أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سكينة السيلاوي - لابوبو... التطبيع مع القبح














المزيد.....

لابوبو... التطبيع مع القبح


سكينة السيلاوي

الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 22:16
المحور: قضايا ثقافية
    


تخيّل لحظة تقف فيها أمام لعبة لابوبو، بمظهرها الغريب المثير للقلق، وتتساءل: لماذا ننجذب إلى هذه اللعبة القبيحة؟ و هل لأن لابوبو تمثل انعكاساً صادماً لمرحلة من وعينا البشري و مرآة مشوّهة لمرحلة كاملة من الوعي البشري. ؟.
ولماذا عندما نرى منتجًا خاليًا من أي قيمة جمالية أو فكرية، ومع ذلك نسارع كمجتمع لدفع مئات الدولارات لاقتنائه؟، هل هي صفقة تجارية أم أنها شهادة على قبولنا بالقبح ، بل احتفاؤنا به، واستعدادنا لدعمه وتمويله والتعايش معه؟.

في زمنٍ مضى، كان الجمال قيمة، وكان القبح يُستبعد من الواجهة. أما اليوم، فقد تغيّرت المعايير وتقلّبت الموازين، فصار القبح يتصدّر المشهد، يُحتفى به، ويُرفع إلى عرش "الترند"، دون أن نتساءل: ما الذي يحدث؟ لماذا تهاوت الأذواق، وانحدرت معايير الذوق العام حتى صارت القباحة تذكرة للنجاح؟

ولعل من أبسط الأمثلة وأكثرها دلالة، ما نراه في ألعاب الأطفال، خاصة البنات. في السابق، كانت الطفلات يتنافسن على اختيار أجمل دمية، بأبهى فستان، وأجمل شعر، وكأنهن يبحثن عن صورة الطفولة الحلم. أما اليوم، فقد انقلبت المعادلة. المنافسة أصبحت على اقتناء دمى مشوّهة، مخيفة، قبيحة. وإن أردنا مناقشة الأمر على نحو سطحي، دون الخوض في نظرية المؤامرة أو الخلفيات الثقافية، فحتى الشكل نفسه تغيّر، ومعايير الجمال الأبسط تلاشت، وكأننا نهيئ أجيالنا القادمة لأن ترى القبح طبيعيًا، بل مُحبّبًا.

من الطبيعي أن نعيش في عالم فيه الجمال والقبح، الخير والشر، لكن أن يتحوّل القبح إلى "أيقونة المرحلة"، فهذه مأساة ثقافية، بل جريمة جمالية. لا نتحدث فقط عن قبح الشكل، بل عن قبح المعنى والمضمون. لعبة "لابوبو" ليست وحدها، بل هي رمز لحالة ممتدة، نراها في الأزياء، في الموسيقى، في السوشيال ميديا، في البرامج التي تتصدر المشاهدات، في "الترندات" المفرغة من أي محتوى حقيقي، سوى اللهو والاستهلاك والتفاهة.

والخطير في الأمر أن من يستطيع التعايش مع لعبة قبيحة الشكل والملمس، كـ"لابوبو"، ويدفع أموالًا طائلة من أجل اقتنائها، فإنه – دون وعي – يُدرّب نفسه على تقبّل القبيح دون اعتراض. الفتاة التي تشتري هذه اللعبة وتضعها على رفّها أو سريرها، لا تجد حرجًا بعدها في تقبّل تصرفات قبيحة، أو لباس خالٍ من الذوق، أو سلوكيات لا تليق. وكذلك الشاب، حين يتماهى مع التفاهة، فلن يتردّد لاحقًا في فعل القبيح بكل أريحية، لأنه ببساطة فقد الشعور بالرفض. وهكذا تسري العدوى على جميع الأعمار، صغارًا وكبارًا، لأن التطبيع مع القبح لا يستثني أحدًا، إذا لم ننتبه إلى خطورته.

الغريب أن هذا الصعود المستمر للمحتوى الهابط لا يبدو عشوائيًا، بل خلفه منظومات كاملة تُعيد تشكيل العقل الجمعي، تدير دفّة الوعي عبر خوارزميات لا تروّج إلا لما هو سطحي، سخيف، سريع الزوال. أصبح الناس عبيدًا للترند، وأصبحت القيم سلعة مستهلكة. اليوم، لا يهم كم تحمل من فكر، أو موقف، أو رؤية؛ بل الأهم: كم "لايك" ستحصل؟ كم مرة ستُشارك؟ كم رقمًا ستحقق على شاشات الموبايل؟

في المقابل، يموت أطفال غزة كل يوم، في مشهد هو أقصى درجات القبح الإنساني، ولا أحد يصرخ. يموتون، والعالم مشغول بـ"ريأكشن" على رقصة، أو تعليق ساخر على مشهد تافه. هل هناك قبح أكبر من أن يتحوّل الموت المجاني إلى خلفية صامتة في مسرح القبح الكبير؟ هل هناك انحدار أخلاقي أفظع من أن يُقتل الأطفال بينما نتسلى بنكات على لعبة تشبه "الخراب"؟ نحن لم نطبع مع "لابوبو" فقط، بل طبعنا مع الجريمة، مع الغفلة، مع التبلّد، مع اللاشيء.

كنت أتابع، قبل سنوات، خبرًا عن اثنين من المتسلقين وصلا قمة إيفرست، وبعد الإنجاز تبرّعا بالجائزة لمشاريع خيرية. كان ذلك "الترند" وقتها. أما الآن، فإن صانع المحتوى الذي يسخر من كل شيء، ويقدّم محتوى بلا عمق، يتصدّر العناوين، يُكرَّم، ويُتابَع. تغيّر الزمن، نعم، لكن هل كان لابد أن يتغيّر بهذا الشكل؟ أليس من الغريب أن يتسابق الناس على السخافة؟ أن تتحوّل القدوة من العلماء والمخترعين إلى "اليوتيوبر" و"المؤثر" الذي لا يقدم سوى الهراء؟

إننا نعيش مرحلة تراجع حاد في الذائقة، ساعدت عليه التكنولوجيا الحديثة، التي اختزلت كل شيء. أصبحت رسائل الواتساب بديلاً عن بطاقات المعايدة، والرموز التعبيرية محلّ الكلمات، والرسائل النصية بديلًا عن الرسائل الورقية التي لا يزال عطرها يحنّ إلى زمنها. الملابس المحتشمة أُزيحت لصالح ملابس لا تترك شيئًا للخيال، حتى المعلمين والأساتذة فقدوا حضورهم وهيبتهم، فتساوى مظهر المعلم بالطالب، وذابت الفوارق التي كانت ترمز إلى الاحترام والهيبة.

فهل هذا هو التطور؟ أن نصبح عراة من كل شيء؟ من القيم؟ من المعايير؟ من الجمال؟
وهل تغيّرت معايير الجمال حقًا، أم أننا فقط نتوهّم ذلك؟

ما يجري اليوم ليس مجرد تحوّل اجتماعي أو ثقافي، بل هو انقلاب صامت على الوعي. ومثلما طبعنا مع "لابوبو" وقبحها، سنطبع مع كل ما هو مشوه ومحرّف، إذا لم نرفع أصواتنا بالسؤال والرفض والمقاومة.

لابوبو ليست السبب، بل النتيجة.
نتيجة لتراكم طويل من الاستسلام، من الانشغال بالتوافه، من الترويج للسطحية، من تقزيم العقول. وهنا نصل إلى السؤال الأخطر:
كيف يمكننا أن نوقف هذه المحركات الجبارة التي تدور لصناعة القبح وتدوير الفاسدين كل يوم بصورة وهيئة وشكل مختلف؟
كيف نواجه هذا السيل العارم من التفاهة المنظّمة، الذي لم يترك لأحد متسعًا للذوق، أو الوعي، أو حتى التأمل؟
هل يكفي أن نرفض؟ أم أننا بحاجة إلى جبهة مقاومة ثقافية، تعيد تشكيل الذوق، وتعيد الاعتبار للإنسان؟
إن لم نفعل ذلك، فسيكون القبح هو الأصل، والجمال هو الاستثناء.

وبدل أن نقول "لكل قاعدة شواذ"، سنجد أنفسنا في عالمٍ أصبح فيه الشواذ هي القاعدة، واختفت القاعدة الحقيقية من المشهد…
اختفت بهدوء، دون ضجيج، كما تختفي الأشياء العزيزة حين لا يجدها أحد تستحق أن تُحمى.







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السوداني يتجاوز الخطوط الحمراء؟ دعوة الجولاني وارتداداتها عل ...
- رغد و الجولاني: مصادفة أم مشروع إقليمي؟


المزيد.....




- -حرب كلامية-.. ترامب يعرب عن خيبة أمله في إيلون ماسك والأخير ...
- في الذكرى الـ81 لإنزال نورماندي... المحاربون القدامى يعودون ...
- محررون فلسطينيون يتحدثون عن ظروف اعتقالهم داخل السجون الإسرا ...
- اكتشاف مدينة أثرية غارقة في المحيط يعود عمرها إلى 140 ألف عا ...
- اتصال هاتفي بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني
- انسحاب مسؤولين مصريين من فعالية دولية كبرى خلال كلمة إسرائيل ...
- ترامب يعرب عن استيائه من -تصعيد- النزاع الأوكراني
- في مشهد إنساني.. توزيع مثلجات مجانا على الحجاج في صعيد عرفات ...
- الأمين العام لحلف -الناتو- يقترح زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5 ...
- حكومة نتنياهو تصدر توجيهات للإدارة المدنية ببدء فرض السيادة ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سكينة السيلاوي - لابوبو... التطبيع مع القبح