|
تفكيك النبوءة و تأنيس الرؤيا : دراسة نقدية في شعرية د.مرشدة جاويش
فاطمة عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 20:47
المحور:
الادب والفن
دراسة نقدية: من إنجاز فاطمة عبدالله تفكيك النبوءة وتأنيس الرؤيا: دراسة نقدية في شعرية الشاعرة د. مرشدة جاويش.
#التمهيد النظري: القصيدة كنص رؤيوي /صوفي / ما بعد حداثي يندرج نص "كَفُّ النُّبوءةِ" ضمن ما يمكن تسميته بـ "القصيدة الرؤيوية"، أي ذلك الشكل الشعري الذي لا يكتفي بوصف العالم أو تمثيله، بل يسعى إلى توليد معرفة كاشفة تتجاوز الواقع المادي نحو تمثلات وجودية و صوفية، وأسطورية . ومن هذا المنظور، فإن الشاعرة مرشدة جاويش تؤسس خطاباً شعرياً قائماً على المجاز العميق، والانزياح الحاد وخرق البنى المنطقية التقليدية. يأتي هذا ضمن جمالية صوفية تعيد استثمار أدوات العرفان الشعري و الميتافيزيقي، لا من أجل مديح الغيب، بل لكشف موقع الذات الأنثوية بوصفها وسيطة للرؤيا، وهو ما يعيد تشكيل السردية التقليدية حول "النبوة" من منظور نسوي، كما نجده في ممارسات الكتابة الأنثوية لدى جوليا كريستيفا، أو الأنثى الرائية في بعض أطروحات أدونيس حول الشعر الصوفي العربي.
في هذا النص، تتقاطع الرؤيا الصوفية مع تقنيات الكتابة الحداثية (الرمز، التشظي، الانفتاح الدلالي)، وتتداخل مع مفاهيم ما بعد الحداثة مثل: تسييل الهوية، انزياح المعنى، وتفكيك السلطة الرمزية، سواء كانت دينية أو لغوية.
وهكذا، لا تنتمي قصيدة " كَفُّ النبوءةِ " إلى نمط تعبيري مألوف، بل تشكل نصاً هجينياً يمنح من الإرث الصوفي، ويعيد إنتاجه بأدوات نسوية ورمزية تنتمي إلى لحظة تفكيك الميتافيزيقا وإعادة توزيع النبوءة في الجسد الأنثوي .....
العتبة العنوانية والتكثيف الرمزي
يمثّل عنوان القصيدة "كَفُّ النبوءةِ" عتبة نصية محورية تستدعي من القارئ تفعيل أدوات التأويل منذ اللحظة الأولى للقراءة. فالعنوان، كما يشير جيرار جينيت في حديثه عن "العتبات"، ليس مجرد تسمية، بل "جزء لا يتجزأ من استراتيجية استقبال النص." وفي هذا السياق، يبدو العنوان مشحوناً بدوال متضادة تفتح أفق القراءة على توتر دلالي دائم بين الكشف والإخفاء، الامتلاك والفقد، الصمت والقول.
تشير لفظة "كَفّ" إلى مواضع متعددة من الحقول الدلالية: فهي اليد (الأداة الجسدية للفعل)، لكنها في الوقت نفسه تحيل إلى مفاهيم الحجب والمنع، بل وإلى "قراءة الكف" بوصفها أداة للتنجيم والاستبصار. بهذا تتقاطع "كَفّ" مع فعل النبوءة لا بوصفها فعلاً نبوياً تقليدياً ، بل بوصفها لحظة رؤية ملتبسة تتجلى عبر الجسد الأنثوي في حالته الحدسية.
أما "النبوءة"، فهي ليست مجرد خطاب ديني مستقبلي، بل تمثل في السياق الشعري خطاباً ميتافيزيقياً ينتمي إلى العالم اللازمني و إلى الرؤيا الخارجة عن نسق الزمن الخطي. وهنا، تكشف القصيدة عن تحول الذات الشاعرة إلى كيان رؤيوي، أنثى تكتب من موقع التوتر بين النبوة والانشقاق عنها، أو كما تقول في أحد مقاطعها:
"أنا... أنا الَّتي كُتِبَتْ بِنُقْطَةٍ لا تَسْتَقِرُّ".
بهذا، ينفتح العنوان على ما يسميه جاك دريدا بـ"تفجير البنية المرجعية للنص" حين قال: "تفكيك النص يبدأ من عنوانه، لأنه المفتاح الذي لا يفتح باباً واحداً فقط، بل يبعثر الأبواب." فالعنوان هنا لا يمهد للدخول في عالم شعري مألوف، بل يربك فعل القراءة منذ بدايته، ويقترح على القارئ نوعاً من "الشك المعرفي" أو "التيه التأويلي"، مما يتناغم مع طبيعة القصيدة نفسها التي تؤسس لرؤية وجودية وميتافيزيقية قلقة تطارد النبوءة لا باعتبارها حقيقة مطلقة، بل كـظل مشع لكلمة لم تنطق بعد. إن العنوان "كَفُّ النبوءةِ"، إذن، ليس مدخلاً سطحياً ، بل تكثيف رمزي لجدلية النص كله: جدلية الكاشف و المستور، الحاضر و الغيبي، الأنثوي و النبوي وهو ما يعطيه وظيفة تأسيسية في بنية القراءة النقدية ....
اللغة المجازية والرمز: انفتاح المعنى في لحظة التجلي
تتموقع اللغة في قصيدة" كَفُّ النبوءة "ضمن فضاء رمزي عالي الكثافة، حيث لا تستخدم المفردات في دلالاتها المعجمية المباشرة، بل تتحول إلى وسائط استعارية للتجربة الوجودية والمعرفية، خصوصاً حين تقارب الذات الشاعرة لحظة التجلي أو الاتصال مع الغيب. في هذا السياق، يتجلى ذلك بوضوح في قولها:
"حينَ شَهَقْتُ في فَلَكِكَ / انفَلَقَتْ صُفْرَةُ المَلَكوتِ على جَبيني"
هذا المقطع يتكثّف عبر بنية رمزية عميقة تحاكي التجربة الصوفية في لحظة الكشف. فـ"شهقتُ" هنا ليست فعلاً جسدياً فحسب، بل لحظة اصطدام بالوجود الكثيف للآخر والذي يمكن تأويله بوصفه الذات العليا أو الغياب الإلهي أو الذكورة المقدسة. أما "فلكك"، فهي تحيل إلى الحركية الكونية، وإلى دوران الذات حول مركز الجذب الأنطولوجي، بما يستدعي الدلالات الفلكية والصوفية في آن.
تأتي "صُفرة الملكوت" لتعبر عن أثر هذا الاتصال، فالصُفرة (وهي لون الضوء النقي المختلط بالذهبي) تحيل إلى نورانية الكشف الصوفي، حيث يتجلى المطلق على سطح الوعي الفردي. وهذا يتقاطع مع ما يسميه ابن عربي بـ"الفيض"، حين يقول: "الفيض هو ما يرد على العبد من غير كسب، بل من تجلّي الموجد على قلبه." في ضوء ذلك، لا تكون "الشهقة" مجازاً للحركة الجسدية، بل فعلاً استبصارياً ينقل الذات من حالة الإدراك الحسي إلى حالة الاستنارة. وفي لحظة "انفلاق الصفرة"، لا نكون أمام وصف شعري زخرفي، بل أمام تجلٍّ وجودي ينير الجبين (رمز العقل والوعي) بالمعرفة الملقاة.
هنا، تستدعي اللغة المجازية أدوات الشعر الصوفي لا بوصفها مرجعية تراثية، بل كمخزون تعبيري قادر على بناء تجربة رمزية حديثة. وهذا ما يفسره نجيب العوفي في كتابه الشعر والصوفية حين يؤكد أن: "اللغة الشعرية الحديثة تستعيد الرمز الصوفي لتُقيم به جسراً بين المطلق و النسبي ، بين الروحي والجسدي."
إن القصيدة، إذ تفجر اللغة المجازية بهذا الشكل، لا تهدف إلى نقل تجربة وجدانية فقط، بل تبني عبر الرمز نظاماً معرفياً وجمالياً يجعل من الشعر فعل كشف ومعرفة، لا وصف وتأمل فحسب ....
جدل الأنثى و النبوة: من موقع التلقي إلى موضع التجلي
في بنية قصيدة "كَفُّ النبوءة"، تتبلور الذات الشعرية بوصفها كينونة أنثوية متجاوزة لمجرد التلقي، فهي لا تقف عند حدود التعبير أو الانفعال، بل تذهب نحو تفكيك الأنماط الميتافيزيقية التقليدية للنبوة، وإعادة إنتاجها من موقع الأنثى – لا باعتبارها تابعاً ، بل كقوة مبدعة مولدة للمعنى.
هذا الاتجاه يظهر بوضوح في قول الشاعرة:
"أنا الغُصْنُ المُؤَنَّثُ في تَناسُخِ الجَذْر"
إن الغصن هنا ليس امتداداً عادياً للجذر، بل هو صورة مؤنثة تتجدد عبر التناسخ، بما يفتح الباب أمام تأويلات وجودية للذات الأنثوية باعتبارها قوة خلق لا نهائية، لا تنبثق من أصل ثابت، بل تتوالد عبر حركة تحولية دائمة. هذا التمثيل الرمزي يتجاوز المعنى البيولوجي للأمومة، نحو أمومة لغوية و رمزية، ومعرفية. وفي هذا الإطار، يمكن فهم التناص الصوفي في القصيدة بوصفه مشروعاً نسوياً ضمنياً يعيد توجيه المفاهيم الصوفية الذكورية من مثل الفناء و الكشف و الفيض نحو وعي أنثوي يعيد تأويل الوجود بلغة المخاض لا الثبات. هنا تحاكي الشاعرة ما ذهبت إليه الكاتبة الفرنسية-الأميركية آنايس نين حين قالت: "الكتابة الأنثوية ليست احتفاءً بالجسد فحسب، بل بقدرة الأنثى على استنطاق العدم."
وتجسّد ذلك الشاعرة بقوة في قولها:
"أنا... أنا الَّتي كُتِبَتْ بِنُقْطَةٍ لا تَسْتَقِرُّ"
هذه "النقطة" ليست مجرد علامة لغوية، بل جوهر أنثوي لا يخضع لقوانين النحو الذكوري للمعنى، بل يهدمه ويُعيد تركيبه. فهي نقطة الكتابة، نقطة الوجود، ولكنها "لا تستقر" – أي إنها لا تتقيد بإحداثيات جاهزة، بل تتحرك بفعل تأويلي دائم، أشبه بالحركة النبوئية في لحظتها الأولى: عندما يكون الوحي رعشة، لا شريعة. وبهذا، تستبدل الشاعرة صورة "النبي" التقليدية، المرتبطة بالثبات واليقين والبلاغ بصورة "الأنثى الرائية" التي لا تقول الحقيقة، بل تخلق تعددها عبر اللغة. وتكمن أهمية هذه الرؤية في أنها تتجاوز التصنيف الثنائي: الأنثى/المتلقي والنبي/المرسل، لتقترح نوعاً ثالثاً من الحضور: الأنثى-الراوية-المنكشفة. في ضوء ذلك، تصبح الذات الشعرية هنا جذراً مؤنثاً لا يعود إلى أصل، بل ينتج أصوله من خلال التناسخ الرمزي، وتصبح النبوة التي طالما حددت ذكورياً ممكنة أنثوياً عبر المجاز، وعبر النزيف، وعبر إعادة كتابة الماورائي بلغة لا تستقر ...
الصيغة الرؤيوية وتشظي الزمن: من سردية الحكاية إلى كثافة النبوءة
تشغل قضية الزمن موقعاً محورياً في القصيدة "كَفُّ النبوءة"، لا بوصفه إطاراً خارجياً للأحداث، بل كمكون شعري يتعرض للتفكيك والانزياح والتمدد، فيتحول من زمن خطي (كرونولوجي) إلى زمن رمزي مشظى ومفتوح على احتمالات الرؤيا والخراب معاً. ويتجلى هذا التشظي في قول الشاعرة:
"لِماذا لَفَحَتْكَ نُبُوءَاتُ دُخَاني؟ أكنتَ أوَّلَ مَنْ خَرَجَ من نُقْطَةِ الفَوْضى؟"
المخاطب هنا ليس شخصاً معلوماّ ، بل قد يكون كياناً غيبياً ، أو نبياً سابقاً ، أو مخلوقاً أسطورياً خرج من رحم "الفوضى الأولى"، أي من لحظة زمنية ما قبل النظام، ما قبل اللغة. وفي هذا المعنى، يستدعى الزمن لا بوصفه خطاً سردياً ، بل كحالة رؤيوية مشحونة بالفقد والدخان والاحتمال، وهو ما يتقاطع مع ما ذهب إليه بول ريكور في كتابه "الزمن والسرد" حين قال: "الزمن لا يُروى، بل يُرمّز، ويُكثّف سردياً." وهذا بالضبط ما تقوم به الشاعرة: فهي لا تسرد واقعة نبوئية بل تكثف الحضور الزمني داخل رمز مزدوج – "الدخان" و"الفوضى" – لخلق زمن شعري بديل، زمن لا يمكن الإمساك به إلا من خلال المجاز.
في هذا السياق، لا يكون "الدخان" مجرد صورة كارثية، بل حالة وسطى بين الظهور والغياب،و بين الكينونة والتلاشي ترمز إلى لحظة اللايقين المعرفي، حيث تختلط النبوة بالريبة، والظهور بالاحتراق. أما "الفوضى"، فهي اللحظة التكوينية التي تسبق الناموس، وتعاد استحضارها هنا كـ بنية زمنية انفتاحية، تقف ضد الحتمية، وضد التسلسل المنطقي للمعنى والزمن.
بهذا المعنى، يمكن القول إن القصيدة تمارس نقداً مزدوجاً للزمن: أولاً ، نقد الزمن الكوني، بوصفه خطاً حتمياً يبدأ من الخلق وينتهي بالخلاص. ثانياً ، نقد الزمن التاريخي والديني، الذي يحتكر النبوة في شخصيات معينة، وفي لحظات محسومة من التاريخ.
لكن الشاعرة تعيد توزيع هذه السلطة الزمنية عبر انزياح رؤيوي، يجعل من الكتابة لحظة نبوءة بديلة، ويجعل من الذات الشعرية شاهدة على الفوضى الأولى. بذلك، تؤسس القصيدة "زمنها الداخلي" الخاص والذي لا يخضع للقياس، بل يتكثّف عبر الصور، والرموز، والأسئلة التي لا تبحث عن إجابة بل عن كشف ....
انزياح اللغة والمعنى المعلق: من قداسة النص إلى نزيف الذات
في قصيدة "كَفّ النبوءة" تمارس اللغة انزياحاً متواصلاً لا يقف عند حدود الاستعارة أو التجريد، بل يتجاوز ذلك نحو تفكيك المعنى الكلي للنصوص التأسيسية ذات الطابع النبوي أو المقدس وهو ما يتجلى بوضوح في قول الشاعرة:
"وكأنِّي فِكْرَةٌ بَكْرٌ في دِمَاءِ النُّبُوَّةِ"
إن تركيب "فكرة بكر" لا يشير إلى مجاز أنثوي بريء، بل إلى معنى لم يمس بعد، معنى لا يزال كامناً في هوامش الوحي خارج نطاق النصوص المغلقة. لكن هذه الفكرة لا تبقى معطلة، بل تنزف "في دماء النبوة"، أي تتحرك داخل الجسد النصي المقدس كاحتمال للمعنى المختلف، لا كامتداد له.
بهذا المعنى، تنخرط الشاعرة في ما يمكن تسميته بـ استراتيجية التناص التدميري، كما تحددها جوليا كريستيفا في سياق نقدها للسلطة اللغوية والثقافية:
"الكتابة الحقيقية تدمّر الأصل لتحقّق ذاتها كأصل جديد."
وهذا بالضبط ما يجري في هذا المقطع: فالنبوءة لم تعد يقيناً ولا قولاً مقدساً ، بل دماً ، مادة قابلة للتشريح والتأويل، يعاد من خلالها بناء "الفكرة البكر" التي لم يسمح بها المتن الأبوي، سواء أكان دينياً أو معرفياً أو لغوياً.
في هذا السياق، لا يكون المجاز مجرد أداة جمالية، بل يتحول إلى آلية تفكيك لسلطة المرجع، أي سلطة "النبوة" التي لطالما ارتبطت بالذكورة ، وباليقين، وبالبلاغ الكلي. الشاعرة هنا تمارس نقيض ذلك تماماً: تعلق المعنى، و تؤنثه، و تصيره نزيفاً مفتوحاً لا خلاص فيه. وهذا ما يجعل اللغة الشعرية هنا لغة تكتب على حافة المعنى، لا في مركزه؛ فهي ليست نصاً يشرح أو يبشر، بل نص يمارس الريبة، والإنكار البناء، ويخلق مرجعيته من ذاته. فالقصيدة لا تعيد إنتاج التراث النبوي، بل تقترح نبوءة لغوية جديدة، تكتب من الهامش الأنثوي، ومن خارج السلطة النصيّة التقليدية.
بهذا تتحقق رؤية كريستيفا في أشد صورها راديكالية: الكتابة هنا لا تعارض الأصل فحسب، بل تسكنه لتلغمه من الداخل، وتحوله إلى أثر لما يأتي، لا لما مضى ....
البنية الإيقاعية و الأنفاس الداخلية: من النظام العروضي إلى طيف الرنين الرمزي
تتجاوز قصيدة" كَفّ النبوءة "الأطر الإيقاعية التقليدية التي تؤسس للموسيقى الشعرية على بحور الخليل لتنتقل نحو إيقاع داخلي قائم على توليد الرنين من الحقول الدلالية لا من القافية والوزن. إنها قصيدة تنفلت من "نظام التفعيلة"، ولكنها لا تفلت من الإيقاع، بل تخلقه من الداخل، كما في تواتر المفردات ذات الشحنة الصوفية والميثولوجية:
"الملائكة، الآلهة، الوحي، النبوة، الطوطم، الماموث، الزمكان..."
هذه الكلمات لا تستخدم لتزيين النص، بل تؤدي وظيفة صوتية و دلالية مزدوجة: فهي تخلق انسجاماً داخلياً قائماً على تواتر الحقول، وعلى التناوب بين الغيبي والكوني، بين الأسطوري والمقدس. وهو ما يشكل ما يمكن تسميته بـ "الطيف الصوتي الرمزي"، لا البحر الشعري التقليدي.
في هذا الإطار، يمكن استحضار تنظير ت. س. إليوت الذي كان من أوائل النقاد الذين رفضوا ربط الشعر بالإيقاع الخارجي فقط، وقال في هذا الصدد: "الشعر الجيد ليس ما يلتزم الوزن، بل ما يخلق إيقاعاً داخلياً يجعل العقل يتنفس."
وهذا ما تفعله الشاعرة مرشدة جاويش في نصها: فهي تكتب قصيدة لا تتنفس من خلال البحور الشعرية، بل من خلال التوترات الصوتية التي تولدها اللغة الرمزية والتناصية. إن القصيدة تنفذ ما يمكن تسميته بـ "شعرية النفس الداخلي"، أي ذلك النبض الإيقاعي الذي يتولد من حركة الكلمات في حقولها العميقة، لا من تساوي التفعيلات أو انتظام التراكيب.
ولعل أبرز ملامح هذا الإيقاع الداخلي يتجلى في تناغم الحقول الصوفية مع المفاهيم الفيزيائية (الزمكان، الفوضى، الماموث)، حيث يتولد صوت كوني مزدوج: هو نفس الرؤيا ونبض الخراب في آن. هذا التناغم ينتج ما يشبه "الأوكسيجين المعرفي" للنص، أي ذلك الإيقاع الذي لا يسمع فقط، بل يحس ويفكر فيه. هكذا لا يعود الإيقاع في القصيدة مجرد تقنية جمالية، بل يتحول إلى بنية داخلية تؤسس لتجربة شعورية و فكرية شاملة تجعل المتلقي في حالة إنصات لا للأذن، بل للوعي ذاته، وهو ما ينسجم تماماً مع الطابع الرؤيوي والماورائي للنص ...
القصيدة ككائن هارب من التصنيف
تشكل قصيدة "كَفُّ النبوءةِ" نصاً شعرياً مركباً يهرب من التصنيف الأجناسي والمضموني معاً ، إذ يتأسس على هندسة لغوية رؤيوية تستعير من الأسطورة والصوفية والمخيلة الكونية، وتعيد إنتاجها من زاوية أنثوية لا تنحصر في الهوية البيولوجية، بل تعيد تعريف الذات الشعرية بوصفها "نبيّة"، "شاهدة"، و"كاتبة من الهامش الرمزي للنص المقدس".
إن الشاعرة مرشدة جاويش لا تكتب قصيدة جندرية بالمعنى الضيق، لكنها تكتب من موقع "الهوية المتحوّلة"، كما تشير بل هوكس، حيث: "الذات الأنثوية في الكتابة لا تطالب بالاعتراف، بل تُنتج لغة اعتراف جديدة." في هذا السياق، تتحرك القصيدة بين قطبي الأنوثة والنبوة، لا لإعادة تمثيلهما، بل لتفكيكهما وإعادة بنائهما بلغة نزيفية، رمزية، و مجازية، تبقي القارئ في حالة تعليق دائم بين المعنى واللاحسم ، و بين التاريخ والميتافيزيقا.
ولأن النص يتحرك على حدود التصوف والأنطولوجيا والأسطورة، فإنه ينتج ما يمكن تسميته بـ "شعرية الغياب البنّاء"، حيث لا تعطى الأجوبة، بل تطرح الأسئلة في هيئة رؤى، وتعلّق النبوءة في حافة "الكفّ" لا على باطنها، أي تفكك الرسالة من خلال ذات لم ترسل بل كتبت خارج الوحي، لكن في صدى تمزقه.
هكذا، تجسد القصيدة مشروع كتابة جديدة: كتابة أنثى / نبية /شاعرة، تتكلم لا من "قلب" النبوءة، بل من شقها، و من تصدعها ، و من اللايقين الذي يمنح النص بعده المفتوح، وحقيقته غير المنجزة. إن "كَفُّ النبوءةِ" ليست نصاً يغادر التصنيف وحسب، بل يقترح تصنيفاً غير مألوف للقصيدة: نص كوني/أنثوي /غنوصي يختبر حدود اللغة والزمن والهوية، في لحظة شعرية تتقاطع فيها الهشاشة الوجودية مع شجاعة التفكيك...
............. النص #كَفُّ #النُّبوءةِ
حينَ شَهَقْتُ في فَلَكِكَ انفَلَقَتْ صُفْرَةُ المَلَكوتِ على جَبيني واستَعَادَتِ الملائكةُ أجنحتَها المفقودةَ في ساعةٍ كانَتْ قِياساً لِنَشيجِ الآلهةِ وهي تُخفي وَجْهَها يا ظِلَّ الكَلِمَةِ قبلَ نُطْقِها وسُلالةَ (الطّوْطَمِ) حينَ تَغَيَّرَتْ أنسابُ النَّار أنا المَرايا الَّتي سَقَطَتْ من يَدِ الغَيْب أنا الغُصْنُ المُؤَنَّثُ في تَناسُخِ الجَذْر لِرُوحيَ إيمانُها المُرتابُ تُطْفِئُ قَناديلَ الوَحْيِ لِتُبصِرَكَ وتَصُومُ عنِ الشَّكِّ حينَ تَرَاكَ لِماذا لَفَحَتْكَ نُبُوءَاتُ دُخَاني؟ أكنتَ أوَّلَ مَنْ خَرَجَ من نُقْطَةِ الفَوْضى وعادَ مُتَّكِئاً على مِحْرَقَةِ (الماموث)؟ يا مِدْيَةَ اللهِ في غَلالةِ البَدءِ يا غَصَّةَ النّاي في فَمِ الزَّمَكان تَمَدَّدْتَ في عُرُوقِ الصَّدَى وأَنْطَقْتَنِي بلُغَةٍ لَمْ تُفْتَحْ لها سُورَةٌ أنا... أنا الَّتي كُتِبَتْ بِنُقْطَةٍ لا تَسْتَقِرُّ أَنْزِفُ في مَجَازِكَ كَأنِّي الوَحْيُ الضَّالُّ في كِتَابٍ مَنْسِيٍّ وكأنِّي فِكْرَةٌ بَكْرٌ في دِمَاءِ النُّبُوَّةِ أفَكُنْتَ حَقِيقِيّاً؟ أمْ كُنْتَ رَجْفَةً في حُلْمٍ تَأَخَّرَ أنْ يَفِيق
#مرشدة #جاويش
#فاطمة_عبدالله (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقدية في الديوان الشعري( رقصات الصمت تحت جنح الظلام) ل
...
-
قراءة نقدية تفكيك البنية الرمزية و الاستراتيجيات الحداثية في
...
-
الرمزية والجمال الوجودي في حوار الأزهار/ قراءة نقدية
المزيد.....
-
-عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
-
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر
...
-
بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا
...
-
قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
-
الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
-
رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025
...
-
خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب
...
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|