أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد جاسم دشتي - تأملات في فلسفة ما بعد الرحيل














المزيد.....

تأملات في فلسفة ما بعد الرحيل


محمد جاسم دشتي

الحوار المتمدن-العدد: 8388 - 2025 / 6 / 29 - 17:06
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


ومهما تنقّلتَ بين الجدران، وتبدّلت منازل الطمأنينة، ستشعر – على نحوٍ لا تخطئه النفس – بأنّ السقف الجديد، وإن احتمى بك من المطر، لا يزال غريبًا على صوتك. إنّه ليس عن الغربة المكانية فحسب، بل عن ذلك الحسّ المتردّد حين تطأ مكانًا لم تعتده روحك بعد، وتحاول – بحذر العابر – أن تعيد ترتيب نفسك في مرآة لم تعرف انعكاسك من قبل. تسكن، وتأكل، وتنام، كما يفعل الجميع، لكنك تعرف في أعماقك أن كل شيء لا يزال تحت التجريب، تحت التأمل، تحت سؤالٍ صامت: هل هذا هو البيت، أم مجرّد عبور؟

وحدك على الطاولة، تتأمل صحنك كأنك تقرأ فيه ملامح جديدة لنفسك، تستدعي فيها خيالًا قديمًا لأحاديث لم تكتمل. لا يد تمتد، لا ضحكة تسبق اللقمة، لا عيون تسأل. ومع ذلك، ثمة شعور خفيّ بالتجلّي، بأنك في هذه العزلة المادية، تبدأ رحلة أخرى نحو تصالح أكثر عمقًا مع الذات. الأكل وحيدًا لا يعني النقص، بل هو إعلان هادئ بأنك صرت تملك ما يكفي من حضورك لتكون رفيقك.

تبدأ تدريجيًا مرحلة العزلة، لا عن الآخرين فحسب، بل عن نفسك القديمة كذلك. تراقبها وهي تنسلخ عنك، تتذكر كيف كانت تفرط في الإلحاح، في الصراخ، في الركض نحو ما ظنّت أنه خلاص، لكنه لم يكن سوى خديعة لذاتها. تمشي الآن في سكة السلام النفسي الأولى، خفيفًا، بلا ضجيج، بلا شغفٍ أجوف. تسير لأنك تحتاج أن تخلع عنك كل الأصوات القديمة، وتكتفي بصوتٍ داخليّ خافت يقول لك إنّك أقرب من أيّ وقتٍ مضى إلى حقيقتك.

وليس التغيير هنا رغبة حرّة في خوض المغامرة، بل حتميّة مرّة فُرضت عليك نتيجة قرارٍ سابق، كنت تظنّه صائبًا، فإذا به يقودك إلى أرضٍ سبخةٍ لا تنبت نجاحًا. ظللت تتقفى فيه أثر الأحلام، لكنها كانت أحلامًا مشؤومة، كلّما اقتربت منها تحوّل نهارك إلى مزيد من الشؤم، وازدادت فيك الوحشة، وزادتك العتمة وهمًا بأنك قريب من النور.

ثم فجأة، وبعد كل هذا الانهيار، تلمح نقطة ضوء صغيرة في ركنٍ منسيّ من أحلامك القديمة. تهرول نحوها لا لأنك واثق، بل لأنك لم تعد تملك شيئًا سواها. تمضي بكلّ قدراتك المتبقية، بكلّ ما فيك من إرادة منكسرة، وبكثير من الصدق. قد تكون هذه النقطة الصغيرة هي الخلاص، وقد تكون هي النور الذي ينقذك من كل هذا الرماد.

ولأنّك تعيش هذه المرحلة وقد كان بمقدورك، لو أردت، أن تنحدر إلى التشظي والانفلات، أن تنغمس في زيف الحرية العابثة، أن تهرب من الانضباط باسم "الشفاء"، لكنّك لم تفعل. تحرس نفسك بصبرٍ ناعم، تختار أن تترسّخ لا أن تتهاوى، أن تبقى نقيًّا في اللحظة التي يغريك فيها الانعتاق المشوّه. وهذا هو ذروة الانتصار: حين تقدر على الانفلات، لكنك تعود، لأنّ البوصلة ما زالت تعمل، ولأنك ما زلت تؤمن بجوهرٍ لم تفرّط فيه رغم كل الانهيارات.

تتيه لا لأنك ضائع، بل لأنك في الطريق إلى العثور. والتوهان هنا ليس فشلاً، بل دهشة الخروج من خريطةٍ قديمة لم تعد تنتمي إليها.

وفي كلّ هذا، في عزلاتك الجديدة، في هدوءك المربك، في خطواتك المرتجفة نحو الذات، تُخلق من جديد. لا لتُبهر أحدًا، ولا لتُثبت شيئًا، بل لتصير أقرب إلى ما يجب أن تكون. لأنك في النهاية لا تبحث عن مكان، بل عن سلام.



#محمد_جاسم_دشتي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرجماتية والمأذون


المزيد.....




- حرب غزة: لماذا يتعرض الفلسطينيون من طالبي المساعدات الإنساني ...
- -ما قمنا به في إيران كان رائعًا-.. ترامب: إذا نجحت سوريا في ...
- الاتحاد الدولي للسلة: إعلان هزيمة منتخب الأردن تحت 19 سنة أم ...
- ألمانيا... داء البيروقراطية حاجز بوجه العمالة من أفريقيا
- طهران تبدي -شكوكا جدية- بشأن احترام إسرائيل لوقف إطلاق النار ...
- الحكومة الفرنسية أمام اختبار سحب الثقة
- الموفد الأمريكي إلى سوريا: اتفاقات سلام مع إسرائيل أصبحت ضرو ...
- خبير عسكري: فقدان جيش الاحتلال قوات اختصاصية خسارة لا تعوض
- 40 عاما من الحكم.. الرئيس الأوغندي يترشح مجدّدا للرئاسة
- 47 شهيدا بغزة وعمليات نزوح كبيرة شمال القطاع


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد جاسم دشتي - تأملات في فلسفة ما بعد الرحيل