|
رواية -الخروبة- للكاتب رشيد النجاب في اليوم الساتبع
ديمة جمعة السمان
الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 19:50
المحور:
الادب والفن
القدس 26-6-2025 استضافت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية الأسيوعية بالتعاون مع نادي الموظفين في القدس الكاتب الفلسطيني الأردني رشيد عبد الرحمن النجّاب لنقاش باكورة أعماله الروائية بعنوان "الخرّوبة"، والتي صدرت عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان، في طبعة أنيقة من 111 صفحة من القطع المتوسط، وصمّمت غلافها المهندسة سجود العناسوة. وسط حضور نوعي من الكتاب والأدباء والمهتمين بالشّأن الثقافي والأدبي، استهلّت مديرة الندوة ديمة جمعة السّمان كلماتها بالتعريف بالكاتب والترحيب به وبالحضور ، مشيدة بأهمية الرواية وما تطرحه من قضايا إنسانيّة وتاريخية مرتبطة بالذاكرة الفلسطينية، وأشادت بتجربة النّجاب، قالت: تأتي هذه الرواية بوصفها سيرة غيرية لجدّ الكاتب، "رشيد" والذي يحمل الكاتب اسمه. كتبها الحفيد بلغة روائية تجمع بين التوثيق التاريخي مغموس بخيال محبّب.. فلم يكن لديه خيارا آخر.. فهذا ما اقتضته الضرورة لشحّ التفاصيل الدقيقة. في قلب الرواية، نقف أمام شخصيّة الجد رشيد، الإبن الذّكر الوحيد لأبويه عبد الرحمن ومِصلحة، والذي، رغم عاطفة العائلة التي كانت تتعلّق به كسندٍ وحيد، لم يختبئ ولم يهرب من التّجنيد الإجباري في زمن الدولة العثمانية. لقد استجاب للنداء دون خوف، متشبثًا بكرامته، ومؤمنًا أن الرجولة تُختبر بالمواقف لا بالعمر. ويكاد المرء يسمع في الرواية وقع خطاه وهو يغادر القرية بعزم لا يلتفت خلفه. يتنقّل النص بين الأمكنة، بدءًا من قريته جبيا إلى بعلبك، حيث خضع للتدريب العسكري القاسي، مصوّرًا مشقة الطريق ومناخات الغربة ووطأة الوداع. يرصد الكاتب لحظات القلق التي عاشها الوالدان والأختان، فاطمة وحمدة، فيما يرسم في المقابل شخصية الجد وقد بدأ يُلفت أنظار المدربين الأتراك بذكائه وانضباطه، حتى أصبح مدرّبًا في صفوف المجندين. لم تكن الرواية تسجيلًا لرحلة جسد فقط، بل لرحلة روح؛ لحكاية الشاب الذي أصبح رجلًا بين لهيب التدريب، ثم عاد بعد عامين إلى قريته، وقد أنهكته الغربة. وما أن وصل حتّى تلقّى خبر وفاة والده فأثقل قلبَه الفقدُ.. ولكن حين التقت عيناه بعيني والدته، اختصر الموقف بكلمات ترتعش فيها الرّجولة والحنان: "أما ما بعد ذلك يا أمّي، فبداية عهد جديد". أبدع الكاتب بأسلوب "السهل الممتنع"، إذ منح القارىء نصًّا عذبًا مُحكمًا لا تكلّف فيه، مُشبعًا بمفردات البيئة، دقيقًا في رصد القرى والمدن، مما يكشف عن جهد بحثي جدير بالثّناء. الرواية، وإن تفتقر لبعض التّفاصيل الصّغيرة، تعوّض ذلك بخيال روائي رصين، يحوّل النّقص إلى فسحة للتّأمّل. "الخرّوبة" عنوان له دلالاته.. إذ إنها شجرة تقاوم الجفاف، تمامًا كما تقاوم الذاكرة نداء النسيان. هذه الرواية إضافة ثمينة إلى الأدب الفلسطيني والعربي، وهي بلا شك تستحق أن يُكتب لها جزء ثانٍ، كما يُكتب للرجال أمثال الجد رشيد أن يكونوا حاضرين في الوجدان، مهما مضى الزمن. وقال محمود شقير: 1 حين شرع رشيد عبد الرحمن النجّاب في كتابة سيرة جدّه رشيد لم يجد بدًّا، بسبب شحّ المعلومات الشخصية لديه عن الجد، من إطلاق العنان لمخيّلته لكي تستحضر المرحلة التي عاش فيها جدّه أواخر أيام الدولة العثمانية، التي شهدت إقدام الدولة على تجنيد الشباب الفلسطينيين والزج بهم في حروبها العديدة في أصقاع الأرض المختلفة. الجدّ رشيد يُساق إلى الجنديّة رغم أنه وحيد أبويه، ومن أجل الإضاءة على تجربته يحشد الحفيد تفاصيل كثيرة متخيَّلة، لكنها تصبّ في المنحى التاريخي لتلك المرحلة التي عايشها الجد، ولا تخرج عن إطارها. يكتب رشيد النجّاب رواية سيريّة هي روايته الأولى بالاعتماد على رصيده الثقافي واطلاعه على عدد غير قليل من الروايات، وكذلك على اضطلاعه بكتابة قراءات نقدية لوفرة من الروايات. لذلك اتسمت روايته بالنجاح وبتجنّب السلبيات التي يمكن أن تحدث للتجارب الإبداعية الأولى. 2 الجد رشيد هو بطل الرواية الرئيس وباقي الشخصيات كانت لها أدوار ثانوية متفرّعة من الاهتمام بمصير البطل الذي اقتيد للحرب، والده عبد الرحمن ووالدته مصلحة كانا مهمومين بمصير الابن الوحيد الذاهب بعيدًا نحو المجهول. مصلحة حملت إحدى عشرة مرة، ولم يعش من جراء هذا الحمل المتكرّر سوى رشيد وشقيقتيه فاطمة وحمدة. كان الشاب رشيد محبوبًا من أهل القرية، جيبيا، ومن أهالي القرى المجاورة، لكنه كان موضع إشفاق بسبب أنه وحيد أبويه، وهو السند الوحيد لهما ولأختيه، وأي أذى يصيبه سيكون فادحًا وذا وقع مؤلم على الأسرة. لذلك، آثر والداه ألا يشجعاه على الاختفاء من سطوة الجنود العثمانيين الذين وفدوا إلى القرية لجلب الشباب إلى الجندية وإلى الحرب، لأنه سيكون عرضة للقتل إن عثر الجنود عليه، ولذلك سلّم رشيد نفسه للجنود طوعًا لا كرهًا، وظلت أمه ترقب بقلق وحزن موكب الجنود ومعهم ابنها رشيد، وهي جالسة في ظل الخروبة التي استحقت أن تكون عنوانًا للرواية. كان الموكب يبتعد عن ناظريها ومع هذا الابتعاد كان يكبر حزنها وقلقها. 3 ولكي يضفي الكاتب صدقية على بنية الرواية، فقد طعّم السرد الذي تولاه الراوي العليم بكثير من مفردات البيئة الشعبية ومن الأمثال الشعبية والنوادر والحكايات، بحيث جرى تعزيز المنحى الواقعي للرواية، وفي الوقت ذاته ترسيخ الجذور الطبقية لبطل الرواية رشيد، الذي تعيش أسرته في سقيفة متواضعة البنيان، وبحيث يتخذ والداه من الخروبة المعمّرة القريبة من البيت مجلسًا ومكان انتظار للابن الغائب لعله يعود إلى القرية ذات يوم. 4 تستعين الرواية ببعض تقنيات أدب الرحلات أثناء تتبع الطريق التي سلكها الجنود ومعهم بطل الرواية رشيد، حيث الوصف الملائم للأمكنة العديدة التي مرّ بها الجد، وما تحفل به تلك الأمكنة من تفاصيل، وذلك لكي يضع الكاتب قراءه أمام تلك التفاصيل على كثرتها بتشويق لا يغيب، وبإيقاع متمهّل لكنّه متناسب ومتناغم مع كثرة التفاصيل. ويتسم ذكر الأمكنة في الرواية بأهمية خاصة، فمن خروبة جيبيا مرورًا بالعديد من القرى إلى القدس، مرورًا بالعديد من القرى والمدن وصولًا إلى دمشق ومنها إلى بعلبك نجد أنفسنا أمام أمكنة لا يعرفها بدقّة إلا أصحابها المنتمون إليها، من أمثال الجدّ الفلسطيني رشيد النجاب، فكأنّ الرواية تحاول بشكل غير مباشر أن تقطع الطريق على مقولات الحركة الصهيونية المضلِّلة عن أرض غير مسكونة كلها مستنقعات، وعن أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. 5 بلغة موحية أكثرها فصيح وبعضها باللهجة المحكية، وسرد حافل بالتفاصيل يكتب رشيد النجاب روايته، ويتابع رحلة جدّه الذي يتمتع بقوة الشخصية وبالجدّ والاجتهاد والتميز في أداء ما يُطلب منه من واجبات، إلى الحد الذي جعل المسؤولين يرضون عنه، فلا يرسلونه إلى جبهات القتال. وحين يُكلف بالعودة إلى القدس لأداء إحدى المهمات تشاء الظروف أن تحلَّ الهزيمة بالدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فيجد رشيد نفسه وهو في القدس في حلٍّ من أي ارتباط، فيعود إلى القرية حيث الأم التي تنتظر ابنها الوحيد، وحيث النهاية المفتوحة التي تشير إلى أن الحفيد سوف يستكمل الكتابة عن الجدّ وعن أبنائه وبناته وأحفاده وحفيداته، وعن عائلة مناضلة لها شأنها في الشأن الفلسطيني العام. وقال عبدالله دعيس: في روايته (الخرّوبة) يسرد الكاتب رشيد عبد الرحمن النجاب، حكاية جده الذي كان جنديا في الجيش العثمانيّ، في أواخر عهد الدولة العثمانيّة في بلاد الشّام، ومن خلال هذه الحكاية، يصف جانبا من الحياة الاجتماعيّة في فلسطين، في بداية القرن العشرين، وتحديدا في قرى شمال رام الله، ويتحدّث عن بعض الأحداث السّياسيّة وتأثيرها على المنطقة. يذكر الكاتب أسماء العديد من القرى التي تقع شمال مدينة رام الله، منها قريته جيبيا، وأم صفاة وبرهام وكوبر وبير زيت وغيرها، ويصف رحلة جدّه إلى القدس، ثمّ منها وباستخدام القطار إلى الشّام، ثمّ إلى بعلبك. ومن خلال هذه الرّحلة يرسم خارطة دقيقة للبلاد، ويُظهر ترابطها ووحدتها قبل أن يغزوها الغرباء ويفرّقوا شمل أهلها ويحوّلوها إلى دويلات تفصل بينها الحدود، أو ترزح تحت وطأة الاحتلال. لم تكن الحياة سهلة حينئذ، ولم تسد العدالة ولم يعمّ الرّخاء، بل كانت أيّاما صعبة، سيق فيها شباب القرى والمدن ليخوضوا حربا ليست حربهم، وتُركت العائلات لتواجه مصيرها دون أبنائها الذين كانوا يحملون عنها عبء العمل وتوفير لقمة العيش. ومع خشونة العيش واضطهاد الحكّام الأتراك، إلّا أنّ الرّواية تظهر مجتمعا متماسكا ذا ثقافة عميقة عريقة، ضاربة جذورها في أعماق الأرض، لا يضيرها ولا يغيّر هويتها تعاقب الغرباء وتسلّطهم. فهي ليست مجرّد قطعة أرض يمكن الانتقال إلى غيرها، بل هي روح تسكن أهلها، وهي أصيلة كشجرة خرّوب عتيقة، ضاربة جذورها في الأعماق، لا تنمو إلا في ترابها وتحت سمائها. استخدم الكاتب أسلوب الرّاوي العليم، ليروي الحكاية، بعيدا عن الشّخصيّة الرئيسيّة (رشيد). فالراوي يصف تفاصيل ما يدور من أحداث، ويستشرف المستقبل ويتحدّث أحيانا عمّا سيكون من أحداث بعد سنين أو عقود؛ فهو يعلم ما ستؤول إليه الأمور، ويتحدّث عن المدن التي يزورها رشيد، رغم أنّ رشيد لا يعلم عنها شيئا. يظهر صوت الرّاوي ليكون أعلى من صوت شخصيّاته، وليكون هو الذي يدير الأحداث ويوجّهها. هذا الأسلوب أضعف النّص وخرج بالقارئ من الجوّ التّاريخي للرواية. فالقارئ يشعر أن الكاتب يتحدّث إليه ويملي عليه الأحداث، ولا يرى الشّخصيّات تتحرّك وتتفاعل وتشعر كما ينبغي لها. تعرّضت الرّواية لبعض الجوانب من الحياة الاجتماعيّة في تلك الفترة، لكن كان بالإمكان أن يتعرّض الكاتب لجوانب أكثر من تلك المتعلّقة بأخذ الجنود إلى القتال، فلم تخل القرية في ذاك الوقت من حكايات عشق أو صراع بين العائلات أو مواسم وأفراح وأتراح. فحبّذا لو تحدّث أكثر عن ثقافة أهل فلسطين، وأصل تعلّقهم بأرضهم ودفاعهم عنها، مهما كانت سطوة العدوّ، ومهما وقع عليهم من قتل ودمار. تدور أحداث الرواية في فترة الحرب العالمية الأولى، وهي فترة فاصلة في تاريخ فلسطين وبلاد الشّام، دارت فيها أحداث كثيرة وشكّلت تاريخ المنطقة إلى وقتنا الحاضر، لكن الرّواية أهملت كثيرا من الأحداث، ولم تُضف كثيرا إلى الجانب التّاريخي، واقتصرت على موضوع واحد تكرّر في كثير من الروايات والحكايات والأعمال الفنيّة، ألا وهو تجنيد الشبّان. ويبدو أنّ الكاتب اعتمد بشكل أساسيّ على الرّوايات الشّفويّة، ولم يستطع أن يبني رواية تاريخيّة تحكي الأحداث من خلال شخصيّاتها. وصف الكاتب القرى الفلسطينية في شمال رام الله وذكر عنها بعض المعلومات، لكنّها ليست كافية لمن لا يعرف تلك المنطقة، فمثلا ذكر الكاتب العلاقة بين الفلاحين والبراغثة، ولم يعرّف القارئ بشيء عنها وهي غير معروفة لمعظم القرّاء. تخلو الرواية من الحوار بين الشّخصيات، ويعتمد الكاتب بشكل كلّي على السّرد المباشر المتتابع زمنيّا. عنوان الرّواية مناسب، يشير إلى الخروبة وهي من أشجار فلسطين المخضرّة طوال العام الضاربة في الأرض والتّاريخ. تنتهي الرّواية بعودة رشيد، وبداية عهد جديد. لكن، هل كان ذاك العهد أفضل مما سبقه؟ وهل صمدت الخرّوبة لتعايش ما طرأ من أحداث وما تعاقب على هذه الأرض من حكايات البطولة والخذلان؟ وقالت روز اليوسف شعبان:
هذه الرواية هي سيرة غيريّة، يسرد فيها الكاتب رشيد النجّاب، سيرة جدّه رشيد في أواخر العهد العثماني، حين اقتيد للتجنيد إبّان الحرب العالميّة الأولى، رغم أنّه كان ولدًا وحيدًا لأسرته المكوّنة من مِصلحة، والده عبد الرحمن وأختيه حمدة وفاطمة. عاشت الأسرة في بلدة جيبيا قضاء رام الله، واعتمدت في معيشتها على الفلاحة. وكانت حياتها بسيطة بدائيّة كما سائر السكّان في تلك الحقبة الزمنية. يصف الكاتب فترة مكوث جدّه رشيد في التجنيد القسريّ والتي امتدّت سنتين قضاهما مع الجيش العثمانيّ في ضواحي دمشق، واصفا جميع الأماكن التي مرّ بها في العربات والقطار من جيبيا بلدة رشيد الواقعة بالقرب من رام الله، وحتّى دمشق، وما تركته هذه الأماكن من أثر بالغ في نفسيّة رشيد، هذا الشابّ الذي تميّز بقوّته وصلابته، وصبره وشجاعته، وقدرته الهائلة على تحمّل الصعاب والعذاب الذي كان يتلقّاه هو وباقي المجنّدين من القادة الأتراك، حيث عوملوا من قبل القادة الأتراك بصرامة وقسوة، فأذاقوهم أصنافًا من العذاب والإهانة والضرب، لأتفه الأسباب. بالرغم من ذلك فقد تجلّد رشيد وأظهر براعة ومهارة في الرمي وتسديد الأهداف؛ ممّا أهّله ذلك لتدريب مجموعة من المجنّدين على الرمي، هذا الأمر أبقاه بالقرب من دمشق، فلم يذهب مع غالبية الجنود للقتال. أظهر رشيد حنكةً كبيرةً وفطنةً وأخلاقًا ساميةً وقدرةً كبيرةً على التواصل والتعرّف على الناس، فتعرّف على أحد المجنّدين وهو سالم نخلة الذي توثّقت العلاقات بينهما وامتدت إلى عائلتيها، كما أبدى رشيد رغبة كبيرة في التعرّف على الأماكن ومعرفة تاريخها، وقد تعلّم القراءة من جندي أزهريّ اسمه محمود، كان رشيد يدرّبه على الرماية. حين كان رشيد في الجيش قرّر والده الهجرة من بلدتهم جيبيا إلى منطقة الساحل في يافا للعمل في قطف البرتقال نظرا لشحّ المياه في جيبيا. لكنّ عبد الرحمن توفيّ في الغربة، فعادت مصلحة وابنتاها حمدة وفاطمة إلى سقيفة العائلة في جيبيا، وبقيت تنتظر عودة ابنها تحت شجرة الخرّوب حتى عاد بعد سنتين من تجنيده بعد أن خسرت ألمانيا الحرب وهزمت هي وحليفاتها. دلالات المكان في الرواية:
يُعدّ المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة. يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله (الطويسي، 2004، ص. 167.). إذًا، لا قيمة للمكان ما لم يحفل بالشخصيّات التي تمنحه المعنى وتُسهم في إغنائه بالدلالات، من خلال العلاقات المختلفة التي قد تدخل فيها هذه الشخصيّات مع المكان، كعلاقات التنافر أو الحياد أو الانتماء (قاسم، 1984، ص. 76.). فالمكان "عنصر حيّ فاعل في هذه الأحداث، وفي هذه الشخصيّات، إنّه حدث وجزء من الشخصيّة، وهو الذي يؤسّس الحكي في معظم الأحيان لأنّه يجعل القصّة المتخيّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة" (حميداني، 2000، ص. 53، 65). لذا "فالمكان يكتسب أهمّيّة من خلال معايشة البطل للأمكنة والأحياء التي تمتُّ له بالصلة سواء من قريب أو من بعيد، فيكون المكان هو اللوحة النفسيّة التي عاشها وعايشها البطل" (محبك، د. ت.، ص. 55.). في رواية الخرّوبة، لا يبدو المكان مجرد خلفية للأحداث، بل يصبح كائنًا حيًّا، يرافق البطل رشيد في رحلة الألم والانتماء، من جيبيا إلى دمشق، ومن الحقل إلى ساحات الحرب. ولعلّ إهداء الكاتب في روايته يشير إلى تأثير هذه الأماكن على نفسيّته فجاء في إهدائه:" إلى أرواح عانقت الطبيعة الجميلة في جيبيا، جدّتي جدّي أمّي وأبي. بدت لنا الأمكنة زاخرة بالجمال وعبق التاريخ والذكريات التي تداعب خيال رشيد بين الفينة والأخرى. فهي أماكن تحوي الكثير من الشواهد التي تدّل على جمال وعظمة وحضارة هذه البلاد. لا يكتفي المكان في الخرّوبة بأن يكون حاضنًا للأحداث، بل يتجاوز ذلك ليُصبح حاضنًا للذاكرة والحلم، حافزًا للانفعال الوجداني، ومجلى لجمال الطبيعة الفلسطينيّة بتضاريسها، وتاريخها، وروحها المتجدّدة. وقد لفت غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان إلى أنّ للمكان قيمةً وجدانيةً تُستمدّ من التجربة الحسيّة والمعيشة اليوميّة، حيث يقول: . “إنّ البيت ليس مجرّد مكان للسكن، بل هو كونٌ داخلي، ومسرحٌ للخيال والذكريات” وهذا ما نجده متجليًا في تصوير الكاتب لرشيد وهو يطلّ من نافذة القطار، يرقب مشاهد بتير وطولكرم وسيلة الظهر، فتختلط أمامه صورة الطبيعة الحاضرة بصدى الذكريات والحنين إلى بلدة جيبيا
كذلك فإن تصوير شجرة الخرّوب كمعبدٍ يوميّ للأم المنتظرة، يجعل من المكان عنصرًا شعريًا ذا بعد جمالي، يرتقي بالفضاء السرديّ من المستوى الواقعيّ إلى مستوى رمزيّ وجدانيّ، فيتحوّل المكان إلى ذاتٍ تتنفّس، وتتألّم، وتنتظر. وبذلك تتلاقى الرواية مع ما ذهب إليه غالب هلسا حين رأى أنّ جماليات المكان لا تنبع من وصفه المجرد، بل من العلاقة الحميميّة التي تربط الشخصيّة به، وتجعله مرآة داخليّة لوجدانها". (هلسا، الفضاء الروائي، ص.45).) بدأ ترحيل المجنّدين عن طريق جفتا عين سينيا باتجاه طريق نابلس القدس، وقد لمح المجنّدون عن بعد بعض معالم القدس، قبّة الصخرة وبعض الكنائس، ثم صعد المجنّدون الى عربات القطار ليتوزّعوا في غزّة يافا البلقان ودمشق وكان رشيد ضمن المجموعة التي توجّهت إلى دمشق. رأى رشيد من نافذة القطار بلدة بتير المميّزة الغارقة في خضرة رائعة الجمال شكّلتها أشجار مثمرة وأخرى باسقة حارسة للطبيعة (ص 42). ثم وصل القطار بلدة طول كرم ثم جنين مرورا بسيلة الظهر ومرج بن عامر ثم العفولة وبيسان وفي غمرة هذه الرحلة، يتذكّر بلدته بيتيا فيرى نفسه أمام السقيفة يتأمّل القادم من الأيّام ويرتب مع والديه ما يقتضيه الموسم من أعمال: موسم العنب والتين وتبعاتهما... يذكر الكاتب أسماء الأماكن التي مرّ منها القطار: جسر المجامع، وادي اليرموك، سمخ التي مسحها اليهود وأقاموا مستوطنة بديلة باسم "تسيماح"(ص 64)، ثمّ الحمّة، وتلّ الشهاب درعا، سهل البقاع بجوار بعلبك (ص 69). فما دلالات كلّ هذه الأمكنة؟ ولماذا أتى الكاتب على ذكرها بالتفصيل؟ ربّما أراد الكاتب أن يبيّن لنا، أنّ تتبّع هذه الأماكن ليس فقط لتوثيق الجغرافيا، بل هو تأكيد على وحدة الأرض والهويّة، في وجه التمزّق السياسي الحديث. فهي منطقة جغرافيّة واحدة، تتشابه في التضاريس والحضارات والعادات، ومرّت في ذات الظروف من احتلال العديد من الشعوب لها، فذهب المحتلّون وبقيت هذه الأماكن بآثارها وحضارتها شاهدة على من مرّوا بها. ولعلّ الاقتباس التالي من الرواية ما يشير إلى ذلك:" وصل المجنّدون إلى بعلبك، لم تكن الخضرة بزهوّ حضورها وحدها مبعث لهذه الدهشة فليس المكان إلّا امتدادًا طبيعيًّا لتضاريس فلسطين، إنّما تمحور الانتباه حول هياكل أبنية تعاظمت في شموخها واتصالها وامتدادها ممّا أدهشهم ذلك"(ص 76). وقد ذكر الكاتب بعض هذه الأمكنة مع ذكر أصلها وتاريخها، فعن مدينة بعلبك كتب ما يلي:" بعلبك" مدينة الشمس" وأحد مساكن الإله "بعل"(ص 76). كما أتى على ذكر سوق الحميديّة في دمشق، ليبرز أهميّته التاريخيّة والاقتصاديّة:" اسم سوق الحميديّة منسوب للسلطان العثماني حميد الأوّل، الذي بني السوق في عهده في نهاية سبعينيّات القرن التاسع عشر في موقع قريب من قلعة دمشق، ويرتبط سوق الحميديّة بأسواق عديدة وفقًا للحِِرف التي تضمّها هذه الأسواق، أو المنتجات التي تتوافر تحت سقوفها، فهذا سوق للصاغة وآخر للحبوب، وسوق لتجهيز مستلزمات الأعراس وآخر لمستلزمات الخيول وغيرها...(ص 70). وعن مدينة بيسان كتب:" بيسان أيضًا مرتبطة بالفراعنة فهي عاصمة حكمهم في فلسطين وفيها شواهد على حضارتهم (ص 55). وعن بلدة سمخ كتب:" سمخ القرية الصغيرة الوادعة التي تحرس الشاطئ الجنوبيّ الشرقيّ لبحيرة طبرية، البحيرة التي شهدت نشأة القائد الفلسطينيّ ظاهر العمر الزيدانيّ، الذي أقام أوّل كيان فلسطينيّ في القرن الثالث عشر فحكم عكّا وأنشأ مدينة حيفا (ص 64). ولعلّ أهمّ الأمكنة التي لها دلالات وطنيّة مهمّة هي شجرة الخرّوب، حيث كانت أم رشيد تستظلّ بظلّها، فجعلت من الخرّوبة مقرّها ومقامها في ساعات العصر، بل كانت صومعتها، معبدها وموئلها اليوميّ الذي تلجأ إليه في العصاري، كأنّها تعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة، وتجمّعت حولها النساء والجارات والقريبات، كانت مصلحة حكّاءة ماهرة حكت لهنّ عن الهجرة ومعاناتهم، والمحطّات التي مرّوا بها ومشاعر القلق التي كانت تعتريهم"(ص 105). هذه الخروبّة التي كانت مكانًا آمنًا لمِصلحة وغيرها من النساء، كانت أيضا مكانًا لاسترجاع الذكريات، منها ذكريات جميلة ومنها ذكريات حزينة، لكنّها مع ذلك كانت المكان الذي كانت مصلحة تنتظر فيه وحيدها رشيد، وهو ذات المكان الذي اختفت فيه شجرة الخرّوب بعد ما يقرب من قرن:" يمّم عبد الرحمن شرقا باتجاه المرج حيث تبدأ الطريق بالانحدار نحو خرّوبة النحلة، ثمّ غابت الخرّوبة بعد ما يقرب من قرن واختلفت الآراء فمن قائل أنّ معتديا أثيما يعمل في التحطيب اغتالها، إلى قائل أنّها جفّت بفعل مرض، وذهب آخرون إلى تحميل المسؤوليّة لجيش الاحتلال الذي اغتالها برشقة من رصاص نظرًا إلى شهرته اعلى الصعيد الشعبيّ( ص 57). وهكذا، تتحوّل الخرّوبة من كائن نباتيّ إلى معلمٍ ذاكراتيّ، يحمل في جذوره قصص الانتظار، ويُغتال كما تُغتال معالم الذاكرة الفلسطينية. إنّ هذه المعلومات التي ساقها الكاتب عن الأمكنة المذكورة أعلاه، لم تكن محض صدفة، وإنّما أضاء بذلك على أصل بعض هذه الأمكنة وتاريخها، موضّحًا الأصول التاريخيّة لهذه البلاد، وحقّ شعبها الفلسطينيّ في العيش على أرضه، حيث الشواهد التاريخيّة والحضاريّة والثقافيّة شاهدة على جذوره ورسوخه وثباته في هذه الأرض. وفي الختام حبّذا لو حدّد الكاتب مواقع بعض البلدات التي ذكرت في الرواية، مثل: بيتيا، بتير، جسر المجامع، وادي اليرموك، سيلة الظهر وغيرها... أو ربّما لو أرفق خريطة توضيحيّة للمسار الجغرافيّ لرشيد لكان ذلك دعمًا بصريًا يساعد القارئ في معرفة مواقع الأماكن وجغرافيّتها. وأخيرًا، هل يمكن اعتبار هذه السيرة الغيريّة مرجعًا تاريخيّا توثيقيّا لحياة الفلسطينيّ في أواخر الحكم العثمانيّ وتحديدًا في فترة الحرب العالميّة الأولى؟ لا تغدو هذه الرواية برأيي مجرّد سرد لسيرة غيريّة، بل هي وثيقة سرديّة تحتفظ بذاكرة المكان، وتعيد رسم ملامح الحياة الفلسطينية في أواخر العهد العثماني، وتحديدًا خلال الحرب العالميّة الأولى. وقالت هدى عثمان أبو غوش: هي سيرة غيرية تؤرخ لفترة الحكم العثماني، عن جدّ الكاتب رشيد الذي التحق للتجنيد بالرغم من أنه وحيد والديّه، رشيد عبد الرّحمن النّجاب. في هذه السّيرة بضمير الغائب ،يصور الكاتب انتقال الجنود والشباب المجندين بعد السّير الطويل،والبعض في عربات إلى القطار الموجود في سكّة الحديد الحجازية في القدس،رحلة طويلة بسبب توقف القطار في المحطات،رحلة فيها المشقة والمخاطر من جيبيا حتى بعلبك. عنوان الرّواية "الخروبة"يمثل الأمل والانتظار والحنين والشوق لعودة رشيد،وأصبحت ملتقى بين النساء للأحاديث،تمّ ذكر الخروبة في المرّة الأولى في صفحة 21،وثمّ في الصفحات 56،105. استطاع الكاتب بلغته الانسيابية أن يجعلنا نتشوق في البحث عن الخرّوبة،ونتساءل أين الخروبة؟ لتتضح الصورة شيئا فشيئا في علاقة الخرّوبة بأم رشيد التي كانت متنفسا لها،وأصبحت صومعتها. وصف الكاتب حالة العاطفة عند أم رشيد قبل وبعد تجنيده.حالة القلق والتّوتر كانت طاغية على نفسية الأم.مرافقة بالحوار الذاتي والتّساؤلات الحائرة بشأن مصير ابنها.وقد منح الكاتب مكانة للمرأة في بداية السّيرة ؛ليصف مشاعر مصلحة(أم رشيد )الجياشة. برزت العاطفة أيضا من خلال الحوار بالّلهجة العاميّة.وأيضا برزت العاطفة الحزينة من خلال أثر الحزن في عدم رغبتهم للطعام. برز القلق أيضا من خلال الصمت العميق لعائلة عبدالرّحمن، كلّ فرد ينفرد بقلقه دون مشاركة الآخر. كما نتج عن ذلك الأحلام المزعجة. برزت العاطفة عند الوالد عند محاولته ثني السّلطات العثمانية من تجنيد ابنه الوحيد، من خلال الاستجداء والاستعطاف. برزت العاطفة عند أم ذيب في قلقها تجاه ابنها.تقول"ما هو أنت لا صلّيت ولا ولدت ولا بتعرف شو يعني الولد لأمّه".وأيضا برزت العاطفة عند الأمهات عامّة"في كلّ قلب حرقة،في كلّ نفس ضيق". رغم العاطفة الحزينة،كان شعاع الأمل يبرق في قلبها،من خلال إيمانها أنّ رشيد سوف يرجع. برز وجه الأمل من خلال شخصية أم رشيد التّي انتصرت على وجه الحزن بسبب مصير ابنها الذي لا تعرف عنه شيئا.فقد أصرّت أن تتحدّى الظروف والاهتمام ببيتها،وعادات عملها اليومية في البيت من طهي،ورعاية الحيوانات. تميّزت شخصية رشيد بالفصاحة، وتحملّ المسؤولية، وهو صاحب مسؤولية طموحة للمعرفة وذكيّ. للمكان أهمية في السّيرة، حيث تشهد السّيرة عدّة تنقلات بين الأماكن،حيث يصف الكاتب الأماكن التي مرّ بها رشيد عبر الطرق والقطار.من القرى والمدن الفلسطينية مثل جيبيا قرية رشيد من قرى رام الله, المحيطة بقرى كوبر، وبرهام وأم صفاة، كما وذكر القدس وبعض الأحياء مثل القطمون،البقعا،بتير ،بيت صفافا،وأيضا الأماكن خارج فلسطين مثل دمشق،درعا وبعلبك. صوّر المعالم الدينية على سبيل المثال لا الحصر مثل:الكنائس في القدس،وقبة الصخرة والمسجد الأقصى. صوّر المقامات الدّينية مثل: مقام بايزيد البسطامي. ذكر أسوار القدس وحاراتها،وأيضا الأسواق في دمشق. وصف القطار ومقاعده الرّثة، ومشقة الرّحلة. استخدم الكاتب عدّة مفردات لإبراز شكل الحياة في فترة الحكم العثماني. مثل:السّقيفة،طاسة،الجودلة،السّراج ،الزّير،المختار،البئر،الجودلة أحسن الكاتب في التذييل بأسفل لتوضيح بعض المفردات القديمة.يوظف الأمثال الشعبية في السّيرة في محاكاة الواقع والظروف،استخدم اللهجة العامية في الحوار ممّا منح مصداقية للنص استخدم اقتباسا لشعر المتنبي ولكن كان في خطأ في الاقتباس.والبيت الصحيح هو. الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني وقال حسن عبادي: شاركت بمعرض عمان الدولي للكتاب في دورته الثالثة والعشرين، والتقيت بالأديب رشيد النجّاب الذي أهداني نسخة من كتابه "الخَرُّوبة". الخَرّوب شجرة أصيلة ممتدّة الظلال ودائمة الخضرة، معمّرة، ومنها يُحضَّر رُبّ ودبس الخروب شراب ويضاف للعصيدة؛ وجاء ذكر الخرُّوبة للمرّة الأولى في صفحة 21، وكانت معلم وإشارة، فلم تكن أسماء للطرقات، واعتاد الناس للإشارة لعلامة واضحة مميّزة تكون نقطة فارقة متعارفاً عليها، تماماً، بلا تشبيه، كالسيّارة الخربانة التي أشار لي شاعر صديق في إحدى مدن الضفّة الغربيّة واصفاً لي مكان سكناه. إنها خروبة قديمة قدم الزمان/ "خرُّوبة النحلة" القديمة التي "استقرَّت بين أغصانها نحلة وجعلت لها فيها مقرًّا" وصارت معلماً مشهوراً ممّا أغاظ الاحتلال واغتالها (ص 56)، تماماً كما اغتال السجّان ريحانة صديقي الأسير محمد مرداوي في سجن النقب الصحراوي، ووردة صديقي المرحوم زهير لبادة الحمراء التي صادرها السجّان وأعدمها. باتت الخروبة مقرّاً ومقاماً، منها تم اقتياد رشيد للجنديّة، "وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم"، صارت صومعة الوالدة ومعبدها وموئلها اليومي، المرصد وخروبة الانتظار، وتعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة في ظلّها. جاء في الإهداء: "إلى أرواح عانقت الطبيعة الجميلة في جيبيا… جدتي وجدّي...أمي وأبي"، ولفتت انتباهي "جيبْيا" (بلدة آبائه وأجداده، قرية جبليّة فلسطينيّة تقع شمالي رام الله، تحيطها أراضي قرى: كوبر، وبرهام، وأم صفا).
أخذني الكتاب مجدّداً إلى قصيدة "رجل وخشف في الحديقة" التي أهداها شاعرنا محمود درويش إلى سليمان النجّاب (ديوان لا تعتذر عمّا فعلت).
يجمع الكتاب ما بين السيرة الغيريّة وأدب الرحلات، سيرة جدّه ومرحلته. يصوّر رحلة العذاب وطريق الآلام من جيبيا الوادعة إلى بعلبك السوريّة خلال رحلة تجنيد قسريّة في جيش السلطان العثماني. يصوّر كاتب "أدب الرحلات" ما صادفه من أمور وأحداث خلال سفرٍ أو رحلةٍ قام بها لأحد البلدان، يتناول معالمها، عاداتها وتقاليدها، أهلها وتاريخها، يسجّل انطباعاته ممّا شاهده هناك، وها هو الكاتب يصوّر رحلة جدّه، سميّه، رشيد النجّاب "حامل الكتاب"، "كان متحفِّزاً للمعرفة، تواقاً لما هو جديد، قادراً على تمييز الغث من السمين، يزنها بمقياس منطقه" (ص. 77)، رحلة مُتخيّلة لم يشارك فيها، بتفاصيل التفاصيل، ولم تغَب عنه شاردة وواردة. وصف الرحلة بالقطار لأول مرّة، حكي يشابه الكذب (أعادني لمشواري الأول بالقطار، ومشوار أحفادي حين طلبا منّي التعرّف على القطار، ورحلتي الأولى لأوروبا بقطار عابر للدول)، قطار بخاري، وصفه بمقاعده، منها المقاعد الوثيرة المنجَّدة بالقطيفة، والأرضيات المفروشة بالبسط والسجاد، ومساره، من طقطق لسلامو عليكو، أدب رحلات كلاسيكي (ص. 41 فصاعداً)، ولمست هذه الظاهرة حين زارني أصدقاء من خارج البلاد، شاهدتهم يدوّنون كلّ ما يشاهدونه، والأمكنة والأسماء، كلّ صغيرة وكبيرة، ومنهم اكتسبت هذه العادة في مشاويري في السنوات الأخيرة.
تتناول الرواية عمليّة تجنيد السلطات العثمانيّة للشباب عامّة ولجدّه رشيد النجّاب خاصّة، أبان الحرب العالميّة الأولى، وما واكبها حتّى عودته إلى قريته، وعلاقة الناس بالحاكم العثماني الجائر، وكان التجنيد إلى غزة، أو مصر، أو البلقان، أو دمشق. حاول الشباب التهرّب من تلك الخدمة ولكن جنود السلطان كانوا بالمرصاد "استفسر عن ثلاثة آخرين، فتبيَّن أن اثنين منهم قد توفيّا مريضين بالحمى، وأن الثالث غادر القرية قبل سنوات ولا أحد يدري عن مصيره شيئاً". صوّر الكاتب عمليّة التجنيد وما يرافقها من قلق العائلة؛ والرحلة الشاقة والمضنية بالقطار من جيبيا في الريف الفلسطيني إلى بعلبك، وكذلك اليوم الأوّل في العسكريّة (ص. 81)، استحقاق غير عادل، لدولة لم تتذكَّر رعاياها عندما استحقَّ تعليمهم، ولا أمّنت لهم رعاية صحية، ولا ظروفاً معيشية كريمة، ولكنها تذكّرت أن لها رعايا عند جني الضرائب، وعند الحاجة إلى شباب تزجُّ بهم في أتون الحرب، حرب غريبة في بلاد غريبة، ليس لهم فيها ناقة ولا جمل"، منوّهاً إلى أنّ أبناء الطبقات المرفهّة المنعمة قد دفعوا البدلات المالية وربما الرشاوى لافتداء أبنائهم من الخدمة العسكريّة... ومن ثم العودة بعد طول معاناة.
دوّن بحرفيّة تلك الأمكنة التي مرّ بها رشيد؛ بداية في قريته جيبيا، وصوله إلى دمشق (وسوق الحميدية، وسوق الصاغة، وسوق البزورية، وسوق مستلزمات الأعراس، وسوق مستلزمات الخيول، وقلعة دمشق)، والعودة إليها سالماً.
كما دوّن لنا تلك المعالم التي مرّ بها رشيد في رحلته؛ "الهْرُبّة" ومقام بايزيد البسطامي وصولاً إلى جبل قاسيون ومعسكر "صيدنايا" (وليس صدنايا).
كما وصوّر لنا النباتات والأشجار؛ الخروب، الكينا، الفلفل البري، الباذنجان البتّيري، العنب والصبر، البطيخ، التين، والزيتون. والمأكولات؛ الكوسا والبندورة، الزبيب والقطين، خبز الطابون، البيض وزيت الزيتون، والجبن الأبيض والعسل. ولم ينسَ الشنانير، والحمامة البريّة. استعان الكاتب باللغة المحكيّة ممّا أضفى على الرواية أصالة، واستعمل الأمثلة الشعبيّة الفلسطينيّة؛ ابنِك رغيف في باطية، اللي بوقع من السما بتتلقَّاه الأرض، إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني، الصباح رباح، بيت البنات خراب، مثل خبز الشعير مأكول مذموم، من سَرى باع واشترى، يسمع دبيب النمل، اللي خلّف ما مات.
راقت لي السخرية العفوية "اتفضل خذه وسلمه، للموت، "ما هو انت لا حبلت، ولا ولدت، ولا مصّصت، ولا بتعرف شو يعني الولد لأمه"، والطيابة القرويّة "قوم يمه نام، الصباح رباح، وملحقين ع الخُرّاف"، "تدَمشَقَ"، و"تَبَغدَد". وكذلك الأمر بالنسبة للسخرية السوداء "ثلاثة خيالة وخمسة من المشاة لتجنيد شاب واحد! هل هي سخرية القدر من السلطنة الممتدة على ثلاث قارات؟! أم هي هذه القرية الصغيرة أم هي قوة رشيد"! همس القائد في سريرته: "الحق أقول كم هو قوي هذا الشاب!" (ص. 19) ممّا أخذني إلى ما سمعته من أسرى وأسيرات كثر وصفوا لي مشهديّة ساعة الاعتقال؛ أخبرتني سهام أبو عياش حين التقيتها في سجن الدامون يوم 21 شباط 2024 عن الاعتقال المفاجئ؛ (الساعة ثنتين نصّ الليل، ليلة 24.12، المطر غزير، أكثر من 30 آليّة عسكريّة مدجّجة وأكثر من 40 جنديا اقتحموا البيت مثل الجراد، صادروا اللابتوب والجوّالات وكيس كتب كيمياء).
ذكر الكاتب بعض العادات؛ استقبال الفاردة على أطراف البلد، استقبال الغريب، "اشترط القائد أن يأكل مَن أحضروا الطعام، والمختار، قبل الجميع للتأكد من غياب نيّة التسميم"، "يتولّى أمر الدابة وربطها في مكان مناسب وتزويدها بالعلف والماء" و"العونة" ونخوة القرويّين في ذاك الزمن الجميل. استعمال الكاتب للهوامش جاء موفقاً؛ فراري، الجودلة/ الجنبية، هيش، الماسية، "شلتونة"، اتفاقية سايكس بيكو، ولكن غاب عنه الزير (وعاء/ جرّة فخّار لشرب الماء، أحسن من أجدع ثلاجة) والأشولة (أرغفة صغيرة من خبز الشعير) والباطية. صوّر الكاتب الريف الفلسطينيّ؛ السقيفة، معرش العنب، الحاكورة (زوجين من الأغنام، بضع دجاجات وديك، حمار العائلة، الكلب)، عريشة تتدلّى من سقفها وجوانبها قطوف العنب الأبيض والأسود، و"عنب جيبيا غير، وهذا الصبر ما في مِثلة في المنطقة، كلها وصحتين وعافية" – ما في حدا بقول عن زيته عِكِر. للكاتب نظرة ثاقبة، يصوّر بكاء الرجال بالكلمات؛ "دمعة الأب شديدة الألم في نفس البنت، وهي أشد ألماً في نفس الأب إن أدرك أن البنت لاحظتها"، وألم الغربة القسرية. يرسم صورة جدّه رشيد قياديّاً بالفطرة؛ "كان كثيرون يطمئنون لوجود رشيد بينهم في هذه الجولات بناءً على ما خبروه منه من مواقف اتسمت بالحكمة، وحسن إدارة المواقف، والقدرة على تخليص المتورِّطين في مواقف صعبة، وربما تكون محرجة أحياناً" (ص. 90)، وتناقل النضال بين الأجيال حين تساءل: "هل علم ولده سليمان بهذه التجربة وهو يكابد ما استجد من فنون التعذيب خلال النصف الثاني من القرن العشرين سيما في السجون الإسرائيلية؟" (ص. 88)، وأخذني مجدّداً للقائي بالصديق أحمد عارضة في سجن الجلبوع يوم 7 آب 2023 وكان نور محور اللقاء ونجمه، وصدمني أحمد حين واجهني بالحقيقة المرّة (صدقاً، لم أفكّر بها من قبل) أنّ المصاب الجلل في نفس الدائرة، ذات العائلات تواجه الاعتقال والأسر والجروح والإعاقات وهدم المنازل... والشهادة. راق لي استحضاره صوت فيروز في كلمات الشاعر ميشيل طراد وأغنية "بكوخنا يا ابني": "وقفوا ع شباكك يدقّو العصافير بجوانِحُن… يا جوانحن المتشرنة" عقوبة "الصرارة" وأثرها على تعلّم رشيد على التحدّي ليحقّق نبوءة "من يراهن على عزم رشيد ليس بخاسر". للمتنبّي عتب على الكاتب؛ فهناك خطأ بعجز بيت الشعر (ص. 30)، والصحيح: "الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أوّل وهي المحلّ الثاني" راق لي استقبال مصلحة لابنها: "رشيد! ... هذا رشيد! ألف الحمد لله على سلامتك يمّه يا حبيبي" (ص 107). ما أجمل صوت زغرودة العودة المشتهاة! أخذتني النهاية لما سمعته في الفترة الأخيرة من أسرى تحرّروا في صفقة طوفان الأحرار؛ "أما ما بعد ذلك يا أمي فبداية عهد جديد" (ص. 111) ويبقى السؤال عالقاً: هل "الخرُّوبة" رواية تاريخيّة أم أنّها سيرة غيريّة لجدّ الكاتب؟ وقال صافي صافي: هل من السهل أن تقف على تفاصيل الذي مضى برواية؟ لا طبعا، فرشيد تناول حكاية جده رشيد في أواخر العهد العثماني، حين كان التجنيد إجباريا، حين كان الناس يحفرون الصخر من أجل لقمة عيشهم، حين كانت القرية صغيرة، والناس يعرفون بعضهم تماما، حين كانت العائلة صغيرة مهما كبرت. رشيد الجد وحيد أبويه، ورغم ذلك يطلبونه للتجنيد، ويتجاوزون القانون، بأمر السلطان العالي. رشيد يرفض أن يكون فراري، ويختبئ في الجبال والأودية، فيواجه الطلب بشجاعة، ويتكل على الله وعلى نفسه الأبية، ويواجه دموع أمه وأخواته ونظرات أبيه بحزم وبثقة. رحلة طويلة من المشي، وركوب عربات تجرها الخيول، وقطار متهالك، من جيبيا إلى القرى المجاورة إلى بيرزيت إلى القدس إلى يافا إلى الشام. يواجه رشيد كل ذلك بصبر، وهو الشغوف للتعرف على كل منطقة يمر منها، فكل لها ذكرياتها المحكية والدينية والتاريخية. يواجه حر الصيف ولسعات الناموس والعطش والجوع والغربة، فيقيم علاقات مع الذين حوله، يكسر من خلالها وحدته وتعبه والانغماس في ردود فعله أهله وقلقهم. حتى في أصعب الظروف، يعمل رشيد لأن يكون متفوقا، فيصبح مدربا، ويختاره القائد في مهمة سرية، لكن رشيد النبيه، ينتبه لأغراض أخرى في نفس القادة، ويخرج منها بأمان. تمر الشهور، فيتم اختياره في مهمة في القدس، وهناك تنتهي الحرب بهزيمة الدولة العثمانية، فيعود إلى أهله. أسئلة كثيره تدور في البال، بعيدا عن الحياة الصعبة وقتها: لماذا تهتم الدولة بواجبات الرعية، ولا تهتم بحقوقهم؟ لماذا تطبيق القوانين بمراسيم القادة حتى لو خالفت الدستور؟ لماذا هزمت الدولة العظمى رغم كل الجهود الفوقية، وأحتلت بلادنا فلسطين؟ هل هزيمة الدولة من الأعداء هي الطريقة المثلى للعودة إلى البلاد؟ ما قيمة الإنسان في دولة لا ترى غير مصلحتها الذاتية؟ .. الخ أسئلة عديدة ما زالت تطرح، فنحن، جيلنا، لسنا فقط الذين عانينا من الأزمات المميتة، بل ٱباؤنا وأجدادنا، وأولادنا وأحفادنا. لأكن صريحا أخي رشيد، أنني وددت أن أقرأ المزيد عن هذه المرحلة. سعدت بقراءة هذه الرواية، وهي الأولى لك، ومتأكد أنك تملك المزيد من المعرفة والقدرات لتناول مراحل لاحقة. كل التبريكات والتقدير، وأنت لك بصمتك في القراءة النقدية لعديد الأعمال الثقافية.
وقالت نزهة أبو غوش: لقد أبدى الكاتب النجاب في روايته، الحرّوبة اهتمامًا واضحًا بتوثيق الجغرافيا المحلية بدقة لافتة في روايته الخروبة. وقد حمل هذا التوظيف الجغرافي دلالات عميقة، ويمكن القول في هذا الجانب: أن الكاتب قد وثق التاريخ والجغرافية الفلسطينية. ذكر القرى والبلدات مثل جيبيا، بيرزيت، كوبر، برهام، أم صفاة، عطارة، بيرزيت، دورا القرع، القدس، يافا، غزة، دمشق... يعبّر عن: التشبث بالمكان؛ وكأن الكاتب يحاول أن يرسم خريطة الذاكرة الفلسطينية قبل أن تُشوَّه أو تُنس؛ فهي توثيق غير مباشر لحركة التجنيد العثماني، من خلال سير المسندين من بلدة إلى أخرى. منح القارئ فرصة للتخييل المكاني، ومعايشة تنقل رشيد من قرية إلى أخرى، حتى يصل المكان الهدف. -بعلبك ودمشق. الأماكن في الرّواية ليست مجرد نقاط على الخريطة، بل هي حاضنة للذكريات والانتماء؛ فالكاتب يتعامل مع كل قرية كأنها كائن حي يحمل مشاعر وأصوات ومصائر. من خلال هذا التعدد المكاني، نرى كيف أن القرى الصغيرة جزء من مأساة كبرى، فكل اسم يحمل خلفه قصة، وعائلة، وانتظارًا. رحلة رشيد من قريته إلى مدينة دمشق تمثل رمزًا لانتقال الفتى من الطفولة إلى الرّجولة، من الأمان إلى المجهول، من الخاص إلى العام. دمشق ليست مجرد محطة، بل هي رمز حضاري وتاريخي وديني، وبلوغها في نهاية الرّواية يُضفي على الرحلة بعدًا شبه أسطوري، أو مصيرًا حتميًا. يمكن اعتبار هذا النمط أقرب إلى الأسلوب التسجيلي أو الوثائقي داخل الرواية الأدبية، وقد استخدمه الكاتب: لتكريس الواقعية في السرد. ولحماية الذاكرة الجمعية من الضياع. ولإعطاء الرواية ملمحًا جغرافيًا فريدًا يجعلها بمثابة خريطة أدبية للمكان والزمان في نهاية الحكم العثماني. شخصية الراوي في الرواية تُشكّل حجر الزاوية في البنية السردية، إذ يجمع بين الماضي والحاضر، بين الصوت المتكلم والصوت المتأمل. لا يكتفي الراوي بسرد ما نُقل إليه من ذاكرة، بل يُعيد تشكيل الذاكرة عبر نظرة نقدية، تجمع بين الألم والتوثيق، وبين الحنين والرؤية السياسية. هو شاهدٌ غير مباشر على المأساة، وحاملٌ عبء استمراريتها في الوعي. بهذا، يتحوّل الراوي إلى رمز للمثقف الفلسطيني الذي يرفض النسيان، ويعيد عبر الكلمة بناءَ ما هُدم نرى أن الكاتب قد تدخّل أحيانا في السرديّة وذلك يعتبر من الإيجابيات في هذه الرواية؛ حيث ربط الماضي بالحاضر، فمثلا حين ذكر ما حدث بقرية سمخ قرب مدينة طبريا، وكيف أصبحت فيما بعد مهجّرة ومدمرة. شخصية "رشيد" في الرواية رمزًا حيًّا للإنسان الفلسطيني الذي جُرّد من حريته وسُلب قراره في ظل سلطات خارجية، كالعثمانيين. لم يكن رشيد جنديًا باختياره، بل ضحية قسرية لسلطة لا تعبأ بإنسانيته. من خلاله، يُعرّي الكاتب زيف الشعارات الإمبراطورية ويكشف مأساة الفرد المغلوب على أمره، الذي يجد نفسه مساقًا في صراعات لا تخصه، تُبعده عن أرضه وهويته، وتزرع في داخله غربة لا يداويها الزمن. رشيد ليس مجرد شاب، بل هو صورة للوطن حين يُختطف قسرًا ويُحشر في حروب لا تمثّله.
شجرة الخروب: هنا تصبح الخروبة أشبه بـأم ثانية، تحضن الوجع، وتمنح بعض الطمأنينة، أو تمتص الحزن بصمتها وشموخها تكتسب طابعًا أسطوريًا كأنها "مقام وجداني"، تمامًا مثل مقام بايزيد البسطامي في الرواية، لكنها مقام يومي شعبي لا ديني، محوره الحياة لا الموت.
وقالت رفيقة أبو غوش: تعتبر الرواية سرديّة لحقبة زمنيّة محدودة، لزمن حكم العصر العثماني؛ وكرواية تأريخيّة لسيرة غيريّة لحياة جد الكاتب السيّد رشيد النّجّاب. وصف الكاتب الحالة الاجتماعيّة للفلسطينيين أثناء هذه الحقبة، حالة الوضع الاجتماعي، وحالة الفقر، والتّواصل الاجتماعي بين أبناء القرى والمدن المتاخمة لمدينة رام الله. سرد الكاتب روايته بطريقة متسلسلة، بوصف طريقة تجنيد الشّبّان الفلسطينيين؛ للمشاركة في الحرب العالميّة الثّانية، اختار الكاتب بطل روايته السيّد رشيد، وحيد والديه من الذّكور، وأختين؛ بالإضافة لوالده عبدالرحمن، ووالدته مِصلحة. سرد الكاتب روايته بضمير المتكلّم الغائب، الّذي حرّك أحداث الرّواية، كعالِم بكافّة أحداثها؛ مستخدمًا أسلوب السّرد المُتسلسل، الاسترجاع الفنّي، بالتّذكّر والتّأمّل.ِ احتلت الأمكنة حيّزًا واسعًا، أثناء سرد الكاتب مسيرة رحلة التّجنيد، بمرافقة رشيد وزملائه الشّبّان من كافّة القرى المجاورة لقرية رشيد (جيبتا)؛ رصد الكاتب عددًا كبيرًا من أسماء القرى والمدن الفلسطينيّة مثل: (أم صفّا – كوبر – بايزيد – الّبي صالح – بيزيت – عين سينيا – جفنا – عطارة – عجّول – عبوين – عارورة - دورا القرع – دير الشّيخ – دير أبان – وادي الصرار – برقة نابلس – جنين – سيلة الظّهر – بيسان – مرج بن عامر – بيسان). كانت القدس حاضرة في الرّواية، عند عودة رشيد، مرّ بالقدس، وتجوّل في طرقاتها، وعن مروره بكنيسة القيامة، وزيارة المسجد الأقصى، وباب العامود". ص 109. تكاد أحداث الرّواية تخلو من الخيال، فهي تصوّر أحداثًا واقعيّة، لتشابه الأحداث والأشخاص؛ خاصًّة عندما ذكر الكاتب بأنّ احداث الرّواية تخصّ جده رشيد النّجّاب، وصورة غلاف الرّواية، هي صورة شخصيّة لجد الكاتب نفسه. إنّ اختيار الكاتب لعنوان الرّواية "الخرّوبة" سُمّيت بخرّوبة النّحلة. إنّ شجرة الخرّوبة المزروعة منذ قِدم الزّمان، أمام سقيفة عبدالرّحمن؛ والّتي ترمز لأهميّتها في حياة العائلة، حيث شكّلت ملجأً تأوي إليه أم رشيد؛ لتنعم بالسّكينة، وتستحضر الذّكريات، بعد رحيل زوجها في العبّاسية، بعد الرّحيل الأوّل، تحت ظلّ شجرة الخرّوب، ودّعت أم رشيد وحيدها عندما غادر برفقة التجنيد؛ وعادت تنتظره كل يوم، عند عودته من التّجنيد العسكري في سوريا. " كانت الخرّوبة حقًّا صومعتها، ومعبدها الّذي تلجأ إليه في العصاري (الصومعة الخرّوبيّة)". صفحة 106. امتازت لغة الكاتب باللّغة ذات السّهل الممتنع، تخلّلتها اللّهجة الفلسطينيّة العاميّة المُستعملة؛ أثناء الحقبة الزّمنيّة المذكورة أعلاه. كما ذكر: "روح يمّة، روح الله يسهّل عليك ويرضى عليك رضى ربّي ورضى قلبي". وردت بعض المفردات الغريبة مثل: (الجودلة -شبه الفرشة السّميكة، الماسية – المنتج الوفير، شلتونة – تراجع الإنتاج). تخلّل الرّواية حوارات خارجيّة وحوارات ذاتيّة، لوالدة رشيد عندما تساءّلت مخاطبة نفسها: هل سيعود رشيد؟ كيف سيعرف جهتنا؟ كذلك الحوارات الدّاخليّة لرشيد عندما سافر في القطار من القدس إلى دمشق. إنّ شخصيّات رشيد وعائلته، مثّلت وضع العائلات الفلسطينيّة، والعربيّة؛ أثناء تجنيد الشّباب للخدمة العسكريّة التّركيّة. نهاية الرّواية كانت بوتيرة سريعة دون تمهيد مسبق؛ حيث كانت رحلة عودة رشيد لبلدته؛ عندما كان مبعوثًا لمهمّة في القدس، فتزامن سقوط الدّولة العثمانيّة؛ مع وجوده في فلسطين، ممّا حتّم عليه البقاء في حضن أسرته. خلاصة القول: رواية الخرّوبة رواية غيريّة، وثّقت مرحلة تاريخيّة هامّة؛ لحياة الفلسطينيين أثناء الخلافة العثمانيَة، وآثارها السّلبيّة النّاجمة. يُنصح توثيق هذه الرّواية في الأرشيف الفلسطيني.
وقال بسام داوود: الرواية واقعية وصفت الواقع الفلسطيني في اواخر عهد الامبراطورية العثمانية اشارت الى بساطة حياة الاسرة الفلسطينية , الفقر ,الحرمان من التعليم ومن الرعاية الصحية وخدمات اخرى وتفشى الامية لقلة المدارس وانشغال الدولة في الحروب الكثيرة في اليمن والبلقان وغيرها من المناطق . الحدث الرئيسي في الرواية يدور حول الشاب رشيد النجاب الشاب الوسيم صاحب الشخصية القوية المحبوب من كل اهل بلدته الذي يعيش في اسرة بسيطة مكونة من الاب عبدالرحمن وامه مصلحة واخواته فاطمة وحمدة يعيشون في سقيفة متواضعة تضاء ليلا بسراج صغير وهو وسيلة الاضاءة الوحيدة في تلك الايام تعتاش هذه الاسرة من الزراعة البسيطة في حاكورة البيت ولا تملك الا ماعزا وحمارا وبضع الدجاجات وهذا ما ينطبق على الكثير من الاسر الفلسطينية في تلك الحقبة الزمنية . وبسبب الحروب التي تخوضها السلطة العثمانية فرضت التجنيد الاجباري على الشباب من عمر 15 الى 25 سنة واطلقت العنان لخيالتها ليجوبوا البلاد شرقا وغربا شمالا وجنوبا باحثين عن الشباب لتجنيدهم فمنهم من كان يفر ويطلقوا عليهم الفراري ويكون مصيرهم اما ان تبتلعهم الصحراء او تأكلهم الوحوش او تنال منهم رصاصات السلطة اما الاسر الميسورة فكانت تدفع المال او الرشوة لافتداء ابنائها من التجنيد وهؤلاء هم سكان المدن لذا كان الفقراء واهل القرى هم من ينالهم هذا التجنيد وكان رشيد واحدا منهم على الرغم من انه وحيد والديه الا ان ذلك لم يشفع له من التجنيد وقد اثبت تماسكه وصبره وتقدم بكل جرأة ليخوض هذه التجربة القاسية ومثله كمثل كل شباب فلسطين الذين يتحملون كل قسوة الظروف ويواجهون التحديات ويثبتون نجاحهم في كل زمان ومكان . انطلق رشيد وبقية المجندين ليصلوا محطة القطار في القدس ليتم هناك توزيعهم اما الى غزة ومصر او الى يافا ومنها الى البلقان او الى دمشق وقد شاهدوا في القدس عظمتها وهيبتها باسوارها وابوابها والمسجد الاقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة وكان نصيب رشيد ان ارسل الى دمشق ومنها الى معسكر بعلبك في لبنان واثبت جدارته وصبره فهو صاحب القدرات المميزة التي لا يتمتع بها غيره وقد خاض تدريبات شاقة من الركض والرماية والتصويب ليكون مميزا من بين كل المجندين خاصة بعد ما اثبت قدرته وتحمله وصبره لامتحان الصرارة التي فرك بها القائد اذنه ليتم اختياره ليكون مدربا للنيشان والتصويب مما اعفته من الذهاب الى جبهة الحرب . وبدأ عمله الجديد كمدرب وحاز على حب وتقدير المجندين ليبني معهم علاقات انسانية واسعة الذين كانوا يعانون من قسوة وغلظة المدربين السابقين . وكلف بعدها بمهام اخرى لتميزه كانت اخرها ان ارسل الى مدينة القدس بمهمة رسمية واثناء وجوده في القدس وصلت الاخبار بانتهاء الحرب وهزيمة تركيا فكان قراره بالبقاء في الوطن ليعود الى قريته جيبيا ليبدأ حياة جديدة بجوار امه واخواته بعد وفاة والده الذي توفي بعد ان هاجرت الاسرة بسبب ضيق الحال بحثا عن لقمة العيش في يافا وقد سميت هذه الهجرة بالهجرة الاولى . اشارت الرواية الى امور عديدة منها : -الخروبة : كانت وجهة نظر الجميع تجمع ولا تفرق معلما مشهورا يجتمع تحتها الناس يتبادلون الحديث ليعالجوا مشاكلهم ويضعوا لها الحلول وكم نحن بحاجة لهكذا امكنة لتوحيد الناس وتجميعهم وعند قدوم الاحتلال لم يطيب له هذا فقام باغتيال هذه الشجرة كما اغتال اشياء كثيرة بحياتنا ليقتل فرحتنا . -اشارت الرواية الى الكثير من الاماكن لتذكير القارئ بها منها طبريا التي شهدت نشأة القائد الفلسطيني ظاهر عمر الزيداني الذي اقام او ل كيان فلسطيني في القرن الثامن عشر . -قرية سمخ بجوار طبريا التي دمرها الاحتلال وطمسها وشرد اهلها واقام مكانها مستوطنة تسيماح وهذه هي سياسة الاحتلال لطمس الحقائق التي اتبعها لتدمير مئات القرى والبلدات الفلسطينية وتهجير اهلها وبناء المستوطنات . -لاحظنا كيف ان القطار يتحرك بحرية من القدس الى يافا الى بيسان الى درعا الى دمشق الى بعلبك وغيرها من المدن الكثيرة فلا توجد حدود ولا حواجز الى ان جاءت اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة وقسمت البلاد الى دويلات واوجدت الحدود والحواجز . -اشارت الرواية الى بدأ دخول الانجليز الى فلسطين ومنطقة يافا بالتحديد ليبدأوا باستثمار الارض الزراعية وزراعة البرتقال الذي تشتهر به يافا ويتم تصديره الى اوروبا . -سوق الحميدية في دمشق بناه السلطان عبد الحميد الاول وسمي بهذا الاسم نسبة له . -قلة المدارسة والجامعات في عهد السلطنة العثمانية وحرمان الناس من التعليم والرعاية الصحية الاولية مما ادى لتذمر الناس ليقولوا ان السلطة لا تذكرهم الا عند جبي الضرائب او الدعوة الى التجنيد . -الفلسطينيون يهتمون بالمواسم فعندهم موسم الزيتون ,موسم العنب ,موسم الباذنجان (البتيري ) واعتادوا ان يعملوا لها مهرجانات سنوية وكانوا يتفائلون بموسم الزيتون الجيد ليطلقوا على السنة سنة ماسية وان كان الموسم سيئا يطلقون على السنة سنة شلتوتة . -الفلسطينيون عندهم نخوة وشهامة يعبرون عنها بالعونة حيث يسارع الناس بالعمل المشترك خصوصا عند افتقار العائلة لايدي عاملة وقد تطورت العونة وتوسعت لتصبح مسؤولية مجتمع محلي لمواجهة التحديات الكثيرة من قبل الاحتلال لتستمر الحياة وقد لاحظنا في الرواية كيف قام ثلاثة اشخاص بتحضير الطعام للخيالة عند قدومهم لبيت المختار في بير زيت حتى لا يتحمل العبئ شخص واحد.
نبارك للاديب الاستاذ رشيد النجاب هذه الرواية الجميلة التي تحدث فيها عن جده رشيد النجاب المنحدر من قرية جيبيا قضاء رام الله .
وقالت تالا توشير: تناولت الرواية مواضيع عديدة أبرزها صراع الهوية الفردية سلطة الدولة من خلال تصوير حياة قرية ريفية في ظل الحكم العثماني والتجنيد الإجباري. تتركز الرواية حول شخصية رشيد، الشاب الوحيد لأسرته، الذي يواجه خطر اقتلاعه من جذوره وأهله -[ص. 10–11]. ومن خلال قصة بسيطة في ظاهرها، يسلط الكاتب الضوء على قضايا أعمق مثل الغربة [ص. 42]، وانكسار الأمومة [ص. 31–32]، والخضوع للسلطة [ص. 17]. الرواية تقدم رؤية إنسانية لِما تعنيه الوطنية حين تتحول إلى قيد [ص. 47]، وتطرح تساؤلات حول معنى الانتماء والقدرة على المقاومة [ص. 44–45]. تناقش الرواية موضوع التجنيد الإجباري كأداة قهر تستخدمها السلطة لفرض نفوذها على الأفراد، لا سيما في المناطق المهمشة [ص. 18–19]. يظهر هذا بوضوح في مشاعر الأسرة الممزقة، وخاصة الأم، التي تخشى فقدان ابنها الوحيد [ص. 30]. كما تتناول الرواية الخوف والقلق والانتظار بوصفها حالات تعيشها القرية [ص. 24–25]، وتبرز كيف تصبح القرارات السياسية واقعًا يغيّر مصير الناس [ص. 29]. ومن الموضوعات الأخرى البارزة: العلاقة بين الأم والابن [ص. 31–33]، وتحوّل الحياة اليومية إلى مشهد وداع مستمر [ص. 35]. يعتمد الكاتب في السرد على راوٍ يقدّم نظرة متعددة الزوايا، مما يسمح للقارئ بالتنقل بين المشاعر الداخلية لكل من رشيد، ووالده، ووالدته . رشيد يظهر كشخصية محاصَرة بين الرجولة المفروضة عليه وبين رغبته في البقاء إلى جانب عائلته [ص. 14–15]. أما الأم، فتجسّد الأمومة العربية في أصدق صورها: الدعاء، الصبر، والانكسار الصامت [ص. 32]. البنية السردية بطيئة الإيقاع في البداية ثم تتصاعد تدريجياً، لتعكس التوتر المتزايد في انتظار قرار التجنيد [ص. 20–22]، مما يجعل القارئ يشعر بكثافة المشاعر. يستخدم الكاتب رموزًا متعددة لتكثيف المعنى، أبرزها شجرة “الخروب” التي ترمز إلى الجذور، والهوية، والصبر [ص. 8–9]. كما أن الركب والموكب يرمزان إلى المصير الحتمي والرحيل [ص. 38]، بينما الليل يمثل القلق والصمت [ص. 26]. اللغة السردية تمزج بين الفصحى والتعابير الشعبية، وتتميز بوصف حسي قوي، مما يقرّب القارئ من الشخصيات . كذلك يوظّف الكاتب الطبيعة والصخور والطرق الترابية كعناصر تعبّر عن العزلة، وصعوبة النجاة، وتعقيد الواقع القروي [ص. 23–24]. في رواية " الخروب" ، يقدّم الأديب رشيد عبد الرحمان شهادة أدبية على هشاشة الإنسان أمام سلطة الدولة [ص. 44]، وعلى قوة الروابط العائلية التي تحاول الصمود رغم كل شيء [ص. 33–34]. الرواية تتجاوز كونها قصة عن التجنيد، لتصبح مرآة لحالة عربية عامة، فيها الخوف من الفقد، والحيرة أمام السلطة، والبحث الدائم عن معنى للبقاء [ص. 47]. بأسلوبه الروائي ورموزه العميقة، يصوغ الكاتب نصًا أدبيًا يمكن أن يُقرأ كنداء ضد الظلم، وكوثيقة عاطفية تحمي ذاكرة المكان من النسيان [ص. 49].
وقال الياس نصرالله: لظروف خاصة، لم أقرأ منذ مدة أي عمل روائي عربي أو أجنبي وأقتصرت قراءاتي على الأبحاث التاريخية والسياسية التي استحوذت على معظم وقتي. فجاءت "الخروبة" لتحيي في نفسي من جديد حب الأعمال الروائية، علاوة على أن خلفية مؤلفها المعروفة لي وتوقعت أن أجد فيها ما يسرّ، وهوما حصل بالفعل ودفعني للكتابة عنها. تميزت "الخروبة" بأسلوب سلس وجذاب يساعد القارئ على التركيز في القراءة والاستمتاع بالنص، مما جعلني أنهي قراءتها بسرعة. فالمؤلف ركز على تصوير الأجواء العائلية والاجتماعية التي نتجت عن عملية تجنيد السلطات العثمانية لرشيد النجاب، جد المؤلف، إبان الحرب العالمية الأولى، علاوة على وصف رحلة التجنيد وما صادفه الجندي رشيد خلالها وحتى نهاية الرحلة وعودته سالماً إلى مقر إقامته مع عائلته في جيبيا. فعلى الأغلب أنه كتب الرواية وفاء لذكرى جده رشيد ووالده عبدالرحمن وعمه سليمان وأفراد عائلتهم، مما يدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن "الخروبة" هي شبه سيرة ذاتية لعائلة النجاب خلال القرن العشرين صيغت بأسلوب روائي. ففي تعريفه للرواية الوارد على الغلاف الخلفي للكتاب، كتب محمود شقير، الأديب الفلسطيني البارز، قائلا "حين شرع رشيد عبدالرحمن النجاب في كتابة سيرة جدّه رشيد لم يجد بُداً، بسبب شحّ المعلومات الشخصية لديه عن الجد، من إطلاق العنان لمخيلته لكي تستحضر المرحلة التي عاش فيها جدّه أواخر أيام الدولة العثمانية التي شهدت إقدام الدولة على تجنيد الشباب الفلسطينيين والزج بهم في حروبها العديدة في أصقاع الأرض المختلفة". فتجنيد الشباب في فلسطين وغيرها من أقطار الامبراطورية العثمانية شغل حيزاً واسعاً من حياة مواطني الامبراطورية وجرت معالجته في الكثير من الأعمال التاريخية والأدبية على حد سواء، خصوصاً موضوع الفراريين، أي الجنود الذين كانوا يفرون من الخدمة العسكرية وحملات التفتيش عنهم واعتقالهم ومعاقبتهم من جانب الجيش التركي. لكن مؤلف "الخروبة" إمتاز عن غيره من المؤلفين الذي كتبوا عن هذه الفترة وخصوصاً الجندية في الجيش العثماني أو التركي، أنه في "الخروبة" قدًم لنا صورة غير نمطية عما أحدثه تجنيد الجدّ رشيد واقتياده مع المجندين الآخرين للقيام بالخدمة العسكرية. فالامبراطورية العثمانية في آخر عهدها كانت قد دخلت في حروب عديدة لم تعُد لدى مواطنيها القدرة على تحمل أعبائها، وساد شعور جارف بين الناس في فلسطين وغيرها من أنحاء الامبراطورية، بأن تلك الحروب "غريبة وفي بلاد غريبة، ليس (للمجندين) فيها ناقة أو جمل، فأي حكمة أن يُزج بالإنسان في معركة لا يعلم عنها شيئاً"، فانتشرت ظاهرة الفراريين انتشار النار في الهشيم مما خلف لنا على الأقل في فلسطين تراثاً كاملاً حول هذه الظاهرة. فعبدالرحمن والد رشيد المجند ووالدته مِصِلحة، على عكس العديد من العائلات في الامبراطورية، أبديا موقفاً عقلانياً وواقعياً ولم يستسلما للأفكار التي انتشرت حولهما والداعية لتجنيب ابنهما الوحيد للتجنيد، بل أصرا على تجنيده على عكس أولياء الأمور الآخرين. وعبّر عبدالرحمن، الجد الأكبر للمؤلف، عن هذا الموقف بقوله "قد يبقى أمل بالعودة مهما كان قليلاً إن هو ذهب بالطريقة العادية، أما أن يختفي ثم يُلقى عليه القبض لاحقاً بصفته "فراري"، فإن هذا يلقي بمصيره إلى المجهول حتماً". كان ذلك موقفاَ شجاعاَ من جانب الوالد عبدالرحمن والوالدة مِصِلحة اللذين لم يغامرا بمصير ابنهما الوحيد. إلا أن هذا الموقف ما يميز "الخروبة" أنها كغيرها من الروايات عن فترة الحرب العالمية الأولى التي اشتهرت في فلسطين باسم "السفر برلك" لم تقتصر على أساس معالجة ظاهرة الفرار، بل تناولت جوانب أخرى من موجة تجنيد الشباب الفلسطيني في العهد العثماني لتصوير ما أحدثته عمليات التجنيد لدى أفراد عائلات المجندين من أولياء أمور وأخوة وأخوات وأقارب، بل حتى الجيران وأصدقاء المجند وأصدقاء عائلته. فعندما اقتاد الجنود الأتراك المجندين الشباب، لم يكن والدا رشيد وأفراد عائلته على علم إلى أين سيذهب ابنهم أو ما هي الجبهة التي اقتيد ليحارب فيها، رغم أن أحد الخيالة من الجنود الأتراك، عندما استعد ركب المجندين للتحرك من جيبيا، قال "إن مشوار هذه المجموعة لن يكون بعيداً". فرسم المؤلف مشهداً يعكس أجواء المنزل عقب مغادرة رشيد ومجموعة المجندين جيبيا، إذ انتابت أمه "أفكار، وهموم، وأشجان، وتساؤلات لن تهدأ قبل أن يترسخ واقع جديد يتمثل في عودة ابنها إلى أفق الرؤية اليومية". وقالت أم رشيد "أعطوني مية"، وأضافت: "نشّفوا ريقي الله ينشف ريقهم، ضاقت الدنيا في عينهم؟ فش غير رشيد في الدنيا"! فيما نادى الوالد عبدالرحمن على ابنته فاطمة قائلاً "جيبوا لنا لقمة خبز وشوية زيت يابا، ثم دعا زوجته إلى الطعام، فردت أم رشيد قائلة "مش قادرة أحط اللقمة في ثمي يا أبو رشيد، خليها للصبح، الصباح رباح". تناول أبو رشيد لقيمات معدودة، لكنه شعر بغصة فطلب جرعة ماء فشرب ودفع بالطبق بعيداً وقال "كأنني أرى رشيد يجلس ويأكل معنا، وقفت اللقمة في الزور ولم تجد للمتابعة سبيلاً". في الليل لم يغمض لأفراد العائلة جفن فمنذ تلك الليلة بدأت العائلة رحلة انتظار عودة رشيد، وما تنطوي عليه من عذاب وكوابيس. فأعلنت مِصِلحة الأم "رشيد عائد، هذا ما يقوله لي قلب الأم، طال الزمان أم قصر، سيعود رشيد وسأنعم بذريته من الأبناء ولا بأس ببعض البنات". وظلت الأم على هذا المنوال طوال فترة غياب رشيد حتى عودته من الجندية. فعندما كانت العائلة تجلس لتناول طعام الغداء كانت أم رشيد تردد بلا انقطاع "وينك يمة يا رشيد؟ قديش كان يحب هالطبخة! الله يردك سالم... وصاحبت قولها تنهيدة عميقة تنبئ بحزن عميق". صحيح أن المؤلف استخدم مخيلته في استحضار المرحلة التي عاشها جدّه رشيد في تلك الفترة، لكنه إلى جانب ذلك اعتمد على معلومات عديدة من الواضح أنه سمعها من جده رشيد ووالده وأعمامه أو عماته عن جده وجدته وعلاقاتهم الاجتماعية مع أبناء جيبيا والقرى أو البلدات القريبة منها، معلومات ساعدته كمؤلف على تركيب مشاهد وصور عديدة دخلت في صلب الرواية. فعلاقة الجد الأكبر عبدالرحمن على سبيل المثال مع أبو سليم، أحد أعيان بلدة بير زيت، من الواضح أنها لم تكن متخيلة، كما تبدو من تفاصيل هذه العلاقة والزيارات المتبادلة بين العائلتين وتبادلهما الهدايا. الأمر الذي حفز المؤلف على توظيف هذه العلاقة الواقعية في النص الروائي على نحو أضفى عليه جمالية طبيعية. أما البنتان فاطمة وحمدة، أختا المجند رشيد، فصادف أن التقيتا خلال جولة لجمع بعض العنب والصبر للعائلة أن صادفتا مجموعة بنات من بلدة كوبر القريبة، فسلمتا عليهن وجلستا لتبادل الأحاديث معهن، حيث كانت زيارة فرق التجنيد هي الموضوع الرئيسي في المحادثة. فسمعت فاطمة وحمدة من بنات كوبر أن ركب المجندين اتجه إلى بير زيت القريبة. فما أن بلغ هذا الخبر مسمع عبدالرحمن حتى قرر أن يذهب للقاء صديقه أبو سليم في بير زيت للاستفسار عن مصير رشيد. فتبين له أن المجموعة التي كان رشيد من ضمنها اقتيدت إلى القدس، حيث كان هناك تجمع للمجندين من مناطق مختلفة في فلسطين جاءوا تمهيداً لنقلهم بالقطار إلى المكان المقرر لكل مجموعة. وظلت هذه الوجهة مكاناً مجهولاً بالنسبة للعائلة، ومصدر قلق لديها. فسمع عبدالرحمن من أبو سليم ما هدأ من روعه. وقال أبو سليم إنه كان بالصدفة بحكم عمله موجوداً على مقربة من محطة القطار في حي البقعة في القدس، عندما تجمع المجندون كل مجموعة على حِدَةٍ، استعداداً ليستقلوا القطار، فوقع نظره على رشيد إبن صديقه عبدالرحمن وظل يراقبه إلى أن شاهده يصعد إلى القطار، حيث سمع أبو سليم أن مجموعة رشيد ستغادر إلى دمشق. فاطمأن قلب عبدالرحمن عندما سمع هذه القصة من أبو سليم، وأدرك أن رشيد لم يُنقل إلى مكان بعيد وبإمكانه العودة إلى جيبيا بسهولة، على عكس المجندين الآخرين ومنهم من توجهوا إلى يافا ومنها بحراً إلى منطقة البلقان. فالعلاقة بين عبدالرحمن وأبو سليم قدمت صورة ناصعة عن تضامن الجيران وأهالي القرى المجاورة مع بعضهم البعض في أوقات الشدة، وعلى سبيل المثال مع عائلات الشبان الذين تم تجنيدهم في الجيش التركي خلال الحرب العالمية الأولى. فالمؤلف قدم للقارئ صورة عن هذه العلاقة بأسلوب سهل ومبسط من دون تعقيد، وهو ما شدني للرواية وساعدني على التهامها وإكمال قراءتها بسرعة. فقبل أن تنتهي جلسة عبدالرحمن مع أبو سليم، استأذن عبدالرحمن ليذهب إلى السوق في بير زيت لشراء بعض السكر والشاي، فقال له أبو سليم "هذه المواد باتت شحيحة في الأسواق"، وأضاف "فثمة من يقول أن حرباً كبيرة على وشك الوقوع، لكنني أحضرت من القدس كميات وافرة من باب الاحتياط، وسيكون لك منها نصيب، ثم أن هذه المواد غير متوافرة في بير زيت، ولا حتى في رام الله". فالمؤلف أراد من هذا الحوار أن يعطي فكرة للقارئ عن الوضع االاقتصادي والمعيشي الذي عاشته فلسطين إبان الحرب العالمية الأولى. بالطبع غير ممكن للقارئ أن يهمل سعي المؤلف لتسجيل وقائع تجعل من النص الروائي ما يشبه السيرة الذاتية لجده رشيد، بطل الرواية. بل أكثر من ذلك، وكما يقول المثل العربي الشائع "شغل المعلم لروحه"، أبدى المؤلف اهتماماً أدق بعائلته ووفاء لوالده عبدالرحمن، الذي أصبح مهندساً زراعياً، وعمّه سليمان، المناضل السياسي الذي أصبح قائداً سياسياً بارزاً في فلسطين. فروى المؤلف، أنه حين ذهب الجد الأكبر رشيد للقاء صديقه أبو سليم في بير زيت، مرّ قرب قطعة أرض "ممهدة لم يعلم عبدالرحمن في حينه أن حفيده وحامل اسمه وكنيته "أبو رشيد" سيناضل بالمعنى الحرفي للكلمة مع آخرين في سبيل إنشاء مؤسسة تعليمية تخدم تسعاً من القرى المحيطة، كان لها ولا يزال دور رئيس في تنمية المجتمعات المحلية". أما تطرق المؤلف أو إشارته إلى سيرة حياة عمه سليمان فجرت حين روى قصة العقاب الذي تلقاه المجند رشيد على يد الضباط الأتراك لتورطه مع مجموعة أخرى من المجندين في ارتكاب هفوة معينة أثناء التدريب، فحُكم على كل منهم بتلقي ثلاثين جلدة، حيث قدّر المشرف التركي بأن رشيد قد يصمد تحت الضرب مما يجعل المجندين الآخرين يصمدون هم أيضاً. فقرر أن يترك رشيد إلى النهاية. فلم يجد المؤلف لتصوير هذا الموقف سوى الاستعانة بالصمود الأسطوري لعمه سليمان، الذي عقب احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، ألقى الجيش الإسرائيلي عليه القبض بعد مطاردة طويلة، وجرى تعذيبه بوحشية في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن نشاطاته المعادية للاحتلال وعن تنظيمه السرّي، فصمد ولم يحصلوا منه على أي معلومة، فأبعده الإسرائيليون إلى لبنان، حيث استقبلته قيادة الثورة الفلسطينية استقبال الأبطال وتم تعينه عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني واختياره عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة. فكتب المؤلف متسائلاً، هل علم سليمان بتجربة والده رشيد "وهو يكابد ما استجد من فنون التعذيب خلال النصف الثاني من القرن العشرين سيما في السجون الإسرائيلية؟ هل كانت هذه التجربة حافزاً آخر للثبات مضافاً إلى أسباب الثبات المبدئي الأخرى"؟ فاختيار المؤلف لذكر والده عبدالرحمن وعمّه سليمان أضفى على الخروبة مزيداً من المصداقية وطابعاً واقعياً. وقال مهدي نصير: الراوي في هذه الرواية هو الراوي الحفيد رشيد و يروي ما تجمع وترسَّب في ذاكرته من سيرة رحلة جده رشيد من قرية جيبيا من قرى رام الله إلى التجنيد العثماني أثناء حرب البلقان و العالمية الأولى ، و قصة عودته مع نهاية الدولة العثمانية إلى قريته " جيبيا " ليبدأ بتأسيس أسرته و رعاية أمه و أختيه بعد رحيل والده عبد الرحمن في بلدة العباسية في يافا في هجرتهم الأولى نتيجة القحط والفقر من جيبيا إلى يافا . لغة الرواية لغة رشيقةٌ فصيحةٌ بلا تكلف يمتزج معها اللهجة و الأمثال و الحكايات الفلاحية الفلسطينية في اسلوبٍ بسيطٍ و مشوّق . الرواية كانت في جوهرها رحلة فرع القطار الحديدي الحجازي الفلسطينية و هو الفرع الذي يربط دمشق بفلسطين عبر كل قرى و بلدات فلسطين عبر القدس و رام الله وجنين و سهل مرج ابن عامر و طولكرم و بيسان و العفولة و جسر بنات يعقوب ( جسر المجامع الحديدي ) الذي يربط مسار القطار فوق نهر الأردن باتجاه الحمة و حوض اليرموك وصولا لدرعا حيث يلتقي هناك بالخط القادم من عمَّان والحجاز باتجاه دمشق ، هي رحلة المجند العثماني الفلسطيني خلال جغرافية فلسطين و قراها و خصبها ، كان حضور المكان الفلسطيني غزيراً و مقصوداً في هذا الرواية حيث حضرت جيبيا و كوبر و بيرزيت و أم الصفاة و برهام و القدس و سلواد و يافا و حيفا و العباسية و رام الله و جنين و اللد و الرملة و طولكرم و مرج ابن عامر و بيسان و العفولة و حضرت معها أماكن و تراث هذه البلدات و المدن و القرى : مقام بايزيد البسطامي و أحراش النبي صالح و مقام برهان الدين و مقامات الاولياء الصالحين و آثار من سكنوا هذه البلاد و أشجارهم العريقة و منها خروبة الانتظار التي أقامت بها مِصلِحة ام رشيد في انتظار عودة رشيد من التجنيد العثماني . تنتهي هذه الرواية بعودة رشيد بزيِّه العسكري إلى بلدته جيبيا ليبدأ حياةً جديدةً مليئةً بقادمٍ مليءٍ بالنكبات . هذه الرواية كما أتوقع هي الجزء الأول من سيرة عائلةٍ فلسطينيةٍ ممتدةٍ عبر تاريخ فلسطين وأتوقع كذلك ان يكون الجزء الثاني هو سيرة رشيد الجد وابنيه عبد الرحمن وسليمان بعد عودة رشيد الجد إلى جيبيا وبروز الصراع مع العدو الأشرس في تاريخ فلسطين العدو الصهيوني الذي ما زال جاثماً على أرض فلسطين ويمزقها ويدمرها ويحولها لمستوطنات لشذَّاذ آفاقه المجرمين . أبارك لصديقي رشيد النجَّاب روايته الجميلة " الخرُّوبة " وأنتظر متابعة كتابة هذه السيرة العائلية الهامة لعائلة فلسطينيةٍ عاشت وما زالت تعيش كلَّ هذه التحولات المأساوية في فلسطين . وقال نبيل طنوس: سنتناول في هذه المقالة رواية "الخرُّوبة" لرشيد النجّاب، باعتبارها رواية واقعيّة سيريّة تسجيليّة، تؤرِّخ لفترة الحكم العثمانيّ، الذي اجتاح المشرق وخاصّة فلسطين التاريخيّة بمدنها وقراها قاطبَةً بهدف تجنيد الشباب وجبي الضرائب، كما توثّق جغرافيا المكان (مدن وقرى وسهول وينابيع وآبار وغيرها). سنركّز على تقنيّات السرد المختلفة في الرواية، مثل: السرد بضمير الغائب، اللّغة المحكيّة، والوصف، والحوار الداخليّ "المونولوج"، والحوار الخارجيّ من أجل إبراز تفاصيل الأحداث، وهي أمور تفيد تماسك مضامين الرواية ممّا يُثريها بالدراميّة الضروريّة لجذب المتلَقّي لتشويقه وإثارته ولتحقيق متعته. الخرُّوبة: ليس اسم الرواية هذا دخيلًا على بلادنا، وإنّما هو اسم لشجرة أصلانيّة كأهل البلاد، الشعب الفلسطينيّ، وهي علامة لمكان: مدرسة الخرُّوبة، مطعم الخرُّوبة، صيدلية الخرُّوبة، حارة الخرُّوبة و"قرية الخرُّوبة" قرية فلسطينيّة مهجّرة، كانت تقع على بعد 8 كم شرق مدينة الرملة، احتلَّتها قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، وهجّرت سكّانها في 12 يوليو 1948. الخرُّوب منتشر في فلسطين، وشجرة الخرُّوب دائمة الخضرة، تعيش بشكل طبيعيّ ويُستخرج منها شراب حلو المذاق يُسمّى الرُبّ. كيف برز اسم الرواية في سيرورتها، وجعل الكاتب منه عتبة ومفتاحًا لها؟ نجد "خرُّوبة النحلة" القديمة التي "استقرَّت بين أغصانها نحلة وجعلت لها فيها مقرًّا حتّى غابت واختلفت الآراء حول سبب الاختفاء" (ص 56). جعلت "مِصِلحة"، أمّ رشيد، من الخرُّوبة مكانًا لترقُّبَ الركب الذي ابتعد مصطحبًا وحيدها معه، كأنّهم شدُّوا جزءًا من روحها" (الخرُّوبة، ص 21)، "ومقرّها ومقامها في ساعات العصر، الخرُّوبة التي ودّعت من تحتها رشيدها وهو يغادر برفقة فرقة التجنيد، تتساءل: من هنا ذهب، فهل تراه يعود من هنا؟" " وكانت صومعتها، معبدها، وموئلها اليوميّ الذي تلجأ إليه في العصاري كأنّها تعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة" (ص 104)، وكانت المرصد لعودة رشيد المأمولة، ومكان الخلوة اليوميّة التي أدخلت إلى نفسها قدرًا من السكينة. وعندما كانت أم رشيد تغيب، "راحت كلّ من فاطمة وحمده، ابنتاها، تبحثان عن سبب الغياب إلى أن اكتشفتا الصومعة الخرُّوبيّة، وبات المكان أثيرًا إلى قلبيهما بما لمستاه من أثر في هدوء والدتَيْهما وراحتها" وأصبحت الخرّوبة مكانًا للجلسات واللقاءات للصديقات والقريبات والجارات "وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم" (ص105). هكذا جعل الكاتب من الخرُّوبة الكبيرة الموجودة قريبًا من البيت مكانًا مركزيًّا للمجلس وللقاءات ومكانًا للتأمّل ولاستقبال ابنها الوحيد رشيد وقلبها مملوء بالحسرة والألم والحزن المستديم وهي تتساءل: كيف سيعود؟ متّى سيعود؟ يهدي الكاتب روايته إلى جدّه رشيد وإلى أبيه عبد الرحمن {اسم الكاتب: رشيد (على اسم جدّه) عبد الرحمن (والده) رشيد (جده الذي جندته السلطات العثمانيّة) عبد الرحمن النجّاب {وإلى جدّته وأمّه وإلى "أرواح عانقت الطبيعة في جيبيا (القرية التي ولد فيها في قضاء رام الله). إهداؤه هذا يعني أنّه مُعجَبٌ بهم ويحترمهم ويقدّر أعمالهم. مثير للانتباه أنَّ الكاتب في الأهداف وضع اسم جدّته قبل اسم جدّه واسم أمّه قبل اسم أبيه.
الواقع والتخَيُّل الواقع تعني حالة الأشياء كما هي موجودة من حولنا فعلًا مقابل الخيال والوهم، والواقعيّة تعكس الحياة الحقيقيّة كما هي تمامًا وتكون فيها العلاقات الإنسانيّة واضحة والمكان واضح والأحداث حقيقيّة. الواقعيّ يتعلّق بفكرة الشيء بوصفه غرضًا فكريًّا راهنًا وقد يتضمّن تصوُّرًا للواقع، وهو تخيُّلًا إلى ما يمكن أن يكون. قال جورج برنارد شو: "الخيال هو بداية الإبداع، إنّك تتخيّل ما ترغب فيه، وترغب فيما تتخيّله، وأخيرًا تصنع ما ترغب فيه". التّخّيُّل هو قدرة الإنسان على رؤية وتشكيل الصّور والرموز العقليّة للموضوعات والأشياء والإحساس بها بعد اختفاء المثير الخارجيّ، كذلك فإن التّخّيُّل عمليّة عقليّة لاسترجاع صور حسّيّة مختلفة وأحداث من الحياة الماضيّة وتضمينها وتشكيلها لصور ورسوم وأحداث جديدة. والتخيّل كعنصر روائيّ هو "طاقة الفكر على جمع شذرات النّصوص المقروءة والذكريات البعيدة والتجارب المختلفة في حركة متّجهة لخلق عالم الرواية. ولا بدّ لتحليل التخيّل من العودة إلى المفردات الدّالّة والصّور المتكرّرة وتصنيفها والمقارنة بينها" (عساقلة ومرعي 2024. ص 32). استخدم كاتب رواية "الخرُّوبة" مخيّلته في وصف المرحلة التي عاشها جدّه رشيد، لكن لا بدّ أنّه جمع معلومات عديدة سمعها من عدّة مصادر من جدِّهِ ووالده وأقربائه ومن أبناء قريته "جيبيا" والقرى المجاورة، معلومات شكّلت أساسًا للرواية. كتب الأديب الفلسطينيّ محمود شقير على الغلاف الخلفيّ للكتاب مؤكِّدًا ذلك قائلًا: "حين شرع رشيد عبد الرحمن النجّاب في كتابة سيرة جدّه رشيد لم يجد بُدًّا، بسبب شحّ المعلومات الشّخصيّة لديه عن الجدّ، من إطلاق العنان لمخيّلته لكي تستحضر المرحلة التي عاش فيها جدّه أواخر أيام الدولة العثمانيّة التي شهدت إقدام الدولة على تجنيد الشباب الفلسطينيّين والزجّ بهم في حروبها العديدة في أصقاع الأرض المختلفة".
توثيق التاريخ والمكان التاريخ (القصة) تركز الرواية على عمليّة تجنيد السلطات العثمانيّة للشباب عامّة ولرشيد النجّاب خاصّة، جدّ كاتب الرواية، في زمن الحرب العالميّة الأولى، وخلال هذا نقرأ وصفًا تفصيليًّا لرحلة التجنيد وما صادفه الجنديّ رشيد النجّاب خلال سفره وباقي الشباب مع جنود السلطان وحتّى عودته سالمًا إلى قريته "جيبيا" قضاء رام الله. نصادف الأجواء العائليّة والاجتماعيّة في القرية، أصول الضيافة، وعلى سبيل المثال استقبال أبي سليم لعبد الرحمن "فقبل أن تنتهي جلسة عبد الرحمن مع أبو سليم، استأذن عبد الرحمن ليذهب إلى السوق في بير زيت لشراء بعض السكَر والشاي، فقال له أبو سليم "هذه المواد باتت شحيحة في الأسواق"، وأضاف "فثمَّة من يقول أنّ حربًا كبيرة على وشك الوقوع، لكنّني أحضرت من القدس كمّيّات وافرة من باب الاحتياط، وسيكون لك منها نصيب، ثمّ إنّ هذه الموادّ غير متوفّرة في بير زيت، ولا حتّى في رام الله". (ص 59-62). والاهتمام بمتطلبات الحياة، ومعاناتهم اليوميّة وشقاء عيشهم، فالأرض محدودة مساحاتها والماء شحيح ونادر وفوق كلّ هذا يترصّد بهم مقدِّرو الضرائب للسلطان ومن هنا نقرأ عن نظرتهم السلبيّة إلى أحكام رجال السلطان الجائرة. أثار تجنيد الشباب مخاوف الناس وشغل حيّزًا كبيرًا من حياتهم، خاصّة وأنّه لا علاقة لهم بالحرب وحدث أنّ الكثير من الشباب هربوا وأُطلق عليهم "الفراري" بمعنى الفارّين من خدمة التجنيد في صفوف جيوش السلطان، ممّا جعل جنود السلطان القيام بحملات تفتيش عنهم واعتقالهم ومعاقبتهم. كان رشيد ابنًا وحيدًا لوالديه، عبد الرحمن ومِصِلحة أمّ رشيد، التي كانت قلقة جدًّا على ابنها وحيدها، عندها قال لها عبد الرحمن: "اللي بوقع من السما بتتلقاه الأرض" (ص 10). قدمت لنا رواية " الخرُّوبة " صورة غير عاديّة ومفاجئة، فعبد الرحمن والد رشيد المجنّد ووالدته مِصِلحة أبديا موقفًا عقلانيًّا وواقعيًّا ولم يستسلما لاقتراحات البعض عليهم والداعية لتجنيب ابنهما الوحيد التجنيد، بل أصرّا على تجنيده واعتبر عبد الرحمن أنَّ تجنيد رشيد أفضل من هروبه مبرِّرًا ذلك بقوله: "قد يبقى أمل بالعودة مهما كان قليلًا إن هو ذهب بالطريقة العاديّة، أمّا أن يختفي ثمّ يُلقى عليه القبض لاحقًا بصفته فراري فإنّ هذا يلقي بمصيره إلى المجهول حتمًا" (ص 11). هكذا تجنّد رشيد، الابن الوحيد، في صفوف جنود السلطان ولم يكن والدا رشيد يعرفان إلى أيّ جبهة يقتادون ابنهم ليحارب فيها، ولكن أشار أحد جنود السلطان قبيل التحرّك من "جيبيا"، قائلًا "إنّ مشوار هذه المجموعة لن يكون بعيدًا" وفي هذا بصيص من الأمل. جميع أفراد العائلة كانوا قلقين وخاصّة الأمّ فانتابتها تساؤلات ومخاوف وهموم، وقام الوالد عبد الرحمن باحتواء الأمّ والجميع ونادى على ابنته فاطمة قائلاً "جيبوا لنا لقمة خبز وشوية زيت يابا، ثمّ دعا زوجته إلى الطعام" على الرغم من أنّه شعر بغصّة فطلب جرعة ماء فشرب ودفع بالطبق بعيدًا وقال "كأنّني أرى رشيد يجلس ويأكُل معنا، وقفت اللقمة في الزور ولم تجد للمتابعة سبيلًا" (ص25). بعد رحلة سفر طويلة وصل المُجنّد رشيد إلى دمشق وثمّ إلى بعلبكّ حيث أُصيب المجنّدون بدهشة المكان. بعلبك "مدينة الشمس"، وأحد مساكن الإله بعل، "بعلبك"، بعل للإله، وبق للبقاع، فهي "موطن إله البقاع"(ص 76). وبعد كلّ المعاناة عاد رشيد إلى بيته في جيبيا. بالنسبة لأمّ رشيد "مِصِلحة" لم تفقد الامل أبدًا "والأمل الخافق بعودة رشيد، ذلك الإحساس الخاص الذي سكنها منذ ان تابعت الركب يبتعد برشيدها إلى أن لمحته على مشارف أم صفاة ........ بدأت " مِصِلحة" تؤسّس لحياة جديدة تولّت فيها دفّة القيادة........ والخرُّوبة كانت مكان الاستقبال" (ص 104). "رشيد! ... هذا رشيد! ألف الحمد لله على سلامتك يمّه يا حبيبي" (ص 107). يجدر بنا هنا أن نتساءل هل رواية الخرُّوبة هي رواية تاريخيّة أم أنّها رواية سيرة لعائلة النجّاب؟ "مِن عادة الروايات التاريخيّة التقليديّة أن تعتمد في أحداثها على شخصيّة كان لها دور هامّ في حقبة زمنيّة معيّنة، فيحوّلها الروائيّ إلى عمل فنّيّ يجمع فيه بين التاريخ والخيال لتصبح رواية فنيّة تقول ما لا تقوله كتب التاريخ وتصبح قادرة على التحاور مع القارئ بشكل آخر بعيدًا عن الطرح التاريخيّ الذي يحتمل الصدق والكذب والتزييف" (كامل،2019، ص35). نجح الكاتب في مزج التاريخ بالسرد الروائيّ وهذا أمر صعب، يتطلّب خبرة بفنون السرد اللازمة لجذب المتلقّي وتشويقه وإثارته ليستمرَّ في قراءة الرواية حتّى نهايتها، فالكاتب اختار موضوعًا من وقائع حياة أسرته وبنى روايته، فهي سرد عائليّ تاريخي لما حدث مع جدّه ففي السرد أمكنة وتواريخ وأحداث خاصّة بالعائلة وعامّة بالمجتمع. هذا ساعده في معرفة كيفيّة عرض التاريخ بشكل فنّيّ روائيّ، محافظًا على الأحداث التاريخيّة والسرد الروائيّ. هذه الملاءمة بين فنّ السرد الروائيّ والسرد التاريخيّ بطريقة السرد الدراميّ جعلت من الرواية عملًا جيّدًا، شائقًا ومثيرًا وبالرغم من صغرها نسبيًّا، فهي رواية قصيرة لا تتعدّى مائة وعشر صفحات من القطع المتوسّط، ويمكن تصنيفها رواية قصيرة (نوڨيلا)، لكنّها مكثّفة بالأحداث، وغنيّة بالدلالات والاستنتاجات التي يحملها المتلقّي معه بعد إنهاء قراءتها. الجغرافيا/ المكان المكان لغةً المَوْضِع الحاوي للشّيء، أو الفراغ الذّي يشغله الجسم، "والمكان موضع لكَيْنونةِ الشّيء فيه، والمكان الموضع، والجمع أمكنةٌ، وأماكنُ جمع الجمع (لسان العرب، مادّة "مكان"). تحمل كلمة "المكان" معانيَ الحيِّز، والحجم، والمساحة، والخلاء. يُمكن للمكانِ أنْ يكون مُستقلًّا في وجوده عَنِ الإنسان، ولكنّ وجود الإنسان يرتبط بالمكان ارتباطًا وجوديًّا. للإنسان علاقته الوثيقة مع المكان، نشأة وتربيّة، ثقافة وتاريخًا، ذكريات وأحلامًا، يُؤثِّر فيه ويتأثَّرُ به. مِنْ هنا نَشَأت علاقة جدليّة بينَ الإنسان والمكان، حتّى أنّ بعض المفكّرين والمُؤرّخين صنّفوا الحضارات والثقافات حسب أشكال المكان. (عزّام 2010، ص 205). الأمكنة عديدة سوف نبحث في رواية "الخرُّوبة" عن جغرافيا المكان وعن أماكن بأشكالها المختلفة، مثل: أسماء بلدان، مناطق، البيت، الحارة، القرية، المدينة، مكان خاصّ للمجالس واللقاءات والاجتماعات كـ " الخرُّوبة "، المقامات المقدّسة، تضاريس الأرض الآبار، الينابيع، الوديان، الأنهر، السهول، الجبال، البحار وغيرها ومن ناحيّة أخرى سنبحث عن توجّهات الإنسان للمكان وارتباطه به شعوريًّا، وهي أمور حسّيّة غير مرئيّة إنّما إدراكيّة بصريّة. قد يكون المكان مسكن الشّخصيّة أو مسكن لقريب أو لصديق. عندها نتساءل: ماذا رأت من المكان؟ ما هي علاقتها به، وما هي درجة الصّلة بينهما؟ فماذا يعني كلّ هذا؟ كيف نفهم المضمون بحسب كلّ هذا؟ المكان، كما يقول رينيه ويليك وأوستن وارين (ويلك ووارين 1987، 231-232) "يُصوَّر كتعبير مجازيّ عن الشّخصيّة، فبيت الإنسان امتداد لنفسه، إذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان". يعبّر المكان عن أصحابه ويكشف عن حياتهم الشّخصيّة والنّفسيّة وعن طبائعهم وأمزجتهم. وتنظر السيّميائيّة إلى المكان نظرة مغايرة وتدركه بشكل دلاليّ، ليس فقط مادّيًّا وفيزيائيًّا إنّما إلى شاراته وعلاماته ورموزه، فهو حسب سيزا قاسم (قاسم 2002، ص 81) "ليس فضاءً فارغًا، ولكنّه مليءٌ بالكائنات وبالأشياء، والأشياء جزء لا يتجّزأ من المكان، وتضفي عليه أبعادًا خاصّة من الدّلالات". في رواية "الخروبة" برز بشكل خاصّ مكانان: البيت والقرية. البيت هو المكان الذي يلجأ إليه الإنسان بعد يوم من العمل، فهو مصدر الرّاحة والطمأنينة، والمكان الذي به أقرب النّاس إليه، مادّيًّا ومعنويًّا. ويرى باشلار أنّ البيت هو المكان الأليف: "وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة، إنّه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا، فالمكانيّة في الأدب هي الصّورة الفنّيّة التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة، ومكانيّة الأدب العظيم تدور حول هذا المحور" (باشلار، 1980 ص 43-44). القرية هي المكان أو الموقع او المحيط الّذي يعيش فيه الإنسان. للقرية أهمّيّة كبيرة من عدّة جوانب، مثل: الاجتماعيّة، الأخلاقيّة، العادات والتقاليد، أنماط الحياة السلوكيّة في المناسبات المختلفة، أصول الضيافة، الجوانب الاقتصاديّة، مجالات العمل، السّياسيّة وغيرها، فالإنسان يعيش في المكان جماعات لها هذه الجوانب، تحصل على قوّتها من المكان ولها علاقة بنباتاته وأشجّاره وأحجاره وصخوره وروائحه، إلخ، تفلح الأرض وتبني البيوت، تدافع وتناضل للحفاظ على المكان، كلّ ما يشكّل الوعي الإنسانيّ الثّقافيّ والحضاريّ يرتبط بالمكان على مرّ التّاريخ. لقد أكّدت الرواية أنّ المكان موجود وقائم وحقيقيّ، فعمليّة طرح الأماكن الفلسطينيّة والمواقع المختلفة والكثيرة هي توثيق لها وإبراز وجودها ممّا يرمز إلى الانتماء للمكان وتملّكه: خربة صيّا، كفر أشوع، إم صفاة، بير زيت، برهام، جفنا، عين سينيا، جينيا، كوبر، مقام بايزيد البسطامي، عطارة، بيت صفافا، بتير، مقام الشيخ عبد المحسن، مقام الأربعين، دير الشيخ، دير أبان، النبيّ صالح، وادي الصرار نهر روبين وأحياء القدس (البقعة التحتا، البقعة الفوقا، القطمون)، اللد والرملة، طولكرم، جنين التي تغرق في التاريخ وحارسة مرج ابن عامر (الخرُّوبة، ص 51) وغيرها من الأسماء وسائر المدن والأمكنة في الطريق الطويل حيث مسار القطار في خطّ حديد الحجاز بين القدس ودمشق مرورًا بجسر المجامع واودي اليرموك، وصولاً إلى سَمَخ القرية الصغيرة الوادعة والواقعة جنوب بحيرة طبريّة وصولًا إلى محطّات الحِمّة وزيزون وتل الشهاب والمزيريب ووصولاً إلى درعا في سوريا الكبرى. وبعدها إلى محطّة الحجاز والمرور بمدينة دمشق المدينة الموغلة في عراقتها، وحضارتها، وجمال طبيعتها الخضراء وطقسها المعتدل وصولًا إلى بعلبك (الخرُّوبة، ص 63-66). يعرف الراوي تفاصيل الأمكنة والعلاقات بين ناسها، والمجبول بتاريخ البلاد وأهلها. يصف المكان بنظرة جميلة، وأجواء منعشة بجماله وبهائه والخضرة الدائمة والرائعة ويعدد أشجاره: الخروب والكينا والفلفل البرّيّ، وخضرواته وبُقولِه، وفواكه، مثل التين والعنب والصبر والبطيخ والزيتون والزبيب والقطين وغيرها). هذا السرد الموسّع للمكان، ما ذكرناه وما لم نذكره من الأسماء والمواقع الجغرافيّة إنّما تدلّ على أهمّيّة المكان عند الراوي، حيثُ أعطت الرواية مصداقيّة بكون السارد هو صاحب البيت والمكان والوطن بأسره. اللغة والأسلوب السرديّ: الأدب بكلّ أجناسه شعرًا وومضةً وروايًة وقصًّة وغيرها هو نتاج الّلغة، فهي الأساس الهام الأول لأي إنتاج أدبي. للأدب مكانة خاصة وهامة في الحفاظ على اللغة والارتقاء بها من خلال كل أشكال الكتابة الإبداعيّة المختلفة. "اللغة هي الوسيلة التي نعبّر بواسطتها عن واقعنا وعن خيالاتنا، وعن همومنا وأفراحنا. وحين نجمع ما بين اللغة والخيال نستطيع أن نصل إلى المدى الأبعد والأعمق، ويصبح العالم أوسع وأغنى وأكثر شموليّة. إنّنا نرى بخيالنا مدًى أبعد ممّا تراه العين، وبواسطته يمكننا خلق ما هو أبعد من الصورة المحسوسة، لكنّ هذه الرؤية وهذه الرؤيا تظلّان حبيستي الخيال حتّى نحيلهما إلى صورة كلاميّة. وبالتالي فإنّ الّلغة تنقلها من عالم الفرد باتّجاه الفضاء الاجتماعيّ الأوسع". (كامل،2022، ص 39). اللغة في رواية "الخروبة" سلسة وجذّابة ممّا يساعد المتلقّي على التركيز والاستمرار في القراءة والاستمتاع بها، فقد تنوّعت طُرق السرد فيها: السرد بضمير الغائب، الحوار الداخليّ (المونولوچ)، الحوار الخارجيّ، اللهجة المحكيّة، المثل الشعبيّ، والوصف. السرد بضمير الغائب: من أهمّ عناصر الرواية عنصر السرد ويقوم به الراوي وهو "شخصيّة وهميّة ووظيفة من وظائف النصّ الذي يخلقه الكاتب مُصَوِّرًا فيه عالمه وزمانه في الرواية الحديثة، هناك كاتب حقيقيّ وراوٍ وهميّ وإلى جانهما قرّاء كُثر من لحمٍ ودمٍ يقرؤون النّصّ في خلواتهم. (عساقلة ومرعي،2024، ص 30). يسرد الراوي الأحداث بضمير الغائب ويعرفها كلّها، ويسردها بشكل محايد، مثل: "كان عبد الرحمن يخشى على ولده الوحيد" (ص 10). "وضع رشيد الأوعية الفارغة على جانبي الحمار" (ص11). "كانت مِصِلحة قد أوصت ابنتيها، فاطمة وحمده، ببعض الأعمال" (ص 21). "تهلل وجه عبد الرحمن وهو يتذكر طمأنة رشيد لوالدته" (ص 61) وغيرها. السرد بضمير الغائب يعطي شعورًا بمصداقية الرواية وهي التي يلتقي فيها سرد الراوي ومخيلته مع مخيلة المتلقّي.
الحوار الداخليّ (المونولوچ): الحوار من أهمّ الوسائل المستخدمة في رسم وبناء الشّخصيّة الروائيّة، فالشّخصيّة لا تُبنى من خلال أفعالها فقط، ولا من خلال أقوال الآخرين عنها فحسب، بل، أيضًا من خلال ما تقول. حين تتحدّث الشّخصيّة مباشرة وتحاور جهرًا تكشف عن دواخلها وتُعَبِّر عن نفسها (عساقلة ومرعي، 2024، ص 109). أمّا الحوار الداخليّ فهو حديث الشّخصيّة مع نفسها، من غير وجود إمكانيّة تواصل وردّ عند الشخصيّات الأخرى. يستخدم الحوار الداخليّ في السرد لمعرفة أفكار وأحاسيس ودوافع وأهداف الشّخصيّة نحو حدث معين. في الحوار الداخليّ تساؤلات، تأمّل ومناجاة وغيرها. الحوار الداخليّ موجود بكثرة في رواية الخرّوبة وخاصّة من الأمّ مِصِلحة أمّ رشيد ووالده مثلًا: "كان وجوده عونًا حقيقيًّا لي، فمتى تراه يعود؟ هل حقًّا سيعود؟ هل أراه مجدَّدًا (ص 21). "فنهضت أمّ رشيد متثاقلة ... وفي البال أفكار، وهموم، وأشجان، وتساؤلات: أين تراهم يذهبون بعد أمّ صفاة؟ وأين يستقرّ المقام بولدي؟ (ص23). "أمّ رشيد: هل سيرحل كلّ من في القرية وتبقى البيوت خواء، هل يعقل هذا؟" (ص 93). والحوار الخارجيّ هو محادثة بين شخصين أو أكثر، وفيه إمكانيّة تواصل وردّ عند الشخصيّات الأخرى. تعتمد الشّخصيّة عليه للحصول على أمر ما من الآخرين، أو الاستفسار أو التعرّف على الآخرين أو تقديم أنفسنا لهم أو طرح قضيّة للآخرين وفي الأساس هو وسيلة التفاعل بين الناس، يساعد الحوار الخارجيّ في العمل الأدبيّ المتلقّي فهم أحداث القصّة وحبكتها والصراعات المختلفة بين الشّخصيّات، مثلًا: "ماذا لديك يا رجل؟ فقال: هل من إعفاء للولد الوحيد لأبويه؟ والقائد قال بحزم: أوامر السلطان واضحة، تجنيد يعني تجنيدًا للجميع ودون استثناء" (ص 17) وغيرها الكثير. عَبَّر الحوار في رواية الخرُّوبة عن واقع الحیاة القرويّة في فترة تجنيد الشباب للسلطات العثمانيّة وكان أحد الإضاءات للمضمون وكشف عن طبیعة الشّخصيّات ومعرفة أفكارهم وتماهيهم أو اختلافهم مع القضيّة المطروحة ويكشف التعاطف أو التنافر بين الشّخصيّات. شكّل الحوار في الخرُّوبة وسيلة لجذب وإثارة المتلقّي ومتعته، خاصّة الحديث باللغة المحكيّة واستعمال الأمثال الشعبيّة التي تجعل من المضمون مناسبًا ووثيقَ الصلة به ويعوَّل عليه relevant)) ممّا يشدُّه ويمَتِّعه. اللهجة المحكيّة: اللهجة المحكيّة في الخرُّوبة هي اللهجة الفلسطينيّة وهي وسيلة الحوار والمخاطبة فيها. تختلف أحيانًا من مدينة وقرية إلى أخرى، ومن منطقة جغرافيّة إلى أخرى، ولكن غالبًا تكون مفهومة للجميع. تجدر بنا الإشارة إلى التشابه والتقارب بين اللهجتين الأردنيّة والفلسطينيّة إلى حدٍّ كبيرٍ. في الخرُّوبة كثر استعمال اللهجة المحكيّة ممّا زاد من واقعيّتها ومصداقيّتها وتأثيرها الكبير على المتلقّي بحيث إنّه يشعر بأنّها وثيقة الصلة فيبتسم أحيانًا أو يضحك وربّما يبكي، فكثيرًا ما تذكِّره بأمور حدثت معه شخصيًّا أو يتذكر جدّه وجدّته وأمّه وأباه وغيرهم، أمثلة: "أعطوني مية"، نشفوا ريقي ألله ينشف ريقهم" (ص22). "يلله يمه يلله أبوكن انشغل باله، مستعجلات ع الخُرّاف" (ص 48). "شو مالك يا أبو رشيد شو اللي شاغل بالك؟" اصبري يا ام رشيد خلين أقعد وأرتاح شوي" (ص 91). المثل الشعبيّ: يعكس المثل الشعبيّ أفكار وأحاسيس الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعيّة والطبقيّة، وهو المعبر الصادق عن همومهم، وأفراحهم وغيرها. أصل كلّ مثل قصّة أو حادثة جرت يومًا ما، فأصبح يصف الحالة الآنيّة مشابهة للحالة التي نشأ فيها المثل، كما تعبر الأمثال الشعبيّة عن ضوابط أخلاقيّة، لتعطي درسًا ولتكون ضابطًا سلوكيًّا أخلاقيًّا لعامّة الناس، تتناقلها الأجيال فتبقى محفورة في ذاكرة الشعب تعبِّر عن حياة الناس بكلّ جوانبها الخير والشرّ، الجيّد والرديء، الفرح والحزن. ورد في رواية "الخروبة" العديد من الأمثلة الشعبيّة الفلسطينيّة وهي مرآة صادقة لحياتهم وتجاربهم وتعكس عاداتهم وتقاليدهم والأنماط السلوكيّة التي سلكوا حسبها، مثل: لطش المجيدي وقال لي أنتِ فراري (ص11). إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني (ص13). الصباح رباح (ص23). أوّل الغيث قطرٌ ثمّ ينهمر (ص 30). مثل خبز الشعير مأكول مذموم (ص 40). من سَرى باع واشترى (ص 56). الوصف: هو طريقة سرد الكلام في وصف حالة معيّنة تسهّل على المتلقّي الحصول على المعلومات من الراوي، لذلك يتوجّب على الراوي تقديم وصفٍ دقيقٍ بطريقة يُسَهّل فهم واستيعاب المعلومات، وهنا على الراوي انتقاء كلمات وصور جاذبة ومؤثّرة تصل إلى المتلقّي، وهذا يتطلّب معرفة كبيرة في الًلغة وقدرة عالية على سرد المعلومات بطريقة دقيقة ومؤثّرة، وامتلاكه الثقافة الكافية التي تمكّنه من وصف الأشياء كما يجب، إذ قلّما نجد نصًّا بدون وصف، وصف منظر، وصف شخصيّ، وصف مشاعر. في رواية "الخروبة" استعان الراوي باللغة المحكيّة والأمثال الشعبيّة والكلمات الأنيقة لوصف الحالات المختلفة في الرواية، ممّا يشدّ المتلقّي ويجذب انتباهه فالوصف كان في أغلبيّته انفعاليًّا. تعابير مثل: نسائم رقيقة، شواربهم الكثيفة المبرومة، صمت عميق شديد الرهبة، أجواء مرج ابن عامر المنعشة، جنين حارسة مرج ابن عامر، جبل "صيا" ببهائه الكامل، نهر بردى الخالد، مدينة دمشق المدينة الموغلة في عراقتها، وحضارتها، وجمال طبيعتها الخضراء وطقسها المعتدل، بعلبك مدينة الشمس وغيرها. شخصيّات الرواية: الراوي في رواية الخروبة" هو راوٍ عليم يروي الأحداث بضمير الغائب ويعرفها كلها، ويسردها دون الإشارة لنفسه. الشّخصيّة الرئيسيّة: رشيد المُجَنَّد هو الشّخصيّة الرئيسيّة التي تقوم بدور أساسيّ في الرواية وتتمحور حولها الأحداث، والأفكار والأحاسيس الأساسيّة. الشّخصيّات الثانويّة: الشّخصيّة الثانويّة هي الشخصيّة المساعدة والداعمة للشّخصيّة الرئيسيّة ودورها إكمال الأحداث من أجل إكمال الرواية، تُشارك الشّخصيّات الثانويّة في تطوّر الأحداث. عبد الرحمن أبو رشيد: هو شخصيّة ثانويّة. مِصِلحة أمّ رشيد: هي شخصيّة ثانويّة. فاطمة وحمده وأبو سليم وسالم داوود نخلة وغيرهم: شخصيّات هامشيّة جانبيّة تؤدّي أدوارًا جزئيّة أقلّ من أدوار الشخصيّات الثانويّة.
وقالت رنا أبو حنّا:
أنْ تحمل "خروبة"على متن طائرة بوينج 727 في رحلة جوية طويلة ما بين عمان وشيكاغو.. يعني أن تقرأ كتاب الصديق رشيد النجّاب (الخروبة). والخرُّوبة في القرية الصغيرة "جيبيا" القريبة من بير زيت، كما شجرة الزيتون والعنّاب والتوت في سائر قرى فلسطين، أشجار أسطوريّة تحتضن الناس بصمتٍ وجلال من جيلٍ إلى جيل.. وتكتب على جذعها العريق العتيق مثل معبد قديم، قصّة حياة كل إنسان, من البداية إلى النّهاية.. وتمشي في جنازات من ماتوا ورحلوا عن الدنيا بهدوء، بعد أن تحفر أسماءهم على جذعها.. فيما حملَت بين فروعها الكثيفة و أوراقها الخضراء.. حملَت تنهدّات عائلات ولوعات آباء وتضرعات أمهات. "فدمعة الأب شديدة الألم" (ص 21 ) كدموع الأمهات اللواتي يربين الأمل في ربوع فلسطين. "كانت الخروبة صومعتها، معبدها، وموئلها اليومي الذي تلجأ إليه في العصاري كأنها تعد نفسها لمراسم الإستقبال الموعودة.." (ص 104 ) ويبقى أمر "خروبة النحلة" القديمة "أمرًا مجهولاً حتى غابت, بعد ما يقرب من قرن من الزمان عن الوجود".(ص 56) وتبقى النسائم الرقيقة لشجرة "الكينا" و " الفلفل البري" وغيرها من الشجيرات التي تمنح الناس الطيبين "فرصة للُقمة هنيئة يتبادلون تحت ظلالها الأحاديث والنوادر التي لا تخلو من مبالغة بطبيعة الحال" ناهيك عن ذكر الكروم وثمار الصبر والتين ومفاخرتهم "عنب جيبيا غير، وهذا الصبر ما في مثله في المنطقة، كلها وصحتين وعافية".(ص59) نحن نكتبُ ما نشعر به، وقد يكون أحلامًا وأماني.. لكننا وعلى الأرجح نكتبُ ما يجول في خلجات النفس ووهج الروح وثنايا القلب.. نكتبُ ما فات وانتهى.. نكتبُ وفاءً للأهل والأحباب. نكتبُ لأنفسنا بحروف لا يقرأها إلا من يشعر بنا. نكتبُ حتى نحفظ قصتنا، وننقلها من الأجداد للأحفاد. كذا هو رشيد النجّاب ينتقي أمرًا من وقائع حياته وخبراته الشخصيّة ويبني عوالمه السرديّة بلغة عصرية ويوحدها ضمن الحكايّة المحوريّة الرئيسة، التي تعتمدها الرواية، من جهة جانبها الفني التقني. رشيد الجَد يساق إلى الجندية قبل قرن ونيف في أواخر فترة الحكم العثماني في فلسطين على الرغم من أنه وحيد الوالدين. ولنا أن نتخيّل وقع هذا الأمر على الأب عبد الرحمن والأم مِصلحة والأختين فاطمة وحمدة. "وهمسٌ بين النساء يحملُ سؤالاً واحدًا مفاده:- كيف كان وضع أم رشيد حين فارقها وحيدها؟" (ص 33) ويحضرني السؤال حول تصنيف هذا العمل وإدراجه في باب السيرة الذاتية - إن جاز التعبير- كونه سرد عائلي سهل، يخضع إلى تدفق الصور والذكريات، لتاريخ حدثت وقائعه مع "الجَد" ذي السيرة.. وفي السرد أمكنة وتواريخ وأحداث عامة وخاصة تخضع إلى التكوين الفني الذي تُكتب بموجبه الرواية، التي تتطلب توفر الشروط التقنية في الكتابة.. والتي من الممكن أن تُكتب عدة مرات، وفق عامل التخييل لدى الكاتب. كتابة السيرة على شكل رواية تتطلب مهارة خاصة من المؤلف، حتى يعيد صياغة الأحداث والمواقف، ويوحدها ضمن الحكاية المحورية بعد أن يتقمص هو نفسه أدوارها. صدقًا، لا يجيد كل الكتاب هذه اللعبة، لكن كاتبنا سار بها ونجح. كيف لا؟! وهو يحمل جينات الجَد، إسمه وهويته.. وعنده فهم عميق أصيل للمكان الذي ينتج العلامات والرموز الثقافية للوطن ويولد في أعماقه الحنين المستمر لبلدته جيبيا. يأخذ البحث عن دلالة المكان في هذه الرواية دوره البارز في التشكيل الفني الداخلي لهذا العمل. فقد وظّف الروائي المكان على أنه مكان حقيقي، فكانت القرى الفلسطينيّة والمواقع الكثيرة المحدودة بعوالمها وآفاقها كوبر - برهام- بايزيد - كفر إشوع (إم صفا) - خربة صيّا - عطارة- بيت صفافا وغيرها من الأسماء المنسيّة التي لم يرد لها ذكر في غيرها من الروايات.. ناهيك عن أحياء القدس (البقعا - البقعا الفوقا - القطمون).. وسائر المدن والأمكنة في الطريق الطويل حيث مسار القطار في خط حديد الحجاز بين القدس ودمشق "مرورًا بجسر المجامع وواودي اليرموك، وصولاً إلى سَمَخ القرية الصغيرة الوادعة.." "إتجه القطار بعد محطة سَمَخ نحو الشرق بعد أن عبر محطات الحِمّة وزيزون وتل الشهاب والمزيريب وصولاً إلى درعا في منطقة أخرى في سوريا الكبرى.." (ص 64). "وأخيرًا إلى محطة الحجاز دون المرور بمدينة دمشق ولا التجوال في معالمها، فضجيج طبول الحرب بات يعلو، وليس ثمة فرصة للتراخي والإنتظار.." (ص 69) ونتابع مع الجَد رشيد الرحلة المثيرة وتصرفاته الأصيلة وأخلاقه الحميدة.. حتى وصلَت به ناقلات الجند إلى بعلبك "موطن إله البقاع". مما لا شك فيه أنّ هذه الأسماء والمواقع الجغرافية الواقعية لأكثر من ثلاثين بلدة، أعطت الرواية مصداقية كبيرة وجعلت المتلقي قادرًا على قبول ما يجري من أحداث. وإذا كنا لا نقيم وزنًا للحجم في تقييم الأعمال الروائية، فإنّ رواية"الخروبّة" رواية قصيرة لا تتعدى 110 صفحات من القطع المتوسط، لكنها تقدّم عالمها للقارئ دون تطويل أو زيادة، وينحصر فضاؤها غالبًا في مكان وزمان محددين وفي هذا ميزة عن غيرها.. ولا تأخذ وقتًا عند الإنسان المعاصر في قراءتها. وإذ تجسد هذا الفهم فيما ورد عن العرب في قولهم "إن خير الكلام ما قل ودل" و "ان كل صغير جميل" فقد حملت هذه الرواية العديد من الأمثلة الشعبيّة والأقوال المأثورة في اللغة العربيّة . لطش المجيدي وقال لي أنتِ فراري (ص11) إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني (ص13) بيت البنات خراب (ص 24) أول الغيث قطرٌ ثم ينهمر (ص 30) مثل خبز الشعير مأكول مذموم (ص 40) من سَرى باع واشترى (ص 56) هذه الأمثال الشعبية وغيرها الكثير مرآة صادقة لحكمة الناس وتجاربهم الحياتيّة ومستودع للعادات والتقاليد والتجارب الإنسانية الأخلاقيّة والإجتماعية في تلك الحقبة التي وقعَت فيها أحداث الرواية. وبعد، لن أخوض في الأحداث لئلا أفقد القارئ متعة القراءة وحميمية الأجواء العائلية والإجتماعية آنذاك، لكنني وبحقٍ ذرفتُ دمعة مع مِصلحة حين عاد رشيد "عمود الدار" إليها.. بل كدت أسمع صوت الزغرودة. حتى تذكرت حكاية "يوسف" جَد زوجي من كفرياسيف.. والذي سيق هو الآخر في تلك الفترة إلى التجنيد الإجباري في صفوف الجيش العثماني. وباتت أمه منذ الصباح وحتى المساء تتلو الصلوات وترفع الأدعيه "يا رب رجّع يوسف، يا الله يوسف يرجع" وطال الوقت والإنتظار.. حتى أخذت الأم قِدرًا من النحاس، إعتبرته مكبرًا للصوت، وصعدت إلى سقف البيت، ليعلو صوتها أكثر وأكثر.. ويصل مباشرة على حد إعتقادها وشدّة إيمانها إلى إله السماء "يا رب رجّع يوسف، يا الله يوسف يرجع" وما أن نزلت إلى البيت حتى رأت يوسف أمامها وقد عاد من التجنيد. ما أشبه حال رشيد بيوسف وحال يوسف برشيد ومعهما العديد من قصص هؤلاء الأجداد المناضلين والأمهات الصابرات صانعات الرجال في كل الأوقات، اللواتي تَحملن أولادهن مرتين في فلسطين. وتبقى.. على حد قول الشاعر اللبناني حسن عبدالله:- "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها أجمل الأمهات التي انتظرتهُ, وعادْ… عادَ مستشهداً. فبكتْ دمعتين ووردة ولم تنزوِ في ثياب الحداد لم تَنتهِ الحرب لكنَّهُ عادَ ذابلةٌ بندقيتُهُ ويداهُ محايدتان…." وقال جهاد حمدان:
رواية "الخروبة" للكاتب رشيد عبد الرحمن النجّاب عملٌ أدبيٌّ جديرٌ بالتأمل والتفكر، يتناول فترة زمنية حرجة في تاريخ فلسطين تحت الحكم العثماني وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، تجمع بين السرد التاريخي بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبين الدراما العائلية، لتقدم لنا صورة حيّة عن حياة الريف الفلسطيني آنذاك. تبدأ الرواية في قرية جيبيا، من أعمال رام الله، بمشهد يعبر عن القلق الذي يسيطر على أم رشيد، الفلاحة الفلسطينية في ظل ظروف الحرب العالمية الأولى، حيث يُخيم شبح التجنيد الإجباري في الجيش العثماني على حياة سكان القرية. وهنا يبدو الشاب رشيد، وحيد أبويه من الذكور، أمل الأسرة ومستقبلها، لكنه يصبح محور قلق عائلته مع وصول أخبار فرق التجنيد التي تجوب القرى لضم الشباب إلى الجيش. يتصاعد التوتر في القرية مع اقتراب فرق التجنيد، حيث يتجمع أهلها للبحث عن طرق لحماية أبنائهم. ويعيش رشيد، الشجاع والقوي، صراعًا داخليًا بين واجبه تجاه أسرته ومآلات هذا التجنيد الإجباري في جيش إمبراطورية لم ير هو وأهله شيئاً من خيراتها بل عانوا من ضرائبها وخاوات فرسانها. في النهاية، تسوق فرقة التجنيد رشيد النجّاب إلى جهة غير معروفة، تاركًا وراءه عائلته في حالة من الحزن على فراقه والقلق على مصيره. محطات كثيرة مرّ بها رشيد حتى وصل إلى محطة دمشق لتنقله وغيره شاحنات إلى معسكر التدريب في بعلبك، حيث أظهر مهارة فنية فائقة في التصويب مما دفع القيادة لتعيينه مدرباً إلى أنْ أُرسل في مهمة خاصة إلى القدس. وما أنْ وصلها حتى علِم بهزيمة تركيا وانتهاء الحرب، فغضّ النظر عن مهمته وعاد إلى جيبيا ليكتشف أنّ والده عبد الرحمن قد توفي في بلدة العباسية التي هاجر إليها طلباً للرزق. والآن دعونا نتعرف على شخصيات الرواية. رشيد رشيد هو الشخصية المحورية الرئيسة في الرواية، يمثّل الشاب الفلسطيني الذي يجد نفسه ممزقًا بين ولائه لعائلته والالتزامات المفروضة عليه نحو الدولة العثمانية.. فإن هرب واختفى، لن يَسلم والده ولن تُغادر فرقة التجنيد القرية حتى يعود. وإنْ غادرتْ، صار مطاردا ووجَب قتله. فسلّم نفسه "وراح يفكر في الخطوة التالية، أين ستكون وجهته؟ كيف يمكن أن تتطور الأمور؟ وهل سيكون له جلسة مع الرجال في هذا المكان في قادم الأيام؟" ذهب رشيد وكان على الجميع أنْ يتجرّعوا الليلة الأولى بكل كوابيسها. أم رشيد (مصلحة) تُمثل أم رشيد القلب النابض للرواية، فهي تعكس مشاعر القلق والخوف التي تسيطر على الأمهات في زمن الحروب. تُجسد أم رشيد نموذج الأم الفلسطينية التي تعيش بين الحلم والواقع، بين الأمل والخوف. هي القوة الدافعة لعائلتها، ورغم ضعفها أمام فكرة فقدان ابنها، تظهر كشخصية قوية ومستعدة للتضحية بكل شيء من أجل سلامته. "قلقها مبعثه رشيد. "أحد عشر حملا، ولم يبْقَ منهم سوى رشيد وأختيه، ابن واحد فقط وأحاديث نسوية لا تنفك تقض مضاجعها، "ابنكِ رغيف في باطية ". أي لا سند لها غيره، فإن أصابه مكروه فمن يوفر لها ولوالده الرعاية؟ عبثا تحاول نسيان هذه المقولة القاسية ولكن دون جدوى. وعندما مضى مع الجنود حبست دمعتها وقالت: روح يمة، روح الله يسهل عليك ويرضى عليك رضى ربي ورضى قلبي، واللي مثلك فش عليه خوف، وان شاء الله بترجع بالسلامة يمة. لم تدعُ عليهم، إذ كانت أولى أولوياتها سلامته: "ياللي بتبعدوه عني الله يسهل أمركم، بس رجعوه إلي سالم." عبد الرحمن عبد الرحمن والد رشيد، يمثل الحكمة والواقعية في الرواية. فلاحٌ يعشق أرضه وعائلته. جالت في ذهنه أفكار كثيرة للعثور على حلّ يحمي ابنه من التجنيد، لكنه وجد نفسه مقيدًا بواقع لا يستطيع تغييره. حتى فكرة الولد الوحيد لم تنفع مع قائد الفرقة، ولا بدّ من خضوع رشيد لقانون العصملي. يمثل عبد الرحمن نموذج الرجل الفلسطيني الذي يحاول الموازنة بين عاطفته كأب وواجباته تجاه المجتمع والسلطة. "اللي بوقع من السما بتتلقاه الأرض" هكذا استنجد عبد الرحمن بالقول الشعبي المأثور لتقبّل الواقع الذي فرضه عليهم التجنيد. وفكّر: قد يبقى أمل بالعودة مهما كان قليلا إن هو ذهب بالطريقة العادية، أما أن يختفي ثم يلقى عليه القبض لاحقا بصفته فراري ، فإن هذا يلقي بمصيره إلى المجهول حتما. أبو سليم شخصية تظهر في النص بشكل بارز وله مهمة محددة وواضحة رسمها الكاتب فلولاه لما عرف أحدٌ شيئا ذا بال عن رشيد يطمئن والده وأهله عنه مما قدّم دعماً كبيرا لعبد الرحمن (أبو رشيد)، خاصة في ظروف التجنيد الصعبة. كان أبو سليم يعمل في القدس مشرفًا على حدائق العائلات الميسورة، مما أتاح له حرية التنقل بين محطات السكة الحديد. يبدو أبو سليم شخصا كريما محبا لأصدقائه. فحين علم بقدوم عبد الرحمن، استقبله بترحاب كبير تحت معرش العنب في منزله، وقدم له الطعام والقهوة وأصر على بقائه ضيفًا عزيزًا لبضعة أيام. لم يتردد أبو سليم في طمأنة عبد الرحمن حول مصير رشيد، إذ أخبره أنه رأه في محطة القدس في طريقه إلى دمشق، مما عنى أنّ رشيداً ليس في خطر ولن يكون بعيد جدًا عن الديار. كان أبو سليم أيضًا واقعيًا في مواجهة الظروف المحيطة، وتحدث عن شح المواد الغذائية مثل السكر والشاي، وأبدى استعداده لتقديم هذه المواد لأبي رشيد نظرًا لصعوبة الحصول عليها من الأسواق آنذاك. كان اختيار الشخوص موفقا،ً لكنّ الراوي احتكر صوت معظمها وظل يتحدث نيابة عنهم في غالب الأحيان. ولم يشذّ عن هذا رشيد، الشخصية المحورية الرئيسة، إذْ ظل معظم الوقت رهيناً لما ينقله الراوي عنه. وهناك شخصيتان ابتدعهما الكاتب لكنه لم يطورهما: سالم داوود نخلة النبالي، رفيق العسكرية في بعلبك، وسليمان النجّاب، نجل رشيد، المناضل الذي عانى أبشع صنوف المعاناة والتعذيب والسجن خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ورحل عنّا عام 2001. رثاه الشاعر محمود درويش في قصيدته: رجُلٌ وخِشْفٌ في الحديقة يلعبان معا.ً من يدري؟ فقد يُعاد لهما الاعتبار الروائي إنْ فكّر رشيد الحفيد باستكمال سيرة رشيد الجدّ في أجزاء لاحقة من هذه السيرة. وأنا أشجعه على ذلك. وأقترح أنْ يتناول سيرة والده عبد الرحمن وكذلك عمتيه، رقيّة النجّاب وفاطمة النجّاب. الحبكة تتحرك حبكة الرواية عبر توتر متصاعد يبدأ من الشائعات والأخبار عن وصول فرق التجنيد، مرورًا بمحاولات العائلات إيجاد حلول لحماية أبنائهم، وصولًا إلى ذروة الأحداث عند مجيء الجنود وأخذ رشيد. ويستخدم الكاتب تقنيات السرد المتنوعة، بما في ذلك الوصف الدقيق للمشاعر، والحوار الداخلي للشخصيات، والتصوير البيئي للمكان، بالإضافة إلى الأمثال الشعثية والأقوال المأثورة ليسافر بالقارئ في رحلة ماتعة متشعبة الدروب عليها شاخصات تنبئ بما بعد كل منعطف وفجأة تستقيم الطريق وتنتهي الرحلة وهو لا يصدق أنها انتهت. وقد يظن أنها استراحة فقط سرعان ما تُستأنف. وتبدأ الحبكة بظهور مخاوف لدى أم رشيد بسبب أخبار متداولة عن "خيالة يجوبون المدن والقرى بحثًا عن رجال يسوقونهم للتجنيد في جيش السلطان العثماني. يزداد قلق العائلة مع اقتراب فرق التجنيد من القرية، ويظهر عبد الرحمن (أبو رشيد) قلقه حول كيفية حماية ابنه، حيث يخطط لتواريه عن الأنظار، ولكنه يخشى الوشاة والعقوبات الشديدة التي قد تنجم عن الاختباء. عندما تصل فرقة التجنيد إلى القرية، يُساق رشيد إلى التجنيد بعد رفض قائدها طلب عبد الرحمن إعفاء رشيد كونه الابن الوحيد. يتقبل رشيد الأمر برباطة جأش ويودع عائلته: "ولا يهمك يابا خلص، يبدو أنْ لا طريقة للفكاك، هوّن عليك، واعتن بأمي وأخواتي وسأعود إليكم". وتمثل هذه اللحظة نقطة تحول رئيسة في الرواية، حيث تتغير حياة العائلة من التركيز على الأعمال اليومية البسيطة في القرية إلى مواجهة واقع الفراق والقلق المستمر على ابنهم. وتتصاعد الحبكة عندما يزور أبو رشيد صديقه أبا سليم في القدس بحثًا عن أخبار تطمئنه، ويخبره أبو سليم أنه رأى رشيداً في محطة القطار في القدس متوجّهاً إلى دمشق، مما يعيد بعض الأمل للعائلة. لقد منح هذا الخبر أم رشيد طاقة جديدة لمواصلة حياتها في انتظار عودة ابنها: "رشيد عائد، هذا ما يقوله لي قلب الأم، طال الزمان أم قصر، سيعود رشيد وسأنعم بذريته من الأبناء ولا بأس ببعض البنات". تتناول الحبكة قضايا الأمل والصمود في وجه الظروف القاسية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومعاناة العائلات التي فقدت أبناءها في سياق التجنيد الإجباري، وكيف تتشبث الأمهات بآمالهن كاظمات ما في الصدور ألم الفراق. أما الذروة فتتمثل في مشهد المواجهة القدَرية بين أهل قرية جيبيا والجند العثمانيين، حيث يُساق الشباب إلى مصائرهم المحتومة. ويُجبر رشيد على مغادرة قريته في مشهد يُجسد صراع الفرد مع نفسه من جهة (هل يُسلّم رشيدٌ نفسه أم يهرب) وبين المجموعة الداخلية (أهل القرية ومن في حكْمهم) والمجموعة الخارجية (الدولة العثمانية) التي تُسيطر على مقدّراتهم. رفض فريق التجنيد أي عروض لتقديم الطعام، واكتفوا بشرب الماء إلا أنّ ثمة من لمح اهتمامهم بثمار الصبر فأوصى من أحضر لهم بعضًا منه، فقبلوا العرض، ويمّموا شمالا باتجاه قرية كفر اشوع." استخدام الأمثال والأقوال الشعبية استخدم الكاتب الأمثال والأقوال الشعبية في الرواية لإضفاء الواقعية والعمق على السرد، وتعزيز فهم القارئ للشخوص وثقافة المجتمع الفلسطيني. وتُعبّر الأمثال عن الحكمة الشعبية وتجسد القيم والمعتقدات التي يعيشها أهل القرية. وهذه أمثلة من الرواية: 1. "اللي بوقع من السما بتتلقاه الأرض." للإشارة إلى حتمية حدوث النوازل كما هي مقدرة، وليحْدُث بعد ذلك ما يحدث. واستخدمه أبو رشيد لطمأنة زوجته حول مصير ابنها. 2. "إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني." للتعبير عن الرضا بما هو متاح عند غياب الخيار الأفضل. 3. "مثل خبز الشعير، مأكول مذموم." للتعبيرعن حالة القبول بأمر واقع دون استحسانه، حيث لا يوجد بديل أفضل منه في اللحظة الحالية. 4. "مَنْ سَرى باع واشترى." يشجع هذا المثل على النشاط والسعي في الصباح الباكر كمتلازمة لتحقيق الهدف المنشود. 5. "بيت البنات خراب." للتعبير عن القلق التقليدي تجاه إنجاب البنات فقط، وضرورة وجود الأولاد للحفاظ على اسم العائلة ومكانتها. واستخدمته أم رشيد لتعبر عن أملها في إنجاب رشيد للأولاد في المستقبل. 6. "الصباح رباح." للتعبيرعن الأمل في الغد، والتشجيع على الصبر حتى الصباح. قالته أم رشيد بعد يوم متعب لتؤكد أن الراحة ستأتي في الصباح. اللغة والأسلوب اللغة في "الخروبة " سردية بامتياز وغنية بالتعابير والوصفا المفصّل والدقيق، مما يمنح الرواية عمقًا وجمالًا خاصًا وسأتطرق في عجالة لبعض خواص هذا السرد. 1. السرد التفصيلي والغني بالصور الحسية التجارب اليومية يميل الكاتب إلى استخدام السرد التفصيلي بغية إبراز بيئة الشخوص وتجاربهم اليومية. ويظهر هذا في وصف الحياة في القرية، وأعمال قاطنيها، وطبيعة الأماكن المحيطة بها مما يساعد القارئ على تخيل ما تعرضه النصوص من مشاهد مفعمة بالحركة والتفاصيل الصغيرة التي تمنحها عمقًا وتماسكًا، ومن ذلك وصفه للحالة النفسية لأم رشيد عشية قدوم فرقة التجنيد: "أخذتها سهوة قصيرة، صحت مع حركة الديك ينفض جناحيه استعدادا لمهمته الصباحية، تبادر إلى ذهنها ما بدد حيرتها ولم يبدد قلقها، التقت أمس في طريق عودتها من عين الماء غربي البلد بجمع من النساء، ودارت أحاديث تشكلت آثارُها على معالم النساء قلقاً وتجهما". يعكس هذا الوصف البيئة الريفية وتفاصيل الحياة اليومية، مثل السهوة القصيرة، وصوت الديك وهو ينفض جناحيه والتحركات التي تحدث مع بداية يوم جديد ومنها جلبُ الماء من العين، كما يعبّر عن اضطراب الناس نتيجة الأخبارِ المتداولة الذي يظهر على وجوه النساء قلقاً وتجهما. 2. التعبير عن المشاعر الداخلية بصدق يصف الكاتب دواخل ومشاعر الشخوص، حيث تظهر تأملاتهم وهواجسهم، ومن ذلك وصف معاناة الأب عبد الرحمن، الذيت تسكنه حيرة وحزن على مصير ابنه. ويظهر هذا في التساؤلات والمونولوجات الداخلية التي يعبر من خلالها عن مشاعرَ متناقضة بين الأمل واليأس: "هل حقا سيعود؟ هل أراه مجددا؟ هل سيكون على هذه الأرض من يُخلّد اسم هذه العائلة بالولد وولد الولد؟ تراقصت الشفتان، واستجابت العينان بدمع حارق، ولكنّه ما لبث أنْ تجلّد وأسلم نفسه لسهوة لم تطل، ولكنها كانت كافية لتهدئة النفس". هنا يسلط الكاتب الضوء على الألم الشخصي للأب، وكيف حاول التغلب عليه بالقوة الداخلية. وتعكس الأسئلة المتكررة حالة القلق المستمر وعدم اليقين الذي تعيشه العائلة. 3. استخدام العامية إلى جانب الفصحى الميسّرة لتقريب الشخوص من الواقع يضفي استخدام اللهجة العامية في الحوار أصالة وواقعية على حياة الشخوص مما يجعلُها أكثر قربًا من القراء. تمثل العامية لغة الناس البسطاء وتعكس حياتهم اليومية، وبساطة وحيوية تواصلهم. ومن ذلك حوار أم رشيد مع عبد الرحمن حيث تظهر عاطفة الأم القلقة على ابنها بأسلوب بسيط ومباشر: "شو رايك تُقْصُدْ على بيرزيت هاليومين!"، بِجوز تلاقي لك عنده (أبي سليم) خبر من هان والا من هان؟!"( استخدام العبارات باللهجة العامية مثل "شو رايك" و"بِجوز" يجعل الحوار تلقائيًا وطبيعيًا، ويعكس البيئة الشعبية التي نشأ فيها الشخوص. إنّ استخدام الكاتب لغة عربية فصيحة ممزوجة باللهجة الفلسطينية المحلية يُضفي على النص طابعًا أصيلًا ويجعله قريبًا من القارئ. ويُساعد في إبراز ثقافة وهوية الشخوص والمجتمع الذي ينتمون إليه.
4. التنويع بين السرد الوصفي والحوار المباشر يعتمد الكاتب على مزيج من السرد الوصفي والحوار المباشر ليعرض الحكاية من زوايا متعددة. ويساعد هذا الأسلوب في نقل مشاعر الشخوص ويتيح للقارئ فهمًا أعمق للأحداث. ومن ذلك الحوار بين عبد الرحمن وقائد الخيّالة العثمانية، حيث يَظهر الصراع بين أفراد الأسرة والسلطة ويَبرز تباين القوى بين الطرفين: "أوامر جلالة السلطان واضحة" تجنيد يعني تجنيد للجميع ودون استثناء." يعكس هذا الحوار صرامة أوامر السلطة وعجز الأب أمامها. وفي المقابل، يظهر الأب محاولًا استغلال أي منفذ للالتماس، ولكن دون جدوى، مما يعكس حالة التوترالتي يعيشها الناس في ظل تلك الظروف الصعبة. 5. التأمل الفلسفي والأسئلة العميقة تعجّ الرواية بأسئلة تعكس حالة التأمل الفلسفي والمعاناة الإنسانية، وتسهم في رسم صورة واضحة لليأس والحيرة، والبحث عن أمل في ظل العجز والغياب مما يساعد القارئ على فهم عمق المشاعر التي يعيشها شخوص الرواية في فترة تجنيد الأبناء وترحيلهم بعيدا عن أهاليهم: "ترى أين وصل بهم المسير؟ تناهى إليها أن ستة من شباب أم صفاة قد انضموا إلى الركب، وقال القادمون من هناك إنّ الركب اتجه شرقا قاصدا بيرزيت، ثم ماذا بعد؟ أليس من قادم بخبر يقين؟ أليس من قادم بحكاية ناقصة أو شبه خبر؟ أو مجرد شك في أنه رأى رشيدا وعرف وجهة المجموعة التي تضمه؟"(. هذه الأسئلة التي راودت أم رشيد تومئ بمحاولتها البحث عن الحقيقة في عالم يلفّه الغموض والقلق. فهذه الأسئلة تكشف عن شعور الأم بالقلق والخوف على ابنها، ولكنها أيضًا تعبر عن الأمل الذي يظل موجودًا، حتى وإنبدا مجرد وهم أو أمنية. وأخلص إلى القول إنّ لغة رشيد عبد الرحمن النجاب في "الخروبة" تُظهر قدرته الفائقة على المزج بين التفاصيل الحسية العميقة والتعبير الصادق عن مشاعر الشخوص. وتجمع بين السرد الغني، والتعبير الحسي العميق، واستخدام اللهجة العامية، مما يضفي على النص واقعية ودفئًا إنسانيًا، ويشدّ القارئ ليتفاعل مع أحداث القصة وشخوصها بتعاطف واهتمام.
التصوير البيئي ووصف الأماكن يستخدم الكاتب التصوير البيئي لتقديم القرية الفلسطينية كعالم مليء بالحياة والتفاصيل. يُظهر الكاتب المكان كأنه شخصية بحد ذاتها، حيث يتم وصف الطبيعة والأماكن بتفصيل وجمالية. فأشجار "الكينا، والفلفل البري، وغيرها ... القائمة في جوار مقام بايزيد البسطامي جادت عليهم بنسائم رقيقة، ومنحتهم فرصة للقمة هنيئة." الرمزية والرموز الأدبية تُستخدم الرمزية بشكل بارز في الرواية لإيصال الرسائل والأفكار. من أبرز الرموز: • الخروبة: ترمز الخروبة إلى الثبات والصمود، وتجسد الجذور العميقة للإنسان الفلسطيني. كما تُعبر عن الاستمرارية والاستقرار رغم التغيرات والتهديدات. • الطريق: يُمثل الطريق الذي سيق فيه رشيد والمجندون الآخرون من قراهم رمزًا للمصير المجهول. إنّه صنو مسار الحياة الذي يمر به الإنسان، حيث يتعين عليه مواجهة المجهول والانتصار على العوائق والصعاب. الموضوعات والقضايا المطروحة تُناقش الرواية جملة من الموضوعات والقضايا المهمة، منها: 1. تأثير القرارات السياسية على الأفراد والجماعات تُبرز الرواية كيف تؤثر القرارات السياسية التي تُتخذ في المراكز العليا للسلطة بشكل مباشر ومُدمّر على حياة الأفراد والجماعات، ويُجسد مصيرُ رشيد هذا التأثير بشكل واضح، حيث يُساق إلى مصير مجهول بسبب قرار التجنيد الإجباري. لقد بدا التجنيد وكأنّه قدَرٌ لا رادّ له إلى حدّ أنّ مختار أم الصفاة نصح أهالي المرشحين "بالاستعداد لهذا الاستحقاق، وحذرهم من الفرار أو التخفي". ولم يردْ في "الخرّوبة" ما يوحي بأنّ تعامُل بقية البلْدات مع الأمر كان مختلفاً. ربما كان هذا "التسليم" تعبيراً عن قلة الحيلة أمام بطش الدولة وسرديّتها: "نحن في خطر، والجهاد واجب، ولا إعفاء لأحد". هذا ما قاله قائد الخيالة. بالتأكيد كان هناك رافضون للخدمة العسكرية "فراريّون" لكنهم ظلوا مطاردين ولم يتحوّلوا إلى حركة رفض منظمة للتجنيد. وقد أفاض الراوي "الكاتب" في تفصيل الأبعاد النفسية والعملية لما حواه خطاب قائد الفرقة من تهديد ووعيد تعقيباً على اختفاء أحد المرشحين للتجنيد في أمّ الصفاة. ربما يفكر الكاتب في إيلاء أهمية لهذه المسألة في قادم متابعاته لهذه السيرة. 2. الصراع الداخلي والخارجي تُصور الرواية الصراع الداخلي الذي يعاني منه الأفراد عندما يُجبرون على الاختيار بين الولاء لعائلاتهم وبين الالتزامات المفروضة عليهم من السلطات. وقد عانى رشيد من هذا الصراع بشكل شخصي، فهو يريد أن يبقى مع والده ووالدته ويقوم بواجبه تجاه أسرته ومن جهة أخرى لا يستطيع نجنب قدريّة التجنيد الأجباري. 3. الترابط الاجتماعي تُبرز الرواية قوة الروابط الاجتماعية والتضامن بين أفراد المجتمع القروي. ويُظهر الكاتب كيف يُحاول الناس دعم بعضهم بعضا في مواجهة الصعوبات. ويُشكل ذا الترابط جزءًا أساسيًا من بنية المجتمع الريفي الفلسطيني، وأحد أهم مصادر قوته في الأوقات العصيبة. ملاحظات ختامية أظهر رشيد عبد الرحمن النجّاب مهارة كبيرة في السرد الأدبي وتصوير الحياة الريفية الفلسطينية. وهنا بعض الملاحظات التي قد يحب الكاتب تأملَّها لمواصلة هذا النوع من السرد: 1. التركيز على تفاصيل الحياة اليومية: إن استخدام التفاصيل الدقيقة في الرواية، مثل الأعمال اليومية والمحادثات العادية، يُضفي واقعية على السرد. وهذه ميزة أتقنها الكاتب ولا بد من المحافظة عليها وتطويرها. 2. التوسع في استخدام الأمثال الشعبية: تُضيف الأمثال الشعبية ثراءً ثقافيًا للنص. يُمكن للكاتب استخدام المزيد من هذه الأمثال لربط السرد بالتراث الثقافي الفلسطيني، مما يُعزز من أصالة العمل الأدبي. 3. استكشاف شخصيات أخرى: مع أنّ التركيز كان بشكل أساسي على رشيد وعائلته، إلا أنّ هناك مجالًا لاستكشاف شخصيات أخرى في القرية وفي العائلة وتقديم وجهات نظر مختلفة حول الأحداث. وهذا يمكن أن يُثري السرد ويوفر فهمًا أكثر شمولية للواقع الاجتماعي والثقافي. 4. التعمق في الجانب النفسي للشخوص: بينما تُظهر الرواية بالفعل بعض الجوانب النفسية للشخوص، فإن التعمق أكثر في هذه الجوانب، مثل مشاعر الخوف والأمل والصراع الداخلي والابعاد السياسية للصراع، يمكن أن يُضيف بُعدًا جديدًا للرواية ويجعلها أكثر تفاعلية مع القارئ. الخاتمة ليست "الخروبة " مجرد رواية تاريخية لسيرة عائلية تسرد أحداثًا من الماضي، بل هي عمل أدبي يُبرز بعض الجوانب الإنسانية للتاريخ. فمن خلال تصوير الحياة الريفية الفلسطينية تحت الحكم العثماني، تُقدم الرواية قصة عن الصمود، والتضحية، والأمل في مواجهة المصاعب. وقال سمير أديب: نجح الكاتب رشيد النجاب في ترتيب أحداث "الخروبة " وخلْق منطقاً فيها. وجعلَنا نحن القراء أكثر معرفةً ووعيا لتاريخ ذاك الزمان، تلك هي وظيفة الفن الروائي خصوصاً في هذه المرحلة. مشهدان من الاستعراض الاستهلالي لرواية "الخروبة " جاءتا جاذبتان للمتلقي وحققتا مهمة امتثال القارئ لاستكمال السرد عبر الستة عشر مشهدا التالية ، التي اتسمت بالجاذبية والتشويق . ولقد أتى الراوي على مشاهد، مركزها "رشيد" بعد استدعاءه للالتحاق بعسكر السلطنة العثمانية في نهاية حكمها قبل السقوط ، متنقلا من بلدة الى اخرى، ابتداء من "جيبيا "، وصولا ًالى البقاع اللبناني، مرورا بقرى الجليل الشرقي ووادي اليرموك ثم درعا ودمشق، مدن وقرى عانقتها السهول والجبال والاودية البديعة، تتخلها المباني الاثرية والحديثة . وهي مواقع جغرافية ليست منعزلة عن العناصر الفنية الاخرى . ولقد عكس الراوي مشاعر "رشيد" المتضاربه تجاه ما واجهَ من ترويع وقسوة الجنود المشرفين على التجنيد. وتحمّله تنفيذ برامج التدريب العسكري تحت هطول المطر وغضب السماء البعلبكية، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى سطّر صورا من الوجع والألم ألذي اعترى والديّ رشيد وشقيقتيه، وهم لا يعلمون ما حل بالإبن وفي أية أرض يعيش.. وجاءت لغة الرواية سهلة، زينتها احيانا التعابيرالدارجة ذات البعد الاجتماعي، وظفها الكاتب في تناغم وانسجام في سياق السرد الروائي، عززت واقعيتها.( شو ماله رشيد )( ابني زي ما هو ابنك ) (حا -هيش ) (الجودله) وغيرها . وتلاحقت مشاهد الرواية في فصول ليست متباعدة سبرتْ غور البطل وجعلت القارئ يلحظ مدى معرفة الكاتب للشخصية المركزية (رشيد) وللشخوص الفرعية (أبو رشيد وام رشيد والاختان وسالم نخلة و ابو سليم ) معرفة تامة. ونجح الكاتب في خلق تواطؤ بين الحياة الواقعية والرواية، كادت تصل الى حد التطابق، في لقطات متسارعة باستخدام الفعل الماضي وتقديم السرد َبصيغة (هو) ،من أجل إلتزام الحياد في الفضاء الروائي، وخلق ايحاء عند القارئ بواقعية شخصية (رشيد) الرئيسة والشخوص الثانوية ( سالم نخله - ابو سليم – ابورشيد - ام رشيد -فاطمه -حمدة وغيرهم) .وتوظيف الأماكن الواقعية في سياق الري (أحراش النبي صالح - عروض ابو زميره - الخروبة - مقام بايزيد - بيت الشيخ علي العاروري - البلدات في المحيط ،ام صفا والنبي صالح وبيرزيت وعطاره وكوبر وبرهام ) مبرزاً في طيات السرد معتقدات شعبية وتاريخية (مقامات الاولياء – الآلهة بعل – الفراري ) وحكايات وأمثال من التراث والحِكَم (من سرى باع واشترى – تبغدد وتدمشق ) جعلت السرد الروائي يتسق في علاقة جدلية بين الواقع الاجتماعي والثقافي. ولقد تنقّل الراوي في الفضاءالمكاني بسلاسة وبساطة ويسر، بين "جيبيا" وأحوال الاسرة وبين معسكرالتدريب وواقع الحياة اليوميه لرشيد وزملائه. تعتبر رواية " الخروبة" واحدة من لَبِنات تراثنا، مستمدّة من ثقافة الكاتب ومعارفه. التراث الذي يستحق منا الاهتمام والرعاية. انها إضافه للمكتبة الفلسطينيه والعربيه، ومن الملفت أن االكاتب ربط بوشائج جينيهّ بين صلابة الإراده ومتانتها لدى المناضل الراحل" سليمان النجاب "، في خضم كفاحه من اجل القضية التي خدمها، وبين بسالة واحتمال بطل "رواية الخروبة " والد سليمان، الامر الذي يجعلنا نستشعر رغبة الكاتب في ابداع سيرة الجيلين الثاني والثالث، والخوض في غمار الفضاء الزماني التالي وما بعد التالي، لعله يملأ الفراغ والإنقطاع المفاجئ للمشهد قبل الاخير في روايته"الخروبة". وقال مجدي دعيس:
لعلنا نبدأ الحديث عن الخرّوبة من (النوفيلا) وهو الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل، ولعل هذا النوع من الكتابة يتيح للروائي التّخفّف من الإطالة المفتعلة التي لا تفيد الرواية بل إنها قد تشتت القارئ الملول فيضعها من يده ولا يعود إليها، ونحن في زمن يتزاحم فيه الكتّاب بالمناكب والأقدام على عدد محدود من القرّاء، فاختيار الشكل المناسب للفكرة من حسن التخطيط، أنا لا أقول بأن تكون عين الكاتب على القارئ لحظة الكتابة، ولكن أقول بتجرد بأنّ النوفيلا كشكل أدبي له حضور وقبول بين القرّاء ويشكل عامل جذب مهم. جاءت أحداث الرواية في خط زمني متسلسل ولم يلجأ الكاتب إلى الاستباق أو الاسترجاع تكريسًا لوضوح الخط السردي، أما في لعبة التشويق فقد راهن النجاب على دراما اللغة أكثر من دراما الحدث، وفي أحيان أخرى مال السرد إلى الطرافة للخروج من رتابة الخط المستقيم كما في حادثة المجنّد من كوبر الذي أمّ بثلاثة من المشاة من فريق التجنيد، غافلهم في السجدة الأخيرة التي طالت ليرفعوا رؤوسهم ولا يجدونه أمامهم. إنّ أفضل من يكتب عن المكان هو صاحب المكان نفسه، لأنّه الأدرى به وبتفاصيله وحدوده وأهله وعاداته وتقاليده، وهو من جهة أخرى الأكثر ارتباطًا به نفسيًا ووجدانيًا. عندما نتحدث عن الزمان نجد أنفسنا نجنح إلى المكان، وعندما نتحدث عن الشخصيّات يبرز في كلامنا مفردات مثل الدار والخابية والبيدر، وعندما يستعر فينا الحنين نتذكر بنت الجيران وهي ترفع قدمها لتجتاز الخوّيخة إلى باحة الدار. مهما حاولنا التّخفّف من حضور المكان سيظلّ يطل برأسه علينا كل حين ويقول لنا بصريح العبارة: لا يستقيم السرد بدوني. هناك أعمال كثيرة يظهر فيها مغالطات مكانية وزمانية، وأخرى تتعلق بالبيئة وما يرتبط بها من عادات وتقاليد، لكننا في (الخرّوبة) الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون لعام 2024 لا نقع على أي شيء من هذا القبيل، فالكاتب يتحدث عن مسقط رأسه وأهله وأهل قريته وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. في سردية سيريّة لا يبذل فيها الكاتب أي جهد للتمويه أو المرواغة، يتنقّل بنا النجّاب من محطّة إلى أخرى بيسر وسهولة من خلال لغة صافية تبوح بكل ما ترنو إليه عين وما تصيخ له أذن في تلك البيئة، ونراه يتعمّد نثر الإشارات التي تساعد القارئ على الوصول إلى الخط السيريّ بعد الصفحات الأولى من الرواية. وعلى ما يبدو أن العمل اعتمد على الذاكرة، وما لم يسقط من ذهن الذين عايشوا تلك الفترة التي تحيل إليها الرواية سواء على المستوى الخاص أو العام. إنّ أي عمل سيريّ لا يشتمل على جرعة مناسبة من الخيال لن يصل إلى مستوى النضج المطلوب، لإن الرواية حرفة وصنعة ولا بدّ أن تظهر شخصيّة الصانع وخياله فيما صنع. مهما كانت التفاصيل حاضرة فهي ناقصة في بعض أوجهها، وهنا تبرز قدرة الروائي على التخيّل وسد الفجوات لضمان جريان السرد من خلال استنباط الخاص من العام بما يتلاءم مع روح العصر وثقافته. وقد جاء الوصف على درجة من الحميميّة ودقة التصوير ما غطّى في مناسبات كثيرة على تراخي الحدث أو فتوره. ولعل مبعث هذه القدرة التصويرية هو مشاعر طاغية من الحنين والنوستالجيا إلى زمن كانت فيه الأرض أصل الحياة، والزيتونة مصدر الفرح، والمرأة من نسل الآلهة الكنعانية والخروبة رمزًا للقوة والتشبّث بالتراب، وما زاد من سطوة الوصف هذه اللغة المتماسكة والموحية التي ما فتئت تشدّنا إلى رشيد وقريته وأمه وأبيه وشقيقتيه ورحلته في حواضر بلاد الشام وقراها. وفي مواضع كثيرة اشتملت اللغة على طاقة تعبيرية مختلفة على مثال ما ورد في صفحة (28): نعم أجاب الرجل وصوته لا يكاد يفارق شفتيه. الرواية بنت زمانها ومكانها، وقد حرصت الخروبة على تقديم مرحلة حرجة مرّ بها الفلاح في القرى الفلسطينية وفي عموم بلاد الشام، حيث الدولة العثمانية تعلن السفربرلك وتزج بشباب العرب في حروبها في البلقان وغيره من ساحات القتال. في أغلب الحالات، لم يعد من اقتيد من هؤلاء الفتيان والرجال إلى الحرب على خلاف رشيد الذي عاد إلى قريته بعد رحلة طويلة وشاقة ظهرت بتفاصيل متداخلة بين المكان والشخصيات والحدث. ولا ننسى هنا التأكيد على نقطة مهمة وهي أن السردية المكانية الفلسطينية هي شكل من أشكال المقاومة لمواجهة محاولات الطمس والسطو الثقافي والتزوير الجغرافي والتاريخي، وقد عمدت الخروبة إلى توثيق القرى الفلسطينية وأسمائها والتأكيد على البيئة بمكوناتها المادية وغير المادية لتقدّم مقولتها بارتباط الإنسان بهذه الأرض، وما الخروبة سوى خيط ناظم يصل بين الأجداد الذين زرعوا والأحفاد الذين استظلّوا بظلّها وترحّموا على من سقاها، فقد كان حضور الجغرافية طاغيًا ومقصودًا بتفاصيله الدقيقة من حيث الاتجاه والوصف لطبيعة القرى لتشكّل وثيقة تاريخيّة وخريطة بالأسماء العربية الفلسطينية، وقد وردت في الرواية أسماء قرى فلسطينية كثيرة أورد منها ما يلي حتى يظل إيقاعها حيًّا في وجداننا وقريبًا من آذان أبنائنا وأحفادنا: جيبيا، بيرزيت، كوبر، برهام، أم صفاة، خربة صيتا، أحراش النبي صالح، وادي ياسين، عطارة، جفنا، عين سينيا، عجول، عبوين، عارورة، دير السودان، دورا القرع، البقعا، بيت صفافا، بتير وغيرها. كما ظهرت في ثنايا السرد الأمثال التي تعبّر عن ثقافة سائدة في مجتمع ذلك الوقت، وأسلوب تفكيره وهواجسه، فالأمثال مرآة تعكس حياة الناس وأشغالهم ومشاغلهم على غرار: ابنك رغيف في باطية، بيت البنات خراب، مثل خبز الشعير؛ مأكول مذموم وغيره من الأمثال التي تنقل لنا بيئة الحدث بشفافية وحياد وتقربنا من روح السرد. ومن ناحية أخرى جاءت إدارة الحوار متساوقة مع النهج التوثيقي أو التسجيلي وداعمة للزمان والمكان من حيث اختيار اللغة المحكية والحوارات القصيرة والذكية التي تكشف جوانب من شخصية المتحدث بأقل حيز ممكن. ومن الأمور التي رسّخت ملامح ذلك العصر قول الهزّاج: لطش المجيدي وقال لي إنت فراري، وهذا إشارة إلى حكاية متداولة بين الناس تحوّلت إلى أهزوجة لما تنطوي عليه من حس درامي، فالعاشق الذي ذهب إلى العين ليرى حبيبته للمرة الأخيرة قبل أن يتوارى عن الأنظار قبض عليه الجندي التركي فحاول رشوته بمجيدي فما كان من الأخير إلا أن وضع المجيدي في جيبه وقال: أنت فراري. اهتمت الرواية أيضًا بالتاريخ المادي لذلك الوقت فوردت مفردات مثل: الجودلة والجنبيّة والزير والطاسة والسراج والطابون وكلها مفاتيح زمانيّة ترسخ مصداقية السرد من وصف وحدث وحوار وتجعل منه نسيجًا متكاملًا متناسقًا، كما ظهرت المقامات مثل مقام بايزيد ومقام الشيخ عبد المحسن، ومقام الأربعين التي تعكس حالة إيمانيّة خاصة متّسقة مع وعي ذلك الزمن الديني والاجتماعي. وفي ختام هذه المقاربة السريعة نقول إنّ استحضار فترة محددة من تاريخ فلسطين بمفرداتها وأوجاعها وقلقها وتقديمها لجيل الشباب ينطوي على درجة عالية من الأهمية لتبقى جذوة المكان متّقدة في وجدان الأجيال القادمة ولا تؤثر فيه البطش وحملة الهيمنة الثقافية على التاريخ والجغرافيا.
#ديمة_جمعة_السمان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية - عين التينة- للروائي صافي صافي في اليوم السّابع
-
رواية - عناق على حاجز إيريز- للكاتبة رولا خالد غانم على طاول
...
-
رواية -لعبة الزمن- للكاتبة نزهة أبو غوش في اليوم السابع
-
رواية -حسناء فارس- للأديبة د. روز اليوسف شعبان في اليوم السا
...
-
رواية - لا تقربيه ولو كان آخر رجال العالم- في اليوم السابع
-
(حمروش) في اليوم السابع للأديب جميل السلحوت
-
-الوسادة االعجيبة- للكاتبة حنان جبيلي عابد في اليوم السابع
-
-حمروش-: صرخة في وجه الخرافة ودعوة لتحرير العقول. “
-
حين تصبح الذاكرة وطناً: قراءة في منزل الذكريات للأديب محمود
...
-
- ولع السباحة في عين الأسد- في اليوم السابع
-
قصة - أرفض تسميتي معاقا- للكاتبة عابدة خطيب في اليوم السابع
-
رواية - تراتيل في سفر روزانا- في اليوم السابع
-
رواية -ذاكرة في الحجر- لكوثر الزين في اليوم السابع
-
ثورة أدبيّة تُصَدِّع الجدران.. تكشف المستور..تضيء عتمة المكا
...
-
قصة- حزمة نور-لنبيهة جبارين في ندوة اليوم السابع
-
ديوان -ما زال في العمر بقية-في ندوة اليوم السابع
-
رواية -في قلبي...-في ندوة اليوم السابع
-
رواية - ثرثرة في مقهى إيفانستون- في اليوم السابع
-
رواية -الوبش- في ندوة اليوم السابع
-
قصّة الكوكب الأحمر للأطفال في ندوة اليوم السابع
المزيد.....
-
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر
...
-
بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا
...
-
قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
-
الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
-
رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025
...
-
خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب
...
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
-
فيديو صادم.. الرصاص يخرس الموسيقى ويحول احتفالا إلى مأساة
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|