حمه الهمامي
الناطق الرسمي باسم حزب العمال التونسي
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 22:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لا خلاص للعمّال إلا في التخلّص من منظومة الاستبداد
صادق برلمان قيس سعيّد فجر الأربعاء 21 ماي 2025 على تنقيح بعض أحكام مجلّة الشغل الخاصة بأشكال العمل الهشّ وتحديدا مناولة اليد العاملة والعقود محدّدة المدّة. وقد أحيطت هذه المصادقة بحملة دعائية من أنصار سلطة الانقلاب، سواء من داخل البرلمان أو من خارجه، لتضخيم ذلك التنقيح وتقديمه على أنّه “ثورة تشريعيّة” لصالح العمّال والحال أنّه كما سنبيّن لاحقا معالجة جزئية ومحدودة لظاهرة التّشغيل الهشّ.
فما من شكّ أن ظاهرتي المناولة وعقود التشغيل محدّدة المدة هما من بين مظاهر الاستعباد والاستغلال الفاحش التي يتعرّض لها العمّال التونسيّون. لقد شكّل إلغاءهما ووضع حدّ لكافّة أشكال التّشغيل الهشّ مطلبا من مطالب الحركة النقابيّة منذ زمن طويل. وبعد ثورة 2010-2011 تمّت مراجعة المناولة في الوظيفة العمومية والقطاع العام بمقتضى اتفاق بين حكومة الباجي قايد السبسي واتحاد الشغل بتاريخ 11 أفريل 2011 وهو ما مكّن من تسوية وضعية عشرات الآلاف من العمال، لكنّ هذا الاتفاق لم يضع حدّا نهائيّا للمناولة في الوظيفة العمومية والقطاع العامّ لأنّه لم يقع إلغاء المنشور عدد 35 لسنة 1999 الذي شرّع المناولة. وبطبيعة الحال ظلّت الوضعية كما هي في القطاع الخاص الذي لم يشمله الاتفاق المذكور. فهل أنّ التنقيح الحالي يضع فعلا حدّا لأشكال التشغيل الهشّ؟ وهل أنّه كاف لضمان حقوق العمّال وصيانة كرامتهم؟ وهل أنّه يجيب حقّا على المعضلات الاجتماعية الكبرى التي تعاني منها غالبية الشعب التونسي وفي مقدّمتها الشباب؟
إنّ أوّل ما يجب ملاحظته هو عدم تشريك الاتحاد العام التونسي للشغل في هذا التنقيح. فقد أقصت حكومة قيس سعيد الاتحاد من النقاشات الأولية حول هذا المشروع بينما أشركت اتحاد الأعراف. وتواصل هذا الإقصاء في “برلمان الدّمى” إذ أنّ لجنة التشريعات لم تستمع إلى رأي الاتحاد في التّنقيح. وهو ما يتنافى مع القوانين المحلّيّة التي تنصّ على وجوبيّة استشارة الاتحاد في مشاريع القوانين والأوامر الحكومية ذات العلاقة بالشغل والعلاقات المهنية والتكوين المهني والحماية الاجتماعية. كما أنه يتنافى مع التزامات الحكومة بمقتضى مصادقتها على اتفاقيات العمل الدولية التي تلزمها بالتشاور مع المنظمات المهنية في إعداد النصوص التشريعية في المجال الاجتماعي. وما من شك في أنّ هذا الإقصاء ليس مجرّد “سهو” أو “إهمال” أو لأنّ الاتحاد “لم يهنّئ” بودربالة بمناسبة تعيينه على رأس البرلمان وإنّما هو يندرج في سياق منهج الحكم الفردي الاستبدادي لقيس سعيّد الذي لا يعترف بالعمل النقابي وبالتشاور والحوار ولا يؤمن إلّا بالقرارات الفوقية في محاولة لإيهام العمّال بأنّه “الضامن الوحيد لمصالحهم” وبأنّهم ليسوا في حاجة إلى نقابات تمثّلهم. وهو ما يفسّر إقصاء الاتحاد منذ مدّة من المفاوضات واتخاذ القرارات التي تهمّ العمال والأجراء دون استشارته كما يفسّر حملات الشيطنة المستمرة ضدّه وضدّ كافة أشكال التنظيم السياسي والنقابي والمدني كما يفسّر حملات القمع التي تستهدف النقابيين وآخرها الحملة التي تشنّها وزارة العدل على نقابيّي محكمة أريانة لتلجيمهم.
وبالإضافة إلى هذا العامل المرتبط بمنهج قيس سعيّد الاستبدادي فإنّ إقصاء الاتحاد له هدف آخر وهو منعه من كشف الطابع الجزئي للتنقيح ومواطن ضعفه. فأيّ تنقيح جدّي لا ينبغي أن يقف عند موضوع المناولة وعقود العمل محدّدة المدّة التي لا تمثّل سوى وجها من وجوه معاناة الطبقة العاملة التونسية من الناحية التّشريعيّة ولا تهمّ إلّا قسما منها وليس كلّها (مثلا 72 ألف عامل فقط يشتغلون في شركات المناولة إلى حدود 2023 حسب تقرير المرصد التّونسي للعدالة الاجتماعيّة أمّا الذين يعملون بعقود محدّدة بمدّة فلا يمثّلون سوى قلّة مقارنة بالعاملين دون أيّ عقد…) وبالتّالي فإنّ المطلوب هو مراجعة شاملة للتّشريعات الشُّغليّة بما فيها مجلّة الشّغل والاتّفاقيّة المشتركة الإطاريّة والاتّفاقيّات المشتركة القطاعيّة وكافة النصوص القانونيّة المتعلقة بالشغل والعلاقات المهنية والتشغيل والتكوين المهني فهي كلّها تحتاج إلى مراجعة جذرية صيانة لحقوق العمال ولكرامتهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ تغييب ممثلي العمّال وتشريك ممثلي الأعراف فقط وسيلة لإخفاء هنات التنقيح ذاته. فلئن ألغى هذا التنقيح المناولة فإنّه حصرها في قطاعي النظافة والحراسة دون غيرهما من القطاعات. كما أنّه ترك من جهة أخرى الباب مفتوحا للتعاقد فيما أسماه “إسداء خدمة” sous-traitance. أمّا بخصوص العمل المؤقت، أي العقود لمدة محددة، فإنّه لم يلغها بالكامل إذ أنّ التنقيح لم يشمل الأعمال الموسمية وهي منتشرة في بلادنا خاصة في قطاع السياحة الذي يمثل، في غياب مشاريع ومؤسسات كبرى صناعية وغيرها ذات قدرة تشغيلية كبيرة، ملجأ للعديد من طالبي الشغل. ورغم النزول بفترة “التجربة” من أربع سنوات إلى عام ففي التنقيح عدة ثغرات يمكن للمشغّلين استعمالها للتملّص من تقييدات القانون وإعادة إنتاج نفس الممارسات السابقة. إنّ العديد من أصحاب المؤسسات يمكنهم “إضفاء صبغة موسمية” على أنشطتهم الصناعية أو التجارية (العودة المدرسية…) للتحايل على القانون وتأبيد العمل بعقود محددة الوقت طالما أنّ مفهوم “الموسم” ظلّ فضفاضا في التنقيح. وبالإضافة إلى ذلك فإن السؤال كل السؤال هل سيجد هذا التنقيح على جزئيته ومحدوديته طريقه إلى التنفيذ؟ هذا ما سنفهمه أكثر بعد صدور النصوص الترتيبيّة وتحديد آليات التنفيذ وهو ما يتطلّب يقظة كبيرة حتى لا يتبخّر هذا التنقيح الجزئي والمحدود في سماء الشعارات الشعبوية الفارغة.
هذا بخصوص التنقيح في حدّ ذاته ولكن ثمة سيل آخر من الأسئلة التي تبقى مطروحة. فكما قلنا فإن المناولة والعقود لمدّة محددة لا تشمل إلّا بعض الفئات من العمّال وهم جديرون بوضع حدّ لحالة الاستعباد والهشاشة التي يعيشون فيها على أن يكون ذلك بشكل فعلي وتام ودون ترك ثغرات تمكن المشغلين من مواصلة استغلالهم، ولكن ما مصير العاملين في عدة قطاعات (المقاهي، المطاعم…) دون أيّ عقد عمل؟ وما الحلّ بالنسبة إلى العاملين في القطاع الفلاحي ومعظمهم من النساء وهم محرومون من عقود الشغل سواء لمدة محددة أو غير محدّدة ومن التغطية الاجتماعية الخ… وما الحلّ بالنّسبة إلى العاملين في القطاع الموازي بشكل عامّ أي حوالي 1.6 مليون نسمة أي 43.9 % من إجمالي اليد العاملة بالقطاع الخاص وفقا لإحصائيات 2019 وهم يعملون “خارج القانون”؟ وما الحلّ أيضا لعاملات المنازل وغيرهنّ؟ وفوق ذلك كلّه ما الحلّ لأجور العمّال التي هي أجور بؤس ناهيك أنّ الأجر الأدنى في تونس لا يتجاوز في هذا العام 528.320د بالنسبة إلى نظام العمل 48 ساعة و448.238د بالنسبة إلى نظام العمل 40 ساعة في ظل تواصل الارتفاع الجنوني للأسعار وفقدان أو ندرة عدة مواد أساسية؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى ظروف العمل والنقل والعطل وكل ما يهمّ الأمومة (محاضن)؟ إن ظروف العمال تتدهور باستمرار ولم يقدّم قيس سعيّد المنتصب في الحكم منذ حوالي 6 سنوات منها حوالي 4 سنوات حكم فيها بمفرده “لا شريك له” بدون رقابة أيّ مشروع لوقف هذا التدهور وتحسين ظروف عمل الشغّالين.
إن ظروف العمّال المتردية التي ظلّت دون حل تمثل جزءا من واقع متردٍّ لشعب بأكمله. فالبطالة تفاقمت مع قيس سعيّد وهي تفوق بقليل نسبة 16 % من بينهم مئات الآلاف من حاملي الشهادات العليا وهو أمر سيتفاقم طالما أنّ الركود الاقتصادي متواصل ونسب النمو السنوية تدور في فلك الصفر فاصل أو الواحد فاصل. ويضرب الفقر حوالي 4 ملايين نسمة أي حوالي ثلث سكان البلاد وثمة من يذهب إلى أنّ هذه النسبة تصل إلى 6 ملايين نسمة أي نصف السكّان. وهو ما فاقم ظاهرة “الحرقة” إلى جانب هجرة الكفاءات إلى الخارج. ومن جهة أخرى فإن الأمية تضرب 17.3 % من التونسيات والتونسيين ممّن هم فوق 10 سنوات وفقا للإحصائيات الرسمية المتعلقة بسنة 2024 مقابل 1.9 % في غزّة التي تتعرّض لحرب إبادة منذ 19 شهرا. يضاف إلى ذلك معاناة التونسيين المستمرة والمتفاقمة من تدهور الخدمات العامة من تعليم وصحة ونقل وسكن ومن انتشار الجريمة والعنف. ونحن إذ نتطرق إلى كل هذه الظواهر فلتبيان الطابع الديماغوجي لخطاب قيس سعيد الشعبوي الذي لا يتوقّف عن الحديث عن “التحرر الاجتماعي” ويحاول هو وخدمه تقديم التنقيح الأخير في صورة “ثورة تشريعية” لصالح العمال والشعب والحال أنه لا يعدو أن يكون إجراء جزئيا يشكو من مواطن ضعف عدّة وهو محاولة في النهاية للتغطية على الطبيعة الطبقية الرجعية لمنظومة الحكم القائمة فالخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي يتّبعها قيس سعيّد ومنظومته لا يمكن إلّا أن تنتج وتعيد إنتاج المظالم التي يعيشها اليوم العمّال وكافة الطبقات والفئات الشعبية من بطالة وفقر وبؤس وهو ما يجعل من خلاصها مشروطا بالتخلّص من منظومة الحكم القائمة ووضع أسس منظومة حكم جديدة ببرنامج اقتصادي واجتماعي جديد يقطع مع الخيارات السابقة القائمة على التبعية والتفقير والتجهيل والتدمير المستمر للمجتمع. ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلّا عبر النضال المنظّم التي تتحقق عبره وحدة الشعب بأسره من أجل تحقيق غد أفضل.
#حمه_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟