهة، وشيطنةٌ للآخر الذكوري من جهة. الرجل هو ”الجبان،“ ”الخائن،“ ”الأناني،" ”المتخاذل،“ ”اللي مش داري،“ ”المفلّس في الأخلاق.“ ”بينما الأنثى هي ”المخلصة،“ ”النور،" ”الذكيّة،“ ”اللي بتيجي مرّة بالعمر.“ بهذا، يبدو الألبوم نتاج ضريبتَي البُعد والقرب من. . الرَّجل! ما يجعل طرحه أسير الأنماط، على أمل أن يتذكَّر المستمع أن ما يُغنَّى من حالات لا يساوي التَّغنِّي بها.
في الختام، أُكرّر أصالة تحترم من يسمعها، وتُجيد ما تقدّم. لكن ضريبة الصّوت العظيم أن نطمع بالأكثر، ونطمح بالأعمق ولو بالبساطة. وعلى أيّ حال، لا نُكران أنَّ الألبوم منحنا زوّادة موسيقيّة تُؤنس الوقت، وتستحق الإصغاء.
________________________________
(1) من قرار الدّو (C3) في أحد خطوط البطانة التآلفيَّة للكورس في ”أنا هنساك،“ (كلمات: أحمد المالكي، لحن: محمّد عبد المجيد، توزيع: هشام البنَّا)، إلى جواب جواب الرِّي (D5) في ”ضريبة البعد،“ (كلمات: أحمد عيسى، تأليف: مدين، توزيع: أمين نبيل)، وكِلا الطَّرفين خارج المدى الرَّنان (Tessitura) الرّاهن للفنّانة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟