مجيدة محمدي
الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 20:50
المحور:
الادب والفن
مقدمة: بين التسمية والجوهر
إن تسمية الأدب بـ"العالمي" تحمل في طياتها إشكالية فلسفية ومعرفية تتجاوز البعد اللغوي والتاريخي. فهل يمكن أن يكون الأدب عالميًا بالفعل، أم أن هذه التسمية ليست سوى إسقاط ثقافي يخفي خلفه ديناميكيات الهيمنة والتمركز حول ذوات ثقافية معينة؟ وهل الأدب العالمي هو مجرد أدب بلغ تأثيره أفقًا واسعًا، أم أنه تصنيف يعكس اختيارات أيديولوجية ومعايير انتقائية؟ هذه الأسئلة تقودنا إلى البحث في المعايير التي يُبنى عليها هذا التصنيف، ومدى موضوعيته، وتأثيره على الأدب المحلي والإبداعي في الثقافات المختلفة.
أولًا: مفهوم "الأدب العالمي" وظهوره التاريخي
* السياق النظري والفلسفي
ظهر مفهوم "الأدب العالمي" (Weltliteratur) لأول مرة مع الفيلسوف الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته (Johann Wolfgang von Goethe) في القرن التاسع عشر، حيث اعتبر أن الأدب يجب أن يتجاوز الحدود القومية ليصل إلى العالمية. غير أن هذا المفهوم لم يكن بريئًا من مركزية أوروبية جعلت من الأدب الأوروبي المقياس الأساسي لهذه العالمية. وقد رأى غوته أن التفاعل بين الآداب المختلفة يؤدي إلى ازدهار الثقافة، لكنه لم يدرك حينها أن هذا التفاعل يتم في سياقات غير متكافئة، حيث تمتلك بعض الثقافات وسائل انتشار أكبر من غيرها.
** الأدب العالمي في ظل العولمة
مع تطور العولمة الثقافية في القرن العشرين والحادي والعشرين، اتسع نطاق الأدب العالمي ليشمل أعمالًا من مختلف بقاع الأرض. غير أن عملية الاختيار والانتشار لا تزال خاضعة لعوامل مثل الترجمة، والجوائز الأدبية، والسوق الثقافية التي تفرض أولويات معينة. فالأدب العالمي، كما يُقدَّم اليوم، ليس مجرد انعكاس للإبداع الإنساني المشترك، بل هو أيضًا نتيجة علاقات القوة بين الثقافات واللغات.
ثانيًا: المعايير المعتمدة في تصنيف الأدب عالميًا
* الانتشار والتأثير الثقافي
يُعتمد في تصنيف الأدب كـ"عالمي" على مدى انتشاره وترجمته إلى لغات متعددة، ومدى تأثيره على الحقول الأدبية والفكرية في ثقافات مختلفة. فمثلًا، تعد أعمال دوستويفسكي وتولستوي عالمية لأنها تُرجمت إلى عشرات اللغات وأثرت على الرواية الحديثة في الغرب والشرق على حد سواء.
** الجوائز الأدبية والاعتراف النقدي
تلعب الجوائز الأدبية العالمية مثل جائزة نوبل للآداب، وجائزة بوكر الدولية، دورًا محوريًا في تصنيف الأعمال الأدبية ضمن خانة "الأدب العالمي". ولكن هل هذه الجوائز تعكس معيارًا موضوعيًا، أم أنها مجرد جزء من عملية ترويج أدبي تخضع لمنظومة سياسية وثقافية معينة؟
*** القيم الإنسانية والموضوعات الكونية
يُقال إن الأدب العالمي هو ذلك الذي يعالج قضايا إنسانية تتجاوز الحدود الثقافية والقومية، مثل الحب، والصراع، والعدالة، والموت. ومع ذلك، فإن هذه القضايا ليست معزولة عن سياقاتها المحلية، فكيف يمكن تحديد "عالمية" نص أدبي دون تذويبه في رؤية ثقافية مهيمنة؟
****الترجمة كشرط للانتشار
تلعب الترجمة دورًا أساسيًا في عالمية الأدب، إذ أن النصوص التي لا تُترجم تبقى حبيسة لغتها الأصلية. ومع ذلك، فإن اختيارات الترجمة ليست محايدة، بل تخضع لمعايير السوق والهيمنة الثقافية، حيث يتم التركيز على آداب بعض اللغات الكبرى وإهمال آداب لغات أخرى.
ثالثًا: بين الإقصاء والتحفيز - هل العالمية تظلم الأدب المحلي؟
* مركزية اللغات الكبرى وإقصاء الآداب الهامشية
إن تصنيف الأدب العالمي غالبًا ما يكون منحازًا للغات ذات الحضور العالمي القوي مثل الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، بينما تبقى الآداب المكتوبة بلغات محلية أو إقليمية قليلة الحظ في هذا التصنيف. فكم عدد الروايات الإفريقية المكتوبة بالسواحيلية أو الهوسا التي تحظى بالاعتراف العالمي مقارنة بتلك المكتوبة بالإنجليزية؟
** الأدب العالمي بوصفه تحفيزًا للإبداع
رغم الانتقادات، يمكن للنظر إلى الأدب العالمي على أنه فضاء تحفيزي للأدب المحلي، حيث يدفع الكتاب إلى البحث عن أصوات جديدة تُمكّنهم من تجاوز حدودهم الثقافية. فمثلاً، نجد أن نجيب محفوظ استطاع، رغم انطلاقه من بيئة مصرية محلية، أن يصل إلى العالمية دون أن يفقد هويته.
*** الأدب العالمي مقابل الأدب الوطني
ثمة إشكالية أخرى تتعلق بتوازن العلاقة بين الأدب المحلي والعالمي. فهل يجب على الكاتب أن يكتب وفق معايير تجعله مؤهلاً للانتشار العالمي، أم أن عليه أن يظل وفيًا لبيئته المحلية؟ وهل الأدب الذي يعكس تجربة محلية بحتة يمكن أن يصبح عالميًا بمجرد أن تتم ترجمته؟
رابعًا: نحو مفهوم جديد للعالمية الأدبية
* إعادة النظر في معايير العالمية
لعل من الضروري تجاوز فكرة أن الأدب العالمي هو الأدب الذي يفرضه السوق والجوائز واللغة المسيطرة، والبحث عن تصورات أكثر شمولية تُعطي حيزًا أكبر للأدب الهامشي والمهمش.
** تعزيز التنوع اللغوي والثقافي في الأدب العالمي
يجب أن يكون للأدب العالمي هامش أوسع من التنوع، بحيث لا يقتصر على الأدب المكتوب بلغات الاستعمار السابقة، بل يشمل الأدب المكتوب بلغات محلية غير شائعة.
*** دور التكنولوجيا في كسر احتكار العالمية
إن الوسائل الرقمية اليوم تتيح فرصًا جديدة لانتشار الأدب دون الحاجة إلى المرور عبر قنوات النشر التقليدية المتمركزة في الغرب. فالمنصات الرقمية والمدونات والترجمات الجماعية قد تكون أدوات لكسر احتكار الأدب العالمي.
خاتمة: هل الأدب العالمي حقيقة أم وهم؟
إن مفهوم "الأدب العالمي" يظل مفهومًا إشكاليًا، يحمل في طياته تناقضات بين الشمولية والانتقائية، بين التحفيز والإقصاء. فبينما يُفترض أن يكون فضاءً مفتوحًا على التنوع الثقافي، نجد أنه في كثير من الأحيان يخضع لمعايير سوقية وهيمنات ثقافية تحدّ من شموليته. ومع ذلك، فإن الأدب، بحكم طبيعته الإبداعية، قادر على كسر هذه الحواجز وإعادة تعريف نفسه باستمرار، ليجعل من "العالمية" تجربة أكثر عدالة وانفتاحًا، تتجاوز حدود اللغة والهوية الجغرافية، وتعترف بأن لكل نص أدبي عالميته الخاصة، حتى لو لم يكن مدرجًا في قوائم النشر الغربي الكبرى.
#مجيدة_محمدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟