|
تدوين التّراث الشّعبيّ
جميل السلحوت
روائي
(Jamil Salhut)
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 11:55
المحور:
الادب والفن
يتساءل كثيرون عن جدوى كتابة وتدوين بعض جوانب تراثنا الشعبيّ القوليّ، فبعضهم يعتبرون ذلك من باب التّسلية، وبعضهم الآخر يستنكر عمليّة التّدوين على اعتبار أنّها تسجّل لمراحل "تخلّف" من حياة شعبنا وأمّتنا، وبعضهم يستنكر مضمون هذا التّراث؛ لأّنّه لم يعد يناسب المرحلة المعاشة، وبعضهم يهاجم الكاتب الذي يقوم بعملية التّدوين معتبرا أنّ المضمون الذي جاء في جزئيّة التّراث المدوّنة يمثّل موقف الكاتب.
ولهذا ولأسباب أخرى كان لا بد من الوقوف وقفة عابرة ومختصرة مع التّراث، لأنّ التفصيل في ذلك يحتاج الى مجلدات.
مفهوم التّراث:
في البداية دعونا نتساءل عن مفهوم التّراث الشّعبيّ، وللإجابة على هذا السّؤال يجب أن نعود إلى الأصل اللغويّ لكلمة تراث، فهي مشتقّة من الفعل ورث يرث، وهو ما ورثه الأبناء عن الآباء والأجداد، واقتران التّراث بالشّعب ومصطلح التّراث الشّعبيّ يعني ما ورثناه من حكمة الآباء والأجداد، مع التّأكيد على أنّ كلّ حضارتنا السّابقة لجيلنا هي إرث الآباء والأجداد، فالدّين ورثناه عن أبائنا وأجدادنا، فكمسلمين مثلا فإنّ الوحي نزل على الرّسول محمّد صلوات الله وسلامه عليه، واكتمل الدّين الإسلاميّ في عهد النّبوّة، ونحن ورثنا هذا الدّين أبا عن جدّ وجيلا بعد جيل، وكذلك الحال بالنّسبة للدّيانات الأخرى، والكعبة المشّرفة والمسجد النّبويّ الشّريف والمسجد الاقصى وغيرها، وكذلك كنائس القيامة في القدس والمهد في بيت لحم والعذراء في النّاصرة وغيرها هي ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا.
والأدب الرسميّ الفصيح بدءا من الشّعر الجاهليّ والمعلقات السّبعة مرورا بشعر صدر الدّولة الاسلاميّة والعصور اللاحقة إلى الجيل السّابق لنا، يضاف إليه عيون أمّهات الكتب في مختلف المجالات، كلّها ممّا ورثناه عن الأباء والأجداد ومبدعوها معروفون بالإسم.
وما يهمّنا هو التّراث الشّعبيّ وهو مجهول القائل، بل هو ابداع شعبيّ جماعيّ، أو ربّما أبدعه شخص بعينه فاستساغه الشّعب وردّده دون ذكر قائله، وقد أطلق الباحثون الغربيّون على الأدب الشّعبيّ "علم الفلكلور".
والتّراث الشّعبيّ ينقسم إلى قسمين هما:
– التّراث العمليّ: وهو ما يتعلق بالحضارة العمليّة المادّيّة الموروثة مثل الأبنية والمدن والقرى والحصون، والأزياء الشعبيّة، وأدوات المطبخ، أدوات الزّراعة، والآلات الموسيقيّة ......الخ.
– التراث القولي: وهو الأقوال الموروثة مثل الأمثال، الحكايات، الأغاني ...إلخ.
التّراث جزء من الهوية الوطنيّة:
والتّراث في مجمله هو حضارة الآباء والأجداد، ولا يمكن لشعب أن ينتج حضارة إذا لم يعرف الاستقرار، وأمّتنا العربيّة أورثت العالم أجمع حضارة كانت الرّائدة في مختلف المجالات، بل تربّعت على عرش الحضارة العالميّة دون منازع حتّى القرن الرّابع عشر الميلادي، أي بداية نشوب الصّراعات داخل أقاليم الدّولة.
ونحن كفلسطينيين وكجزء من الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، ورغم المؤامرات التي حيكت ضدّ بلادنا، وكثرة الغزوات التي تعرضنا لها عبر التّاريخ، إلا أنّنا ساهمنا مساهمة ملحوظة في بناء الحضارة الإنسانيّة، والمراقب المحايد لفلسطين التّاريخيّة سيجد أنّها أشبه ما تكون بمتحف كبير يحوي في جنباته كنوزا حضاريّة، بناها الآباء والأجداد عبر التّاريخ، وهذه الحضارة هي جزء رئيسيّ من مكوّنات الهويّة الوطنيّة الممتدّة تاريخيّا، وإذا كان الآخر ينبش باطن الأرض بحثا عن شيء ولو ضئيل؛ ليثبت وجوده التّاريخي في هذه البلاد، فإنّ مئات المدن والقرى والمساجد والكنائس، والزوايا والتّكايا والقصور والحصون والكهوف وآلاف المنحوتات والرّسومات تقف شامخة أمام البعيد والقريب وشاهدة بأن هذه الدّيار تأبى أن تكون إلا فلسطينيّة عربيّة.
ولا يخفى على أحد أنّ تراثنا الشّعبيّ يتعرّض لعمليات طمس وتشويه وسرقة، ويحاول الآخر أن ينسبه إليه بعد أن يجرّدنا منه في محاولة لإثبات وجوده ونفي وجودنا، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك، وقد جاءت هذه المحاولات المعادية مصاحبة لنكبة الشّعب الفلسطينيّ وتشريد ملايين الفلسطينيين في أصقاع الأرض، وعدم وجود دولة وطنيّة ترعى شؤون الفلسطينيين، فإنّ ضياع التّراث الفلسطينيّ أصبح مسألة جديّة، ومن هنا تنبع أهمية جمع التّراث الفلسطينيّ ووضع الجانب العمليّ منه في متاحف، وتدوين القوليّ واخضاعه للبحث والدّراسة ونشره.
وقد يتساءل البعض مثلا من باب الرّدّة الثّقافية، أو الانسلاخ عن الجذور، أو من باب الجهل في جدوى جمع والحفاظ على أشياء تراثيّة عفا عليها الزّمن؟ مثل ماذا نستفيد من"الطّابون" ومن "الصّاج" إذا وضعناهما في متحف، ونفس الشّيء المحراث البلديّ وغيره؟ وأنا أقول أنّ "الطّابون" و "الصّاج" -الذي كان يُعدّ عليه خبز "الشراك"- اللذين استعملتهما أمّهاتنا وجدّاتنا، يحقّ لنا أن نفخر بهما، لأنّ غيرنا لم يكن يعرف الخبز في تلك المرحلة، وهذا لا يتناقض مع استعمال زوجتي وابنتي للفرن الكهربائيّ مثلا في هذه المرحلة، واستعمالنا للمحراث البلديّ لحراثة أراضينا على الحمير والبغال والبقر هو موضع فخر لنا، سابقا والآن ولاحقا، فبلادنا فلسطين جبليّة، أجزاء كبيرة منها لا يمكن استعمال الآلات الزراعيّة الحديثة فيها لوعورتها، وبما أنّ شعبنا شعب مزارع فإنّه لا يترك أرضه الجبليّة دون استغلال، ولا سبيل أمامه لحراثتها إلا بهذه الطرق، وقد سجّل الكثير من السّائحين إلى هذه البلاد اعجابهم بقدرة الانسان الفلسطينيّ على استغلال أرضه الجبليّة، وتحويلها إلى حدائق غنّاء رغم وعورتها، وهذا بالطّبع لا ينفي استعمال الآلات الحديثة في السّهول.
أمّا بالنّسبة للتّراث الشّعبي القوليّ، فإنّنا مطالبون أيضا بجمع وتدوين هذا التّراث بما له وما عليه، بايجابيّاته وسلبيّاته، وما قد يعتبره البعض سلبيّا في عصرنا هذا لم يكن كذلك في عصره.
تراث الطّبقات:
ويجدر التّنويه هنا أنّ تراثنا الشّعبيّ تراث طبقيّ، فكلّ طبقة اجتماعيّة أفرزت تراثها من أغان وحكايات وأمثال ونوادر وعادات وتقاليد .......إلخ. ومن السّذاجة بمكان أن يرى البعض أنّ من يدوّن جانبا من جوانب التّراث، ويقوم بنشره إنّما يعبر عن نفسه، فمثلا الأغنية الشعبيّة الغزليّة التي قالها أحد الأعراب والتي يصف فيها حبيبته بقوله:
بوزك يلمع مثل بوز البسطار وحبّك في قلبي مثل دبيك البغال
لا يمكن ان نصف ناقلها بأنّه قائلها، وكذلك الحال بالنّسبة للحكايات الشّعبيّة التي تحمل مضمونا سلبيّا من المرأة مثلا، وكما قالوا" ناقل الكفر ليس بكافر" ..وهكذا.
#جميل_السلحوت (هاشتاغ)
Jamil_Salhut#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوم مولدي ومأساة شعبي
-
روز اليوسف شعبان تدخل عالم الرواية كفارسة
-
رواية- خريف آخر- لمحمود شقير وزمن الضياع
-
بدون مؤاخذة-النّصر المبين
-
بدون مؤاخذة-التّكيّف والتّهجير
-
بدون مؤاخذة- نحن سدنتها
-
بدون مؤاخذة-القادة الكبار
-
ندوة اليوم السابع شمس القدس الثقافي
-
رواية -فلفل وجدّه الأسمر في ندوة اليوم السابع
-
معلومات قيّمة في صيّاد...سمكة وصنّارة
-
محمود شقير يدهشنا بمنزل ذكرياته
-
رواية -فلفل وجدهّ الأسمر- تحارب العنصريّة
-
حسناء د. روز اليوسف شعبان والفروسية
-
الزّمن الجميل والأصالة
-
قصة -حزمة نور- والحلم بالسّلام
-
فرصة ثانية رواية تطرح قضايا اجتماعية
-
قراءة في رواية تراتيل في سفر روزانا
-
د. محمود صبيح قدوة يقتدى
-
الرّومانسيّة والحبّ المتعثّر في رواية- في قلبي..- لرضوان صند
...
-
رواية -ذاكرة في الحجْر- والعقول المتحجّرة
المزيد.....
-
السينما لا تموت.. توم كروز يُنقذ الشاشة الكبيرة في ثامن أجزا
...
-
الرِّوائي الجزائري -واسيني الأعرج-: لا أفكر في جائزة نوبل لأ
...
-
أحمد السقا يتحدث عن طلاقه وموقفه -الغريب- عند دفن سليمان عيد
...
-
احتفال في الأوبرا المصرية بالعيد الوطني لروسيا بحضور حكومي ك
...
-
-اللقاء القاتل-.. وثيقة تاريخية تكشف التوتّر بين حافظ الأسد
...
-
هنا رابط الاستعلام عن نتيجة مسابقة تعيين 20 ألف معلم مساعد ا
...
-
فيلم -مجموعة العشرين-.. أول رئيسة أميركية تواجه تحديات صعبة
...
-
راشد عيسى: الشعر رسالة جمالية تنتصر للفكر الإبداعي وتتساءل ع
...
-
بوتين: روسيا تفتخر بتنظيم مسابقة -إنترفيجن 2025-
-
ترامب يواجه -البؤساء- على المسرح و-الاستهجان- خارجه! (صور)
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|