فارس خاشو
الحوار المتمدن-العدد: 8395 - 2025 / 7 / 6 - 21:02
المحور:
الادب والفن
في ألبومه الأخير ”ابتدينا،“ يفتح عمرو دياب نافذةً على عالمٍ موسيقيٍّ لا يُقارب بالمعايير المعتادة: لا ذروة درامية، ولا قمم لحنية شاهقة، بل مساحة إبداعيَّة تشغلها الهُجنة الأسلوبيَّة والاقتصاد الطبقي في الغناء. يغلب على الألبوم مقام الكُورد، يليه النهاوند، بحضور خاطف للبياتي والعجم وشيء من حِجاز. في معظم القطع، تتراوح مساحة اللحن المُغنَّى بحدود أوكتاف، بيد أنّ ذلك لا يقيِّد الأداء بقدر ما يُركّز الكيفيَّة والنّوعيَّة. فالصوت، في هذه المساحة، يرن كجرسٍ ومُعبِّر في الأعم الأغلب؛ عمرو من الفنانين الّذين يحرصون جدًا على تسجيلات صوتهم.
أغنية ”إشارات“ (كلمات: أيمن بهجت قمر؛ ألحان: محمد يحيى؛ توزيع: أسامة الهندي) لا تُصنَّف بسهولة: بها مفاصل صمت مشحونة بنبض داونبيت ونَفَس تأمّلي إلكتروني، واستدعاء شبه صوفيّ. كلمات الأغنية تنطوي على طبقات من المعنى: من ”الإشارة“ كأداة للتلقّي، إلى ”الحدس القلبي،“ فـ”شبكة العشق.“ إدخال آلة السيتار الهنديّة يخلق خلفيّة حسّية تلعب على وتر الغموض والجذب.
تنفيذ الأغنية يُذكّرنا بتجريبيَّة Keinemusik Collective، وتحمل نَفَس مدارس برلين تكنو والموسيقى الأفروإلكترونية. يبدأ عمرو بالغناء من الفا فالصول الرّابعة وهي ذروة الأغنية طبقيًا. هناك حلية طويلة، رشيقة، وسريعة في إحدى إعدادات مفردة “إشارات" من الري الرّابعة نزولًا للصول# الثالثة. وفي هذه الأغنيَّة أقصى ذُرى التّجريبيَّة في الألبوم.
أغنية ”خطفوني“ (كلمات: تامر حسين؛ ألحان: عمرو مصطفى؛ توزيع: أسامة الهندي) تبدأ بجملة غنائية لابنة عمرو دياب، جانا، في كسرٍ نادر للسردية الذكورية. على ذمَّة العمراويَّة، لم يفتتح دياب يومًا ألبومًا بصوت غيره، لكن هنا يبتعد لصوت ابنته. في ذلك رسالة مُخلخِلة للأبوية، ولو بصورة غير مباشرة. خطفوني تدور على شكل call and response غير تقليدي، كـ”حالة“ وجدانية تتالى فيها الأصوات بتوقيت غير منتظم. أرجّح أن النّص كُتِب على اللّحن/الإيقاع، مما تسبّب في بعض الكلام غير المفهوم، نحو ”قبل لُقانا ما يجي بكام سنة...،“ وفي ذلك ظلم لموهبة الشاعر/الكاتب الغنائي؛ لكنه ارتضاه لنفسه.
رغم أن اللّحن راقص على مقام الكُورد، بتوزيع مقسوم يوناني سريع، لكن به متطلّبات أدائية صعبة. مثلًا، في ”دانا ياما ياما كان،“ يبدأ من جواب الصّول الرّابعة (G4) برنَّة نظيفة. في "كل ده كان زمان،“ يرقص الصوت بحلية شبه موردنت بين السي الثالثة والدو الرابعة B3-C4))، ليقفز بعدها إلى الصّول الرابعة (G4). يكرّر الشيء ذاته في ”ولا دول ولا دول،“ ويُكرّر الحلية في ”على طول،“ لكن لا يقفز إلى الصّول الرابعة. وفي ذلك كسر تقليد قديم؛ إذ ألفنا نحن المشارقة أن تكون الزيَّادة في مبنى اللّحن في التّكرار الثَّاني. أيضًا في ”بعدين،“ نستمتع بصعود انزلاقي من اللّا الثالثة إلى المي الرابعة (A3-E4)، يُجسِّد التوتر العاطفي المُحبَّب تمامًا كحلاوة تآلف المي واللا. يُشار إلى أنَّ مساحة اللّحن نحو ديوان، والجزء الذي يغنيه عمرو أقل بدرجة، تُكملها ابنته في دخولها الأخير.
في ”يا خبر أبيض،“ (كلمات: أيمن بهجت قمر؛ ألحان: محمد يحيى؛ توزيع: عادل حقي)، على مقام النهاوند، يشدو دياب قفزة أوكتافية (ثمانٍ كبيرة) من الصّول الثالثة إلى الصّول الرابعة، تتكرّر عدّة مرّات: مرّة في الوثبة من قفلة ”مديون لك أنا بيها“ إلى ”يا خبر أبيض،“ وأخرى من قفلة ”ولآخر الدنيا،“ إلى العنوان نفسه. تمتد مساحة اللّحن المُغنَّى بين الصول والصول، أي ديوان. الكلمات بسيطة، بتعبيرات مألوفة في الحياة اليومية، تُوظَّف فيها عبارة ”يا خبر أبيض“ التي تحمل طابعًا شعبيًا شائعًا، لكنّها تفتقر إلى العمق اللازم لتحفّز السامع على تأمّل ما تستحضره من اليومي، بدلًا من الوقوف أمامها كقفشةٍ لفظيّة أو تعليقات عابرة؛ مع الإشارة أن هذا الجزء من النقد ذاتي قد لا يتفق معه البعض.
في ”ما تقلقش،“ (كلمات وألحان: عزيز الشافعي؛ توزيع: أحمد إبراهيم)، على الكُورد، يوحي هدوء النّبرة واللّحن بأنّنا على موعد مع قرارات أعمق في الصوت، غير أنّ المساحة الفعلية لا تتجاوز المنطقة الوسطى من المدى الصوتي لعمر. اللّحن سلس وجميل، لكن كلام الأغنيَّة يعيد تأطير مشاعر الأنثى ضمن منظومة عاطفية تراتبية، تُمنَح فيها البطولة العاطفية للرجل، بينما تُرسم صورة المرأة ككائن ينتظر ويطلب، فيتكفّل الرجل حينها بكل شيء: القلق، والرعاية، والتضحية، بل وحتى التمويه على التفاوت العاطفي بينهما. وبدل أن تسائل الأغنية هذا النموذج، تُضيء عليه لكن، آمُل أنَّ الإضاءة على حالة وغناؤها ليس رديفًا للتغنّي بها.
”بابا،“ (كلمات: ملاك عادل؛ ألحان: محمد يحيى؛ توزيع: عادل حقي)، لحن جميل، على الكُورد. تكراره ومحدودية مساحة جملته اللحنية المُغنّاة—التي لا تقل عن أوكتاف—قد يخدمان طموح العمل الفلوكلوري. يعتمد الأداء على بنية دائرية. واستخدام عبارة "آهي آهي،“ كتكرار صوتيّ مُقفّى يُحاكي التأوّه الشرقي، وهو عنصر مألوف في الغناء الشعبي، يُستحضر فيه البُعد العاطفي بالصوت أكثر من المفردات المعجميَّة.
في ”حبيبتي ملاك،“ (كلمات: أمير طعيمة؛ ألحان: عمرو دياب وأحمد إبراهيم؛ توزيع: أحمد إبراهيم)، يُقدّم عمرو أداءً ممتازًا على مقام النهاوند. في التّبطين التآلفي/الليرينغ الخاص بالكورس ما قبل النهائي (هيَّ هيَّ هيَّ) بين الدقيقة 3:30 و3:46، يُمكن سماع طيف رنيني يصل إلى اللّا الرَّابعة بوضوح، وخط آخر يمتد إلى المي الخامسة، غير أن تصويت هذا الخط غير واضح؛ فإمّا أن يكون دياب قد أدّاه باستخدام الفلستو، أو جرى الاستعانة بصوتٍ آخر لتعزيز زخم خطوط الكورس. وإن صح الاحتمال الأوَّل، فإنّ هذه القطعة ترفع من مساحة اللحن المُغنّى في الألبوم إلى أوكتافين إلّا درجة، وهي مساحة رحبة، لكن يبقى الحسم لارتجال يُثبت ذلك على المسرح.
على صعيد النصّ، إن كانت ”حبيبتي ملاك“ موجّهة للمعشوقة، فهي تُجسّد حاجة الرجل إلى مشروع عاطفي يُشبه الفردوس: المرأة فيه نور الرجل حارسها. وبالتّالي فهي أيضًا تُعيد إنتاج مفاهيم تقليدية عن النوع: المرأة كائن مُلهِم لا ذات له، والرجل الحارس الحالم الّذي يساعده هذا النور على استشكاف ظِلاله! ويحتمل النّص أن يكون أعم مثل أن يوجّه للأم، أو البنت، أو الأخت، أو الصديقة.
”هلونهم،“ (كلمات: أيمن بهجت قمر؛ ألحان: وليد سعد؛ توزيع: أحمد إبراهيم)، أيضًا على مقام الكُورد، ومساحتها اللحنيّة لا تتجاوز أوكتافًا. لا تُقدّم حبًّا ولا فَقْدًا، بل تتخيَّل الجُرح كوثيقة ملوّنة في دفتر الحياة. بمنطق: ”لن أنسى. . لكن سأتعلم وأتسامى.“ الإيقاع النوبي بديع، وتفاعل عمرو دياب معه من خلال الرقص بالصوت حرفنة، عبر الاتكاء الإيقاعي على الحروف والمراوحة في المدود. غير أنّ النصّ، على جماله الإيقاعي، يحمل طفوليّة أو مراهقة محبّبة، وزاد سير اللّحن من غوصه في هذا الاتجاه.
تأتي ”يا بَخته،“ (كلمات: منة القيعي؛ ألحان: عزيز الشافعي؛ توزيع: توما)، على مقام النهاوند، بحدود ديوان. أغنية جميلة تحتفي بالذات بخفّة ظل، ولحنها جيد جدًا. لكن توزيعها، للأسف، لا يُحاكي هذا الجمال.
”ابتدينا،“ (كلمات: تامر حسين؛ ألحان: عمرو مصطفى؛ توزيع: عادل حقي)، أيضًا على الكُورد، بهندامٍ هجين بين اللاتينيٍّ والفلامنغو، تُلبَس فيه الجُمل اللحنيّة بكلماتٍ قشرية غالبًا استُكتِبت للحن. ليست أغنية عن الحب، بل للحب: تمجيدٌ بسيط، هتاف للحبيب. أداء عمرو هنا هو ما يمنح الأغنية ديناميَّتها إلى جانب اللحن. في الدقيقة 1 من هذه الأغنية، نسمع تآلفًا كورسيًّا في الخلفيَّة بطيفٍ رنينيّ يصل إلى جواب الدو، الدو الخامسة، برنين ممزوج وإن كانت الرنّة تعود لصوت عمرو دياب، فهذا إنجازٌ جديد على صعيد المساحة الصوتيَّة، لا في البروز، بل في كيفيّة التوظيف: إذ يستخدم هذه الجوابات لتعزيز زخم الكورَس دون تصدير أدائه لهذه الأعالي، فلا تجرح حدّتها أسماعنا ولا تهجم من الخلفيّة التآلفية على سمعنا بوقع تثير الحفيظة المشرقيَّة من الفلستو، لا سيَّما بصوت رجل. كأغنية، تُركّز ”ابتدينا“ على التجربة الشعوريَّة الخالصة دون صراع، أو شكّ، أو دراما. وهذه السمة تجعلها من أغاني البهجة الجماهيريَّة في ثقافة البوب الحديثة.
”شايف قمر،“ (كلمات: محمد القياتي؛ ألحان: محمد يحيى؛ توزيع: شريف فهمي) أيضًا كوردية المقام، لحنها وكلماتها مثاليّة في رسم شخصيّة سطيحة. لا عمق، لا أزمة، فقط انبهار بصريّ يختزل المرأة في هيئةٍ تُرى وتؤكل. وهذا بدقّته أداء عمرو به شقاوة وشطارة في التعبير عن هذا النمط من الشخصيات.
”دايمًا فاكر،“ (كلمات: تامر حسين؛ ألحان: شادي حسن؛ توزيع: أحمد إبراهيم)، على النهاوند، لحن جميل، وأداء عمرو دياب بديع. وعلى المستوى الشخصيّ، أثارت الأغنية شجنًا خاصًّا؛ إذ استحضرت فيها صورة ابنتي المغتربة. غير أنّ قفزة مفردة مثل "ليالينا،" ذات الارتباط الأقوى بخطاب العاشق للمعشوقة، أعادت الأغنية إلى ثنائية الرجل-المرأة التقليدية. هذا لا يعيبها، بل يدفعنا لاقتراح خلخلة المفردات المستخدمة وما تستدعيه لتوسيع أفق من تخاطبهم الأغنية، أو على الأقل في تأويلها.
”ارجعلها،“ (كلمات: بهاء الدين محمد؛ ألحان: عمرو دياب؛ توزيع: أسامة الهندي)، على النهاوند، ليست أغنية ندم، بل مرآة لذُعر ذكوريّ من تحرّر امرأة تحاول الانفكاك من علاقة سامَّة. يحاول المتكلّم فيها استعادة السيطرة، ويؤدّي عمرو هذا الذُعر بصدقيَّة تعبيريَّة عالية، بما يذكّرنا مرَّة أخرى أنَّ الأغاني ليست بالضرورة إشادات، بل حالات تُضاء وتُغنّى، وغناؤها لا يساوي التّغنّي بها.
”ماليش بديل،“ (كلمات: تامر حسين؛ ألحان: إسلام زكي؛ توزيع: عادل حقي)، على العجم، توزيعها عجب في الجمال، أبدع فيه عادل حقيّ توزيعًا يكاد يجعلنا نعتقد أن مقام العجم خُلق لهذه الحالة تحديدًا. كمّ التفاصيل التآلفيّة، وموضعة الأصوات، والنسب توظيفها، كلّها ترفد الأغنية بنسيجٍ مذهل. كلمات تامر حسين هنا تُنصفه كشاعر غنائي، إذ تُقارب الذّاكرة كميدانٍ للانتماء والارتباط العاطفي، وتغوص في ذاتٍ خائفة من الفقد والتلاشي. ورغم أن بعض تعبيراتها قد توحي بالتملّك، إلّا أنها تفضح هشاشة يختبرها العشّاق عند عطفات الفراق.
”يِلَّا،“ (كلمات: تامر حسين؛ ألحان: عزيز الشافعي؛ توزيع: أحمد إبراهيم)، ليست على الكورد، بل على توأمه المُشرَّق: البياتي، وهو اختيار مقاميّ ذكيّ يتماشى مع ما يقتضيه النص من احتفال بالجسد، باللحظة العابرة، بالحياة وهي تُلتقط وتُرقَّص. في الظاهر، تبدو الأغنية عملًا خفيفًا، راقصًا، لكن في جوهرها تعبّر عن حاجة أعمق: التخلّص من ثقل اليوم، من صرامة الوقت، بالضوء والصوت والرقص كملاذ لا ترف. دوزنة المُسيَّك بصوت عمرو جيد جدا.
ملاحظات على الصَّوت: يستحق تركيز عمرو على مداه الرَّنان، ومنحه الرعاية الواجبة في التّسجيل الكثير من الثَّناء، لكن أيضًا بالنَّهاية، صوت الفنّان هو آلته/آيته الأولى مهما حلَّق بالتّجريب الموسيقي المؤلَّل؛ لذا نأمل أن نسمع هذا التَّجريب أيضًا على صعيد الصّوت واستكشاف مختلف تضاريسه، خاصَّة أن الألبوم الحالي يكاد يكون خاليًا من القرارات الفعليَّة لا النّسبيَّة؛ وهي ظاهرة ليست حديثة؛ بل نجد أثرها في كُثر من نجوم البوب المصريين الرِّجال المتأثرين بتجربة عمرو دياب، حتّى أن التّركيز على الوسط والجواب خلق نوعًا من التجانس بين عدّة أصوات من نجوم رجال مصريين. ولأن عمرو قادر، نأمل أن يمنح قراره، وآلته/آيته الأولى، مساحة أكبر من التّجريب. إلى ذلك، صادف البارحة حفل عمرو في مراسي، وسمعت مقطعًا من "ما ليش بديل"؛ أداء جواب الصّول لم يكن بالسّلاسة المُسجّلة، بتالي قد تكون خارج المدى الرَّنان لصوته في المرحلة الرَّاهنة، وفي ذلك داعٍ آخر لمنح القرار فرصة أكبر بالتّجريب.
بالمُحصّلة، في ”ابتدينا“ حلقة من مشروع تجريبيّ وتثبيت ناجح للحضور في الطليعة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟