|
سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
محمد وردي
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 16:02
المحور:
قضايا ثقافية
كما هو شأن الحكماء الإنسانيين أو فلاسفة الأخلاق الكبار، الذين لا يأفل نجمهم أو يغيبون في مطاوي التاريخ، من حيث حضورهم كضرورة لازمة دائماً وأبداً في الوعي العقلاني والضمير الإنساني، وبخاصة عندما تشتد الخطوب وتدْلهم الآفاق، وتبدو البشرية وكأنها تتدافع خفافا وسراعا إلى الهاوية، فتستنجد بحكمتهم وتلوذ إلى حماهم الرحماني، ليس لأنهم يتجاوزون بنظراتهم أو تصوراتهم الفكرية وأشكلاتهم الفلسفية حدود الثقافات الضيقة إلى المدى الإنساني الأرحب فحسب، وإنما لأنهم أيضاً يصبحون أقرب إلى كونهم مرجعيات للحقيقة، فيشكّلون ملاذات آمنة، وسُبُل نجاة للخلاص من المهالك المحدقة، التي ليست أقلها نزعات العنف والاحتراب المهلكة للحرث والنسل، التي باتت تلف على مختلف المجتعات الكونية، وكأنها دورات فصلية طبيعية من لوازم التوازن الوجودي.. ولا الأخطار البيئية التي تهدد النظام الإيكولوجي للأرض؛ بسبب الطمع والجشع، بل التغول على الطبيعة فحسب، وإنما لأن الحياة على الأرض باتت مهددة بالفناء الكلي، بسبب أسلحة الدمار الشامل، وما ملكت يد الإنسان من معارف وتقنيات، جعلت نفسه أسيرة القوة الغاشمة، والصلف، والغطرسة، والعجرفة، والغرور الأعمى، بدل أن تكون المعرفة أماناً للنفس، وطاقة للخير والنماء وكل أسباب الحبور والسرور الذي يتوق إليه الإنسان بالفطرة السوية.. هكذا هو حال العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، فهو مشغول؛ بل مهجوس بحال الإنسان ومآلاته الوجودية القلقة في هذا الزمان الصعب. ويتجلى ذلك بوضوح في خطابه من خلال "سردية السلم"، تتأسس على معيارية لازمة، تكاد تكون شرطية جازمة؛ بمعنى أنها تنتظم في محمولات الخطاب؛ كوشائج مفهومية ودلالية، تشد بعضها إلى بعض؛ بترابط رحماني أصيل، يمتح معينه من روح الإسلام الصافي، الذي تكوَّن في الخطاب على مدى جهود نصف قرن ونيف من البناء الفِقهي المقاصدي. تنبني هذه المعيارية الرحمانية (إذا صح التعبير) على ما يمكن أن نسميه "حوار الثقافات"، من أجل تدبير الاختلاف؛ بغرض التقريب ما بين المعتقدات على اختلاف الرؤى وتباين التصورات الفلسفية، والتوافق على إعادة بناء إنسية الإنسان، وتنظيفها مما علِق بها من زيف أو بهتان، أو شك وقلق واغتراب أو توهان. وذلك من خلال تجديد المشتركات الأخلاقية الكونية، وإعادة بعثها في النواميس الإنسانية؛ حتى تتاح للمجتمعات البشرية فرصة تفعيلها من جديد؛ بما يتلاءم مع الواقع الحضاري المعاصر، من حيث التواؤم مع حاجات الإنسان المادية والمعنوية؛ من دون تناقض مع ذاته الإنسانية، وما يمكن أن يكون عليه المرء في مقصود الخير وبناء الحياة الطيبة، التي باتت تحول دونها في الغالب الأعم، سيرورات الحداثة الراهنة، وبخاصة لجهة هيمنة الآداتية أو طغيان العقلانية العلمية، التي أزاحت العقلانية الأخلاقية جانباً، وراحت تدفع بقوة إلى التشيؤ والفردانية والعدمية العبثية، حسب اعتقاد العديد من فلاسفة الأخلاق، الذين يعتبرون أن العلموية وسيطرة الآلة وفلسفة السوق، وميكانيزمات الإدارة والإنتاج والتوزيع، أفرغت الإنسان من الداخل، حيث "سادت القيم المادية، وغدا الإنسان كائناً جسديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، لا ينظر في المآلات؛ إلا مآلات الربح من دون روح، والثروة من دون رائحة"؛ كما يقول الشيخ المجدد عبدالله بن بيه. ينطوي "حوار الثقافات" في خطاب الشيخ المجدد على مقاربة منهجية متكاملة، قائمة على ما سميناه غير مرة، "مبدأ وصل ما انقطع بين الأرض والسماء، أو بين الله والإنسان". وذلك من خلال إعادة حضور الدين والأخلاق أو المُثل العليا في جوهر الحداثة الراهنة، التي أسطرت العقل، أي جعلت منه أسطورة، حسبما عُرف وشاع في الأدبيات السياسية الغربية، تحت مسمى "إزاحة الوعي الأسطوري"، أو ما سماه ماكس فيبر "نزع الطابع السحري عن العالم". ومبدأ الوصل في منهجية حوار الثقافات هنا، لا يتقصد إزاحة "أسطورة العقل" التي أخذت مكان "أسطورة النقل"؛ بتعبير هايدغر، أو تتغَيّا تغييب العقل في الوعي الحداثي؛ بقدر ما يريد مشاركة النقل والعقل في أسطورة الوعي الحداثي؛ باعتبار أنه "لا يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح، وإلا قُدِّمَ العقل الصريح الصحيح، وحُمِل النقل على التأويل أو عدم الثبوت"، حسب التأويلية الفقهية الجديدة التي يتمايز فيها خطاب الحكيم الشيخ عبدالله بن بيه عن غيره من الفقهاء المعاصرين. ولذلك يمكن أن نلاحظ أن حوار الثقافات في "سردية السلم"، يتمحور حول إمكانية التوسيط بين "الثنائيات المتقابلة"، التي باتت في الحداثة الراهنة، وكأنها أشبه بالقيم اليقينية، أي على غرار الثنائيات في فلسفة الأخلاق (الخير والشر، الخطأ والصواب، الحسن والقبيح.. الخ)، ولكنها في الواقع ليست كذلك أبداً، وإنما اكتسبت صفتها العقلانية الزائفة من الأداتية التي راحت تأخذ دور الإنسان، ومن نمط إدارة الإنتاج، الذي سلب الإنسان حريته؛ بحيث بات أسير الحاجات بالضرورة، التي راحت تتوسع وتتعاظم بقدر تعاظم أدوات إدارة الإنتاج التي تستجيب لهذه الحاجات بالضرورة الربحية. ولذلك التوسيط في "حوار الثقافات" كما بنص الخطاب، يقتضي ضرورة الموازنة بين ما يسمى "حقوق الأغلبية" و"حقوق الأقلية" في القيم الديمقراطية، التي يُفترض أن لا تطغى حقوق الأولى على الثانية؛ باعتبار أن "المساواة في الكرامة لا تعني محو الفوارق، بل تعني تحويلها إلى طاقة إبداع وإثراء، بدل أن تكون مدخلاً للتوتر أو الهيمنة. وحين تتحول الكرامة إلى مرجعية جامعة في الحقوق، يُصبح بإمكان الدولة أن تصوغ سياسات عمومية عادلة، لا تخضع لموازنات الأغلبية والأقلية، بل تنبني على مبدأ المواطنة الأخلاقية، حيث لا يُقاس الفرد بانتمائه، بل بإنسانيته، ولا يُقاس ولاؤه بالإخضاع، بل بالاحترام"، كما بنص الخطاب. وكذلك الأمر على مستوى ضرورة الموازنة بين "الخصوصيات الثقافية" و"الثقافة الكونية"، أو ما تريده الحداثة أن يكون كونياً بالقوة تحت مزاعم الحريات وحقوق الإنسان. والأمر لا يختلف عنه، على مستوى ضرورة التوسيط" في فلسفة التشريع والقانون، أي بين "الحرية المطلقة"، و"الحرية والمسؤولية"؛ بمقتضى الضمير الأخلاقي. فمثلاً: الإساءة للمعتقدات لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال، بتُكأة وهمية كاذبة على حق حرية التعبير!. والأمر عينه، فما يمكن أن تقبله ثقافة ما، ربما لا ترضاه ثقافة أخرى، وقد يكون غير مقبول في ثقافة ثالثة، ومحرّم في ثقافة رابعة.. وهلمّ دواليك. ولذلك من صواب العقل ومعقول المنطق أن يجري التنسيب أو التناسب، في سياق مراعاة الخصوصيات الثقافية و"الثقافة العالمية، أو الكونية"، والحريات في فلسفة الحقوق والتشريع والقانون، وإعادة النظر في مقاربات مفهوم حرية التعبير في سياق الحريات للجميع. وهذا هو بالدقة والتحديد ما يتقصده حوار الثقافات في "سردية السلم" في خطاب الشيخ عبدالله بن بيه، المبني في الأساس والجوهر على "الكتاب والسنة". وذلك من خلال "فلسفة التوسيط" على صعوباتها؛ لأنها تروم هوى النفس كما يُقال؛ إذ "لا شيء أشدّ على النفس من متابعة الشرع، وهو التوسط في الأمور كلها، فهي أبداً متفلتة إلى أحد الطرفين لوجود هَواها فيه"، كما يقول العالم الصوفي ابن عباد النّفزي. فكيف يكون الحال إذا ما جمعنا هوى النفس مع المعتقدات والقناعات والتحيزات الأيديولوجية والخصوصيات الثقافية.. إلخ؟ هذا هو ما يجعل "حوار الثقافات" الأساس في "سردية السلم" كما يؤطرها شيخ الإنسانيين الحكيم العلامة عبدالله بن بيه؛ كضرورة حاقة من أجل التواصل بين خلاصات الوعي الإنساني في مختلف حقول المعرفة البشرية، الدينية أو الوضعية؛ بما تمثله من قيمة مضافة إلى روح أو جوهر "الإنسية" في عملية بناء الإنسان التي تتقصدها الحكمة والشريعة، وبين الثقافات عموماً؛ بما تشكله كل ثقافة من "أفق ثقافي"، أي حاضنة لنسق ثقافي معين، وفي الوقت عينه حاضنة لخصوصيات معينة، قد يصعب عليها التجاوز عن قيم بعينها، وعدم قبول أخرى. وهنا يتحتم التوسيط بالحوار من خلال "منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتوازن بين الكليات، والتعايش بين الأفكار.. وبناءً على منهج الجسور الممدودة في حوار الثقافات، يمكن أن يجري تنسيب المواقف من بعض القيم، ومن بعض الأشياء، ومن بعض الأفكار، وتجسير العلاقة بين الأفكار والأشخاص (وبين المعتقدات أو الثقافات)، فبدلاً من واقع قيم تُهاجِم وقيم تقاوِم، سيكون التعاون والتعاضد والتآزر". ولا يكون ذلك إلا من خلال الاحتكام إلى قيم العقلانية الإيمانية والعلم والحوار والتسامح. ويعتقد الشيخ عبدالله بن بيه أن "أي خطوة جادة نحو "حوار الثقافات" وممارسته؛ ستنعكس إيجابياً على مختلف المجتمعات، وعلى مردود تفاعل الثقافات وتبادل العلاقات الإنسانية وأمن واستقرار البشرية جمعاء" (). وهكذا يكشف حوار الثقافات في سردية السلم، عن سمتين بارزتين: الأولى: أن نزعة السلم تشكل سردية أصيلة في فكر الشيخ المقاصدي عبدالله بن بيه، وتستقي نسغها من روح الإسلام الرحمانية، وناموس العقل، وضمير الأنسنة؛ بكل قيمها الكونية المعاصرة. الثانية: أن تدبير الاختلاف عن طريق حوار الثقافات، يمثل جوهر مشروع ابن بيه الإنسانوي، الذي يقوم على منهجية علمية راسخة؛ تجمع بين ما يمكن أن نسميها، "فلسفة الدين، وتديين الفلسفة"، أي أنه يؤصل علوم الدين ويُقَعِّدُ مقاصد الشريعة في خدمة الإنسان؛ وفق مقتضيات العصر في إطار النسق اللغوي القرآني، القائم على اليُسر والإمكان، أي بحدود المستطاع الإنساني. وأنه يصالح بين الحكمة والشريعة، ويعيد اتصال ما انقطع بينهما، كما فعل حكيم العرب والمسلمين الخالد ابن رشد الحفيد؛ باعتبار أن العقل هو طريق سعادة الإنسان في العاجلة والآجلة؛ لأن "الحكمة ضالة المؤمن"، حسب المأثور النبوي الشريف.
#محمد_وردي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية
المزيد.....
-
أمريكا: هبوط اضطراري لطائرة بملعب غولف.. ومصادرة كوكايين بقي
...
-
سوريا.. عشائر الجنوب تعلق على بيان الرئيس أحمد الشرع
-
سوريا.. أحمد الشرع يعلق على أفعال بعض الدروز في السويداء وال
...
-
سوريا: الرئاسة تعلن وقف إطلاق نار -فوري- في السويداء وتدعو ك
...
-
الشرع: سوريا ليست ميدانا لمشاريع الانفصال
-
فريدريش ميرتس ..لماذا يشكر إسرائيل على قيامها بـ-أعمال قذرة-
...
-
الاحتلال يوسع اقتحاماته بالضفة ويجبر فلسطينيين على هدم منازل
...
-
لماذا لا تُصنّع هواتف -آيفون- في أميركا؟
-
قوات العشائر السورية تدخل عددا من البلدات في محافظة السويداء
...
-
القنبلة التي قد تعيد تفجير الصراع بإقليم تيغراي الإثيوبي
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|