أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - قصة بعنوان -قربان الأم... صرخة في وجه الموت -














المزيد.....

قصة بعنوان -قربان الأم... صرخة في وجه الموت -


سعاد الراعي

الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 02:53
المحور: الادب والفن
    


في لحظةٍ استثنائية، لحظةٍ كانت مسكونة بكلِّ ما في الكون من رعب ويأس، حملت الأم ابنتها البكر كما يُحمل الخروف إلى الذبح، ووضعتها في وسط باحة الدار، باتجاه القبلة. كان جسد الطفلة الغض يرتجف من الخوف والذهول، فيما دوّى صوت الأم كالرعد، يخترق صمت المكان، وهي تقسم بصوتٍ متهدّج، مخنوق بالحسرة والرجاء مخاطبة الله والجميع، وفي مقدمتهم زوجها:
"أقسمتُ بالله العلي العظيم، إن نجا حسين من الإعدام، لأجعلنّ أبنتي هذه قربانًا له... نذرًا لا رجعة فيه، وليشهد الجميع على قسمي!"
كانت تلك اللحظة واحدة من أشد اللحظات ألمًا في حياة الطفلة، رغم أن وعيها بالحياة والموت لم يكن قد اكتمل بعد. لكنها، بقلبها الصغير، أدركت أن هناك كارثة تتفجر في قلب أمها، أن شيئًا فادحًا يوشك أن يسلب من البيت دفأه، ومن القلب نبضه.
في ذلك اليوم المشؤوم من شباط عام 1963، سقط الخبر كالصاعقة على البيت: اعتقال حسين/ سلام عادل*، ابن عمة والديها "مكية"، على يد سلطات البعث، وتعذيبه في أقبية "قصر النهاية"، بعد الانقلاب الدموي. عندها ارتجّ البيت كله، ولكن من تهشّم حقًا كانت الأم. كأن قلبها انفلق على عتبة الباب، وراحت تتلوّى تحت وطأة الألم، وكأن السنين كلها اجتمعت ليسلبها اخًا لم يكن يشبه أي اخ، بل كان امتدادًا لروحها.
حسين، ابن عمتها لم يكن مجرد قريب. كان الأخ والسند، بل كان الوطن الصغير الذي احتمت به من قسوة الأيام. هناك، نشأت مع حسين وإخوته، ووجدت في بيتهم حنانًا غُيّب عنها في بيت والدها، ودفئًا لم تعرف له مثيلًا. كان يناديها منذ طفولتها باسمٍ خاص، دلّلها به: "اُولي"، ذلك الاسم الذي ظلّ محفورًا في قلبها حتى الرمق الأخير. كان يحملها عاليًا في الفضاء، يرميها صوب الحلم ويلتقطها بحنوّ من يخشى على حلمه من السقوط.
ولهذا، لم يكن مستغربًا أن تصرخ الأم بتلك الطريقة الجنونية. لم تكن صرخة نذر فقط، بل كانت صرخة من يفقد روحه، من يرى الموت يقترب من عينيه على هيئة غياب. كانت صرخة الأمومة، والخذلان، ووشائج القرابة الذي يستحيل على اللغة وصفه.
الطفلة، المستلقية هناك في الباحة، لم تكن تفهم آنذاك معنى النذر، ولا ما يعني أن تكون قربانًا. لكنها أحسّت بكل شيء. أحسّت أن أمها تتألم بطريقة لا يمكن لعينٍ أن تراها، ولا لقلبٍ صغيرٍ أن يتحملها. رأت صورة والدتها ببشرتها البيضاء الجميلة قد تحولت في تلك اللحظات إلى زرقة قاتمة مخيفة... رأت في عينيها لونًا غريبًا، مزيجًا من الرماد والزرقة، كأن الحزن انتزع منها الدماء وأطفأ شعاع الحياة في محياها.
لم تنسَ الطفلة هذا المشهد يومًا. ظلّ راسخًا في ذاكرتها كشاهدٍ لا يموت، يرافقها في يقظتها ومنامها. في كل لحظةٍ من حياتها، كلما رأت وجه أمها أو سمعت اسم „سلام عادل ".
كان ذلك القسم يعود صداه كأنّه يُتلى الآن. لم تعد ترى نفسها كما كانت، بل شعرت دومًا أنها القربان، شاهدًا حيًّا على حكايةٍ تفيض بالإخاء، وتختلط فيها مشاعر الفقد بالفداء.
أن تهب أمٌّ ابنتها قربانًا، هو وجعٌ لا تقوى اللغة على احتوائه. لكنه أيضًا صورة من أعمق صور العطاء... ذلك العطاء الذي لا يُقاس بالكلمات، بل يُقاس بما يُنزع من القلب، وبما يُراق من الروح.
لقد كان ذلك القسم لحظة انفجار داخلي، حيث تصادمت مشاعر الحب والخوف، الأمل واليأس، الحياة والموت. ولم يكن قسمها موجَّهًا لله فقط، بل كان تحدّيًا للموت نفسه، صرخة أمّ في وجه السلطة والقدر، في وجه الظلم الذي يغيب الأعزة في المعتقلات.
سنوات مضت، والمشهد ما زال حيًّا في الذاكرة، نابضًا بوهج الحزن ودفء الانتماء. الطفلة كبرت، وأصبحت إمرأة تحمل بين أضلاعها قلبًا مشبعًا بأسطورة تلك الليلة، وتلك الأم، وتلك الصرخة.
لم تندمل تلك الندبة أبدًا، بل ظلت تؤرّقها، وتعلّمها أن هناك فداء لا يشبه الأقدار، وتضحية لا تُقال بل تُنزف.
وإن كانت الطفلة قد نجت من النذر، فإنها لم تنجُ من أن تكون شاهدة عليه، ممهورةً به، تحمل ثقله كحكاية، ودمعته كذاكرة، وعظمته كإرث لا يموت.

***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي"
عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديها ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة.
ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته..



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة بعنوان: إن شاء الله، يا أستاذة
- قصة بعنوان -الدرس الاخير-
- قصة / حين يعبر الضوءــ خطوات تتحدى العتمة
- هدايا من عتمة الركام
- قصة بعنوان:- هدايا من عتمة الركام -
- قصة بعنوان -حين داعبت الشمس طفولتنا -
- قصة بعنوان وساطة بطعم الرماد
- - سهام الفتى عادل السليطة-
- النخلة العمة وأبناؤها الأشقياء
- انبثاق الحياة من سكون الفن!
- إبرة لخيط الذكريات
- قصة :-لظى في خاصرة الطفولة-
- في حضرة الأم ووداعها.
- بين غربتين
- الخيانة الزوجية: أبعادها، دوافعها، وسبل التعامل معها
- التبني كخيار انساني


المزيد.....




- هنا أم درمان.. عامان من الإتلاف المتعمد لصوت السودان
- من هنّ النجمات العربيّات الأكثر أناقة في مهرجان كان السينمائ ...
- كان يا ما كان في غزة- ـ فيلم يرصد الحياة وسط الدمار
- لافروف: لا يوجد ما يشير إلى أن أرمينيا تعتمد النموذج الأوكرا ...
- راندا معروفي أمام جمهور -كان-: فلسطين ستنتصر رغم كل الظلم وا ...
- جبريل سيسيه.. من نجومية الملاعب إلى عالم الموسيقى
- بعد أيام من هروب على طريقة الأفلام.. شاهد لحظة القبض على نزي ...
- ممثل يرتدي حذاءً جلديًا يصل إلى الفخذ ويسرق الأضواء بمهرجان ...
- إسبانيا تدعو لاستبعاد -إسرائيل- من الفعاليات الثقافية الدولي ...
- بانو مشتاق تفوز بجائزة البوكر الدولية 2025 عن -سراج القلب-


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - قصة بعنوان -قربان الأم... صرخة في وجه الموت -