محمد خورشيد الحسين
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 21:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين يتحوّل الخبز في غزة إلى فخ للموت
بقلم: محمد خورشيد الحسين
في غزة، لم يعد الخطر يلوح فقط في السماء حيث الطائرات تترصّد الأحياء، ولا في الأرض حيث الدبابات تقتحم البيوت، بل صار كامناً في أكثر الأماكن هشاشة وإنسانية: مراكز توزيع المساعدات. تلك الأماكن التي يفترض أن تكون ملاذًا أخيرًا للجائعين والمشرّدين، أضحت في نظر آلة الحرب الصهيونية هدفًا مشروعًا، ومصائد قتل جماعي تُنصب علنًا، أمام أعين العالم، وعلى مرأى من الهيئات الدولية التي لا تزال تصرّ على "القلق" و"التحقيق"، بينما تُسفك دماء الأبرياء على أرصفة الانتظار.
الخبز، في عرف القتلة، ليس قوتاً يومياً، بل ذريعة جديدة للقتل. لا فرق لديهم بين مقاوم يحمل السلاح ومواطن أنهكه الجوع، بين طفل يبحث عن وجبة وبين شيخ خرج يسند حفيده. الجميع سواسية تحت نيران "الاشتباه"، وتحت ذرائع "الخطأ" و"التهديد المحتمل". وهكذا يتحوّل طابور المعونات إلى جنازة مؤجلة، لا يُعرف من فيها الضحية القادمة، ولكن يُعرف تمامًا من يضغط على الزناد.
ما يحدث اليوم هو أبعد من جريمة حرب، إنه قتل مع سبق الإصرار وبدم بارد لكل أشكال الحياة المدنية. ومن بين الشهادات الصادمة التي توثق ذلك، ما رواه أحد الناجين من مجزرة "معونات الشمال" حين قال:
> "كنا مئات ننتظر الخبز… رأيت الشاحنة تقترب، وما هي إلا لحظات حتى بدأ إطلاق النار. سقط العشرات فورًا. كنت واقفًا بجوار طفل يُمسك بكيس طحين… لم يبقَ من وجهه شيء."
وفي شهادة أخرى وثّقتها وكالة "أسوشييتد برس" نقلاً عن مسعف فلسطيني:
> "لم أكن أعرف من أُسعف، فالجثث بلا ملامح، وبعضها لا رأس له… كانوا يتجمعون حول الطحين فقط، لا أحد كان يحمل سلاحًا."
وقد وصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إحدى هذه الهجمات بالقول:
> "الجيش الإسرائيلي أطلق النار على حشد مدني غير مسلح، كانوا يندفعون باتجاه شاحنة مساعدات. لا وجود لأي مبرر قانوني لاستخدام هذا النوع من القوة المميتة."
وفي واحدة من أبشع اللحظات، وقعت مجزرة “الخبز” الشهيرة عند دوار الكرامة شمال غزة، والتي راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد ومئات الجرحى. شهادات الصحفيين المحليين أكدت أن الجنود أطلقوا النار على الحشود من أبراج المراقبة:
> "الطلقات لم تكن في الهواء، بل كانت مباشرة في الصدر والرأس. كأنهم لا يريدون تفريق الناس بل قتلهم عمداً."
الأسوأ من ذلك، أن هذه الجرائم لم تعد استثناءً بل باتت جزءًا من نمط متكرر: في جباليا، في النصيرات، في الشجاعية، وفي دير البلح... تتكرر مشاهد القتل في نقاط توزيع الغذاء. تتراكم الجثث فوق الشوالات والطحين الملطخ بالدم. وأمام هذا كله، لا نسمع صوتًا حقيقيًا يرتفع بالحق، لا نرى ردعًا ولا محاسبة، بل مجرد "مطالبات بالتحقيق" و"دعوات للتهدئة"، وكأن الأمر خلاف عابر بين طرفين متكافئين، لا مجزرة تُرتكب في وضح النهار.
أما الموقف العربي، فهو – في غالبه – أبرد من جثث الأطفال. قمة هنا، وبيان هناك، ومبادرات سلام تكرّس الاستسلام وتتفادى الحديث عن المجرم الحقيقي. وكأنهم تواطأوا – بالسكوت – على قتل فلسطين مرتين: مرة تحت القصف، ومرة في صمتهم المطبق.
في زمن تُنتهك فيه كل القوانين باسم "حق الدفاع"، ويُذبح الجائع في طابور الإغاثة باسم "مخاطر التجمهر"، يصبح الصمت جريمة، والتواطؤ مشاركة، والتأخير في الفعل خيانة كاملة الأركان.
هذه ليست حرباً على "الإرهاب" كما يزعمون، بل حرب على الإرادة، على الكرامة، على بقاء الإنسان الفلسطيني. حرب تُستخدم فيها كل أدوات الإبادة الرمادية: التجويع، الترويع، القتل البطيء، والتدمير المنهجي لكل أمل.
ومع ذلك، ورغم وحشية المشهد، لا يزال الفلسطيني واقفاً. لا يزال يحمل بيده التي امتدت للغذاء، رايةً لا تنكسر. في وجه الطائرات والدبابات، وفي وجه الجوع والموت، ما زال يصرخ: لن نركع.
---
لا حياد مع القاتل... فليكن زمن المقاومة الشعبية
ولذلك، لا مجال اليوم للحياد. لا حياد مع من يقصف الجائع، ولا مع من يقتل الأطفال في طابور المساعدات. لا حياد مع الاحتلال، ولا مع من يبرر له، ولا مع من يصمت عليه.
آن الأوان أن تتحرّك الشعوب. لا نطلب المستحيل، بل أبسط ما يليق بكرامة الأمة:
لنقاطع كل من يدعم هذا الكيان أو يصمت عن جرائمه، من شركات، وحكومات، ومنظمات.
لنرفع الصوت في كل ساحة وشارع ومنبر، لنفضح الجريمة ولنمنع تزوير الحقيقة.
لندعم غزة بكل الطرق الممكنة: بالمال، بالكلمة، بالمقاطعة، وبالضغط السياسي والإعلامي.
لنتحدّث عن المجازر لا عن التسويات، عن الضحايا لا عن المفاوضين، عن فلسطين الحقيقية لا فلسطين الممسوخة.
من لم يقدر على حمل البندقية، فليحمل الكلمة. ومن لا يستطيع النزول إلى الشارع، فليوصل الحقيقة للعالم. ومن لا يملك إلا قلبه، فليرفض، فذلك أضعف الإيمان.
غزة لا تريد دموعنا، بل وقوفنا. لا تنتظر بياناتنا، بل صرخاتنا. لا تحتمل عجزنا، فهي تقاتل عن كرامتنا ووجودنا وحقنا في أن نكون أحرارًا.
فليكن هذا الزمن زمن المقاومة الشعبية الشاملة، وزمن استعادة المعنى.
لنعِد تعريف فلسطين، لا كقضية بعيدة، بل كاختبار يومي لإنسانيتنا.
في زمن يتحوّل فيه الخبز إلى فخ للموت، يصبح الدفاع عن فلسطين دفاعًا عن الحياة نفسها.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟