أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مارك مجدي - جيل دولوز وتأويل نيتشة ما بعد الحداثي















المزيد.....

جيل دولوز وتأويل نيتشة ما بعد الحداثي


مارك مجدي

الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 08:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




يقدم جيل دولوز دحضًا لفكرة عدمية نيتشة وينزع عنه الفاشية المفترضة ويقدمه في صورة ما بعد حداثية، كفيلسوف للنجاة الفردية.

في مقاله القصير "الصفاء المحض"، يقدم جيل دولوز قراءة غير تقليدية لفريدريك نيتشه، تتصدى لأربعة تأويلات خاطئة شائعة تعرقل الفهم الحقيقي لمشروع نيتشه الفلسفي من منظوره. هذه التأويلات تتعلق بمفاهيم: إرادة القوة، العلاقة بين القوي والضعيف، العود الأبدي، وأخيرًا طبيعة كتابات نيتشه الأخيرة في ظل جنونه. كما يمكن إضافة تأويلين إضافيين لا يقلان شيوعًا وخطورة: اعتبار نيتشه عدميًا أو تصويره كفيلسوف رجعي أو فاشي.

أول هذه التأويلات الخاطئة عند دولوز تخص "إرادة القوة"، والتي غالبًا ما تُفهم كنوع من الطموح للهيمنة أو السيطرة. إلا أن دولوز يوضح أن إرادة القوة، في فلسفة نيتشه، لا تشير إلى ما تريده الإرادة، بل إلى ما يُراد داخل الإرادة نفسها. يرى دولوز أن إرادة التسلط أو امتلاك المال والسلطة ليست تجليًا للقوة، بل هي شكل من أشكال الضعف. القوة الحقيقية، وفقًا لنيتشه، تكمن في القدرة على تجاوز القيم القائمة وتأسيس قيم جديدة. يتجلى هذا في استعارة نيتشه الشهيرة للثلاثة: الجمل، الذي يحمل أثقال القيم القديمة؛ الأسد، الذي يحطمها؛ والطفل، الذي يخلق من جديد في براءة الخلق وبهجة الإمكان.

يتصل بهذا مباشرة رفض نيتشه للثنائية السقراطية بين الجوهر والمظهر، التي يعتبرها منشأ العدمية. ففي هذا التقابل، يُمنح الجوهر مقامًا أعلى من الوجود الظاهر، ويتم نفي العالم الحسي لصالح عالم مفارق. من هنا تنشأ العدمية، ليس فقط في الدين، بل في كل بناء فلسفي ينزع إلى تجاوز الحياة. حتى بعد "موت الإله"، لم يتحرر الإنسان من هذه البنية، بل استبدل الآلهة القديمة بآلهة جديدة: المال، السلطة، النجاح. وبذلك استمرت العدمية في صورة جديدة، وأكثر خداعًا.

ثاني التأويلات التي يعارضها دولوز هو تصوير نيتشه كمفكر يدعو إلى التراتبية بين "الأسياد" و"العبيد" على أسس عنصرية أو اجتماعية. في الواقع، كانت رؤية نيتشه أكثر عمقًا وتعقيدًا؛ فـ"السيد" في العالم الحديث هو من يتقن التكيف مع قيم عبودية، من ينجح داخل النظام لأنه خضع له. أما "القوي" حقًا، فهو من يرفض المشاركة في هذا النظام، من يتحلى بالشجاعة ليقول "لا"، أو حتى "أفضل ألا أفعل". هذا الموقف لا يختلف كثيرًا عن التعاليم المسيحية في مقولتها: "الودعاء يرثون الأرض"، لكن نيتشه يمنحه عمقًا وجوديًا وفلسفيًا جديدًا.

أما المفهوم الثالث، "العود الأبدي"، فغالبًا ما يُساء فهمه باعتباره تصورًا دائريًا زمنيًا يعيد الأحداث إلى نقطة البداية في تكرار أبدي. إلا أن نيتشه يرفض هذه الفكرة بوصفها ساذجة ومحبطة، تشبه في جوهرها الأساطير الدينية عن التناسخ. بدلاً من ذلك، يُفهم العود الأبدي كفعل وجودي: هو تأكيد على الحياة بكل ما فيها، بما في ذلك النفي والمعاناة، من دون السعي إلى تجاوزها أو اختزالها في مثالية متعالية. بهذا المعنى، يتحول العود الأبدي إلى "تأكيد النفي"، أو قبول الوجود كما هو، بما يتضمنه من تناقض، كطريق إلى التحرر من الميتافيزيقا السلبية.

هذا التأويل الثالث يقود إلى لحظة فلسفية محورية: الانتقال من الفلسفة كفن للتمييز والرفض والنفي، إلى الفلسفة كفن للفرح، لتأكيد الكثرة، لتثمين الحياة كما هي، لا كما ينبغي أن تكون. وهذا، في جوهره، هو الموقف الدولوزي، الذي يرى في نيتشه أول فيلسوف "للإيجاب الخالص"، الذي لا يسعى إلى تأسيس نظام جديد بقدر ما يسعى إلى فتح الفضاء أمام التعدد والتحول والتدفق.

أخيرًا، يدافع دولوز عن كتابات نيتشه الأخيرة – تلك التي كتبها عام 1888 – ضد من يرفضونها بحجة أنها نتاج عقل منهار. يرى دولوز أن نيتشه، في لحظة انهياره، قد بلغ ذروة مشروعه الفلسفي. الجنون، في نظره، لم يكن انهيارًا، بل ذروة اتساق داخلي. فالمجتمع الذي يعتبر نفسه "سليمًا" هو، في منظور نيتشه، مجتمع مريض، مريض بتواطئه مع القيم السائدة، مريض بعدميته المقنّعة. أما من يعترف بمرضه، ويسلك طريق الفكر حتى تخوم الألم، فهو وحده من يمكنه أن يرى بوضوح، أن يفكر بحرية، أن يخلق.

بذلك، ينقلب المفهوم التقليدي للمرض والصحة، للموت والحياة، للعقل والجنون. وتصبح فلسفة نيتشه مشروعًا جذريًا للتحرر: لا من الدين فقط، بل من الفلسفة السلبية، من القيم المفروضة، من الذات المغلقة، من كل ما يحدّ من القوة باعتبارها إمكانًا مفتوحًا، لا رغبة في السيطرة.

ما يقدمه دولوز، إذًا، ليس فقط تفسيرًا دقيقًا لفكر نيتشه، بل إعادة فتح لفضاء فلسفي كاد أن يُغلق بسبب التوظيفات الأيديولوجية السطحية. نيتشه، في ضوء قراءة دولوز، ليس نبيًا للعدمية، ولا داعية إلى الفاشية، بل فيلسوفًا للفرح، وللحياة، ولما لم يُفكر فيه بعد.

ما الذي يقدمه دولوز هنا؟

ينطوي طرح دولوز لنيتشه على تمجيد لفكرة الخلاص الفردي عبر القوة الداخلية والخلق الذاتي، حيث يتمركز "الطفل" النيتشوي كرمز للولادة الجديدة بعد تحطيم القيم القديمة. لكن هذا التصور، في جوهره، يتجاهل البنية الاجتماعية والتاريخية التي تشكل الفرد وتقيّده. فالذات، مهما بلغت من إرادة، لا تستطيع أن تتحرر في الفراغ أو تُنتج قيمًا جديدة من العدم، دون سياق اجتماعي يعترف بها ويمنحها إمكان الوجود. ومن هنا، فإن تصور دولوز لفرد قادر على النجاة عبر "تأكيد النفي" أو العود الأبدي يبدو، في النهاية، هو رومانسية متخفية في ثوب ما بعد-حداثي، تتغافل عن شروط التحرر الجماعي، وتفترض أن النجاة ممكنة حتى في عالم لا يسمح لأحد بالنجاة.

علاوة على ذلك، فإن هذا التمجيد للجنون كذروة للفكر، أو للفرد المُهمش كرمز للقوة، يحمل في طياته خطر تبرير العزلة والعجز باسم العمق الوجودي. فأن يكون الفيلسوف "مجنونًا لأنه حقيقيًا" لا يغير من واقع أن هذا الجنون لا يُنتج تحولاً في العالم، بل يترك صاحبه وحيدًا في هامش لا يهدد مركز السلطة والقيم. إن رهان دولوز الفعلى هو على ذات خارقة تخلق المعنى وحدها، وهو رهان ليس فقط غير واقعي، لكنه يعيد إنتاج سرديات النخبة النيتشوية التي تخلي المجال لمصير فردي بطولي، في حين يظل الواقع محكومًا بعلاقات القوة والهيمنة الجماعية التي لا تنكسر إلا بفعل جماعي منظم، وليس عبر أي إرادات فردية، مهما بلغت من "قوة".



#مارك_مجدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ورقة حوار حول الحداثة العربية في حزب التجمع التقدمي-مصر
- المرشد في مفاهيم غرامشي
- اقتصاديون عن الرأسمالية و كوفيد-19 : هناك بصيص من الأمل
- الوباء و أزمة 2008 - يانس فاروفاكيس
- التنمية الاقتصادية و التنمية الثقافية
- انطونيو غرامشي و مفهوم المثقف العضوي
- جاك لاكان بين الماركسية و التحليل النفسي
- نيكوس بولانتازاس : الماركسية و نظرية الدولة
- لينين و قضايا الثقافة
- مثقف في مجتمع متخلف
- انطونيو لابريولا..فلسفة البراكسيس
- باولو فريري..معلم و ثائر
- ثيودور ادورنو..صناعة الثقافة
- كارل كورش..تجديد الماركسية
- التخلف بين الاستعمار و الازمات الداخلية
- هربرت ماركيوز .. التكنولوجيا وتنميط الإنسان
- جورج لوكاتش .. الماركسية الغربية
- التعليم و اعادة انتاج المجتمع المتخلف
- الشباب و الحركة بلا تنظيم
- نظرية التربية الاسلامية و اثرها علي المنظومة التعليمية الحدي ...


المزيد.....




- شاهد كيف يحدد ترامب الجدول الزمني لكل شيء تقريبًا بـ-خلال أس ...
- ماذا نعلم عنه؟.. مقتل ضابط روسي بارز بانفجار داخل روسيا
- مسؤول إسرائيلي يكشف لـCNN الموافقة على اقتراح أميركي لوقف إط ...
- كيف يساعد الغرب روسيا في تمويل حربها على أوكرانيا؟
- في تحد للسلطة.. نساء إيران تحملن -نعش الحجاب- إلى مثواه الأخ ...
- الخارجية الروسية: نأمل أن تحذو كييف حذو موسكو في جدية التفاو ...
- موسكو: فريق ترامب يتعامل مع روسيا بعقلانية وبراغماتية أكثر
- العليمي يروي لـRT قصة أربع طائرات دمرتها إسرائيل في مطار صنع ...
- -مبعوث الرب-.. منشور غامض من الرئيس الأمريكي يثير الجدل
- -الاعتراف بدولة فلسطين مطلب سياسي-.. ماكرون يدعو لتشديد المو ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مارك مجدي - جيل دولوز وتأويل نيتشة ما بعد الحداثي