أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد رباص - الشبح الذي يظهر ويختفي














المزيد.....

الشبح الذي يظهر ويختفي


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 02:49
المحور: الادب والفن
    


بدافع من طموح منهجي محفز (catalyseur) متمثل في تكسير آلية السرد الخطي الأحادي الاتجاه كما أعلنت عن ذلك سابقا، أراني مبادرا الى القيام بعملية تأخير الأول ووتقديم التالي بشكل يسمح باستدراك ما جرت مجاوزته، أو بالأحرى ما تم القفز عليه..ذلك أن الذاكرة ليست مثل كراسة تدون فيها وقائع وأحداث جرت في زمن حاضر أمسى غائبا، أي في عداد الماضي، انما هي (الذاكرة) جزء من ذات حية عاشت الأحداث والوقائع بحلوها ومرها، ومارست عليها حقها في النسيان بصورة دائمة أو مؤقتة.
ربما لهذا السبب، يتعذر تقييد الذاكرة أثناء الحكي، ويستحيل، بالتالي، معاملتها كموضوع مسالم ومنفعل. هنا، يصعب تمييز الذات عن الموضوع، لأنهما يتبادلان الأدوار في ما بينهما على مستوى المسند والمسند إليه او على مستوى الفعل والمفعول فيه..
ودون محاولة لترويض الذاكرة وإرغامها على التذكر، يحلو لي أن أترك لها العنان حرا كي تتجه الوجهة التي يحلو لها فيها البوح المباح..
هاهي بوصلة الحكي تشير بعقربها الى دوار "الفكارة" الذي احتضن أول مدرسة ابتدائية قدر لي أن أدشز بها وفيها مساري المهني. منذ اليوم الأول، اكتشفنا أن الموقع الذي اختير للمدرسة يبعد عن الدوار بمئات الأمتار بحيث صارت أقرب الى الجبل الطويل والعريض الحاجب للأفق منها الى منازل الطوب التي يأوي اليها سكان البلدة.
قريبا من المدرسة وخلفها، يقع بستان غير مسيج تتخلله أشجار اللوز والزيتون..تتكون المدرسة من ثلاث أقسام: قسمان بالبناء المفكك وثالث مبني بالطوب ومسقف بالصفيح.. في الساحة، ثمة بئر لم تكتمل أشغال حفرها مع أن قرارها يبدو غائرا وتغمره أمتار مكعبة من الماء. وراء القسم المبني بالتابوت، هناك بيت مستطيل الشكل تهدم جانبه الأيمن بفعل تسرب مياه الأمطار الى الجدار.
قيل لنا بأن سبب بناء هذا البيت يرجع الى وعد تلقاه سكان الدوار من السلطات يبشرهم بقرب تعيين ممرضة لتقدم خدماتها شبه الطبية لنسائهم وأطفالهم، وما عليهم سوى تهييئ البناية التي ستكون بمثابة مستوصف صغير.. بنى السكان "المستوصف" بجانب المدرسة وظلوا ينتظرون مجيء الممرضة الى أن استحال أملهم الى سراب..
توالت أيام العمل رتيبة بين المدرسة و"لگصر" حيث تم إسكاننا بدون اختيارنا وإرادتنا.. ونزولا عند رغبة المعلم الذي أراد الاستفراد بالغرفة الكبيرة المتقابل بابها مع باب المسجد والذي سبق له أن أخطرنا بأن مقامنا معه مؤقت ليس إلا، تدبر ثالثنا المتحدر من آسفي أمره حيث استغل علاقته بأحد رجال الدوار ممن يواظبون على أداء الصلوات الخمس، وتسلم منه مفتاح البيت الكائن على يمين باب المسجد.
انتقل المعلم المسفيوي إلى سكنه الجديد وبقيت أنا في الحانوت الكبير وجها لوجه مع المعلم المكوني الذي بدا لي أن بقائي معه تحت سقف واحد بات يزعجه رغم أنه لا يسكن بهذه الخربة بمقابل مادي وإنما بالمجان.. لهذا لم يستطع مواجهتي ومفاتحتي في الأمر بشكل مباشر فطلب من شابين من أبناء الدوار إقناعي بضرورة إخلاء الغرفة مقابل السكن بمفردي في بيت صغير ومظلم يقع مباشرة فوق بيت المعلم الأزيلالي.. امتثلت لما تم اقتراحه علي كحل، ويا ليتني لم أمتثل!!!
منذ الليلة الأولى التي قضيتها في هذه الغرفة المتربة المظلمة، ترسخ في شعوري ومخيلتي أني دفنت حيا بأسمالي وأهيل علي التراب من كل جانب.. في الصباح، وأنا في طريقي إلى المدرسة، أشعر باني عائد إلى مشتل الحياة بعد ليلة عشتها في عداد الأموات..
بقيت مدفونا بهذا القبر المظلم ذي السلم المفضي مباشرة إلى الشارع وذي الكوة الصغيرة المطلة على ساحة المسجد التي تتوسطها بئر يستبطن منها المصلون الماء الذي به يتوضأون ويغتسلون..
في المساء، اعتدت الجلوس بالقرب من باب زنزاتي الطوبية وأنا أحتسي كأس شاي قلما يكون منعنعا، فإذا بي ذات مساء ألمح شبحا يظهر ويختفي من بين بنايات قديمة مهجورة ملوحا بكلتا يديه في اتجاهي طالبا مني القدوم عنده..
ذات ليلة، استجبت لتلويحات الشبح وهرعت في اتجاهه لأكتشف حقيقته هل هو من الجن أم من الإنس. ولجت بقايا وأنقاض منازل قديمة في لجة ظلام دامس بدون مصباح في محاولة مني للالتقاء بالشبح، فإذا هو شابة حمقى رأت في أنا فارس أحلامها.. عندما اكتشفت جنونها أشفقت لحالها واستبعدت من دماغي فكرة اغتصابها تفاديا للفضيحة..
ودعتها بطبع قبلة على خذها في جنح الظلام وعدت مذعورا مفجوعا الى جحري المترب..
حل شهر رمضان بطقوسه وأجوائه وجرى تكييف الزمن المدرسي وفق إملاءات وتعليمات المذكرة ذات الصلة.. طيلة هذا الشهر، استحوذت علي فكرة البحث عن سكن أليق من هذا الكهف الحقير الذي زج بي فيه دون ذنب يعاقب عليه قانون أوتدينه شريعة، لا سيما بعد أن أكتشفت أن عابر سبيل قضى رفقة دابته ليلة في "لگصر" بأحد البيوت السفلية بعدما سمحوا له بذلك وأحضروا الحشيش لمطيته/دابته. أواه!! كيف أعامل بدرجة أقل من الاحترام الذي يحظى به عابر سبيل؟
في المدرسة، سألت التلاميذ عن من يحتفظ بمفتاح المستوصف. قالوا لي: المفتاح عند المقدم. طلبت من تلميذين الذهاب عنده ليخبراه بأن "الموعليم" يريد مفتاح المستوصف.. ما هي إلا لحظات حتى عاد الصبيان ليقولا لي بأن المقدم رفض تسليمهما المفتاح. عندها، ضربت الباب برجلي اليمنى ضربة كانت كافية لإسقاط الدفة في وسط الكوخ الذي انهار جانبه الأيمن ذات ليلة مطيرة..
اقتحمت "المستوصف" وجلت بأركانه فوجدته مفعما بنور الشمس ولو أنه مشاع للريح. طلبت من التلامييد مساعدتي على نقل حوائجي ومتعلقاتي من "لگصر" إلى هذا المكان الذي لذت به بعد إهمال طال أمده.. هيأت الأرضية لفراشي وبسطته في الفسحة التي تشكل امتدادا للركن القريب والمقابل للباب.. في مساء نفس اليوم، التحق بي أحد أصدقائي من أبناء الدوار مباركا لي السكنى الجديدة ومقترحا علي إصلاح الباب بإعادة تثبيته في مكانه شريطة اقتناء مسامير غليظة وكميةمن الجبص. وما دام أن الغد كان يوم خميس، فقد كلفت صديقي بشراء تلك الأشياء من أكدز الذي يحتضن عادة في مثل هذا اليوم سوقا أسبوعيا..



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- تمارة: الأرض والمسألة العقارية.. من خدمة الريع إلى السيادة ا ...
- الاشتراكي الموحد ينتقد إقصاء مؤتمريه ومؤتمراته من اللجنة الإ ...
- حميد المهداوي يتناول الإشكاليات بنظرة سطحية؟ ازدراء الأديان ...
- انتهاء أشغال المؤتمر 14 للجمعية المغربية المغربية لحقوق الإن ...
- قراءة في -الكتاب الأسود لغزة-: حكاية إبادة جماعية
- حزمة صغيرة من عيدان شجرة أنسابي (2/1)
- الرباط: تنسيقية الوديان الثلاثة تنظم ندوة صحافية للتنديد بمص ...
- الحكومة المغربية تحث رؤساء المقاولات على الاستثمار من أجل إن ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- صفحات سوداء من سيرة هنري كسينجر
- فاس: يونس سعد العلمي يفوز بجائزة في مهرجان أغورا الدولي للسي ...
- أگادير: الجمعية المغربية للتنوير تنظم ندوة حول التحولات الاج ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- تمارة: السلطات المحلية تمنع الحزب الاشتراكي الموحد من استعما ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة يعود بنسخة جديدة من 16 ...
- فاس: برنامج النسخة العاشرة من مهرجان أغورا للسينما والفلسفة
- جدل ساخن يثيره حلول -مؤسسة غزة الإنسانية- محل الأمم المتحدة ...
- محمد بن سلمان يستقبل دونالد ترامب بحفاوة بالغة


المزيد.....




- فنانة وإعلامية مصرية شهيرة تعلن الصلح مع طبيب تجميل شوه وجهه ...
- الكتابة في زمن الحرب.. هكذا يقاوم مبدعو غزة الموت والجوع
- أداة غوغل الجديدة للذكاء الاصطناعي: هل تهدد مستقبل المهن الإ ...
- نغوغي وا ثيونغو.. أديب أفريقيا الذي خلع الحداثة الاستعمارية ...
- وجبة من الطعام على الرصيف تكسر البروتوكول.. وزير الثقافة الس ...
- بنعبد الله يعزي أسرة الفقيدة الممثلة المغربية نعيمة بوحمالة ...
- فيلم رعب في السينما يتحول إلى واقع (فيديو)
- جوان رولينغ توافق على الممثلين الرئيسيين لمسلسل -هاري بوتر- ...
- هتتذاع النهاردة مترجمة؟ موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 193 عبر ...
- وفاة الكاتب الكيني المشهور نغوغي وا تيونغو عن 87 عاما


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد رباص - الشبح الذي يظهر ويختفي