ميثم ادهم الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 13:04
المحور:
الادارة و الاقتصاد
في خضم التحولات التي يشهدها الاقتصاد العراقي، يبرز سوق العراق للأوراق المالية كأحد المحاور الأساسية لبناء قطاع مالي مستقر وفعّال. هذا السوق، الذي يضم اليوم العشرات من الشركات المدرجة في قطاعات متنوعة، لا يزال بحاجة إلى تعزيز عناصر الشفافية والمنافسة العادلة لضمان جاذبية الاستثمار وتحقيق الكفاءة السوقية. لكن التحدي لا يقتصر فقط على الجوانب الفنية في التداول والإدراج، بل يتعمق نحو الإطار التنظيمي والمؤسسي الذي يجب أن يكون متكاملاً، ومتوازناً بين الجهات المعنية برقابة السوق ومنع الاحتكار وضمان حرية المنافسة.
في هذا السياق، والى جانب جمهور المستثمرين، تبرز أربع مؤسسات رئيسية تتحمل مسؤولية متداخلة ولكنها مميزة، وهي: مجلس شؤون المنافسة ومنع الاحتكار، وهيئة الأوراق المالية، وسوق العراق للأوراق المالية، والبنك المركزي العراقي. ويستلزم نجاح المنظومة المالية توزيعاً واضحاً للأدوار، وتنسيقاً فعالاً يربط السياسات الرقابية بالتنفيذ العملي.
قانون المنافسة ومنع الاحتكار: أساس العدالة السوقية
يشكل قانون مجلس شؤون المنافسة ومنع الاحتكار رقم 14 لسنة 2010 الإطار التشريعي الأساسي لحماية بيئة السوق من الممارسات الاحتكارية والتواطؤ بين الشركات. وعلى الرغم من أن تركيز هذا القانون ينصب غالبًا على القطاعات الصناعية والتجارية بشكل سلع وخدمات، إلا أن صلاحيات المجلس تمتد أيضًا إلى الأسواق المالية عندما تظهر مؤشرات على تقويض حرية السوق من خلال الاتفاقات "الكارتلات" أو التلاعب بهوامش الأسعار. فالسوق المالي ليس بمنأى عن التكتلات، إذ يمكن لبعض المستثمرين أو المؤسسات الكبرى أن تسيطر على تداولات شركات معينة، ما ينعكس على تسعير الأسهم وثقة المستثمرين. وهنا، تبرز أهمية مجلس المنافسة كمؤسسة رقابية تعمل بالتكامل مع الجهات الأخرى لضمان ألا تتحول السوق إلى مساحة لاحتكار السيولة أو النفوذ.
هيئة الأوراق المالية: التنظيم والرقابة
أن الجهة التي تتحمل العبء الأكبر في تنظيم السوق المالي، هي هيئة الأوراق المالية، التي تأسست بموجب أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 74 لسنة 2004. حيث تضطلع الهيئة بمسؤوليات دقيقة تشمل تنظيم عمليات الإدراج، مراقبة التداولات، الإشراف على الإفصاح المالي، وضمان تطبيق معايير الحوكمة داخل الشركات المساهمة. وتسعى الهيئة إلى تهيئة مناخ استثماري يتسم بالشفافية، ويكفل حماية صغار المستثمرين من أي تلاعب أو تداول بناءً على معلومات داخلية او ممارسات غير مشروعة بالأسهم من صناع السوق (Market makers). ومع ذلك، فإن نجاحها في أداء هذا الدور يتطلب دعمًا مؤسسيًا من مجلس شؤون المنافسة في حال ظهور ممارسات احتكارية ذات طابع هيكلي أو تكتلي في السوق.
سوق العراق للأوراق المالية: المنصة وأفق التطوير
يُدار سوق العراق للأوراق المالية باعتباره مؤسسة ذات استقلالية إدارية، ويعمل تحت مظلة هيئة الأوراق المالية. ومع مرور الوقت، أحرز السوق خطوات ملموسة نحو تحسين أدوات التداول والتوسع في عدد الشركات المدرجة (104 شركة تقريباً) وعدد من شركات الوساطة في السوق، كما أن مركز الإيداع وشبكات الربط الإلكتروني باتت توفر بيئة تشغيلية أكثر كفاءة. إلا أن السوق لا يزال يواجه تحديات تتعلق بسيطرة عدد محدود من الشركات الكبرى على الجزء الأكبر من التداول، إلى جانب ضعف الإقبال الشعبي على الاستثمار في الأسهم مقارنة بثقافة الادخار أو العقارات.
ويعزى جزء من هذه التحديات إلى ضعف المعرفة المالية لدى المستثمرين الأفراد، واعتماد البعض على الإشاعات أو التداول العاطفي، بدلًا من أدوات التحليل الأساسي أو الفني. ومن هذا المنطلق، فإن بناء سوق مالي متوازن لا يعتمد فقط على البنية التكنولوجية أو التشريعات، بل يتطلب بيئة تنافسية حقيقية، لا تحتكرها فئة معينة، ولا تُحكمها قوى خفية خارج إطار العرض والطلب الطبيعي.
البنك المركزي العراقي: استقرار النقد وتأثيره على السوق
لا يمكن الحديث عن بيئة السوق المالي دون الإشارة إلى الدور الحيوي الذي يؤديه البنك المركزي العراقي. فسياساته في إدارة سعر الصرف، وتوفير السيولة، وتنظيم العلاقة بين الدينار والدولار، تنعكس بشكل مباشر على أداء السوق المالي. فعلى سبيل المثال، شهد السوق في السنوات الأخيرة تأثيرًا واضحًا من تغيّرات سعر الصرف، حيث أدى انخفاض قيمة الدينار إلى إعادة تقييم كثير من الاستثمارات، وزيادة الإقبال على بعض الأسهم التي تُعتبر ملاذًا آمنًا من تقلبات العملة. لكن في الوقت نفسه، فإن عدم وضوح السياسة النقدية أو التذبذب في سعر الصرف قد يدفع المستثمرين إلى الحذر، ويؤثر على رغبتهم في ضخ الأموال في السوق المحلي. لذلك، فإن التنسيق بين هيئة الأوراق المالية والبنك المركزي يُعد من ضرورات بناء ثقة طويلة الأمد بين المستثمرين والسوق.
التحدي الأكبر: التكامل لا التنافس بين المؤسسات
في ظل هذه المنظومة، فإن أكبر التحديات لا تتمثل فقط في وجود القوانين أو الهياكل، بل في مدى التكامل بينها. فالسوق يحتاج إلى هيئة رقابية فاعلة، ومجلس منافسة متيقظ، وسوق تداول منظم، وبنك مركزي داعم. حيث ان كل جهة تكمّل الأخرى ولا تنافسها او تكرر اعمالها ومهامها. إن تطبيق قانون المنافسة ومنع الاحتكار رقم 14 لسنة 2010 إلى جانب القوانين المعنية بالسوق المالي بشكل منسق وفعّال، يمكن أن يصنع تحولًا حقيقيًا في طبيعة السوق العراقي، ويعيد الثقة في أن هذا السوق قادر على أن يكون مساحة للجميع، وليس فقط للنخبة أو للجهات المتنفذة.
تمكين الطبقة الوسطى وتحقيق العدالة الاقتصادية عبر إدراج الشركات الخاصة في السوق المالي
ان تركز الثروة والفرص الاقتصادية في يد قلة من الشركات الخاصة التي تهيمن على قطاعات حيوية في الاقتصاد العراقي (مثل التعليم الاهلي، النقل، الخدمات الطبية، الاتصالات)، تظهر الحاجة الماسة إلى سياسات اقتصادية عادلة تعزز مشاركة المجتمع عامة والطبقة الوسطى خاصة في الثروة الوطنية عبر استثمار مدخراتها في الأسهم والأصول الإنتاجية بدلا من الاكتناز النقدي الراكد.
يمكن تنفيذ تلك السياسات بشكل تدريجي عبر إصدار قانون أو تعديل تشريعات تسمح للدولة (أو تُلزم جزئيًا) بعض الشركات العاملة في القطاعات الرابحة والحساسة، بالتحوّل إلى شركات مساهمة عامة بتخصيص نسبة معينة من ملكيتها للجمهور أو صناديق التقاعد وإدراج أسهمها في السوق النظامي خلال مدة سنوات محددة وفق معايير مثل الاستفادة من امتياز أو ترخيص حكومي او انها تعمل في قطاع حساس (تعليم، صحة، نقل) وتحقق هوامش ربحية عالية ودون وجود منافس حقيقي لها. ان إدراج شركات جديدة سيقلل من قوة الشركات المهيمنة ويمنح بدائل للمستهلكين مما يؤدي الى تشجيع المنافسة وتحويل الأرباح الخاصة إلى فائدة اجتماعية، يمكن ان يصبح فيها الطالب والمريض كمستثمر محتمل يملك جزءاً من الشركة التي تقدم له الخدمة بدل أن يدفع فقط لا غير.
وختاماً، فأن بناء سوق مالي تنافسي وعادل في العراق ليس مجرد هدف تنظيمي، بل ضرورة اقتصادية لتحقيق النمو المستدام. فالمنافسة لا تقتصر على مجال الحماية من الاحتكار فحسب، بل هي دعامة للنمو ومفتاح لجذب الاستثمار وضمان لتوزيع الفرص بعدالة لفئات المجتمع. وإذا ما تكاملت هذه الأدوار ضمن إطار قانوني واضح ورقابة فعالة، فإن سوق العراق للأوراق المالية يمكن أن يتحول إلى قصة نجاح تنموية في بيئة إقليمية تزداد تعقيدًا وتنافسًا.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟