|
الثيولوجيا الطاهية (قراءة في النسق الكلامي لمشروع طه عبد الرحمن)
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 02:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أأنت طه؟ كلا! من أنت؟ أنا طه! في مراجعاتنا الثلاث السابقة لفكر طه عبد الرحمن (الأخلاق الطاهية والابستيميا الطاهية والتداولية الطاهية) تبين لنا كيف تبنّى هذا المنظّر موقفاً يقوم على النسبية المعرفية الضيقة، حيث تُفرغ المعرفة العقلية من طابعها اليقيني، وتُجرّد من القدرة على توليد نتائج محكمة أو دقيقة. لكن عند هذا الحد، يثور سؤال مركزي: كيف تعامل طه مع مسألة إثبات وجود الله، التي تُعد الركيزة الأساسية للدين، بل وللأخلاق أيضاً؟ ويقودنا هذا التساؤل إلى مشكلات موازية لا تقل أهمية عن مسألة إثبات وجود الله ذاتها، كمسألة إثبات الحقيقة الشرعية، والعلاقة بين العقل والنص، والمنهج التأويلي في فهم الدين. وهذه هي المحاور التي سنتناولها ضمن دراستنا الحالية.. أولاً: إثبات المسألة الإلهية لم يقتنع طه عبد الرحمن بالأدلة العقلية والمنطقية على وجود الله، كما صرّح بذلك في كتابه (العمل الديني وتجديد العقل). ورأى أن أصحاب النظر العقلي المجرد من الفلاسفة والمتكلمين لم يتفقوا على دليل يقيني واحد في المسألة الإلهية؛ بل إن بعضهم يتمسّك بدليل ثم لا يلبث أن يتخلى عنه. واعتبر أن أدلتهم لا ترتقي إلى مستوى اليقين، بل تبقى في دائرة الظن، مستعرضاً في ذلك أربعة محاور توضّح هذا الموقف، كالتالي: 1ـ إن الأدلة المطروحة ليست صوراً استدلالية لا يختلف حولها اثنان. 2ـ ليست أدلة الوجود الإلهي صوراً استدلالية مجردة، بل تحمل مضامين ترتبط بالمعتقدات والمقاصد، وكلما ازدادت صلتها بهذه، كان تأثيرها في المخاطب أعمق، ما يعني أنها غير برهانية ولا قطعية. 3ـ صحة الدليل المنطقي ليست شرطاً كافياً للبرهنة على وجود الله. 4ـ صحة الدليل المنطقي ليست شرطاً ضرورياً للبرهنة على وجود الله، فقد يحصل إثبات الوجود بدليل تنطوي صورته على قسط من الفساد، كما في الحجاج الطبيعي. والحقيقة أن غياب الاتفاق على دليل معين لا يكفي بذاته لنقض جميع الأدلة أو إبطال مشروعية الاستدلال العقلي من حيث الأساس. فالعبرة ليست باتفاق الناظرين فقط، بل في تحليل الأدلة ذاتها، كما فعل الفيلسوف عمانوئيل كانت حين تناول بعمق مختلف براهين وجود الله، ولم يكتفِ بمجرد الإشارة إلى التباين بينها، ولا بلحاظ غياب الاتفاق بين الناظرين فيها. ولا شك أن بعض أدلة الفلاسفة والمتكلمين متقاربة، كدليلَي الإمكان والحدوث، وقد سبق لنا إصلاح هذين الدليلين بما يجعلهما قابلين للاعتماد العقلي. هذا بالإضافة إلى الدليل القائم على النُظم المعقدة، كما في الظواهر الحيوية، وارتباطها بمنطق الاحتمالات، مثلما أشبعناها تفصيلاً في (صخرة الإيمان). من هنا، لم ينتهج طه أسلوب النظر الداخلي إلى بنية "الدليل" وتحليله من حيث شروطه ومقدّماته ونتائجه، بل اكتفى بالملاحظة الخارجية القائمة على تشتّت الآراء حوله. وهذا مسلك لا ينهض إلى مستوى النقد الفلسفي الجاد. والغريب أنه مالَ إلى ترجيح طريقة أهل الذوق على المناهج الفلسفية في التوصل إلى إثبات هذه المسألة، معتبراً التجربة الحية أساساً في هذا الباب، مع اشتراط عدم الميل إلى شبهات الدليل النظري. لكن هذه الطريقة نفسها تخضع لما وجّهه من نقد خارجي، أي تخضع لنفس المعيار الذي طرحه في المساءلة الخارجية، إذ إنها أيضاً لا تحظى بإجماع المهتمين بالمسألة الإلهية. بل إن ما اقترحه من بدائل لا يرتقي إلى مستوى الدليل، لافتقاده الحد الأدنى من القوة المنطقية. فمن الغرابة بمكان أن يحاول إثبات وجود الله من خلال الاستدلال بالفرع على الأصل، وليس العكس. فقد عدّ أقرب البراهين إلى الألوهية ما يُستدل فيه بأفعال الطاعة على الآمر والناهي، بوصفها أعم صفات الله، أي انه آمر ناه، وأخص صفاته هي أنه إله. لذا فمن وجهة نظره أن البرهان النظري في مجال الألوهية لا يقترب من الحق إلا إذا انبنى على مقولات عملية؛ مثل الطاعة، وكذا طلب المغفرة والتوبة، وطلب الاستدلال على أهم الصفات الإلهية؛ مثل الآمر والناهي فالغفور والتواب والرحيم وشديد العقاب. وواضح ان الأدلة التي قدّمها طه على وجود الله هي في غاية الغرابة والضحالة. فالمسلك الذي اقترحه مقلوب منطقاً، حيث الاستدلال من خلال الفرع على الأصل. رغم ان من المحال إثبات الألوهية من خلال صفاتها الفرعية، كصفة الأمر والنهي. إذ يُفترض تأسيس العرش قبل الفرش. فقد يكون الإله موجوداً من دون أمر ونهي، كما هو الحال في الرؤية الربوبية Deism. ثم إن جعل الآمرية أعم صفات الإله يفتقر إلى المنطق السليم. وهو في (روح الدين) جعل مفهوم الآمرية حاكماً على الصفات الفعلية للإله، وكما اعتقد انه لا خلق إلا بأمر يقتضيه الخلاق، ولا رزق إلا بأمر يقتضيه الرزاق، فيتقدم الأمر على الخلق والرزق. فلولا أمر الله ما تحقق الخلق ولا الرزق. وأوامره القدسية لا تنفك تتوارث من غير انقطاع. والآمرية بحسب هذا التصور هي التي تحدد خيريته وهدايته، وهي الأصل الأول الذي يرد إليه كل شيء. لكن خلافاً لهذا المنطق، فإن صفة الآمرية هي في حد ذاتها محكومة بالصفات الذاتية للإله، كالعلم والإرادة والقدرة. لذلك لا يمكن لهذه الصفة ان تتميز بالتعميم على الصفات، ولا ان تكون حاكمة عليها جميعاً. كما أن خضوع الخيرية والهداية لصفة الآمرية يعيدنا إلى التصور الأشعري، وهو التصور الذي يجعل القيمة الأخلاقية تابعة لإرادة الله، لا قائمة بذاتها، الأمر الذي يُنافي أصالة القيم وموضوعيتها. وعلى نفس هذه الشاكلة، استدل طه على الألوهية من خلال النظر في ذات العبد أوصافاً وأفعالاً، بدلاً من النظر في ذات الحق، حتى يتحقق بالتبعية الأصلية بتعرف الحق له تفضلاً منه وتودداً. كما اعتبر الذين التزموا التجربة الحية ودليل المحبة قد تبينوا ان الوجود الإلهي لا يمكن الاستدلال عليه بالأدلة العقلية، وإنما هذا الوجود هو الذي يتعرف للمستدل في تجربته الحية تفضلاً ومنّة من الله. ومن ثم فدليل الوجود الصحيح عند أهل الذوق ليس على وجود الله، بل على وجود العبد، وليس إثبات الربوبية وإنما إظهار العبودية. هذا على الرغم من ان اظهار العبودية لا يتحقق من دون التسليم سلفاً بما يقابلها في الأصل. وبذلك، لا يصل طه إلى دليل قطعي على وجود الله، بل يرى أن ما يُجدي في هذا الباب ليس البناء النظري المتماسك، وإنما مقدار الاقتناع الذي يتركه في نفس المخاطَب. والأغرب مما سبق، أن طه لم يجد دليلاً يقيناً في المسألة الإلهية، لكنه مع هذا اعتبر خبر الواحد المحقق يفيد اليقين، كما صرّح بذلك وهو في معرض ردّه لنظرية أسماء الله الحسنى إلى الخبر الروائي. هذا على الرغم من أن صحة هذا الخبر تتوقف على شروط لا تفي بما يجعله يتصف بالقطع. في حين أن قضية أساسية كإثبات وجود الله لا يمنحها وزن اليقين مثلما منح هذا الفرع الروائي. ثانياً: إثبات الحقيقة الشرعية في معرض نقده لأبي بكر الرازي، كما في (سؤال السيرة الفلسفية)، ذكر انه لا مجال للعقل المجرد ان يثبت الحقيقة الشرعية بالدليل القاطع. فهذا العقل الذي يناسب إدراك الظواهر وتجريدها ليس هو عين العقل الذي يناسب إدراك الشرائع المنزلة وتسديدها. لذلك فإن العقل الذي يوصل إلى الحقيقة الشرعية إنما هو العقل المسدد لا المجرد. وأعاد هذا المعنى في كتابه الأخير (السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي)، حيث اعتبر العقل المجرد لا طاقة له بإدراك حقيقة النبوة فضلاً عن الاستدلال على ضرورتها، بل معرفة ذلك تعود إلى رتبة التسديد. وهو قد عزا عجز العقل المجرد عن معرفة النبوة إلى ان قدرته تنحصر في تناول "الوقائع" لا تتعداها، في حين ان النبوة عبارة عن تبليغ "القيم" إلى البشر لكونها مشتقة من الكمالات الإلهية. وان العقل المجرد متى ما تعاطى النظر في واحدة من هذه القيم، صار إلى قطع صلتها بالكمال الإلهي. لذلك أشاد باستدلال ابن النفيس على ضرورة النبوة من خلال الحاجة إلى الأخلاق، مؤكداً بأنه لا أنسب لمقام النبوة من استدلال يدور على القيم الأخلاقية، باعتبار ان النبوة هي جملة من القيم ذات أصل إلهي. وهذه هي مهمة العقل المسدد الذي يتوسط بين العقلين المجرد والمؤيد، وفق التقسيم الطاهي. وعليه أعاد التأكيد على هذا التقسيم في سياق حديثه عن الاستدلال على الحقيقة الشرعية في (سؤال السيرة الفلسفية)، فصرّح بالقول: ان “عقول البشر ثلاثة لا عقلاً واحداً”، مع مراعاة تفاوت هذه العقول في الكمال. غير أن التعبير عن أن للبشر "عقولاً ثلاثة" لم يكن موفقاً، خاصة وأن طه نفسه في (تجديد المنهج في تقويم التراث)، كان قد أيّد رأي ابن تيمية القائل بأن العقل ليس جوهراً كما ذهب فلاسفة اليونان، بل هو عَرض. وكما أكّد في العديد من كتبه بأن العقل مجرد فعل إدراكي كسائر أفعال الإدراك الحسي من سمع وبصر ولمس. بل واعتبر “العقل على نقيض الرأي الذي جمد عليه الفلاسفة منذ زمن اليونان هو نفسه فعل منبعث من الجسم انبعاث سواه من الادراكات منه، وعلى علو شأنه يبقى حاملاً لأثر أو آثار لمادية الجسم”، لذا لا عقل خالص بإطلاق. ويترتب على هذا الموقف أن لدينا ثلاثة أفعال وظيفية تتفاوت في كمالها، لكنها تبقى صادرة عن كينونة جوهرية واحدة هي من تقوم بهذه الأفعال المتفاوتة، سواء اصطُلح عليها بـ "العقل"، أو بـ "القلب" كما هو الحال عند ابن تيمية، وهو الاصطلاح الذي تبنّاه طه. لكن القول إن هذه الأفعال منبعثة من الجسم يُفضي إلى نتيجة خطيرة، وهي أن العقل المسدد، وكذا العقل المؤيد، سوف يفقدان قيمتهما المعرفية، إذ يغدو شأنهما كشأن الوظائف الفسيولوجية الأخرى التي تتحكم فيها أنظمة الجسم، كالجهاز العصبي مثلاً، حيث يصبح التحكم فيهما كتحكم الجهاز الهضمي في هضم الطعام وامتصاصه. ولو تغاضينا عن إشكالية المنشأ الجسماني للعقل - بما يحمله من تهافت معرفي - وركّزنا على مقارنة العقول الثلاثة في إدراك الحقائق الموضوعية؛ لتبيّن أن العقل المجرد يظل هو الشرط الأساس والضروري في كل عملية إثبات، سواء تعلقت بحقائق مادية أو معنوية متعالية. والحقيقة الشرعية ليست استثناء من ذلك، خلافاً لما ذهب إليه طه حين جعل إدراكها وقفاً على العقل المسدد دون المجرد. بل إن العقل المسدد - ومجمل العقل العملي - لا يقوم له مقام دون تأسيسه على العقل المجرد. فمن الناحية الابستمولوجية، إن المعرفة مشروطة بمبدأ عدم التناقض، وأن العقل المسدد لا تقوم له قائمة من دون هذا الشرط. كما أن كل معرفة كسبية هي بحاجة إلى التسليم بمبدأ السببية العامة، وهو من القضايا القبلية للعقل المجرد، ويتوقف عليه إثبات الحقيقة الشرعية وغيرها من الحقائق الموضوعية. بل إن التنكّر لمكانة العقل المجرد في تأسيس الأخلاق يؤدي إلى شبهة خطيرة، مفادها أن منشأ القيم الأخلاقية لا بد أن يكون اجتماعياً، أو بايولوجياً، أو نفسياً، أو غير ذلك من العوامل الطبيعية، وهو اتجاه يتناسق مع ما أقرّ به طه قديماً من أن منشأ العقل عائد إلى الجسم. والحال أن إثبات المنشأ المعنوي للأخلاق لا يمكن أن يتحقق إلا باعتماد العقل المجرد وضروراته القبلية، كما بيّناه تفصيلاً في (فلسفة النظام الأخلاقي). فبفعل العقل المجرد أثبتنا ان مصدر اللزوم في القضايا الأخلاقية عائد إلى الضرورة الحدسية، وليس إلى الحس والتجربة أو الواقع الموضوعي المشهود. ومن خلال التحليل تبين لنا ان هذا اللزوم يتحدد وفق معيار الخير والصلاح، حيث انكشف بأن جوهر القضية الأخلاقية يستلزم الخير والصلاح الراجحين. كما تبين بفعل هذا التحليل أيضاً أن الوجود هو الشرط الأول لقيام النظام الأخلاقي، بالإضافة إلى ضرورة ان تتوفر صفات نوعية تمثل علة قيام هذا النظام، وعلى رأسها الحياة والعقل والقدرة والإرادة. ومن دون هذه الصفات لا يمكن تصور أي نظام أخلاقي، ولا حتى الحديث عن حقيقة شرعية أو مسألة دينية. لذلك لا معنى للحديث عن العقل المسدد من دون اعتبارات سابقة للعقل المجرد. أو أن الكلام عن العقل المسدد دون النظر في اعتبارات العقل المجرد، هو كلام يفتقر إلى الأساس الذي يبرره معرفياً. ثالثاً: إشكالية العقل والنص قبل الخوض في عرض وجهة النظر الطاهية، يجدر التنبيه إلى أن المقابلة بين العقل والشرع - كما شاع في تراثنا - قد توهم بوجود تعارض بين العقل من جهة، والدين الإلهي المنزل من جهة أخرى. وهذا ما لا يقول به أحد من علماء الإسلام وفلاسفته الذين رجحوا العقل على النقل عند التعارض. فالمقصود ليس مقابلة العقل بالشرع من حيث هو وحي إلهي، بل مقابلة العقل بظاهر النص اللغوي الذي قد يتعارض أحياناً مع المسلّمات العقلية. ومن ثم جرت عادة المتكلمين وغيرهم على ترجيح العقل عند التنافي مع ظاهر النص، دون أن يمنعهم ذلك من الاختلاف حول طبيعة القواعد العقلية المعتمدة. فهذا ما كان يعنيه المتكلمون وغيرهم من علاقة التعارض بين العقل والنص، لكن طه أعاد رسم هذه العلاقة على نحو مغاير، كما جاء في (سؤال الأخلاق) عام 2000. فبداية رفض ما كان متداولاً في تراثنا الإسلامي من المقابلة بين العقل والشرع أو النص، معتبراً أن هذا التصور مستمد من نظرية أخلاقية دخيلة، تقوم على مسلمات مغشوشة مثل التمييز بين العقل والشرع، أو بين العقل والقلب، أو بين العقل والحس. وقال بصدد التفرقة بين العقل والشرع: يترتب عليها محاولات الجمع بينهما وجعل أحدهما تابعاً للآخر أو مكملاً له، أو جعل كل واحد منهما طريقه المستقل من دون تلاقي. واعترض على هذه المسلّمة من جانبين، كالتالي: 1- إن التفرقة بين العقل والشرع جاءت بعد استئناس المسلمين لبعض الأفكار اليونانية قبل عهد الترجمة، ثم تتاخمت بعد الترجمة كما أولاها الفلاسفة المسلمون اهتماماً بالغاً. 2- إن التفرقة بينهما توقع في مغالطة الإبهام، حيث الذي يفرّق لا يبين الوجه الذي تحصل به المقابلة بين العقل والشرع. إذ يجوز ان يكون التفريق بينهما حاصلاً من خلال المصدر، فمصدر العقل هو الإنسان، ومصدر الشرع هو الإله. كما يجوز ان يكون التفريق من خلال المضمون، فمضمون العقل إنساني خالص، ومضمون الشرع إلهي خالص. كذلك يجوز ان يكون التفريق من خلال الكيفية، أي كيفية القول والبيان، فكيفية العقل إنسانية خالصة وكيفية الشرع إلهية خالصة. وقد اعتبر هذه الوجوه كلها فاسدة. ورأى في مقابل تلك الأوجه إمكانات بديلة، وهي انه يجوز ان يكون العقل شرعاً يتلقاه الإنسان من الداخل، وان الشرع عقلاً يتلقاه الإنسان من الخارج. كما يجوز ان يصير مدرك الشرع في البداية هو مدرك العقل في النهاية، ومدرك الشرع عند هذا هو مدرك العقل عند ذاك. كما يجوز ان تكون وسائل العقل شرعية دخلت عليها الصناعات العلمية، وتكون وسائل الشرع عقلية جاءت وفق الفطرة الطبيعية. وهكذا انتهى إلى ان وجوه التفريق المفترضة الثلاثة (المصدر والمضمون والكيفية) لا تفيد في اقامة تمييز واضح بين العقل والشرع. ومن ثم رأى أنه لا تعارض ولا ابتداع ولا غضاضة في القول: إن العقل الإنساني إلهي، وإن الشرع الإلهي إنساني. ولا في القول: إن العقل شرع داخلي، والشرع عقل طبيعي. أو القول: إن العقل شرع صناعي، والشرع عقل طبيعي. وهذا التصور يوجب الاتفاق بين العقل والشرع، فما يقرره الأول يصدقه الثاني، والعكس بالعكس. لكن هذا التأكيد يجعل من السهل القول بأن العقل إذا كان شرعاً من الداخل فلماذا لا يُكتفى به؟ بل هو أولى بالتمسك من الشرع كعقل من الخارج، حيث الاتصال بالداخل أقرب حضوراً ولا يحتاج إلى اكتساب ودليل. وهو هو عين السلوك الذي تؤكد عليه الصوفية. بل إن طه نفسه انتهى إلى هذا المعنى بعد إحدى عشرة سنة من صدور كتابه (سؤال الأخلاق)، وذلك كما ورد في كتابه (روح الدين) الصادر عام 2011، حيث دعا إلى استمداد الفقه الديني من الفطرة دون حاجة إلى التكلّف بالفقه الصناعي، معتبراً ان الشرعية المطلوبة هي الشرعية الفطرية الداخلية كما فطر الله عليها الإنسان، كما سنفصّل القول في ذلك لاحقاً. مع ذلك، لا يخلو موقف طه من التناقض، كما في (سؤال الأخلاق)، فبعد تأكيده على وحدة العقل والشرع، يعود ليشترط أن يكون العقل مقبولاً حينما يكون على اتفاق مع الشرع أو النص. وكما رأى أنه لا يمكن ان يتم الوصل بين العقل والشرع إلا إذا جرى بينهما بما يشبه الاتفاق، حيث يتعهد الإنسان ان يكون عقله موافقاً للشرع ومخالفاً للهوى. وقد استنبط ميثاق العقل والشرع بطريقته الخاصة من آية الميثاق: ﴿وَإِذْ أخذ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَاۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ الأعراف- 172، حيث اعتبر الشرع هو المؤسس لا العقل؛ لعلو رتبته على الأخير واستغنائه بنفسه، ومن ثم حدد فارقاً بين عقل يعقل الأشياء عن نفسه (منفصل)، وعقل يعقلها عن ربه (متصل). ووفق تأويله الغريب للآية، فإن حادث الميثاق حقق الجمع بين العقل والشرع. لقد صوّر طه المقابلة التي انشغل بها المسلمون كما لو كانت قائمة بين "العقل" و"الشرع المنزل" نفسه، وهذا وهم لا يُقرّه مسلم كما أوضحنا سلفاً، بل جاء هذا التقدير من قبل البيانيين للطعن في الاتجاهات العقلية التي تعتبر النص قابلاً لأكثر من فهم. والمقابلة في هذه الحالة ليس بين العقل والنص الشرعي، بل بين العقل وظاهر النص كلغة، أي أن المسألة تتعلق بفهم النص لا بمصدره. وكان الأجدر بهذا المفكر أن يقف إلى جانب المسلك العقلي لتمسّكه بمبدأ التأويل. ولئن بدا طه في بعض عباراته كأنه من البيانيين في قبال العقليين، لكن مذهبه أبعد ما يكون عن أهل البيان، ليس فقط من حيث مسلكه الصوفي واسقاطات مذهبه على النص الديني بما يجعل ممارساته التأويلية تخدم هذا المذهب، بل وإقراره أيضاً بضرورة التأويل بما في ذلك التأويل المفتوح كالذي صرّح به في الجزء الأول من مشروعه (فقه الفلسفة) عام 1995، وذلك على شاكلة أدب ما بعد الحداثة، كذلك نقده للقراءة البيانية بما لا يختلف مبدئياً عن المواقف العقلية في تبريرها للممارسات التأويلية. وبالتالي فمنطلقاته القبلية صوفية وليست بيانية، ناهيك عن أن تكون حاكية عن الشرع المنزّل كما يوهم. فهو وإن اعتبر الشرع أساس العقل، لكنه اعتبر - في المقابل - ان العقل الفطري يسبق الشرع ويؤسسه، حيث مردّ ذلك إلى ميثاق الإشهاد. وقام بتفصيل هذا الحال ضمن نقده لعلماء أصول الفقه الذين قرنوا بين المفهومين "الفطرة" و"العقل"، فكلما ذكروا الفطرة أردفوها بالعقل، وادعى بعضهم ان الفطرة هي العقل. واعترض عليهم، كما في (سؤال الأخلاق)، معتبراً ان الترادف بين الفطرة والعقل لا يمكن ان يصح إلا بشرط رئيسي، وهو ان يكون تصور العقل متطابقاً مع الأوصاف التي ذُكرت في نصوص الشرع. وقصد بذلك العقل المؤيد. إذ حمل الألفاظ القرآنية المتعلقة بمشتقات العقل، وما يقاربها، على هذا النوع من الإدراك. واستدل على ذلك بدليلين كالتالي: أحدهما زعمه أن مشتقات العقل الواردة في القرآن الكريم تأتي في سياق الإشارة إلى الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالعالم الآخر، وأن العقل المجرد قاصر عن إدراك هذه المعاني الغيبية إدراكاً يقينياً، إذ إنه محدود بطبعه. كما أن العقل المسدد لا يهتدي إلى هذه المعاني إلا بصورة جزئية. ومن ثم، لم يبق - بحسب تصوره - إلا العقل المؤيد، الذي يمتلك القدرة على التوسل إلى المقصد النافع عبر السبب الناجع. أما الدليل الثاني فهو ان ألفاظ مشتقات العقل القرآنية تأتي مرادفة لكلمة التذكر والتدبر والتبصر، وهي دالة لديه بوضوح على معانٍ تتعلق بالمغيبات، لذا ما يصدق عليها يصدق على العقل (المؤيد) المرادف لها. وبالتالي فكل ما ورد في القرآن من مشتقات العقل ومن كلمات التذكر والتدبر والتبصر إنما هي دالة - عند طه - على العقل المؤيد. والحق أن ما أورده في هذين الدليلين لا ينهض ببرهانٍ قاطع، بل يمكن مناقشته تفصيلاً لافتقاره إلى الدليل اليقيني على ما ذهب إليه. غير أن اللافت هو أن طه قد لجأ إلى العقل النظري المجرّد في سبيل إنكار صلاحية هذا العقل ذاته، على نحو يذكّرنا بموقف أبي الحسن الأشعري، الذي استخدم العقل لنفي كفاءته في مجال الأحكام العملية. لكن الفارق أن الأشعري اقتصر في نقده على الجانب العملي، بينما ذهب طه أبعد من ذلك، إذ وسّع دائرة النفي لتشمل سائر المعارف، باستثناء ما يتعلق بالظواهر المشهودة في العالم الخارجي، في موقفٍ لا يبتعد كثيراً عما ذهب إليه عمانوئيل كانت. وبناءً على ما تقدّم، أعاد طه توجيه ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الشريعة لا تتضمن تكليفاً ينافي العقل، معتبراً أن المقصود من هذا العقل هو "العقل المؤيد"، لا ذلك الذي تربى في كنف المناهج العقلية ذات الجذور اليونانية الغربية، ولا حتى العقل المسدد. غير أنه تجاوز هذا التصور لاحقاً، إذ خصّ العقل المؤيد في كتابه المتأخّر (سؤال السيرة الفلسفية) بالأنبياء دون غيرهم. وكرر هذا المعنى في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد)، فاعتبر أن العقل الذي غلب في أذهان الأصوليين عامة مستمد من التصور الفلسفي الموروث عن اليونان، والذي انعكس على علم الأصول في تصنيفه للأدلّة إلى عقلية ونقلية، وكأن النقل لا عقل معه، والعقل لا نقل فيه. أما لو رجعنا إلى مرآة ذاتنا الحدسية، وهي ما نعتبرها أداة "صوفية" مشتركة لدى البشر، فسنجد أنها تقرّ بكل ما له علاقة بالفطرتين الأخلاقية والعقلية النظرية المجردة، من دون وجود فارق نوعي، فكلاهما معلوم بالحدس الصرف، أو بالوضوح المنطقي. رابعاً: فهم النص الديني في كتابه (العمل الديني وتجديد العقل) دعا طه إلى ما أسماه بـ "التسلف العملي"، في مقابل "التسلف النظري" الذي تمثله الوهابية، و"التسلف النقدي" الذي تتبناه الحركة الإصلاحية. وعرّف التسلف العملي بأنه عودة النصوص الإسلامية إلينا لا العكس، على اعتبار أن أسباب هذه النصوص باتت داخلية ومركوزة في كيان الإنسان، ومشروطة بتكامله الروحي والعقلي. فحين ترتفع الموانع الناتجة عن تراكم الطبقات المعرفية واختلال التوازن العقلي، تحضر هذه المعاني في ذهن الإنسان وتستولي على مداركه. وفي هذا السياق، دعا إلى تدبر آية الفطرة: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، باعتبارها مدخلاً لهذا الفهم. ورأى أن معالجة المتسلف العملي للنصوص تستند إلى قدرته على طيّ الطبقات المعرفية والتجربية المتراكمة، بما يتيح له استنباط مضامين النصوص الأصلية. وقد حدد عقبتين تعترضان هذه العملية، هما: "الحقيقة التاريخية" و"الحقيقة اللغوية". ومن حيث المعالجة، رأى أن السبيل إلى تجاوز هاتين العقبتين يكون عبر "التطهير" أو "تجديد التربية" بما يساعد على رفع تلك الطبقات المعيقة، واستعادة القدرة على التأمل، مؤكداً أنه كلما زاد البعد الزمني عن الأصول، تعيّن على المتسلف زيادة الأعمال اللازمة لإزالة التراكمات العقلية. مع ذلك ففي موضع آخر من كتابه الآنف الذكر، وفي معرض نقده للتسلف النظري المتمثل في الوهابية، وقع في مفارقة منهجية. فقد اعتبر أن القراءة المباشرة للنص دون تأويل هو أمر غير ممكن، لأن الوصول إلى معاني النصوص لا يتم إلا عبر طبقات من التجربة وشبكات من المعرفة المتأخرة عن زمن صدورها. فالإنسان، بحسبه، لا ينظر في النص إلا وهو محمّل بمقومات ذاتية وسياقية، إضافة إلى مكاسب معرفية وتجريبية متراكمة عبر الأجيال تتدخل في طريقة قراءته للنص. وبهذا، يكون طه قد أجاز في موضع من كتابه (العمل الديني وتجديد العقل) ارتفاع الموانع واستعادة الفهم الأصلي للنص، بينما قرر في موضع آخر استحالة هذا الفهم دون تأويل، نظراً لتدخل الطبقات المعرفية اللاحقة. وتتعمق المفارقة حين قرر، في المصدر نفسه، أن نصوص الشريعة ثابتة لا تتغير، ومطلقة لا تتقيد، وناسخة لا تُنسخ. وهي أحكام تصطدم ضمنياً مع دعواه باستحالة القراءة المباشرة لتلك النصوص. وهو في (روح الحداثة) الصادر عام 2006، سلك نهجاً مختلفاً في الفهم الديني، فصرّح بأنه لا يمكن للمسلمين الدخول إلى الحداثة إلا عبر قراءة جديدة للقرآن. وأكد أن القراءة النبوية للقرآن دشّنت الفعل الحداثي الإسلامي الأول، وأن تحقيق فعل حداثي ثانٍ لا يتم إلا بإحداث قراءة جديدة تُجدد الصلة بالقراءة النبوية. ورأى أن وصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمانها وسياقاتها المختلفة إنما يمثل التحقق الأول والأمثل للمقاصد أو القيم التي تحملها هذه الآيات. وبالتالي انه كلما تجددت الظروف والسياقات، أمكن ان يتجدد تحقق هذه القيم ويتجدد الإيمان بها، فتكون الآيات محفوظة بحفظ قيمها في مختلف الأحوال والأطوار. ومن الواضح أن طه، في هذا المقام، يمنح الواقع دوراً جوهرياً في الفهم الديني، بحيث لم يعد النص وحده كافياً في إنتاج المعنى دون استحضار المعطيات المتغيرة للسياق الزماني والمكاني. وقد كرر هذا المعنى في كتابه (روح الدين)، مؤكداً على محورية العلاقة بين النص والواقع في تشكل الفهم الإيماني. بل أضاف إلى ذلك مسلكاً تأويلياً آخر، يتمثل في اعتبار الأصل في الأقوال الدينية أن تكون حمّالة لوجوه. وعزا ذلك إلى أن هذه الأقوال لم ترد بلغة تقنية صارمة يُوضَع فيها كل لفظ بإزاء معنى معجمي دقيق، أو تُركَّب فيها الجمل على دلالات تركيبية مغلقة، وإنما وردت بلغة الجمهور، وهي لغة مرنة تتسع لاحتمالات التأويل والاختلاف. الفهم الديني والتأسيس الائتماني لقد ذهب طه في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) عام 2022 إلى تقرير مبدأ تعدد فهم النص الديني، منطلقاً من تصور مخصوص للكلمة الإلهية، إذ رأى أن معاني الكلمة الإلهية الواحدة في النص الديني لا تتناهى، فهي تتسع كما تتسع كثرة الكلمات. ووفقاً لهذا المنظور، لا يسعى المتفهم إلى توحيد العقول على معنى واحد، بل إلى لفت انتباهها إلى معانٍ جديدة، بحيث يكون كل معنى مفتاحاً لمعنى ألطف، في سلسلة تأويلية لا نهائية، وكأن الساعي في فهم النص يحاول اللحاق بما لا نهاية له. ومن هنا خلص إلى إلى أن “الأصل في المَفهم ان يكون معنى لا متناهياً”. غير أن طه لم يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه، بل قيد هذه التعددية بضابط خاص، فاستبعد أن يفهم كل أحد من الشريعة ما يشاء، وحدد مجال التعدد بتعدد مراقبة الأسماء الإلهية، فالفهم الخطابي ـ بحسبه ـ يجب أن يكون فهماً أسمائياً صريحاً، حيث مفاهيم الخطاب هي مفاهيم أسمائية بحق. واستند في هذا التنظير إلى مفهومين مركزيين في رؤيته الائتمانية، هما: الفطرة وميثاق الإشهاد. فهو لا يعدّ الفطرة خلاءً معرفياً، بل يراها محمّلة بمضمون سابق مستمد من ميثاق الإشهاد، الذي يتكوّن ـ بحسبه ـ من عنصرين جوهريين، هما: السؤال والاتصال. فالسؤال الإشهادي يقضي بأن تتضمن الفطرة معرفة سابقة؛ باعتبارها شرطاً لإمكان الجواب الآدمي على سؤال "ألست بربكم؟". أما الاتصال الإشهادي فيقضي بأن تكون هذه المعرفة السابقة معرفة بالأسماء الإلهية باعتبارها شرطاً لامكان حضور الذات. والارتباط بين هذين العنصرين (السؤال والاتصال) يقضي بأن سؤال الإنسان الأول، في ميثاق الإشهاد، لم يكن مجرد استفهام، بل كان دعاءً بالأسماء الإلهية. ثم ان كلتا المعرفتين - المعرفة السابقة بالرب استناداً إليها وتوسلاً بها، والمعرفة اللاحقة بأسمائه، توجهاً إليها ودعاء بها - ليست حاصلة بالاكتساب الآدمي وإنما بالتعريف الإلهي. فهذا هو الفهم الخطابي المباشر والذي ورثته الفطرة البشرية عامة. ويستأنف طه مشروعه في التمييز بين الفهم القائم على اللغة والفهم الذي يتأسس على الاتصال المباشر عبر الفطرة. فعلى خلاف ما ذهب إليه الشاطبي الذي أسس المقصد الشرعي على المدلولات اللغوية للنصوص، يرى طه أن "المفهَم الشرعي" ينبثق من المعاني الأخلاقية الفطرية، لا من دلالات الألفاظ. وبالتالي فهو ملكة فطرية، مدركاته الأولى هي المعاني الفطرية وفي مقدمتها القيم الأخلاقية. ويمضي طه إلى التمييز بين "المقصد" و"المفهَم" من حيث الأصل وطبيعة الإدراك والاتصال: فبينما يُستخرج المقصد الشرعي من النص بواسطة التأمل في دلالاته اللفظية والسياقية، فإن المفهم لا يُنتزع من النص، بل يُدرك بالاستجابة الفطرية المباشرة للخطاب الإلهي. وبينما يتسم المقصد بطابع تبليغي تعاملـي يُنقل من المخاطِب إلى المخاطَب عبر وسائط لغوية وتفسيرية، فإن المفهَم - على حد تعبيره - ذو طبيعة خطابية مباشرة يذكّر بالحالة التواثقية، حيث يُخاطِب الله الإنسانَ فطرياً، من دون واسطة، لأن الفطرة هي خطاب الله المقيم في الإنسان، وهو خطاب لا ينقطع بانقطاع الوحي عن الرسول. والمتفهم من الناس هو من وعى هذا الخطاب الفطري، وتلقّاه حضوراً، لا تحليلاً، أي من حضر قلبه مع المتكلم الإلهي، لا من فسّر الكلام بمناهج لغوية أو أصولية. فالمَفهَم هو مُفَهم حضوري وليس مُفهَماً غيابياً شأن المُفَهم اللغوي الذي يعتمد على تحليل الدلالة اللفظية، كما يتحدث عنه الشاطبي. وبذلك فإن طه قد بنى فهماً انطولوجياً ميثاقياً للفطرة، يُعيد فيه كل قيمة دينية إلى ذاكرة الإشهاد الأولى، وهو بذلك يُفكك مركزية النص المنزل لصالح الخطاب الباطني الحي، الذي يتجلى في وجدان الإنسان. وهذه النزعة تحوّل الفهم الديني من كونه فعلَ قراءة للنصوص إلى كونه فعلَ إصغاء لنداءٍ داخلي دائم، أي إلى نوع من العرفان التأويلي الشخصي، القائم على الحضور والمعنى المفتوح، لا على الحجة والبرهان والمعنى المحدود. لكن هذا التصور، على ما فيه من عمق روحاني، يحمل معه مخاطر تفكيك معايير الفهم الجماعي، وتحويل الدين إلى تجربة باطنية نسبية، مما يثير التساؤلات حول مشروعية التعدد والتأويل، وحدود المعنى، ومرجعية الشريعة، بل وربما جدواها في ظل أولوية الخطاب الفطري المتعالي. يضاف إلى أن كتبه طه في هذا المجال يوحي باقترابه من مذهب ابن عربي، الذي يجعل من العرفاء الحقيقيين أنبياء، حيث التماهي بين النبوة والولاية، وأن النبوة لا تنقطع إلى يوم الدين بخلاف الرسالة، فمثلما لا بد للنبي من ولاية، فلا بد للولي العارف من نبوة، وإلا فإنه غير معوّل عليه. وهذا ما أشار إليه ابن عربي صراحة بقوله: ‹‹كل ولاية لا تكون نبوة لا يُعوّل عليها››. وهو موقف يُستشف أن طه يميل إليه من طرف خفي، عبر تبنيه الفهم الحضوري الصوفي بدلاً من الفهم الاجتهادي البياني، مما يفتح الباب على تصور للنبوة لا يقف عند الرسالة، بل يمتد عبر تجربة ذوقية باطنية تُتاح للخواص. وفي ضوء هذا المنظور، يرسم طه تمايزاً جوهرياً بين الخطاب والتبليغ، حيث عالمية الخطاب وقومية التبليغ. فالخطاب كلام إلهي موجَّه للعالم بالتزكي على مقتضى التوحيد. أما التبليغ فهو كلام نبوي تعاملي قومي متعلق بكلام إلهي عالمي عن التزكية. وبالتالي فالتبليغ يدور على خطاب التزكية العالمية. وهذا التمييز يقود بشكل منطقي إلى النتيجة الخطيرة التي تؤكد على أن الشريعة المنزلَة هي شريعة محلية من دون تعميم، لأنها محكومة بإطار التبليغ القومي، لا بمقتضى الخطاب الكوني. الأمر الذي يعارض إجماع الفقهاء الذين يرون في الشريعة الإسلامية خاتمة عامة شاملة للبشر كافة. ويتسق هذا التوجّه مع ما أقرّه في حوار سابق من أن الحقائق الوجودية بما فيها الحقيقة الدينية، ليست ثابتة الهوية، بل تخضع للتحول والتغير تبعاً للزمان والمجتمع والثقافة، وهو ما استدل عليه بتعدد الشرائع، مما يرسّخ من نزعة نسبية الحقيقة الدينية، ويقطع مع التصور التقليدي القائم على الثبات والتعالي. الفطرة والائتمان لقد اعتبر طه أن الشريعة تتأسس على ميثاق الإشهاد، والفطرة من الإنسان هي بمنزلة المحل الذي يواصل فيه تلقي السؤال الأول وشهود الاتصال الأول، كأن أخذ ميثاق الإشهاد منه لا يزال متواصلاً وملازماً له على مدى حياته، وذلك على شاكلة ما سبق إليه الجنيد وإن لم يأتِ بذكر اسمه. فقد كان يرى العارف لا يزال يسمع نداء "ألست بربكم؟" في سمع قلبه ما دام حيّاً، بما يدل على استبطان المنهج العرفاني في فهم العلاقة بين الإنسان وربّه. أما الفطرة - هنا - فليست معطى غريزياً بايولوجياً، حيث حقيقتها عند هذا المفكر هي أنها خطاب الله في وجدان الإنسان؛ سؤالاً واتصالاً، في مقابل حقيقة الشريعة التي هي بلاغه اليه؛ بياناً وبيْناً. لذلك اعتبر من الصحيح ان تكون الفطرة هي الأصل الذي تتأسس عليه الشريعة نظراً لأن الخطاب أصل، والتبليغ فرع. فالخطاب يؤسس التبليغ، والتبليغ لا يؤسس الخطاب، والكمال هو في الجمع بينهما بفضل هذا التأسيس. وبهذا المنطق، يصبح كمال الشريعة من كمال الفطرة، وكمال الفطرة من كمال ميثاق الإشهاد، وكمال ميثاق الإشهاد من كمال الفاطر نفسه. وفي هذه السلسلة من الترابطات، تُقدَّم الفطرة على أنها دوامُ خطاب الفاطر في سرّ الإنسان. فالفطرة ميثاقية، وانها ذاكرة إشهادية حية وليست مستودعاً غريزياً. وبعبارة أخرى، أن الفطرة ليست خزانة سلوكية كما في النظرة البايولوجية، ولا استعداداً معرفياً خاملاً كما في النظرة الفلسفية الكلاسيكية، بل هي ذاكرة ميثاقية ثابتة، تحيي الإنسان بقدر استجابته لنداء الخطاب الإلهي المتواصل فيه. وعليه، فكل إنسان - بحسب هذا التصور - مفطور على القيم الأسمائية، أي أنه يحمل في باطنه استعداداً فطرياً لاستحضار أسماء الله الحسنى بوصفها معايير التزكية والهداية. ولذلك، فإن كل إنسان مؤتمن على الإرادة، ومؤهل للتزكية، لأن الميثاق يجعل من الحرية والاختيار شرطاً أصيلاً في استجابته للخطاب الإلهي. وقد يُعترض على ما قرّره طه من تفسير "الأمانة" المشار إليها في النص القرآني بأنها تعني "الإرادة"، بل قد يتبادر إلى ذهن البعض أن المقصود بهذه الإرادة هو إرادة الإنسان نفسه. وهنا يثور الإشكال: إذا كانت هذه الإرادة لازمة لوجود الإنسان ومحكومة بطبيعته، فكيف يُعقل أن يكون مؤتمناً عليها؟ إذ إن الائتمان لا يقع إلا على ما هو قابل للتصرف والاختيار، لا على ما هو مركوز في الجبلة ملازم للكينونة بحيث لا يُتصوّر انفكاك الإنسان عنه. فكيف تكون "الإرادة" ـ وهي مقوّم وجودي للإنسان ـ شيئاً خارجاً عن ذاته حتى تُجعل محلّاً للائتمان؟ والجواب، من وجهة نظر طه، أن الإرادة المؤتمن عليها ليست هي الإرادة الإنسانية، بل الإرادة الإلهية. غير أن الإشكال يظل قائماً، إذ إن طه لجأ إلى فرضية مركّبة، افترض فيها وجود إرادتين على صلة بحمل الأمانة: فإن كانت "الأمانة" تشير إلى الإرادة الإلهية، فإن ما يُناط بحملها هو إرادة الإنسان. وبذلك ينتهي إلى ما يسميه "إرادة الإرادة"؛ أي إن الإنسان أراد حمل أمانة الإرادة الإلهية كوديعة، وهو ما يمثل ميثاق الاستئمان كطور ثان بعد طور ميثاق الإشهاد. وهذا التفسير لا يخلو من تكلف زائد ومضاعف غير مبرر للكيانات المفهومية. فمن جهة، كيف يمكن للإرادة الإلهية أن تكون وديعة عند الغير وهي كينونة خارجية مستقلة؟ كما من جهة ثانية، وهي الأهم، كيف يمكن أن تكون هذه الإرادة وديعة في حين تمثل الأصل المعتمد عليه في ايجاد الإرادة الثانية (الإنسانية)؟! لكن طه في كتابه الأخير (السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي) أعاد توجيه هذه القضية بشكل مغاير، حيث اعتبر الائتمان على القيم يرجع إلى الائتمان على الإرادة، في الوقت الذي تتوسل الإرادة الإنسانية بالقيم الفطرية فتكون موافقة لإرادة الله، إذ صرّح بأنه ينبغي ان تكون إرادة الإنسان “موافقة لإرادة الله، فيكون ائتمان الإله للإنسان على الإرادة إنما هو ائتمانه على هذه الموافقة، بل ائتمانه على إرادة هذه الموافقة”. وفي المعنى الأخير يصبح مفهوم "إرادة الإرادة" هو أن تكون إرادة الإنسان موافقة لإرادة الله، فيصبح الائتمان على هذه الموافقة، وليس كما في التعبير المضلل السابق بأن الائتمان على الإرادة ذاتها. إذاً، لم يكن لهذا التكلف من مسوّغ، وكان الأليق بهذا المنظّر أن يجعل الأمانة معبرة عن الأسماء الإلهية أو الأخلاق باعتبارها هبة ربانية، لا سيما انه اعتبر الأصل في الإرادة الإنسانية هو ان تتعلق بالقيم الناتجة عن تأثير الأسماء الحسنى في الفطرة. فالقيم الأسمائية هي الودائع التي يتعين على الإرادة حفظها. أصول بناء الشريعة ومصالحها لقد عمل طه في مشروعه التأويلي على تشييد بنية مفهومية جديدة تنسب تأسيس الشريعة إلى ثلاثة مواثيق أصلية، وهي: ميثاق الإشهاد، وميثاق الاستئمان، وميثاق الإرسال. ويقابل هذه المواثيق بثلاثة عناصر إنسانية: الفطرة، والإرادة، والتزكية، معتبراً أن هذه العناصر تمثل "أصول الشريعة"، لا على مستوى الفهم والتلقي فحسب، بل على مستوى الوجود التكويني للشريعة ذاتها. ومن حيث التفصيل، ثمة ثلاثة مواثيق تتأسس عليها كل من الفطرة والإرادة والتزكية، مؤكداً على ان الفطرة تتأسس على ميثاق الإشهاد، وان الإرادة تتأسس على ميثاق الاستئمان، وان التزكية تتأسس على ميثاق ثالث هو ميثاق الارسال. لذلك اعتبر المطلوب هو تأسيس الشريعة على الفطرة، وتأسيس مقاصدها على الإرادة، وتأسيس مصالحها على التزكية. وهو يقصد بتأسيس الشريعة على الفطرة هو أن القيم الفطرية الأساسية لا تحدد أحكام الشريعة فحسب، بل تحدد وجود الشريعة نفسه. حيث وجود الشريعة سابق على أحكامها. ومن ثم فأصول الشريعة هي الفطرة والإرادة والتزكية. واعتبر هذه الأصول تتضمن ثلاثة مواثيق، فميثاق الإشهاد يتضمن خطاب التوحيد، وميثاق الاستئمان يتضمن خطاب الأمانة، وميثاق الارسال يتضمن خطاب التبليغ لخاصة الأنبياء والرسل. وهذه المواثيق الثلاثة ضمن عالم المواثقة تمتلك ثلاثة أطوار للشريعة ذات علل ثلاث، فميثاق الإشهاد قد تضمن العلة العقدية، وميثاق الاستئمان تضمن العلة التكليفية، وميثاق الارسال تضمن العلة التبليغية. بل وان هذه العلل الثلاث (العقدية والتكليفية والتبليغية) تمثل كليات فطرية منبثقة عن ثلاثة خطابات إلهية، فهي كليات قيمية، وهي علل دعت إلى وجود الشريعة، وهي تختلف باختلاف المواثيق الثلاثة: التوحيد الإشهادي والمسؤولية الائتماني والتزكية العالمية. غير أن هذا البناء، على ما فيه من جمالية رمزية وثراء مفهومي، لا يخلو من تناقضات جوهرية وغرائب تأويلية، يمكن إجمالها في الفقرة النقدية التالية: لقد أدخل طه مفهوم التزكية ضمن أصول الشريعة الثلاثة (إلى جانب الفطرة والإرادة)، واعتبرها أساساً تُبنى عليه مصالح الشريعة. غير أن هذا التوظيف يثير التباساً بنيوياً، إذ أن التزكية، بخلاف الفطرة والإرادة، ليست عنصراً تكوينياً سابقاً في ماهية الإنسان، بل هي من نتائج أفعاله واختياراته الأخلاقية. فهي ليست "أصلاً" بل "مقصداً"، وليست "علّة تأسيسية" بل "ثمرة تنفيذية". وبعبارة أخرى، ثمة خلط مفهومي في تسوية المقام بين الفطرة والإرادة من جهة، والتزكية من جهة أخرى. إذ أن الفطرة والإرادة يمكن النظر إليهما - بدرجات متفاوتة - على أنهما من المقومات التكوينية للنفس البشرية. أما التزكية، فهي ليست من هذا القبيل، بل هي ثمرة سعي، ومحصّلة تربية ناتجة عن أفعال الإنسان في إطار الامتثال أو الانحراف. أو إنها حالة مكتسبة، لا مكوِّن فطري، ولهذا فإن إدخالها ضمن "أصول الشريعة" كما فعل طه هو خلط بين التكوين والتحصيل، وبين الأصل والنتيجة. إذ لا يُعقل أن يكون ما هو ثمرة لفعل بشري في مقام ما هو مُكوِّن سابق عليه، كما لا يصح أن يُجعل ما هو مقصد للشريعة بمقام علّة لوجودها. يضاف إلى ذلك، أن الفطرة والإرادة والتزكية، جميعها من شؤون المخلوق البشري، في حين ان منبع الشريعة عائد إلى الأمر الإلهي. لذا كيف يجوز أن تُرفع إلى مستوى المعايير المؤسسة للشريعة ذاتها؟ ثم إن ترتيب العلاقة بين الشريعة والفطرة يستدعي ضبطاً دقيقاً، إذ كيف أمكن لهذا المفكر أن يجعل تأسيس الشريعة قائماً على الفطرة؟ فلو أنه قال إن فهم الشريعة ينبغي أن يتأسس على الفطرة؛ لكان كلامه متسقاً. أما أن يجعل تأسيس الشريعة، وهي الخطاب التكليفي النابع من إرادة الله وأمره، قائماً على فطرة الإنسان، فهو من الخلط العجيب. القيم ونقد نظرية المقاصد كذلك تناول طه في ذات الكتاب (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) نقداً لنظرية المقاصد الضرورية كما طرحها عدد من علماء الأصول، ومن أبرزهم الشاطبي، مقدِّماً تصوراً مغايراً يقوم على تصنيف جديد للقيم. فقد اقترح وجود ست قيم تتفاضل فيما بينها، مرتبةً على النحو التالي: القيم الروحية في المرتبة العليا، تليها القيم العقدية، ثم القيم العملية، فالعقلية، فالحيوية، وأخيراً القيم المادية في المرتبة الدنيا. وقد اعتبر هذا الترتيب ائتمانياً. وانتهى إلى أن من بين هذه القيم تبرز ثلاث ضرورات لمقاصد الأحكام الشرعية، هي: حفظ العقيدة، والعقل، والعمل، مخالفاً بذلك المقاصديين الذين عدّوا المال من جملة المقاصد الأساسية. وقد استبعد طه المال، معتبراً أن وجوده متوقف على وجود العمل، بل رأى أن العمل هو قوام كل شيء: فلا دين بلا عمل، ولا نسل بلا عمل، ولا مال بلا عمل، ولا حياة بلا عمل، ولا عقل بلا عمل. فالإنسان - في نظره - يعبد ليعمل صالحاً، ويُنجب ليعمل من أجل الولد، ويكسب من خلال العمل، ولا يقدح في قيمة العمل كونه يتقلب بين الغائية والوسَلية. كما ردّ المقاصد الثلاثة (النفس والعقل والنسل) إلى واحدة تكون من جنس العقيدة والعمل، وعدّ أحقها بالعناية هو العقل، لأنه لا نفس بغير عقل، ولا نسل بغير نفس. غير أن هذا التقرير يثير عدداً من الإشكالات: أولاً: النفس والنسل كينونتان وجوديتان، في حين أن طه ما فتئ يؤكد على أن العقل ليس كياناً وجودياً، بل هو مجرد وظيفة. فكيف جاز له أن يجعل العقل بديلاً عن النفس والنسل؟ ثانياً: من الواضح أن وجود النفس سابق على وجود العقل، وأن الإنسان قد يكون نفساً وبدناً من دون أن يتصف بالعقل، بينما لا يمكن العكس. كذلك ان تقرير طه لا ينسجم مع ما جاء في القرآن الكريم من أهمية النفس من حيث حياتها ومماتها ومبعثها والقصاص عليها مما ينسجم مع اعتبارها من المقاصد، خلافاً للعقل الذي لم يرد حوله شيء بهذا الخصوص. وعلى العموم اختزل طه المقاصد إلى ثلاثة: حفظ العقيدة والعقل والعمل. وهي مقاصد تتقبل الكثير من الكلام والجدل، لكن لسنا بصدد مناقشتها. أما تقسيمه السداسي للقيم فهو يختلف عما سبق إليه في (تجديد المنهج في تقويم التراث) من تكاثر القيم، حيث تمت الإشارة إلى ثلاث منها، بعضها يختلف عما ورد في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد)، وهي القيم الروحية التي تتضمن المعاني الأخلاقية، والقيم الحيوية التي تحمل أغلب المصالح الضرورية المقررة لدى علماء المقاصد مثل النفس والمال والنسل، والقيم العقلية التي تتضمن المعاني الأخلاقية من الحسن والقبح، ومنها الأمن والسلام والعمل والحرية والثقافة والحوار. كما يختلف كلا التصنيفين السابقين عما جاء في حوار له ضمن (الحوار اُفقاً للفكر) حيث قسّم المصالح إلى ثلاث مراتب معكوسة الترتيب مقارنة بعلماء المقاصد، وهي: المصالح الروحية أو الضرورية، ثم تليها المصالح العقلية أو الحاجية، وأخيراً المصالح المادية أو التحسينية. وقد سبق أن أوردنا إشكالاً على تراتبيته للقيم في التصنيف السداسي، حيث جعل القيم العقدية أرفع من القيم العملية، مع أن التعرف على القيم العقدية لا يتم إلا عبر العقل النظري، الذي يُعارضه طه مراراً، في حين أنه يرى القيم العملية أقرب إلى البداهة والعقل المشترك. الاعتراض على الاستقراء النصي في الكتاب ذاته (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) وجّه طه اعتراضاً على الفهم الديني المؤسس على الدليل الاستقرائي، ومن ذلك ما استخدمه علماء النظرية المقصدية في استنباط المقاصد الضرورية من النصوص الدينية عبر المنهج الاستقرائي. وقد بنى اعتراضه على أن هذا المسلك يتسم بصفتين أساسيتين تقوم عليهما ما سمّاه "الدعوة العلمانية"، وهما: الصفة الطبيعية، والصفة الدنيوية. وبالنسبة إلى الصفة الأولى، فمفادها أن الأصل في الاستقراء هو اختصاصه في العلوم الطبيعية والتجريبية، ومن ثم فالذي ينقل هذا المنهج الحسي إلى مجال الفقه لا يمكن ان يصرف الصفة الطبيعية عنه، بل يثبتها فيه من حيث لا يشعر، فيأخذ في التعامل مع الأدلة الشرعية كما لو كانت ظواهر منضبطة لا آيات منفتحة، معتبراً علامات هذا التأثير الطبيعي في علم المقاصد تتجلى في أمور ثلاثة: الشيئية، والجملية، والنسقية. أما الصفة الدنيوية، فمؤداها أن الاستقراء بطبيعته محكوم بأفق دنيوي لا يتعداه، فلا مجال فيه للأمور الغيبية، لأن الخبر الغيبي لا يُمكن استظهاره ولا ضبطه. وبالتالي، فإن مَن ينقل الاستقراء إلى الفقه لا يمكنه محو هذا الأفق الدنيوي للاستقراء. هكذا رسم طه موقفه الناقد من الفهم الديني المؤسس على الاستقراء. غير أن هذا الموقف يتجاهل طبيعة الاستقراء بوصفه أداة منطقية حيادية، قابلة للتطبيق على مختلف أنواع المعطيات الشهودية، سواء أكانت طبيعية أم لغوية نصية أو غيرها. فالاستقراء لا يختلف - من حيث المبدأ - عن غيره من الأدوات المنطقية كالقياس ومبدأ عدم التناقض، والتي تُستخدم في القضايا المعرفية والوجودية والدينية على حد سواء، دون أن تجرّ معها خصائص دنيوية أو طبيعية مفترضة. فإذا كان من المقبول استخدام مبدأ عدم التناقض في دراسة النصوص الدينية، فما الذي يمنع من استخدام الاستقراء، وهما معاً أدوات محايدة خالية من الحمولات الفلسفية أو الآيديولوجية؟ وإذا كان القياس التمثيلي - الذي يُستخدم في العلوم الطبيعية - لا يُستنكر استخدامه في علم الفقه، فما الذي يبرر استثناء الاستقراء، وهو أحد أبرز أدوات الكشف والربط المنطقي؟ بل لو نظرنا في طبيعة الفهم اللغوي للنصوص، لأدركنا أن من المحال بلوغ أي فهم للنصوص الدينية دون توظيف الاستقراء. إذ لا يمكن فهم الجملة أو الآية القرآنية إلا من خلال جمع القرائن والعلامات المتناثرة في اللغة وسياقاتها، وهي عملية استقرائية في جوهرها. وإذا كان المقاصديون قد أخطأوا باستخدامهم للاستقراء في تتبع المقاصد، مع تهميش الجوانب الأخلاقية التي أكد عليها النص الشرعي، فإن ذلك لا يعود إلى خلل في الأداة الاستقرائية ذاتها، بل في المنهج الضيق الذي اعتمدوه. لذا كان الأجدر بهذا المفكر توظيف هذه الأداة في استكشاف الأبعاد الأخلاقية للنص بدلاً من رفضها كأداة افتراضية مفروضة، كما بدلاً من جعل هذه الأبعاد مسلمة افتراضية مزعومة كما يحاول تكريس هذا الحال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، انتقد هذا المنظّر تطبيق الشاطبي للاستقراء في دراسة النص، معتبراً أن تقرير الشريعة لمصالح الخلق أمر بديهي، يقع في دائرة العلم الضروري لا النظري، فضلاً عن أن تكون محل دراسة استقرائية. غير أن هذا الاعتراض يغفل حقيقة أن الشاطبي أشعري المذهب، ومن ثم فهو لا يسلّم بهذه البداهة المزعومة، بل يحتاج إلى استنباط المقاصد من النصوص ذاتها، سواء عن طريق الاستقراء أو غيره. لذلك لا معنى للاعتراض على الشاطبي، فعند الأشاعرة لا يمتنع ان يكون غرض الشريعة ليس معنياً بالخلق والعباد، أو ان تكون أحكامها تعبدية تماماً بدون مصالح، أو حتى على الضد من مصالح الناس. كذلك، كيف يمكن إثبات بداهة كون الشريعة قائمة على مصالح الخلق؟ فإن كانت المسألة الإلهية - وهي أصل الشريعة ومصدرها - غير مقطوع بها عند هذا المفكر، فكيف يُسوّغ لهذا المفكر أن يعتبر مراعاة مصالح الناس في الشريعة أمراً بديهياً لا يحتاج إلى دليل؟ أي كيف يصح أن يكون الفرع بديهياً، بينما الأصل المؤسِّس له موضع شك؟ وفي المقابل، دعا طه إلى ما سمّيته في (علم الطريقة) بـ "القراءة العمودية"، في قبال "القراءة الأفقية" القائمة على الاستقراء النصي. ففي القراءة العمودية يسهل الانتقال من الظاهر إلى الباطن، كالذي تتبعه الطريقة الصوفية التي يتبناها هذا المفكر الحداثي، لكن هذه القراءة محفوفة بمخاطر "الانفلات القرائي" من دون ضبط، حيث يسود فيها تحكم القبليات غير المنضبطة عادة. وقد ذهب طه إلى أبعد من ذلك حين دعا في الجزء الأول من مشروع (فقه الفلسفة) إلى التأويل المفتوح بلا حدود. وفي علم الطريقة، سبق أن ميزنا بين "الحد الأدنى للفهم" و"الحد الأقصى" له. فالحد الأدنى هو فهم ينشأ عند أوسع مساحة ممكنة للمستوى الأفقي للنص، ويكون مطابقاً للأخير اعتماداً على القرائن الاستقرائية، كالذي يستهدفه البحث الإبستمولوجي. لذلك اصطلحنا على هذه العملية بـ "القراءة الإبستمولوجية" للنص. أما الحد الأقصى، فهو فهم ينشأ عند ذروة التعمق في المستوى العمودي للنص، وهو المستوى الذي يتيح المجال لإمكانات وترددات كثيرة تسمح بقراءات ممكنة بلا حدود عبر اسقاطات القارئ الذاتية، كالذي يستهدفه البحث الهرمنوطيقي. لذلك اصطلحنا على هذه العملية بـ "القراءة الهرمنوطيقية" للنص. مخالفة الفقهاء لم يتوانَ طه في اسقاط المفاهيم الصوفية على النص الديني ليتوصل من خلالها إلى اشاعة النهج العرفاني على شاكلة ما كان يفعله العرفاء القدماء. فمثلاً قام في كتاب (روح الدين) بتفسير آية الأمانة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ الاحزاب- 72، فاعتبر جوهر ما تعنيه هو “ربط التدبير بالتعبد، ومع اعتباره الأمانة العظمى هي السياسة لكنها غير منفصلة عن الروح، فهي أداة للتدبير عندما تتصل بالغيب وتكشف اسراره، وبالتالي تحتاج إلى الرياضة والتزكي”. لذلك فهو قد فهم شعار "الحاكمية لله" ليس كما يفهمه أتباع الحركات السياسية الإسلامية، بل قصد بذلك التدبير الروحي الذي يعنى بالمدبر الائتماني، وهو المتزكي، أو العرفاني صاحب العقل المؤيد، لا السياسي الذي يرفع شعار الحاكمية لله. فمن وجهة نظره انه لا يصح القول بالحاكمية لله إلا لمن شاهد الحق في الخلق، وهي لا تتأتى إلا للمتزكي، وهو الذي نزل رتبة العقل المؤيد، حيث يتصل بالله غيباً وباطناً فيتصف بصفاته ومنها تنشأ حاكميته التدبيرية. وكما قال: “لا يزال المتزكي يتقرب بما هدي إليه من صادق الأعمال وخالصها حتى يغمره الحق بمحبته ويفنيه عن أفعاله لينشئ فيه أفعالاً وصفات هي من عنده تعالى، فيبدله بسمعه سمعاً، وببصره بصراً وببطشه بطشاً. فيغيب المتزكي بالله عن رؤية نفسه، فيتحقق بوصف الآمر تحققه بوصف المأمور، والمطاع بوصف المطيع، فيصير إذا قال للشيء كن فيكون”. وتعتبر هذه المفاهيم إعادة للتصورات الصوفية التي تؤكد على امكانية فناء الصوفي في الله ونيابته عنه في الصفات كأعلى المقامات التي يمكن الوصول اليها، والتي خفف منها طه بمقالة "غياب المتزكي في الله"، وهي التي لها مضامين وحدة الشهود. ولأول مرة بدأ هذا المنظّر في (روح الدين) الصادر عام 2011 بشنّ هجمة معادية للديانين من أمثال الفقهاء وغيرهم، فوصفهم بالطاغوت حيث يشرعون الأحكام الخاصة والعامة من عقولهم وليس من عند الله. ومن ذلك انه اعتبر الحاكمية البشرية تدعو إلى الطغيان حتى من طرف الديانين، لأنهم لا يعملون بالآمرية الإلهية بل بالأمرية البشرية، وان المتعبد لأمر إنسان يكون تابعاً طاغوتياً. كما صرّح بهذا الصدد: قبح مخالفة الآمرية (او مقتضى الأخلاقية المسددة) متى ظهر أن حقيقة الإنسان حقيقة أمرية. فمن اختار ان يأتي من الأعمال والتصرفات ما يخالف حقيقته الأمرية إنما يسعى في فساد ظاهره فضلاً عن باطنه، دالاً على قبح مسعاه ومنافاته لمقتضى الأخلاق المسددة، أي الأخلاق المستمدة من مقاصد الدين، إذ هو بمنزلة من أقرّ بإرادة الله المطلقة لكنه ظل يتصرف بإرادته مستقلة عنها أو منتحلة لوصفها، أو هو بمنزلة من سلّم بأن الإله يتجلى بآمريته على خلقه وأبى في ذات الوقت ان يتحلى بالمأمورية في سلوكه جاعلاً صلاحه وسداده بيده. كذلك اعتبر أن أصحاب العقل المسدد هم من يجعلون التدبير التسلطي محكوماً بالأمرية البشرية، حتى وإن وقع التسليم بوجود الآمرية الإلهية. واعتبر التحكيميين من هؤلاء يرون ان مفهوم الحاكمية السياسية عبارة عن تولي للشأن العام مسدداً بأحكام الله، واعترض عليهم بأن ذلك يجعل تسلطهم تسلط الملك، وهو خلاف مقتضى التقرب لله. وطالبَ بايجاد فقيه ليس على النمط التقليدي القائم على الاجتهاد كما هو مسلّم به لدى المذاهب الإسلامية، والذي اعتبره صاحب فقه أمري، بل وطالبَ بايجاد الفقيه الولي أو المتزكي أو الائتماني صاحب الفقه الآمري. وعلى رأيه انه لكي يتحقق الفقيه الولي بالأخلاق الجوانية يتحتم عليه ان ينتقل من فقه الأمرية إلى فقه الآمرية، أي ان يخرج عن كونه يفقه أوامر الله إلى كونه يفقه عن الآمر أوامره. وشتان بين فقه الأوامر والفقه عن الآمر. فالأول هو العلم بالأوامر الإلهية، والثاني هو شهود الآمر الإلهي وشهوده أيضاً كيفية جريان أوامره المنزلة على الأحداث. لذا فلسان حاله يقول: “وما أمرت إذ أمرت ولكن الله أمر”. أو يقول: “وما دبّرت إذ دبّرت ولكن الله دبّر”. فهذا الحال هو ما طالبَ بتحقيقه فردياً واجتماعياً. لقد استهدف طه في (روح الدين) ان يجعل التوجه العرفاني توجهاً عاماً يشيع في المجتمع كدولة فاضلة دون الاقتصار على الأفراد النابتة كما هو العادة، حيث يصبح الجميع من خلال التزكية من أصحاب العقل المؤيد والمدبرين الائتمانيين. وهو يستمرئ المقالات الصوفية؛ ومنها قولهم: “لا فاعل في الوجود الا الله”، معتبراً ان فعل ما سواه من المخلوقات إنما هو على سبيل المجاز أو التوسع، فهو أقرب إلى الانفعال منه إلى الفعل. فالفاعل البشري فاعل من حيث الصورة الظاهرة فقط، أما من حيث المعنى الباطن فهو منفعل في كل أفعاله. والمتزكي يرى بروحه المشهد حياً ويتحقق به حالاً باطنياً، فلا يرى بعين روحه فاعلاً على الحقيقة إلا الله. وهو يستنتج مما سبق بأنه إذا كان لا فاعل الا الله، فذلك يعني ليس في الوجود عدل إلا من الله. الأمر الذي ينسجم مع الأفكار الصوفية. لقد طالبَ طه بتحقيق مجتمع متفقّه، تستمد شرعية قراراته وتدابيره من كون قلوب أفراده قد شُبعت بالممارسة التعبدية، حتى تسري في مؤسساته كافة روحٌ تعبّدية ينبثق عنها بصورة تلقائية ما يحتاجه من قوانين تنظيمية وإجراءات تدبيرية. وفي هذا السياق، دعا إلى إقامة ولاية الفقيه الحي بوصفها شرعية داخلية مكان الشرعية الخارجية التي تتطلع إليها ولاية الفقيه الصناعي. ويقصد بـ "ولاية الفقيه الحي" ولاية المجتمع المتفقّه على نفسه. واعتبر نظريته تسلك مسلكاً وسطاً بين ولاية الفقيه كما لدى السيد الخميني، وولاية الأمة على نفسها كما لدى الشيخ محمد مهدي شمس الدين. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار ان الولاية التي ينطلق منها هذا المنظّر هي ولاية أخلاقية ذات معان روحية باطنية وليست سياسية ظاهرية إلا بالتبع. ووفقاً لهذه الرؤية الجديدة، يكون كل ما يصدر عن المجتمع إنما هو موصول بالروح الأصلية التي فُهمت بها النصوص الدينية أول ما فُهمت. بل قد يكون أبناء المجتمع في غير حاجة إلى استفراغ الجهد واهدار الوقت في بيان هذه الصلة المطلوبة، كما يحصل في صناعة الفقه، ذلك لأنهم قد استبطنوا "أدلة الفقه الحي"، واستوعبوا مقاصده وأسراره، فانعكست هذه الاستبطانات في سلوكهم ومعاملاتهم على نحو تلقائي. بل اضحى فقههم هو عين فطرتهم وسيرتهم، بحيث يأتي كل ما يصدرون فيه عن فطرتهم وسيرتهم موافقاً بصورة طبيعية لمقتضيات التفقه المطلوب، حتى كأنهم يبدعون من أنفسهم الشرعية التي يتكلّف الفقيه الصناعي طلبها من النصوص الأساسية. فالشرعية المطلوبة داخلية لأنها مستندة إلى شرعية الفطرة الروحية التي فُطر الإنسان عليها. وبهذا فقد انتقد طه الفقه الصناعي لأنه لم يَبْنِ القانون على الأخلاق، ولم يُقم أخلاق الظاهر على أساسٍ من أخلاق الباطن. ومن هذا المنطلق، وجّه اعتراضه إلى الفقيه الصناعي، سواء كان سنياً أو شيعياً، من حيث افتقاره إلى شرطين أساسيين: وصل القانون بالخُلق، ووصل الظاهر بالباطن. غير أن الشرط الثاني - أي وصل الظاهر بالباطن - لا يندرج ضمن اختصاص علم الفقه، بوصفه علماً معنيّاً بالممارسات الظاهرية، بل هو من مهام علوم أخرى كالتصوف والعرفان التي تُعنى بالبعد الباطني والروحي. أما الشرط الأول، أي تأسيس القانون على الخُلق، فهو محلّ نظر، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن علم الفقه في صورته التقليدية يفتقر إلى مرجعية أخلاقية مستقلة. وفي المقابل، فإن طه نفسه يذهب إلى أن أصل الأخلاق ديني، لا عقلي مستقل، وهو ما يفضي إلى جعل الرؤية المعتبرة للأخلاق مندمجة في المنظومة الفقهية التقليدية، دون ما يستدعي الإصلاح والتعديل الجذري. بل لو تأملنا في بعض مواقف طه من القضايا الفقهية ذات البُعد الأخلاقي - كما في مسائل حقوق الإنسان - نجد تناقضاً في طرحه، كما يظهر جلياً في كتابه (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري) عام 2004. إذ نجده تارة يتحدث بمنطق الفقيه المحافظ الذي يصطدم بالحق الأخلاقي الكوني، وتارة أخرى يعارض هذه الرؤية الفقهية ذاتها. فهو من جهة، يتمسّك بالحق الإلهي بوصفه الأصل، ويتبنى مواقف تُقارب الفهم الفقهي التقليدي؛ كرفضه إباحة الردة، وتحريمه زواج المسلمة من غير المسلم، واعترافه بأن الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان يخلو من الاعتراف بحق الطفل غير الشرعي، خلافاً للإعلان العالمي. كما يعتبر الشريعة المرجعَ الأساس في بيان الحقوق، ويؤكد أن الإسلام هو دين الفطرة، وأنه لا يحقّ للإنسان الخروج عنها، وأن الإسلام قانون شامل للحياة لا يُباح الخروج عليه. ولا شك أن هذه المواقف تتماهى تماماً مع رؤية الفقيه التقليدي كما في منهجه البياني. لكنه من جهة أخرى، يناقض هذه الرؤية حين يقرّر أن الدعوة إلى الأخوّة والتسامح - كما دعا إليهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - هما قيمتان دينيتان متفق عليهما، وأن الأصل في مفهوم المواطنة هو المعنى الديني المعبِّر عن الأخوّة والمؤاخاة، مع أن المرجعية الفقهية السائدة لا تُقرّ هذه الرؤى، بل وان أغلب علماء الإسلام لا يتقبلون الدعوة المشار إليها. وبالطريقة ذاتها، عدّ الحرية، والعدل، والمساواة، والإخاء، والاحترام، من أمهات القيم الأخلاقية المشتركة بين الإعلان العالمي والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، مضيفاً أن الإعلان الإسلامي أسسها على قيمة أعلى هي التقوى، وزاد عليها قيماً أخرى كالإيمان بالله، والتوحيد، والعمل الصالح، والإخلاص في العمل، والمسؤولية، والاعتدال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. غير أن الحقوق المتعلقة بالحرية، والمساواة، والإخاء، والاحترام، لا تحظى بقبول في الرؤية العامة للفقهاء والمذاهب الإسلامية، كما أنها تتناقض - في جوهرها - مع مواقف طه السابقة حول الردة، وزواج المسلمة من غير المسلم، وحق الطفل غير الشرعي. وهذا التناقض يُظهر خللاً في الجمع بين المرجعيتين: المرجعية الفقهية التقليدية والمرجعية الأخلاقية الكونية. *** عودة أخيرة إلى كتاب (روح الدين)، حيث أغرب ما فيه ان طه أظهر نفسه وكأنه مصلح شيعي، فهو وان نقد الفقه كصناعة، وكذا الفقهاء، سنّة وشيعة، لكنه تبنّى تصوراً شيعياً خالصاً حول الأئمة، إذ عدّهم كحال الأنبياء: إما مقتولاً أو مسموماً أو غائباً مختفياً. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عبّر عن ذلك بلغة المذهب الشيعي، إذ أورد لقب "عليه السلام" عند ذكره للإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر)، واصفاً الإمام من أهل البيت بأنه: «قدوة مقتبسة أوصافها وأفعالها، ظاهرة وباطنة، من نور النبوة المحمدية، لا يعدل الاقتداءَ به أي اقتداء». مفارقات المشروع الطاهي وتقلباته فيما يلي خلاصة لأبرز ما مرّ معنا من مفارقات المشروع الطاهي وتقلباته، وبها نختم الحديث عن هذا المشروع: * في (العمل الديني وتجديد العقل) أعلن طه عبد الرحمن بأن الفكر لأي كان يعتمد على نماذج سالفة أو سابقة يرجع إليها في تحصيل المعرفة وتبليغها. لكنه في (سؤال الأخلاق) صرّح بأنه أتى بشيء على غير مثال سابق. ومثل ذلك صرّح في (السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي) بأنه وضع فلسفة أخلاقية على غير مثال سابق. * في (تجديد المنهج في تقويم التراث) ذمَّ الدراسات المعاصرة التي سبقته لقيامها بتجزئة التراث العربي الإسلامي وتفضيل بعضه على البعض الآخر، كما هي طريقة الجابري في نقده للعقل العربي. لكنه وقع في المفارقة نفسها؛ إذ جزّأ هو الآخر التراث وفضّل بعضه على بعض، ومن ذلك تقسيمه للعقل إلى ثلاثة عقول متفاضلة. كما قام بتفضيل أصول الفقه على الفقه، وعلم الفقه على علم الكلام، وهكذا. * لقد اعتقدَ بأن منبع العقل النظري المجرد يعود إلى اليونان، وانتقصه في مختلف كتبه. لكنه في (سؤال الأخلاق) وصف صاحب هذا العقل بأنه يمتلك المجادلة بالحسنى وفق الوصف القرآني وما يوحي به من مدح. * معلوم انه اعتاد على تحديد العقل المسدد باتباع النص الديني من حيث مزاوجة العقل بالعمل. في حين اعتبر في الوقت ذاته ان هذا العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان. * في (سؤال السيرة الفلسفية) أثنى على العقل المسدد من دون شائبة، وانه يخلو من التقييد بإتباع الشرع، كما ان ممثليه عبارة عن الفلاسفة "الصدّيقين" والأنبياء قبل النبوة. في حين اعتبر هذا العقل فيما سبقه من كتب ودراسات قائماً على أصول الشرع رغم حمله لبعض الشوائب، وأن أبرز ممثليه هم الفقهاء وعموم الديانيين الذين عرّضهم للنقد؛ لا سيما في (روح الدين)، حيث اعتبر أعمالهم طغياناً. * كما في (سؤال السيرة الفلسفية) جاء ان الأنبياء هم من يمثلون العقل المؤيد. في حين جاء في الكتب السابقة ان الصوفية العارفين هم من يمثلون هذا العقل. * كذلك في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتقد بأن النبي موقن بطريق الاستدلال المسدد، وغير النبي موقن بطريق الاستدلال المجرد، حيث كل الاستدلالات باستثناء ما يستدل به الأنبياء هي استدلالات مجردة يتقدمها الشك. في حين اعترض في كتبه السابقة على الفلاسفة والمتكلمين لقيامهم بالاستدلالات المجردة من دون تسديد، وكان يشيد بالعقل المؤيد كما لدى الصوفية. * في (اللسان والميزان أو التكوثر العقلي) أجاز ملازمة العقل للحياة بما فيها حياة النباتات والكائنات الدقيقة، ثم أكّد هذا الوجود في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد). في حين أجاز في الوقت ذاته ان لا يكون العقل وصفاً قائماً بالإنسان على الدوام. * في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) اعتبر العقل الفطري يختص بالإنسان المؤمن خلافاً للعقل الغرائزي الذي هو خاصية الكائنات الحية الاخرى. لكن في الوقت ذاته اعتبر الفطرة عامة لتأسسها على الإشهاد المشترك بين البشر. * في (حوارات من أجل المستقبل) اعترف بأن القوى الادراكية للإنسان على اختلافها متصلة بعضها ببعض، ففي القوة الحسية بعض من العقل، وفي القوة العقلية بعض من الروح، والعكس صحيح. في حين أكّد في عدد من مؤلفاته وجود تمايز جوهري بين القضايا الأخلاقية وغيرها من القضايا العقلية والحسية. * في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) أقرّ بوجود ست قيم فاضلَ فيما بينها، وهي: القيم الروحية، ثم العقدية، وبعدها العملية، فالعقلية، فالحيوية، وأخيراً القيم المادية. وانتهى إلى ان من هذه القيم ثمة ثلاث ضرورات لمقاصد الأحكام الشرعية، وهي حفظ كل من: العقيدة والعقل والعمل، وذلك على خلاف ما قرره المقاصديون؛ القدماء منهم والمعاصرون، وعلى رأسهم الشاطبي. فقد اعترض على جعل المال من ضمن المقاصد واستبدله بالعمل. كما ردّ المقاصد الثلاثة (النفس والعقل والنسل) إلى العقل. لكن سبق له في (تجديد المنهج في تقويم التراث) ان اعترف بتكاثر القيم، وأشار إلى ثلاث منها، بعضها يختلف عما ورد فيما سبق، وهي القيم الروحية التي تتضمن المعاني الأخلاقية، والقيم الحيوية التي تحمل أغلب المصالح الضرورية المقررة لدى علماء المقاصد مثل النفس والمال والنسل، والقيم العقلية التي تتضمن المعاني الأخلاقية من الحسن والقبح، ومنها الأمن والسلام والعمل والحرية والثقافة والحوار. كما يختلف التقسيم الأخير وما قبله عما جاء في (الحوار اُفقاً للفكر)، حيث ذكر بأن المصالح أو المقاصد هي ثلاث: الروحية أو الضرورية، ثم تليها العقلية أو الحاجية، وأخيراً المادية أو التحسينية. * في (سؤال السيرة الفلسفية) قابلَ بين القيم الأخلاقية من جهة، والقيم الحيوية والغريزية وغيرها من جهة ثانية. في حين سبق له في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) ان جعل القيم الغريزية ضمن القيم الأخلاقية. بل وجعل القيم الحيوية والمادية ضمن القيم الغريزية خلافاً لما جاء في الكتاب الاول. * في (الحوار اُفقاً للفكر) ذكر بأن القيم الأخلاقية فطرية تنير للإنسان طريقه. في حين اعتقد في ذات السياق ان هذه القيم مستمدة من النص الديني. * في (سؤال الأخلاق)، اعتبر الدين والأخلاق شيئاً واحداً. فكل ما هو ديني هو أخلاقي، وكل ما هو أخلاقي فهو ديني. لكن صرّح في الوقت ذاته بأن لا ينبغي للأخلاق ان تُبنى على غير دين. ثم عاد في (روح الحداثة) فوصف عبارة (الاخلاق العلمانية) بالتناقض. * في (سؤال العمل) جعل الاعتقادات ضمن شعبة الإيمان. في حين جاء في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) ان القيم العقدية تشتمل على قيم الإيمان. * كما في (سؤال العمل) جعل من الدين حاملاً لجميع العلوم. لكنه في (الحوار اُفقاً للفكر) أقرّ بأن الوحي لم ينزل ليخبرنا عما يستطيع العقل المجرد ان يصل إليه من الحقائق الكونية باجتهاده ونظره. وعلى هذه الشاكلة ما جاء في (سؤال السيرة الفلسفية). * أجاز في (العمل الديني وتجديد العقل) ارتفاع الموانع في فهم النص الديني. في حين رأى في الوقت ذاته وجود طبقات من المعرفة المتأخرة تتدخل في قراءة النص، ومن ثم لا يمكن ان تتم القراءة من غير تأويل. بل وأضاف مفارقة أخرى فاعتبر نصوص الشريعة ثابتة لا تتغير ومطلقة لا تتقيد وناسخة لا تُنسخ. * في (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري) تمسك بالحق الإلهي كأصل، وتبنى الاعتقاد بعدم السماح لكل من الردة وزواج المسلمة من غير المسلم، كما اعترف بأن الإعلان الإسلامي للحقوق خال من حق الطفل غير الشرعي خلافاً للإعلان العالمي، وان المرجع في بيان الحقوق الإسلامية هو الشريعة. لكنه ناقض ما سلف؛ فاعتبر الحرية والعدل والمساواة والإخاء والاحترام هي من أمهات القيم الأخلاقية التي اشترك في تقريرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والإعلان الإسلامي. * في (سؤال العمل) ادعى ان العلاقة بين الخَلق والخُلق متلازمة من دون أسبقية. ثم طوّر هذه الفكرة في كتاب (شرود ما بعد الدهرانية)، فاعتقد بأن الخُلق يتقدم على الخَلق زمنياً ومنطقياً. لكنه في (سؤال السيرة الفلسفية) انقلب على الرأي الأخير ليعود إلى الرأي الاول. * في (تجديد المنهج في تقويم التراث) انتهى إلى ان الحدوث من العدم باطل، إنما الحدوث من شيء. لكن صرّح في الوقت ذاته بأن الخالق في المجال الإسلامي هو من يخلق شيئاً من لا شيء، خلافاً للصانع وفق المجال اليوناني الذي يصنع شيئاً من شيء. * في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتبر الإبداع الفلسفي لا يأتي من الاندفاع في تلقف الأفكار المجردة، وإنما من تعاطي التلبس بالأفكار الحية. وذلك على خلاف ما كان يدعيه حول تحديد موضع الإبداع الفلسفي في كتبه السابقة. * كما في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتبر الفلسفة ليست معنية بالخطاب الفلسفي المشتمل على الترجمات والأقوال، وإنما بالسلوك المعبَّر عنه بالسيرة الفلسفية. في حين سبق له في مشروع (فقه الفلسفة) وغيره ان اعتبر "فقه الفلسفة" يبحث في المزاوجة بين الخطاب الفلسفي والسلوك الفلسفي معاً. * كذلك في (سؤال السيرة الفلسفية) عرّف مصطلح "علم الفلسفة" بأنه يشتمل على الفلسفة المجردة التي باتت تخصصاً علمياً بعيداً عن التفلسف. لكن ذات هذا المصطلح قد ورد ذكره في كتاب (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر) وعرّفه بأنه علم جديد سعى إلى تأسيسه، ويتمثل موضوعه بالظواهر الفلسفية؛ أقوالاً وأفعالاً، وان منهجه هو التعامل الموضوعي مع هذه الأقوال والأفعال. * في كتاب (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر) جاء ان فقه الفلسفة يندرج ضمن الاطار العام لعلم الفلسفة، وذلك على خلاف ما جاء في الجزء الأول من مشروع (فقه الفلسفة)، حيث جرى التمييز بين هذين العلمين بشكل منفصل من دون تضمن أحدهما في الآخر. * في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتبر الغاية من السيرة الفلسفية هي طلب الحكمة ومن ثم الائتمان عليها أو على حقائقها من قبل العقل المسدد، وذلك على خلاف ما سبق إليه في (سؤال الأخلاق) من ان الحكمة هي خاصية العقل المؤيد فحسب. * كما في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتبر الفيلسوف لا يمتلك صفة الحكيم، بل يأتمن على الحكمة. في حين سبق له في كتاب (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر) ان اعتبر الفيلسوف هو إنسان حكيم. * في (أصول الحوار وتجديد علم الكلام) اعترف بوجود عقلانية برهانية تحكم الممارسة العلمية داخل المختبرات والمصانع والمراصد والمؤسسات الاكاديمية، وينضبط فيها الخطاب العلمي عموماً. لكنه في كل من (العمل الديني وتجديد العقل، وسؤال الاخلاق) أنكر وجود قوانين علمية يشترك فيها العقلاء. ثم انقلب على ما جاء في هذين الكتابين كما في (حوارات من أجل المستقبل) ليعود إلى ما كان عليه أول الأمر في الكتاب الأول. * في (سؤال العمل، واسطورة الفلسفة الخالصة) اعترض على الأسس الرياضية اعتماداً على مسلّمة جودل دون ان يتقبل اليقين الرياضي. في حين ذهب في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) إلى تقبل هذا اليقين. * كما في (اسطورة الفلسفة الخالصة) عارض المنطق غير الاتساقي حول مبدأ عدم الابتذال. لكنه في (حوارات من أجل المستقبل) اتفق مع هذا المنطق حول ذات المبدأ المشار اليه. * في (سؤال العمل) تبنى النظرية الحسية في تفسير القضايا الأساسية في المعرفة وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض. في حين اعترف في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) بأن مبدأ عدم التناقض يمثل بديهة من بديهات العقل المجرد، وليس حقيقة نتوصل إليها بالملاحظة والتجربة. * في (حوارات من أجل المستقبل) أنكر وجود مبادئ ثابتة تكون بمنزلة مبادئ العقل، وإنما توجد مسلمات مفترضة تترتب عليها النتائج كأنساق مختلفة بين الناس، وان تعدد العقول هي بتعدد هذه الانساق. في حين انه في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) تخلى عن المعنى السابق، فجعل من مبادئ المنطق النظرية، وعلى رأسها قانون عدم التناقض، ما يقابلها في القوة والبداهة من المبادئ العملية الإسلامية، وعلى رأسها المصلحة الشرعية. * في (تجديد المنهج في تقويم التراث) حدد المجال التداولي بأنه يتصف بالثبات النسبي، أي بأدنى درجات التغير. لكنه في (حوارات من أجل المستقبل) أعاد تعريف المجال فخصصه بالتداول اليومي؛ معترفاً بأنه متغير لا ثابت. * كما في (تجديد المنهج في تقويم التراث) تعامل مع عدد من قضايا أصول المجال التداولي تعامل الثوابت المطلقة. في حين أقرّ في تعريفه للمجال التداولي بأنه يتصف بادنى درجات التغير. * كذلك في (تجديد المنهج في تقويم التراث) قام بتحديد مفهوم المجال التداولي للتراث وفق البعد الموضوعي. في حين تعامل معه بصيغة البعد الذاتي الشخصاني، كما يظهر من خلال وصاياه التفضيلية.
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هندسة الفضاء والاثير
-
مبدأ القصدية والفهم الديني
-
أسطرة الفيزياء التخمينية
-
تعريف مجمل بكتاب القطيعة بين المثقف والفقيه
-
الفيزياء بين الفكر والرياضيات
-
التداولية الطاهية
-
فلسفة علم الطريقة
-
الاخلاق الطاهية (قراءة في النسق القيمي لمشروع طه عبد الرحمن)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (5)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (4)
-
الدين بعيون كانتية
-
مصطلح الفلسفة والتشبّه في تراثنا القديم؟
-
الصوفية في ثلاثة أصناف
-
فلسفة النظام الاخلاقي (3)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (2)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (1)
-
متى يكتمل حضور الجهاز المعرفي لدى الانسان؟
-
جدليات نظرية التطور
-
الانزلاقات في العلم: تشابه جينات البشر والشمبانزي نموذجاً
-
هل للجسم مشاعر؟
المزيد.....
-
إنقاذ سلحفاة مهددة بالانقراض بعد اصطدامها بقارب في فلوريدا
-
العقوبات الأوروبية الجديدة ضد روسيا لا تلقى قبولا أمريكيا
-
الدول الاسكندنافية تستعد للحرب مع روسيا
-
مشروع لفرض رسوم جمركية تبلغ 500% على روسيا ومن يتعاون معها
-
يلقّحون سوريا ضد الانقلاب
-
كيف تحول عدوى فيروسية مفاصلك إلى مصدر للألم المزمن؟
-
الدفاعات الروسية تسقط عشرات المسيرات الأوكرانية
-
ترامب يصف بوتين ب-المجنون- بعد هجوم روسي على مدن أوكرانية أد
...
-
استقالة مفاجئة لمدير -مؤسسة غزة الإنسانية- وسط تحديات توزيع
...
-
ترامب يعبر عن استيائه من بوتين ويطلب من زيلينسكي الصمت
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|