عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 22:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي
المعارك على الماضي لن تبني الحاضر ولا المستقبل، مَن يتسلح بحسٍّ تاريخي لا ينزلق إلى معارك خاسرة على الماضي، فمثل هذه المعارك لا تُنتج إلا وقودًا للهويات الطائفية والأيديولوجيات والمعتقدات المغلقة. الحسّ التاريخي النقدي مشغول بالواقع بكلِّ تفاصيله، ومتطلّع دومًا إلى مستقبلٍ يبحث فيه عن خلاص الإنسان.كلُّ قراءة للتاريخ تمليها التعصّبات القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية هي قراءة غير علمية. بسبب غزارة ما يُعاد استحضارُ التراث بمختلف الوسائل والأساليب، والاحتماءُ به، اعتاد المجتمعُ على العيش في الماضي، حتى غدا هذا النمطُ من العيش إدمانًا لا يُطيق الخلاصَ منه. وصارت كلُّ محاولةٍ لترحيل المجتمع إلى الواقع الذي يعيشه، والتطلّع إلى المستقبل، كأنها اعتداءٌ صارخٌ على أسلافه، يقوده إلى المجهول، من دون أن يُدرك أن الهروبَ إلى الماضي ليس سوى متاهاتٍ يضيع فيها حاضرُه ومستقبلُه. وحين تُختزل الهويةُ في استحضارٍ مكرّرٍ للماضي، تنغلق على نفسها، وتكفّ عن الحوار مع العالم، وتتحول إلى هويةٍ تشعر بأنها مكتفية بذاتها، لا تتفاعل مع غيرها، ولا تطيق التعدد.
الاحتماء بالتراث حاجة نفسية واجتماعية توفر للإنسان أمانًا يشتاق إليه، فيعتقد أن تراثه الخاص يمدّه بكل ما يحتاجه في حاضره ومستقبله. هذا الاعتقاد يدفعه إلى مقاومة أي محاولة علمية لمساءلة التراث، والخوف من توظيف المناهج العلمية الحديثة في تفسيره، وتحليله، ونقده، أو تجاوزه. القراءة النقدية العلمية للتراث لا تقف عند سطح النصوص، ولا تكتفي بتقديس الموروث، بل تتعمق في تحليل كيفية إنتاج التراث، وتكشف عن العوامل المتنوعة التي شكّلته، من سياقات تاريخية، وتحوّلات اجتماعية، وصراعات سياسية، ومؤثرات ثقافية، وأنساق معرفية راكمها العقل منذ عصر التدوين.
القراءة النقدية العلمية للتراث لا تعني الانفصال عنه أو مناهضته، بل تعني تحرير الوعي الديني من الارتهان لنماذج معرفية استنفدت وظيفتها، وعجزت عن الاستمرارية ومواكبة احتياجات الإنسان في عالَم متغير، ولم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة الإنسان المتوالية. فعند دراسة علم من علوم الدين، كعلم الكلام مثلًا، نراه لم يتشكل في فراغ، بل تبلور في أجواء مشحونة بالأسئلة اللاهوتية والصراعات المذهبية، فصاغ رؤية تجيب عن هموم عصره، على الرغم من أنه أغفل أسئلة العواطف، والمشاعر، والوجدان، وهمّش الحاجات الروحية، والأخلاقية، والجمالية في الدين ذلك العصر. وفي دراسة علم أصول الفقه، ينبغي التركيز على بواعث تأسيسه، وكيفية تشكّل مفاهيمه ومقولاته، والرؤية للعالم التي صاغها، والمنهج الذي فرضه على تفسير القرآن الكريم والسُّنة. علينا أن نتبيّن كيفية ولادة هذا العلم، والظروف التي أنتجته، وكيف أسهم في تشكيل المدونة الفقهية وصياغة نمط التلقي للنصوص الدينية. وهكذا يكون منهجُ القراءة النقدية العلمية في كلِّ حقل من حقول التراث.
لكن أصبحت كلُّ محاولةٍ لمساءلة التاريخ أو نزع القناع عنه تُوصَمُ بالعدوان على أمجاد الأمة وماضيها المشرق. ويُمارَس التشهير بحقّ كلّ باحثٍ يشرع في فضحِ ما طال النصوص والمقولات والوقائع من تزوير، أو يكشف محاولاتِ الحذف والإقصاء التي تعرّضت لها معتقداتٌ ومفاهيمُ لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيلية التسلطية المهيمنة.كما تُلاحَقُ الأصواتُ التي تسعى لإشهار المهمَّش والمسكوت عنه، أو تفضحُ سطوةَ السائدِ والمتغلِّبِ في التراث، وما مارسه من قمعٍ واستبعادٍ بحقّ المختلفين.
تُعاني مجتمعاتنا من إرث ثقيل يُكبّل وعيها ويقيّد حركتها نحو المستقبل، فالتاريخ لم يعد مجرد سردٍ للأحداث أو محاولةٍ لفهم الماضي وتحليله ونقده وغربلته وتمحيصه، بل تحوّل في الوعي الجمعي إلى ما يشبه المقدّس الذي لا يُمَس، والمرجعية التي لا تُساءَل، مما عطّل إمكانية فهمه النقدي، وشلّ أدوات تفسيره العلمي، وكرّس الأوهام عن الذات والآخر. التحرّر من أوهام التاريخ لا يعني إنكار الماضي، بل يعني مقاربته بعين فاحصة وحسٍّ نقدي يستلهم العبرة ولا يكرّس الوهم. فقط حين نكفّ عن تحويل الماضي إلى صنم، ونمتلك الجرأة على مساءلته، يمكننا أن نخطو نحو حاضرٍ مُنتِج، ومستقبلٍ يتّسع للكرامة والحرية والمساواة والاختلاف. الوعي العلمي التاريخي لا يُقيم في كهوف الماضي، بل يسعى لاكتشاف خارطة طريق الخلاص.
منذ عصر الاستعمار، تحوّل العداءُ للآخر إلى أيديولوجيا سياسية تتبنّاها الحركاتُ اليساريةُ والقوميةُ والأصولية، وتُربّي أتباعها عليها، حتى صار العيشُ المزمنُ في محيطٍ عدائي عقيدةً سياسيةً يتلقّنها الأتباعُ، جنبًا إلى جنبٍ مع ما يُلقَّن لهم من أفكارٍ ومواقف. نتيجة لذلك، صار يصعب على معظمهم التحرّر من هذه العقيدة، حتى مع تقدُّمهم في العمر، أو تغيّر مواقعهم الفكرية. عرفتُ ماركسيين انتقلوا إلى الإسلام السياسي في مراحل متأخرة من حياتهم، لكن مواقفهم لم تتغيّر. تغيّرَ الإطارُ أو القالبُ الذي يُعبّرون من خلاله عن مواقفهم، إلا أن المضمونَ ظلّ على حاله؛ لبثوا تأسرهم النظرةُ التآمرية للعالم، والعداءُ للآخر المختلِف. المحتوى الأيديولوجيُّ النفسيُّ العميقُ للإنسان لا يتغيّر بسهولة، حتى لو بدّل شعاراته ومواقعه التنظيمية. العداءُ للآخر ليس دائمًا موقفًا عقلانيًا، بل كثيرًا ما يكون حالةً نفسيةً تتغذّى على الخوف، والرفض.
هويّةُ الجماعة تتجلّى في معتقداتها وسرديّاتها ومرويّاتها عن نفسها والآخر، في الماضي والحاضر، كما تتشكّل من أحلامها وتطلّعاتها للمستقبل.كلُّ هويّةٍ مغلقةٍ تزهو بوهم أنها مركزُ العالم، وأن ما يصحّ عليها لا يصحّ على غيرها، وأنها مرجعيّةُ الحقيقة الوحيدة. هذا التمركز يولّد نزعةً تبشيريّة تسعى إلى فرض قيم الجماعة، ورؤيتها للعالم، ومعارفها، وآدابها، وفنونها، وثقافتها على كلّ مَن يقع خارج محيطها العقائدي والثقافي. ويستند هذا النزوع إلى قناعةٍ راسخة بأن عقيدتها وثقافتها ورؤيتها للعالم خَلّاقةٌ دائمًا؛ أي أنها تملك القدرة المستمرة على إنتاج ما تحتاجه البشريّة من قيمٍ ومعارف وآداب وفنون وثقافة في العصور المختلفة.
لكلِّ جماعةٍ بشرية شغف بإنتاج هوية خاصة مصطفاة، على وفق رهانات ترسمها أحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرض له من إكراهات، وأنماط الرهانات والتحديات، وما تنشده من احتياجات متنوعة في الزمان والمكان.كلُّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدِها، ويحدّد ألوانَ رسمِها لصوره المتنوعة وتعبيراتِه في العصور المختلفة. وتُدمج أيّ صورة من صور المعتقد بوصفه عنصرًا رئيسًا في مكونات هذه الهوية، إلى جانب العناصر الإثنية والثقافية واللغوية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقد مكونًا أساسيًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهوية، إذ تتغذى منه الهوية باستمرار ويتغذى منها. بل إن كلَّ هوية تنشد إنتاج الحقيقة على وفق رهاناتها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية. وهذه ظاهرة بشرية عامة لا تتخلف ولا تختلف، يخضع لها كلُّ معتقد في ولادته وصيرورته داخل فضاء الهوية الجمعية.
لكي يكون البحثُ علميًا في نشأة المعتقد وتطوره، ينبغي أن يكون منهجه وفيًا لكلِّ ذلك، فلا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهل أثر السلطة والإكراهات واللغة والثقافة والمتخيّل والميثيولوجيا والمحيط، وكلَّ ما يضجّ به التاريخُ في تحولات وصيرورة ذلك المعتقَد. بمعنى أن يكونَ منهجًا يتبصر تاريخية المعتقَد، ويكشف سياقات تشكّله في المتخيّل، ويزيل الغبارَ عن صوره المتنوعة عبر محطاته المختلفة في الزمان والمكان.
تعيد المخيِّلةُ ابتكارَ الصور في فضائها، وهو فضاءٌ رحب يتضخم باستمرار، فتولِّد المخيِّلةُ الأحلامَ والأماني والرغباتِ المختلفة وحتى الأوهام، وما يصدر عن نرجسيات الهوية المتجذّرة في البنى اللاشعورية، وما تختزنه من أوهام تفوّق هذه الهوية واصطفائها وقدراتها الاستثنائية الفذّة، وإن كانت تعيش واقعًا بائسًا يضجّ بالأمية والفقر والمرض، غير أنها تلجأ للذاكرة العتيقة والأمجاد الإمبراطورية لأسلافها. تكرّر هذه الهوية بلا جدوى، لسنواتٍ طويلة تجنيدَ الإنسان، وما يمكن توظيفُه من طاقات في المجتمع، لإيقاد رمادِ نرجسية إمبراطورية مندثرة، من دون أن تكترثَ هذه الهويةُ بهزائمها، ولا تقف عندها وتدرس أسبابَها وتكتشف ثغراتها، ولا تسعى لأن تجرّب طريقةً بديلة في توكيد حضورها في الواقع وصناعة حاضرها ومستقبلها.
الهويات الأيديولوجية مغلقة تجهض أية محاولة للتعددية العقائدية والثقافية والسياسية. في هذه الهوية المغلقة، يعيد متخيَّلُ الجماعة كتابةَ تاريخها في أفقٍ يتحول فيه الماضي إلى سرديةٍ رومانسيةٍ فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة. ويجري ضخّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ متخيَّلٍ يضمحلُّ فيه حضورُ التاريخ الأرضي، وتُخلع على الحوادث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والتراث هالةٌ أسطوريةٌ، تتحدّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرتْ وتكوّنتْ وعاشتْ فيه.
تشتدّ حالةُ اصطفاءِ الهوية ووضعِها فوق التاريخ في مراحلِ الإخفاق الحضاري، وعجزِ المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالم الذي تعيش فيه. لذلك تسعى هذه الهوية للاستيلاءِ على المكاسب الكبرى للآخر، وإيداعِها في خزانتها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيقٍ متنوعةٍ تتسع لكلِّ ما هو خلاقٌ مما ابتكره وصنعه غيرُها. وذلك أبرزُ مأزقٍ اختنقتْ فيه هويتُنا في العصر الحديث.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟