أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حسن أوعثمان - الهجس في السياسة: نص مراجعة فكرية يسارية















المزيد.....



الهجس في السياسة: نص مراجعة فكرية يسارية


حسن أوعثمان

الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 08:34
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


نص المراجعة النقدية لتجربتي اليسارية، بالمغرب.
يعود هذا النص لتاريخ 15 أكتوبر 2017، أنشره لأول مرة بعد استفائه لشروط احترام الخصوصية بالتقادم. ومن المؤكد أن فهم النص يشترط إلماما بالتفاصيل الداخلية للتجربة في زمانها. أنشره كوثيقة تاريخية، وللذكرى، وإشراكا لجميع المهتمين بالنضال بخلاصاته.

الربيع الذي لم تبلِلنا قبله رطوبة الشتاء.. ليس ربيعنا.

اعذروني إن كنت أصِرُ على العودة قليلا للوراء بعد أن انقطعت عن المشاركة في النقاش زمانه وطرواته. فكل ما قدرت عليه عواصف الأزمة، هو أن رَمت بي إلى الهامش طوعا وكرها. ولما عجزت الرياح العاتية عن التلويح بي في الآفاق نحو وجهاتها، فقد ذرت غير القليل من غبارها في عيناي. في هذه المدة الأخيرة، تماثلت للشفاء. اعتبرت الذي جرى اعتداءً، وبلغة العافية: لم أكن بمناعة ضد عجاج فوضى السياسة. تلك الهشاشة لا تصلح مع صقور السياسة.

تعتبر المحطة التي ظهر فيها "التكثل"، في نظرنا كما في نظر روادها، تتويجا وتجليا لتراكم الحسرات وفقدِ الأمل في سيرورة التغيير بمنظمة النضال. إلا أنني، حينها، لم أبلغ بعد الذروة التي تقتضي الإنتفاض، وهو حال كثير مِنا. إلا أن غير قليل من المتشائمين مِنا، لم يُطرح لديهم بعد أي عمل جماعي تفاعلي ونضالي (بمعنى مُجابهة)، ولم يراكمو نفس القدر من الإمتعاض والوعي بأسبابه وبدائله، لذلك انضموا للمعركة بشكل إنفعالي (passive). وهذا ما أضاع في نظري فرصة ثمينة، لإضطلاع الثوريين بتقاليد سجالية وإبداعية تليق بالحد المتواضع لنقدية الأممية الرابعة إزاء الصنم السوفياتي. وبذلك تخلفنا عن موعدنا مع التاريخ.

ورغم ذلك، لا أعدم هذه المحطة أي فائدة، فكل التجارب السياسية تُغني الفكر والسياسة بقليل أو كثير. فأحيانا لا تبرز حقائق إلا بتعريضها لإختبار "آخِر الدواء"، أو حين تبلغ منتهاها. ولم أكن أظن أني سأخلص سريعا لجملة من الأحكام، لولا هذا الحدث الاستثنائي. فقد تحصل لدي رأي، كنت قد رفضته بإصرار منذ إقبالي الأول على النضال. فالنضال لا يحقق قطيعة سهلة مع الفساد، بل من السهل أن يشكل الفسادُ إستمرارا فيه وموطنا ثمينا له.

لقد أبان الناقمون عن الوجه الآخر للراضين، عملة واحدة لا غير. بل إن روح التجربة التروتسكية في البلد لم تكن خارج دائرة الثقافة السائدة، وإن إضطلعت بـ"مقابلتها". ذاك "التقابل" فقط يجدد الثقافة السائدة، ويمنحها المزيد من العمر. وهي مهمة مهيبة من الإباء الإنساني على الحياة وتجديدها، وإن بنفس الأسلوب والنهج ذاته. هو إباء على الحياة كما يتصورها الإنسان، مستقرة على أصلابها التي تشكلت عبر التاريخ. وإنه لمن "الحمق" بالنسبة للإنسان الدفاع عن المجهول (الجديد) وإمتعاض المَعلوم (القديم) الذي صار مألوفا.

كان ذلك أشبه بقصة الراعي البسيط والطيب "جيجيس" التي أوردها أفلاطون، حين إكتشف فجأة أن تحريك خاتمه يمنحه القوة والإختفاء، فدخل القصر واغتال الملك واستولى على الحكم. بمعنى أن لا أحد يمكن أن يكون "طيبا" إلا مكرها. وهذا ما صارعته الماركسية ونظريات هامشية أخرى، إلا أنه يأبى الفناء حتى لدى حاملي هذا الطموح. وكم أستغرب حين أجد النقد الأدبي لـ"جورج أورويل" عن "النزعة الحيوانية" لا يزال راهنيا.

فبقدر ما يتجاوز الإنسان طفولته، يفقِد إقتحاميته للمجهول، فيشبُ على المألوف ويأنسُ للطافته ويكدرُ لتكدره، ولا يَأبه للمجهول. ورفاقنا الذين انزعجوا من تكدر الوضع، لم يكونو على صراع مع هذا المألوف، إنما من أجل قسمةٍ ضيزى أخرى. ففي المنطق الرأسمالي، لا يمكن أن تعيش في رفاه، إلا إذا فرضت على الآخرين التقشف وحزم البطون. وهذا هو الصراع الإجتماعي السائد في العالم، الذي لا ينتج إلا تجدده، وإن بات غير قابل للتجدد إلا في توافهه.

ونقيض هذا "التفاعل"، هو جوهر "الثورية" التي دعت إليها الماركسية، أو ما فهمته منها. فهي إما تجددٌ نوعيٌ صريح وإلا إبداع كميٌ بلا إدعاء. غير أنها لا تكفي معرفتها كأي المعارف. تتعلق بالموقف من الوجود والذات على السواء. وإني إذ أدعي التأثر بها، فقليلا ما أستطيع ربط الموقف بفهومات وسياسات قابلة للتطبيق. لكني أجيد رفض ما لا يشفي غليل الأمل في ثورية الرأي وإبداعية السياسة وإقتحامية الحياة. مرت جملة أحداثٍ وفهوماتٍ، وهي كافية لإسثمار دروسها والشعور بالملل في سبيل خلق الجديد وإستبقاء ما يبدو جميلا بيننا.

لقد شكلت إشكالاتنا حطب النار وفقط، في مخاصمات وتشنجات نفسية بين المناضلين-ات. لم يتمخض عن ذاك التصدع الواسع، أية تقيمات ودراسات ونقاشات تغني الوسط، بل أفقرته أكثر مما هو فقير. إختزل العديد ملاماته في أحداث مُشخصَنة، وفي أحسن الأحوال قدّمَ جُملاً شعاراتية وتبريرية لتركِ أي عمل سياسي أو الإنخراط في قرين سياسي شبيه. لقد شكلَ الأمرُ رِدَةً عن أداءٍ سياسي، تميز إلى حدٍ ما بالدراسة والتنقيب وتقييم السياسات ونقدها. لقد كان المرضُ والخمول كامنين فينا، وانفجرا في شكلٍ تبريري وإنطباعات نفسية. وكان مُتفهّما غضُ الطرف النقدي عن الوضع وتطوراته، لدى عينة من الناس. فرغم أن التشظي الحاصل كان جديا، إلا أن نقدياته وبدائله لم تكن جدية وغير صريحة.

لا أحاكي أنشودة الجرائد اليومية في معاتبة السياسة وما يفضح نفاقية وزيف وحربائية السياسة وأهلها. فكأنها تجد ضالتها في ذلك. إننا بصدد نقد وتشريح مرحلة سياسية ننتمي إليها، ولا يكفي ذلك، فسنحاول البحث عن منافذ أحسن. فاللامبالات هي تعبير صريح عن عدم الإهتمام الجاد بفهم حقيقة الوضع ولا الإكترات بمستقبل العمل السياسي. و الصمت في شرح العقلاء من أهل السياسة تواطئ ورضى بالأمر. لقد كانت فرصة للتعبير عن مدى إجتهادنا في العمل حيال الأمر، وفرصة أيضا للتفكير.

وإذا كنتُ قد فوتُ عن نفسي الفرصة الأولى وأصبت بالدهشة واعتراني الشلل، لكنها شكلت لدي فرصة للتفكير والمراجعة. هذا التفكير في السياسة، طبعا لا يجدي إلا بالإفصاح عن مردوده، على الأقل.

وفي الإجمال، لقد صارت الحالة السياسية لهذا الشتلات اليسارية، تتخذ مجاري جديدة وتنحث مسارات وتتشكل شخصياتها من جديد. لم يَعُد أي أحد كما كان، وقد تغير غيرُ قليلٍ من الأمور. فقد تم الإستقرار إلى "تقييمات" وخلاصات صارت تشكل نبراسا جديدا. غير أن تلك التقاييم، برأيي، ليست في مستوى محترم ولا جاد، فهي غير متحصلة بقيدٍ معرفي ولا سجالي إنما هي ما وقعَ بالنفس وتطبع. فهي انطباعات لا غير. ولم يعُد يهتم، إلا من بقيت تلك الأزمة غصة في حلقه. وبالرغم من هذه المآلات، وبغض النظر عن الجدوى العملية لهذا البحث، فإننا لا نجد محيدا عن الاستجابة لحافز السؤال والرغبة في الفهم.

السَّقط، خطوة للوراء.. إلى أين؟

هذه المرة، يَنصب القولُ عليَّ وعلى من يشاركني حادثة السَّقطِ وفكِ الوِصال. هذا السقط الذي يأبى إلا أن يستمر بتجاوز هذا الإنسداد ويجعل من سقوطه إندفاعا إلى المزيد من الفهم والفعل. أندفعُ إلى المجهول، فهذه هي الحياة والمستقبل. والفعل في الحياة هو أن يَصير المجهولُ معلوما. وأعتقد أن من السياسة مشاركة الفاعلين النظر والعمل، فلا أبخل عليهم بكل الفوضى التي أهجس بها. وإن هذه الضبابية التي تغشي الأبصار، لن تدوم وستنقشع لا محالة.

ربما طوى الجميع الصفحة. لكني ليس بعد. لكي نطو الصفحة لا بد من قراءتها جيدا. لا زِلت منتميا للأزمة منغمسا في لحظتها. فالأزمة مخاضٌ يُصِر على التولد. لذلك فهي جديرة بعيشها والتعذب بأوحامها على أن نتوهم تجاوزها بتجاهلها أوالحنين المرضي لما قبلها أو القفز المستحيل عليها. لا ينبغي الكسل في تشخيص العقبات وظواهر التردي التي تضاعِف العودة إلى الإستسلام. لا يجب التكاسل في البحث عن حلول تقدمنا للأمام. إن ممارسة السياسة ليست دونكيشوتية أو لعبة نردٍ حيث يقبل المرء نتائجها أيا كانت.

تعددت حالات الإنسحاب بتعدد أسبابها، سيطول الكلام في سردها، ويعرف الجميع معظمها. لكن في رأيي تتفق كلها في اصدام تطلعات الأفراد الشخصية والقيمية، مع "واجب" نضالي لا يتجاوب وإهتماماتهم. هذه الهوة بين ميولات الشخصيات الفاعلة، وبين "ضرورات" نضالية، تخرب باستمرار أبنية العمل، وتقوقع بعض "الذوات" في برج عاجي وهمي، سرعان ما ينهار هو الآخر. حسب علمي، لم تُدرَس ميولات وإختيارات الناس في العطاء الملتزم، ناهيك أن تُنتقد لِما تجسده من إستيلاب ومُركبات محتملة. وبالقدر ذاته من القطعية، لم تنتقد التعابير النضالية التي صارت "ضرورية" وتُغربل لِما يمكن أن تحمله من نزوات منتصرة من الصعلكة المَرَضية وتواري أخرى.

بذل الجميع مجهودات جمة في خطوات سياسية ودعائية بما يقدم الفعل النضالي ويقنع المزيد من الناس لسياسة-ات ثورية وحزب-اب بديلة ومعبرة عنها. هكذا انضمت أفواج، فأفواج. إلا أنه، بقدر ما تحمست الأجيال للإجتماع سرعان ما تنسحب. إلى درجة أن تم إختصار العملية بإفتقاد أشكال "الولوجيات" و "الإستقبال". ذلك ما عبرت عنه نتائج 20 فبراير.

لا يعني ذلك أن المقاعد الشاغرة في هذا الحزب القادم جد محدودة. هناك خصاص حاد في المثقفين (الكوادر) على درجاتهم وتخصصاتهم، كما ذوي الإلتزام المحدود وغير المحدود، وبائعي قوة سواعدهم.. فلا يهم مجالات إشتغالهم بقدر ما يهم طاعتهم ومطابقتهم لأنموذج وحيد يسمى "المناضل". هذا الخصاص يعاني منه الشعب نفسه، فالعدد المحتمل منه قد يكون متناسبا مع المنخرطين في "المنظمات". التنوع في مفهوم "المناضل" جد محدود. وهذه المحدودية في تقلص متزايد. فعِوضَ أن يكون الحزب مَرتعا للتنوير والتثوير بين جميع المنتسيبن لمعاداة الظلم صار مركز تحاليل، لإنتقاء فصيلة محددة، عاجلا أو آجلا ستفقد خصائصها وتتحول. وتغادر مع ألم الذكرى.

لا أنكر دفاعي، صراحة وضمنيا، عن هذه الخاصية، ظنا أن التراكم على هذا المنوال سيُتوج بخلق تقاليد قوية ستطبع أجيال المعارضين. هكذا حتى يتطبع بها النضال عموما. غير أن الحياة جادت بعكس ذلك. كنتُ أمقت نماذجَ بشرية تتزايد كالطفيليات في الحزب، ولسوء طالعي فقد كانت الأكثر تقبلا من النماذج التي أدافع عنها. والنماذج التي كنت أستحسنها لم تكن سوى أشباهي أو ما آمله. ولما تفطنت لبؤس هذا النظر، تفهمت الآخرين وإن بنماذج مغايرة. هكذا تصالحت مع الناس في قرارة نفسي.

وَدِدت لو يُفعل الأمر ذاته مع شاكلتي ومنبوذين آخرين، حتى نتقدم أكثر في تعاضد وتراكم. كان الأمر بطيئا جدا وسرعان ما تفشل المحاولات.
وإن "التيار"، بقدرما يشكل ملجأ ومنارة تستقطب لخارطة طريق ثورية، بالقدر نفسه يصير محطة للإرتكاس. وهذا المطب، سبق لي أن شاركت في إحدى نقاشاته ومحاولات إصلاح عطبه. لكنها ململة لم يقيض لها البروز والتطوير، فشلت وذهبت أدراج الريح. هناك وعي بالأمر، لكنه محدود وثانوي، وربما تم الإرتداد عنه على وقع عراك لم يذخر الجميع فيه أي مجهود. كان يُنظر لحالات اليأس والضعف، بعين الرعاية. فأصبحت حتى هذه الرعاية جد مشروطة، وهذا في نظري هو عين الردة. ففي الوقت الذي كان يُنظر للتحسن بتجاوز الرعاية/الحِجر، وإبدالها بالتضامن والندية وتفهُّم إختلافَ الأحول الشخصية، تمت العودة لما قبل الرعاية وإيجاد شروط لإقامة الحِجر، وإن على أضيق نطاق.

راهنتُ على إمكانات التحول والتطور إلى الأفضل، ظنا بأننا جميعا الأجدر والأقدر على التحول. لأننا ذوي إمتداد عالمي يسمح بالإختلاف، ونتسلح بماركسية "أكثر" نقدية، ويشكل الشباب نسبة الأغلبية، ونمتلك منابر إعلامية مهمة لنشر الفكر السياسي وسجالاته، ويتميز التنظيم بقدر من العفوية والمرونة الإيجابيتين تسمحان بالممارسة وفق إجتهادات المعنيين-ات. لكن تحت وطأة يأس مزمن إنسحبتُ لأن الأمر تجاوز السياسة نحو إذلال النفس ومسخها. فلا أستطيع الدفاع عن النفس، دون خدش كرامة الآخرين كما يتطاولون دوما. لماذا الكرامة؟ لأن الأفكار المتداولة تشكل هوية الأفراد المتنفذين وطبيعة أناتهم أكثر مما هي مسائل نضالية وثقافية. فلا يمكن هنا إصابة المرض دون إصابة المريض، أو هكذا يبدو لي وحتى حدود الساعة. ولإن الرفاقية لا تقوم إلا بالتملق، أما الندية فهي الجموح والإبتزاز.

ففي برهة واحدة يحياها المرء بكل حواسه وإنسيته وحريته، ما لا نظير له في التقمص لنضالية شكلية. سبب بقائنا مناضلين هو نقدنا للاحياة في المجتمع، أما وقد صار نضالنا من النقد إلى التفريط فقد قوض السبب الأول لنضاليتنا. فقد كان واجب الإحترام مفقودا بشكل كبير، هكذا حرزت حقي في الندية من خارج، التي لم أستطع تحقيقها من الداخل. وهكذا أيضا خسرت الكثير في سبيل الكرامة. الحرية والكرامة أولا ودائما، وبعدها مرحبا بالسياسة والجد والهزل، وحتى لا شيء.

تغافلنا على كثير من الإستفزازات في سبيل مشروع نضالي وخلاق لكنه مات في مهده. لقد خسرنا المشروع الطامح. وما يعجبني في ذاك المشروع الطموح هو إستثنائيته. لأنه يطمح، في ما يطمح، إلى تجاوز ذاته. لأنه يحمل بذور التخلي عنه متى انبلجت شروط جديدة. أو هكذا اعتقدت، تثوير دائم للوضع والذات. ولا أقدر على توضيحه لأن البون بينه وبين المآل الحاصل لا يسمح بذلك، وستكون إشارة له في القادم من السطور. ففي المحصلة، خسرنا بسهولة في وضع دقيق، جراء اجتياح سافر للكلبية السياسية المرتبطة بهوس السيطرة من كل حدب وصوب. وذلك ما زاد الطين بلة. لقد أنجبت الغولة غولا آخر فائق الدهاء واشتد سعار الأم وحذرها.

عليَّ الآن أن اتجاوز هذا الإنشادا باللحظة التي تأثرت بها جدا. ومن أجل ذلك أتيه بتجريب ما يمكن أن يشكل تجاوزا. في هذه الورقة أخُط مسارا آخر. هذا المسار ليس سوى تشريح المحنة وفق تقديراتي واستخلاص أهم الدروس من أجل الدفع بها في أي تجربة جماعية أو فردية مقبلة. وعلى اختلافٍ مع عديد المنسحبين، أحرص على الإدلاء بكشف حسابي وحسابات السياسة "اليسارية" التي أراهما فاشلين، من أجل فتح ثغرة في هذا الإنحسار البادي، البادي ربما أيضا للجميع.

لا أنكِرُ أن هذا النقد، متولِدٌ عن قلق ذاتي وإستياءٍ من الوضع. غير أنه ليس مشجبا للتعبير التنكري عن "عجزي" و و"يأس" اللاإنتماء. ولا أخفي أنه يصعب على المناضل/ة أن يحمل مقص التشريح على مشروعه السياسي دون أن ينسلخ منه أولا. لذلك أقدر عدم قدرة المناضلين-ات على النقد الذاتي بأريحية وتعطش، دون نوع من فصل الذات عن مشروعها السياسي. وآمل ألا يكون النقد تبريرا عن هذا "الفصل" الحاصل، فالقلق سابق على الرغبة في الفصل. لهذا أرجح أن يكون ذاك "القلق" تعبيرا أو ممثلا لرغبة مسبقة هي الأخرى في نقد الذات والسياسة.

الكتابة لا تصلح فقط للتمائم..

الكتابة لا تزال محفوفة بالخوف والمحاذِر. فقد تسترسل في الكلام حرا بلا حدود مع صديق-ة، أما أن تكتب له فكأنك تخاطب شخصا آخر ولا يتوقع أن يرد بمثل سرعته في مقاطعة الكلام والإصرار على الحديث. الكتابة ليست شيئا غير التكلم على مهل ودون مقاطعة. ألاحظ أن الكتابة ليست بعدُ شكلَ التواصلِ الأكثر شيوعا بين المناضلين-ات، فلا زالت حكرا على رسمياتٍ بالغة الأهمية والنذرة. أما التواصل فشفاهي أساسا. وهذا عيبٌ كبير. فحين ما تَرتبطُ النظرية بالنظرِ والآراءُ بالرؤيةِ، ووجهاتُ النظرِ بالعين.. لا يَرتبط الأذنُ إلا بالسمع و الطاعة.

يرى د. "عبد الله العروي" أن الرمز والكتابة لم يحصلا كتطور آلي من المشافهة إلى التعبير الخطي لِما يحمله القول من فكرات. الكتابة قفزة في الحضارة، صارت شكلا أساسيا في اشتغال الذات على الموضوع واشتغال الذات على نفسها كموضوع. والكتابة إلتزامٌ وقيدٌ، يسمح بالمتابعة والتحقيق والتطور. ولهذا تليقُ الكتابة وسيلة لدعاة التقدم الحضاري.

هكذا لا تفهم الكتابة في الفكر بنصب الفخاخ وإصطياد الطرائد. إن الخطاب العقلاني مرتبط بالمكتوب ومن ثمة بالتحليل ودقة المحاجة والإيضاح. ولهذا كانت حضارات أهل الكتب متفوقة عن غيرها.

باتت الكتابة إنضباطا وورطة تجب الحذر، ولا بأس إن كانت تربي على المسؤولية والجدية والإغتناء. أما القول وإن جاد بما لم تجُد به الكتب فيبقى طليقا فضفاضا، وإن تميز بالحياة يفقد كثافته والتزاماته. القول لم يعُد يفيد الحضارة إلا في تصريف معاملات الحياة اليومية المتسارعة. كم يؤسف الوقوف لقول هذا. سلطة النص/القلم لا يَسْلم منها في مجتماعاتنا حتى الكافرون، عكس ما يظن مفكروا "نقد التراث العربي". فتسلط النص، ربما لا يتعلق فقط بالإيمان بنصوص الله وعبادتها، بل بمركب النقصِ أمام المعرفة التي تكسر الكبرياء الأجوف للذات. ومركب الخجل المتولد عن القدرات البيانية للغة التي نحررها، فتخترق الذوات وتعَريها وتعكسها. وهو جرح نرجيسي "بياني"، إقتداءً بالجروح النرجيسية التي تحدث عنها "جورج طرابشي". نخاف أن تعبر النصوص عن عوراتنا، ونكتفي بتبني وتشهير نصوص ذات سمعة تاريخية.

وعادة ما تنكبُ جهود الكتابة في الترديد و وتجديد الصياغة لأفكار مستهلكة. وذلك مجهود إبتدائي لا بد منه. لكن اللغة التأسيسية لفكرات تتطلب خبرات أخرى ذهنية ومدرسية. هذا مخاض يعصر كاتبه، بما يصحبه من ألم الإفصاح عن يأس مزمن، أسبابه ومضمونه. اللغة غير مطواعة بسهولة في التأسيس لمعنى. تتطلب إبداعا قلما أتقنه، لهذا أتهافت لإعطاء المثال متى يحضرني أو ألوي ذراعها لتستجيب. لم نطوع بعد الكتابة بل والقول، ليكونا ذليلين للتعبير عما يخالج الصدر. هذا ما أقعَدَ الكثيرَ وألزمه الصمت. وأبقى في ذاته حالة نفسية متشنجة تجاه ماضيه وشركائه. ويحقق بذلك راحة وإعتزاز ما بالنفس. ومَن يعود، لا يظلم إلا نفسه. وهذا ما أصارعه في الكتابة عن هذا الموضوع.

لا يُستلذ عادة بمثل هذا الإخفاق الإنساني في السياسة إلا في قالبٍ روائي. تحضرني أمثلة، كـ "شرق المتوسط" لعبد الرحمان منيف و "زوربا" لـ "نيكوس كانتازاكي"، "الطلياني" لـ "شكري المبخوت". اللغة الروائية تمنح بغزارة أشكال التعبير. أما لغة المباشرة السياسية فقاموسها محدود. متى خرج عنه المرء يخرج عن ميدان الفعل والحركية السياسية إلى مجال التأمل والتصوير.

عليَّ الكتابة لإخراج ما يضيق بالصدر ويجثم عليه. لستُ بعدُ حرا إلا بعد استيعاب الذي جرى والرؤية فيه خارجا عني ولو في سطور. هذا صراع الذات مع موضوع هي جزؤ منه. أكتب من أجل التحصيل والإنطلاق المتجدد في تأمل المزيد والإقدام مجددا. وإن أي محاولة للتوضيح لا معنى لها إلا إذا حررناها مِن كل تحفظٍ ونفاق وديبلوماسية، وتتطلب تسمية الأشياء بأسمائها. ولهذا تسلحتُ بجرأة ليس لي بها عهد مع الأصدقاء. وأتمنى تفهم الحال.

يؤكد "تروتسكي" في كتاب الأممية الثالثة بعد لينين أن "سياسة البروليتاريا لا يمكن قيادتها بجهاز بيروقراطي (سلم إداري، هكذا أفهمه) وجامد، وقبل أن يترجمها رجال السياسة في لغة توجيهات، يجب على الحزب بفضل تشعباته أن يحس بذلك، وهو ما يتطلب ألا يخشى النظر والفهم والتكلم". الجملة بين القوسين والتشديد من عندنا. الخشية المقصودة لم تكن سوى خشية الزعماء. فالمعارضة اليسارية التي قادها تروتسكي، في آخر التحليل و بلسانه "لا تعمل إلا لتهديم الهيبة الزائفة لعصمة القيادة". (رسالة إلى المؤتمر السادس للأممية الثالثة). لم تفلح المعارضة الموحدة في ذلك زمانها، ولا فلح خلفاؤها إلا في قضايا الغير، أو التي تسقط بالتقادم.

إن الخشية في هذه المقطع، قد تحيل على الخوف من المقصلة والموت. لذلك فاستحضارها هنا غير لائق ومعيب. إلا أنها بمعنى أشمل. ولأن المعنى والقيمة السياسية للمناضل/ة وفق الأعراف تسقط من أعلى، وبحكمة لا يعرفها إلا العالي. كذلك شهدناها في الحزب والمدرسة وفي التربية الإجتماعية وتراتبيتها. فمن هذا الذي لن يخشى فقدَ قيمتِه وسمعتِه، اللتان من أجلهما نشن الحرب ونقاتل. لهذا فالخوف ينخر دوما المريد والتابع والنصير، ونسدل على ذلك لِحافَ الإحترام والتوقير. نذكر قصة الطفل الذي إستطاع ملاحظة الملك عاريا (الذي يدعي أنه قد لبس لباسا من ريح) ومصارحته على نحو عفوي وبسيط، وشق الأمر على الوزراء والحاشية. وكم يؤلم أن يتعشش ذلك بيننا.

أما من جهة المتنفذين، فهم أيضا ليسوا بمنآى عن المعضلة. لأنه لا يمكنهم أن أن يحظوا بمعرفة ممتازة إلا إذا تخلوا، ولو للحظة، عن هاجس التسلط. تلك هي العلاقة الجدلية التي تربط المعرفة بالسلطة، أو الفكر النظري والممارسة الهادفة إلى تغيير الواقع.

الهزيمة لا تقود إلا لمحاولة جديدة. ومن السليم المحاولة بتجاوز أسباب الهزيمة السابقة. ولهذا أراهن على أهمية هذا العمل وضرورته الخاصة والعامة. وفي نظري، المحاولة التي خاضها "التكثل"، لم تضطلع بهذه المهمة إلا من زاوية تبريرية محضة. فلا تزال تفيض بأهم أسباب الهزيمة، وهي فقر الصدق. ليس هناك من نضال فعال ولا تحرري بدون فلسفة صادقة. فالكذب أو حجب الحقائق لم يكونا يوما من ادوات النضال. إن تجاهل النظام الداخلي وخرقه واللجوء إلى الإنقلابات داخل التنظيم وتنمية الأساليب التعسفية لم تكن بسبب إعادة فهم للماركسية النظرية والتطبيقية، وإنما لأسباب شخصية. فتقنية "قلب الطاولة" قد تصلح للأفراد، لكنها لا تصلح للإجتماع. هناك هروب من المسؤولية. وهذا ما أتحداه في الآخرين وفي نفسي، بنفس الإقتدار. والكتابة برأيي ستحسم مسائل كثيرة لو انخرط فيها المعنيون. فبالنسبة لـ "المناضل-ة"، ذلك شأنٌ مُحال، وإيقاظٌ للفتنة التي بالكاد عادت لرُقادها. وبالنسبة لـ "التكثل"، فليس لديه ما يربح في النبش من الذاكرة. و أي عمل في هذا الإتجاه من شأنه أن يساهم في تحضير وجبة شهية لن يأكل منها شيئا. وبالرغم من هذا الإعتقاد، أتمنى أن أكون مخطئا.

في الطريقة

اتسم التأريخ النضالي عموما بنفس سمات التاريخ السائد، بما هو تاريخ حصري للسلالات الحاكمة. لا ضير، فالمعرفة إذا تطبعت بأسلوب ما، لا تسمح باسثناءات بمبرر طبقي أو قومي .. وقد تكون إلتفاتات هنا وهناك إلى "الهامش" و"العميق" و "الشاذ" لكن في آخر الأمر بنفس الميسم الذي يجعل النشاز تافها أو مؤكدا للقاعدة. يُفترض أن تكون للحركات المعارضة الجذرية قدرٌ من المناعة الإديولوجية، لتكون مخالفة ونقدية لإستغلال الشعوب واستغفالها واحتكارِ كنوزها وثرواتها المالية والثقافية. غير أنها لم تكن بمنأى، للأسف، عن الإديولوجية الطاغية في النظر إلى حركاتها إلا كأحداث ابتكرها و صارع عيلها القادة والأبطال ونفذها "الرعاع". وحتى هذه الأخيرة لم تكن، هي الأخرى، بمنآى عن الداء، فدائما ما تنظر للتاريخ مفارقا لها، هكذا تحلم بـ"المهدي المنتظر"، الذي سَيستلم لجام التاريخ لصالحها.

فالتاريخ بالتالي ينتصر للمنتصرين ولا يحيط بالمنهزمين إلا من حيث أهميتهم في الظفر بالمستقبل. التغريد خارج المنحى الإجتماعي العام، وإن كان تحت وطأة قلق إنساني أو فتحا لرحابة أفق آخر، لا يهم علوم الناس ما دام لا يستهوي بإطراد متزايد. ربما يهمهم، فقط حيث يذكي خيال المكتويين بلظاها، فيتفتق منه فن أو أدب جميل تستدفئ به عوام المنحى العام البارد.

يُكتب التاريخ من وجهة نظر الظافرين، ويسيل مدادٌ كثير بذكر صُناعه وتنحث لهم التماثيلُ وتخَلذ ذكراهم. وتنحصر معقولية أحداثها في عظمة روادها وطلائعها، وتعلق بؤسها على "شياطينها" و"أشرارها". والماركسية كعلم إجتماعي طبقي، وكتحاليل نقدية للقوى الرجعية ومدافعة عن أخرى تقدمية، لم تنفلت كل الإنفلات من هذا الميسم العام. يبدو هذا في انشغالها بحركات كبرى في التاريخ، وبحتميات التاريخ. وهو إنشغال وجيه، لكنه يتغافل عن أهم ما يمكن أن يشكل روح التحول والتباث. وهي روح قد تسكن القفار وقد لا تحايث الجمهور بل تفارقه. فالجمهور وحركته، هما في النهاية إنتصار لعمق إنساني أو ناموس طبيعي، بالكاد يكون لا شريك له. ولا يَشرك به إلا المجانين والمتشردين والصعاليك وكل الشذوذ البشري.

إنشغلت الماركسية (نقصد بها الجانب المسمى منها: دليل العمل) كثيرا بالنتائج أكثر مما غاصت وتاهت في الأسباب الدفينة، وإنطلقت من حكم على حتمية تاريخية، (الإشتراكية) تستنبط المعارفَ والخططَ بناءً عليه. وهو منهج بالغ الأهمية، لكنه غير كاف.

"مصطفى العطار" في قراءته لـ"الإمام الغزالي"، ينتقذ تقديمه المعرفة وفق رؤيةٍ إفرادية تنمِّطُ الجمهورَ وتقولبته وفق إشراقاته الصوفية، كأن الغزالي يريد صناعة جمهور مفرد. وهذا نقيض الجمهور المتعدد والكوني.

نستعير هذا النقد، لنحيل إلى أن الجمهور وفق الإديولوجيا السائدة، يُختزل في نموذج وميلٍ أحادي. ولذلك تعتبر الإحاطة بالشذوذ، رغم "نذرته"، إحاطة بمزيد من إشعاعات البشر المتعددة، التي تسكن الجمهور من حيث لا يدري الجمهور ذاته، ومن حيث تتجاهلها الإديولوجيات المنتصرة في الإجمال. فالشرط البشري هو ظاهرة تعددية على الرغم من مقاومتها ورفضها.

لاحظ السوسيولوجي "بول باسكون" هذه السمة في تقزيم التاريخ وإفقاده الكثير من حاويته. ولهذا يتحدث عن المركب والمزيج واستمرار القديم. نحاول مشاركته المنهج وامتلاك القدرة للرؤية وفق المطلوب. وهذا ما عانينا منه في المحاولة لرؤية الأحداث جيدا وبشكل مقنع. لكن المؤكد هو أن المنظور السائد يفيد في استيعاب عديد المسائل، لكنه يتغافل عن أخرى من بينها هذا الموضوع قيد البدء.

فبالرغم من تطور الأحداث وتوالي الطفرات والتحولات، لا أرى هذا المسار إلا رتيبا، لكنه مزدوج. ففي شق منه "واقعي" تماما، هو إنتصار القديم ومحاولة دائمة منه لتأبيد الوضع والسطو على الدهر. وهناك أيضا مسار معارض، مدفون وضمني وغير بارز، يحبل بـ "الجديد" و "الثوري"، لكنه منحبس في محطات كبرى، فيمتد في الزمن شذوذا وعللا ومركبات وفواعل أزمة. وأعتبر أن بواعث الحياة كامنة في العلة والمركب والأزمة، وأن حالة "العافية" ما هي إلا إمتداد للإنتصار والغلبة والسائد.

سنركز بشدة على حالة الهزيمة والسقط المتكاثرة، ونطلق الأضواء عليها جيدا، ليس لإبرازها منافسة أو تحضيرها لتكون "الجيش القادم" بشكل نتوهم منها إقدارا منبوذا ينتظر لحظة الإنطلاق. إنما أساسا، لنعرف أي معنى يحمل في أحشائه وفهمه وتفهمه بما هو هزيمة وسقط. ومن هذه الزاوية نستقرئ أسباب الإنتصار والهزيمة، ونستقرئ الصعود والهبوط وإحتماليتهما.

لا يلغي هذا التحليل تحليلات شائعة لدى المناضلين، وفق ثنائيات مشهورة كـ"الموضوعي والذاتي"، و"التقدمي والرجعي"... لأن الإعياء/اليأس الذي بات لازمة الثوريين عبر التاريخ لم يكن مفهوما، فبالأحرى أن يكون متفهما. إنطلاقا من هذا الطرح العام، أتناول حالة أكثر خصوصية. فالرؤية المقدمة لفهم ما جرى ويجري ناقصة. وفي هذه الحالة إزاء النقاش نعتقد أن تلك التحليلات لاغية.

استمر هذا وسقط ذاك، ليست متراجحتنا. فما سنركز عليه هنا هو حالة الإنقذاف نحو الهامش، والتشظي، وانحلال وشائج التماسك. جرت العادة أن يقاس على آيات الصمود والتباث وإجتياز الصحراء.. فكل ما في الأمر هو أن البرنامج السياسي يفتقد للصناديد وروح القتالية. إننا ننطلق من فرضية، عكس ذلك، مفادها أن على السياسات أن تلائم قدر الإرادات وتستجيب لتطلعات الناس وتعينهم على إكراهاتهم. ليس على نحو سلبي ولا بتقديس الأهواء، إنما بشكل حيوي وجدلي وثوري.

ونتيجة غياب تطابق بين الحالات، وكمون أسبابها بين تجاويف الأنين والحسرة. وقد كان من الطبيعي أن تسود في الأجواء "صيغة-حالة" فرضت نفسها بتفوقها وبروزها كمقولات سياسية وكمشروع يلفُ بعضا من اليائسين والساخطين، حتى حين آخر لتنفجر من جديد. وعلى ذكر هكذا إحتواءات، لا ننظر لهذا النص كمحاولة لتجميع وإحواء المهمشين-ات، بل وجهة نظر شخصية من الهامش، لا أكثر.

تحْدُث المراجعات والتحولات الفكرية عادة تحت وقع الصدمة، إثر إنهيار بناءات مصيرية. ولا تحدث هذه التحولات كنتيجة صافية لأداء فكري خال من المؤثرات الواقعية. ولهذا تفسير منطقي، فرغم أن للفكر إستقلالية عن شروطه الأرضية، إلا أن اهم تمفصلاته لا تحدث إلا بإنقلاب أرضي عليها. حيث تسعى النظرية دوما للإمساك بالواقع وضبطه. ومتى أبان الواقع عن قدرته الإنفلاتية من قولبته، يهتز الضبط الفكري لملاحقته وإحتوائه من جديد في وعاءات مفاهيمية. و الركود أو الشلل الذي يعتري الفكر كلما كان الواقع رتيبا، هو لصيق الفكر والسياسة. لكن هذا الركود لا يشكل عاهة بشرية، إلا إذا تنكر لإنتعاش الواقع وحيويته وعواصفه، فيصر على الإمساك بالإيمان أو الوهم أو البالي، ويرفضُ الحيَّ وغيرَ المروضِ والمُنفلت. وعادة ما ينتج هذا بفعل نقص الشجاعة والخوف أو بمركب التعالي.

وتدقيقا في نهج القول، فالسائد في السياسة هي حالة من الإنحسار التاريخي، في محطات كبرى. لا نزال نعيش إمتداداتها في هذا الزخم من التطورات. فكل "التحولات" المزعومة لا تزال تنطق بتلك الإنحسارات. إنحسار الإشتراكيين في إنهيار التجارب الإشتراكية. إنحسار الفاعلين الدينيين في لحظة إنحطاط الحضارة العربية. إنحسار الحركيين الأمازيغيين في لحظة مفقودة في التاريخ حيث شهدت الحضارة المحلية أوجها. وهذه الإنحسارات بمجملها، هي لحظة الهزيمة المستمرة فينا، وإنتصار وضعية مضادة لأحلامنا، تفرض علينا شروطها وقمعها بإستمرار. ودون الإشتغال عليها بعيون صاحية، عيون الحاضر وإشكالاته المرتبطة بالقديم، نكون بصدد معالجة أمراض ليست فينا، أو على الأقل نداوي مظاهر الداء.
يميز "أدونيس" في كلام البدايات، بين الزمن التعاقبي المتتابع والزمن الإبداعي، فالأول سهمي يتجه دوما إلى الامام. أما الثاني فدائري وعمودي يتقدم إنفجاريا، ولا يواكب بالضرورة الزمن التعاقبي. فالصناعة مثلا تسير على السطح، على عكس "الطبيعة الإنسانية" التي تسير في العمق.

التواصل الخيطي للسياسة المعارضة تجعل من الفاعلية الإنسانية مجرد إتباع لمسار مرسوم. حتى أن شائعة "ماركس" تزيدنا التأكيد من جدوى هذا الطرح برؤيته البلدان المتخلفة في مرآة الدول الصناعية. ورغم أن"تروتسكي" قد خدش تنبؤه في روسيا المتخلفة المتآخمة على آوروبا، يبدو أن "نبوءة" ماركس في حاجة للمزيد من الهدم. وقد أتبث العالم تنوعه وزيغه عن هذا المسار، ولا يزال في جعبته المزيد من الإتباث لمن يصر على تقفي مسار ومثال واحد.

وسيتم إستثمار المعاني المستخلصة في نقاش مسائل النضال والتحرر الإجتماعي. وسنحاول تقديم مناهج وطرق أخرى ممكنة وأكثر حظا للظفر بالكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية. أستحضر مقولات وبعض دروس بعض العلوم الإنسانية، وخاصة علم نفس التخلف، اعتقادا أننا نندرج ضمن هذه التخصص. فليس الأمر نكاية على حالة ما، إنما لوجاهة المقولات النفسية في التعبير عن علاقة أو تفاعل ما.

ولمزيد من التأكيد، فما ينطبق على تلك الحالة لا يستثنى منها أحدا منا. وفي منتهى التأكيد، فكل ما أفعله هنا هو أني أنظركم جميعا من خلالي ومن ذاتي وعلى قدر إجتهادي. فإن كان في الأمر إيذاء في إبداء وقاحة القادة أو رعاعة الأعضاء، فكل ما في الأمر هو أني الوقح قائدا ومجرد زبد في القاعدة.

إن علينا عملا صعبا يجب تحقيقه، فثمة مشكلات معقدة وواسعة تطرح على عالمنا. يقول "غوته": "الإنسان يعرف ذاته بقدرما يعرف العالم.. و كل موضوع جديد يتم فهمه، يزودنا بعضو جديد داخل ذواتنا". نستثمر معرفتنا بالعالم لنعرف ذاتنا، كما أيضا على قدر الوعي بذاتنا نتسلح من جديد لمعرفة ومعاركة العالم الإجتماعي السائد. أستحضر أيضا جملة رائعة لـ أبراهام ليون : "لا قناعة تعادل عمقا تلك التي تنجم عن صراع إديولوجي داخلي طويل وصادق". فمن أجل إكتساب الإيمان للحياة ومبارزة الظلم، تلزم ذات مفهومة بوضوح ومنسجمة وقوية. فلا يمنح الإقتناع بالنظريات والمناهج، وحده، إلا الإستئناس المعرفي والفتور في المجابهة.

وكما تقول "أراندت": " إذا أردنا أن نتحدث اليوم عن السياسة، فلا بد أن نطرق إلى الأحكام المسبقة التي تغذيها". فقد حاولت مساءلة بعضا من المسلمات الشائعة عندنا، بنوع من الجرأة غير المتناسبة مع حجم التقصي المبذول. فالإقتدار على الخلخلة واستفزاز التسليم، ربما صار شأنا ملحا. كما أن الإحتراس والتبين الشديدين، رغم أهميتهما المعرفية، من شأنهما أن يؤجلا أي عمل إلى أجل بعيد، فيصيران عاملا قويا لتبرير السائد والبالي والضياع. إن تاريخ المعرفة هو بمثابة إنماء للمفاهيم والتصورات والتطبيقات، وعليه علينا ألا نكف عن فحص المكاسب وتحيينها، كلما سمحت الفرصة. وإن الإكتفاء بصيغ قديمة يسقط الفكر في الإختزال والمفارقة.

نلتمس من عديد الظواهر تفسيراتها لنقارب الموضوع من زوايا متعددة. وسنسقط خلاصات نقاشات حول مواضيع عامة على هذه الظاهرة، واعيين أن في مضمونها قانونا جدليا هو ما نستحظر، لا أملك حاليا القدرة على التعبير عنه بغير هذا الإسقاط. ونرى الفائدة أن ندون هذه المحاولة بجرأة ودون احساس بالنقص. فالإحساس بالنقص كان وراء عدم القدرة على الإعتراف بهذه الهزائم وتوهم الجميع بقوة وعافية لا نتمتع بهما. وهذا الاحساس بالنقص يوقعنا في متاهة مستدامة. فليس نقصا التعبير عن اجتهاداتنا، وإنما النقص في توهم الكمال والعصمة. أما النقص الذي يعتري هذا العمل، لا محالة، فسيكون فرصة ثمينة للبحث المستمر وتوقد الذهن.

وليس في الأمر جلدا للذات أسبيحه على نفسي وبالتالي أبيحه فيكم. فوراء مبررات اليأسِ عظائمُ المحفزات للأمل. فليس هذا النقد مازوشية تدميرية للذات. وليس مسلكا للتجريح أو هدما للبيت بنزعة سادية "ترمي الرضيع مع الغسيل".

خصوصية الحالة وغناها

ما يجعل حالة الثوريين أنصار الأممية الرابعة بالمغرب، غنيةً بالمعنى والآفاق هو الإنغماس الكبير في أفكارهم وبذل الجهد في نشرها وترجمتها عمليا بشكل استثنائي، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أن سقوط جيلين منهم في أزمة وتشظي، كان سقوطا جراء تناقضات داخلية مستفحلة. تناقضات أربكت الوضع بشكل غير متوقع من لدن كل المراقبين السياسيين الذين ينظرون إليهم كقوة قادمة ستطبع الوضع النضالي بالبلد.

"الماويون" يسثنون في هذا التصنيف، لأنهم رغم انغماسهم المتواضع، إلا أن الضربة التي قصمت ظهرهم لم تكن نتيجة الإنغماس في وجهتهم الأدبية بل نتيجتها المنفصلة عنها، إنه القمع المفرط وفاتورته على الأفراد. وهذا القمع يَحُول على الأغلب عن رؤية علل الفهومات وأوجه النقص في الأداء.

منظمة "إلى الأمام"، وأخواتها، هي الأخرى، لم يسمح لها القمع الشرس لتجرب حظها في الإفلاس الذاتي الذي يختبئ في طيات أفكارها وبرنامجها. لقد قطع "الحسن الثاني" عليها الطريق، ذاك الطريق الذي لم يكن موصلا في نظري لأي تحرر ممكن على أي صعيد. حسابات المخزن اقتضت الهجوم في اللحظة التي تشوش فيها المنظمة على مهام مخزنية لم تكن في حسبان المنظمة. وصار واجب الإنتصار للمقموعين هاجساً بما يلزمه من حقد على الإستبداد، وعقبة قوية تحُول دون تناول الموضوع بما يكفي من النقد الذاتي، حتى لدى أشرس النقاد منهم.

عادة ما يُفسر قمع الحركات بوجاهتها وتهديدها الجاد لرأس الأفعى. وهو تفسير غير موفق. لكنه تفسير موفق في جعل "إلى الأمام" وأخواتها ذاكرة مشعة بالخيال والقداسة وملهمة "للمومنين-ات" بالعجائب. ذاكرة تجعل من لحظتها الأولى الأفقَ والرهانَ، تمتد بهما عبر الزمن إلى الحاضر والمستقبل لتشكل دوما الأفق المنشود الذي ستميل من أجله الفرق يمينا ويسارا لتصب إليه مجددا الفكرة والعملية. وهذا جبن التصق بورثتها المباشرين وغير المباشرين. تستمر حالة من الإنشداد إزاء لحظة ومضاء انقشع فيها الضوء، وشبت حسرة تبلع اللسان، خالقة من الصمتِ الكبرياءَ الذي تطمئنُ له الذاتُ بعد أن مرَّغ المخزنُ أنفها في التراب.

لن ننتظر الأركيولوجيين أو حفاري القبور لنعرف حقيقة ما وقع، يكفي أن نخلع منها المهابة "فوق البشرية"، فتتبدى كما جميع المعارضات التي إما أن تفلح وتعلق عليها النياشين أو تفشل وترمَى عليها أكاليل العزاء. وبين هذا وذاك يندس ويتوارى الدرس الذي تعبر عنه، بكل فاعلية إنسانية. لكنه يبدو درسا-لغزا تَحجُبه الكثيرُ من القداسة والحقد على الدولة.

الحركات الدينية على إختلافها وتشعب مساراتها، كما تتفق جميعا في النقطة الأولى الملهمة لها، تنشد نفس الإلهام / الخلاص الذي تعتقد أن يكون انعتاقا. لن يكون إنعتاقا إنما استكمال للحِجر الذي تفرضه لحظة تاريخية متعالية على التاريخ كله. وكل شغلها يكمن في حصر حركة التاريخ ضمنه وألا ينفلت منها بحكم الواقع المنفلت دوما. استكمال الدورة رهان مفلس، تؤدي الأجيال ثمنه غاليا. إنها ليست أصالة وإباء، إنما هي إعاقة ذاتية.

فأقصى ما أبدعه ورثة الحركة الماركسية اللينينية المغربية بعد إندحار تجاربها الأولى، عود المحاولة دون إحتكاك مع القمع (حزب النهج)، وتكييف المفاهيم بناء على ذلك. أو الإصرار على تحدي القمع بشكل وهمي (القاعديون)، وبالتالي يجب إستحضار الأشباح وأساطيرهم ليوفروا شروط الوهم والخيال. لقد حال القمع دون الوصول إلى روح "الحملم"، لذلك كانت التقييمات سطحية وكاريكاتورية. لقد تم إختزال الحملم في شجاعتها (المفرطة أو المعقولة) الساعية للإنقلاب على النظام.

السقوط المدوي للمنظومة السوفياتية لعوامل داخلية وخارجية، كتجربة موثقة من المعارضة حتى الحرب الباردة، ألهمت العديد لمراجعة الماركسية والثورة والتنظيم والدولة، فأبدعوا الكثير من الفائدة. ثمة تدقيق ومراجعة واسعتين لتجربة سياسية قل نظيرها. حجم التجربة سبب، لكنه غير كاف. الذين عجزوا عن المساهمة في تدقيق وتحليل الإنهيار الإشتراكي، أو على الأقل مطالعة ذلك الرصيد المعرفي، لم يكونو سوى أولئك الذين يَعبُدون التجربة صالحة وغير صالحة، وفضلوا تعليق الهزيمة على الشياطين والخونة أوتنسيب الانتصارات لأبطال عباقرة. وكم اكتفينا بمقولة "التبقرط" كصيغة سحرية تجيب على كل الأسئلة. إن التماهي فائق الغرابة بين الذوات المفكرة وبين تلك التجارب المَعطوفِ عليها، هو الآخر لا يسمح بالنظر إلى المعارك في نتائجها وممكناتها.

الثورة الإيرانية المسماة "إسلامية"، حدث سياسي عملاق لكنه قزم فكري، بتعبير "هاشم صالح". اندحر رواد الثورة الشيوعيون تحت ضربات القمع القاتلة. ولم يسمح هذا القمع برؤية الكثير من هذا الحدث الثوري في منطقة ركود حضاري وسياسي. القمع يشوش على الحدث، فأقصى ما استفاذه الشيوعيون هو الخوف من الإسلام السياسي والعمل دوما على معاداته والحذر المبطن والصريح من خطورته. الخوف من القمع طبيعي، لكن إذا لم يُنتبه إليه جيدا، قد يُعيدنا إلى حالة بدئية غير سليمة، وإلى نكوص. أدى الخوف إلى التراجع عن رهان تثوير التراث وأدى إلى إفتقاد الحس بالخصوصية، وذلك بالقفز عن هذه المهمة الداخلية واستبدالها بخصوصية ومواقف الأجنبي و الإكتفاء برفع المطالب الجاهزة والمواجهة عليها.

اغتيل "موناصير".. لنؤسس المنظمة والنقابة والجريدة (التأسيس الإضطراري).. منطق فاعلي وجريء. لكن ماذا لو تم الفتك بأغلب الملتفين معه؟ لربما ولد منطقا نكوصيا وانطوائيا على أمجاد المغامرة. وقد تأثر من تماهت روحه مع فاجعة الإغتيال فانزوى وتاه، إلى درجة أن هناك من فقدَ انسجامه السلوكي والعقلي. وأبان العديد من أصدقائه عن إدراك لمزيد من الحزم والبناء لإنجاح مشروع "موناصير".

إلا أن تيار الأممية سيسقط سقطة نوعية إبان تأسيس الجريدة، وأعاد الكرّة مؤخرا. وها هو حاليا يبارح مكانه حتى إنفراجٍ جديد. لكن هاتين المرتين، تشكلان معضلة داخلية تنطق بما لم ينطق به الإغتيال وضرب نقابة البحارة. وإن الإجتهاد لتفكيك وتحليل هذا الإباء الذي ينكسر مرارا، سيفيد في إمتلاك فهم وجرأة إستثنائيين، من أجل إقتحام السياسة إقتحاما مشرفا للثوريين الساعين لمزيد من الخلخلة. هذا وقد صار الوضع إلى حالة من الصنمية والتكلس من جهة، والعبثية والانفلات الحر من السرب، من جهة أخرى. هذا الجيل، النسبة السائدة، ذهبت في العبثية إلى منتهاها. فقد سبق أن ضاع جيل على نفس المحك تقريبا، وبينهما حالات من السَّقط، تاهت وانتهت إلى إنزواء وخمود. ومعروف أنهما جيلين من منتصف العشرينات حتى نهاية الثلاثين. أي الشباب.

هذه التجربة السياسية فريدة. إقتدرت على التغيير في أساليب النضال ومفاهيمه، وأتت أكلها رغم قلة عناصرها ومحدودية إشتغالهم. وسببت زلزالا أرعش وأنعش المسار اليساري بالبلد. فعديد التقاليد التي صارت جارية ومشاعة بين الحركات الإحتجاجية كانت إبداعا وإشتغالا حصريا للثوريين، لدرجة أن كانت عندهم بمثابة الجوهر البرنامجي. ما يؤكد ذلك، هو التلف والماضوية اللتان لحقت بأدبياتهم البرنامجية، نتيجة تحولها من ملكية خاصة بالثوريين إلى ملكية مشاعة بين مناضلي-ات البلد. وتلك أمارة عن احترافية في النضال العمومي المرتكز على ينابيع خصوصية، لفضائلها وعلى علاتها. وبينما كان هذا إيجابيا جدا، كان منتظرا الإنتقالُ إلى خطوات ومفاهيم وأساليب جديدة بنفس الحنكة الإبداعية أو أكثر. وبين هذا الطور القادم وفق قوة الحركة والطبيعة، وبين غياب التحضير له، ستُفتح فجوة الهلاك لعديد الطاقات. بين ضرورات التحول وبين إكراهات الطاقات المسؤولة، أيضا، ستُفتح فجوة هلاكٍ أخرى تكون ضحيتُها تجميدَ المشروعِ وبتر أطرافه والتراجع عن عديد الإلتزامات والرهانات.

ولمزيد من تدقيق نهج التحليل، المشار أعلاه، فعبر هذه الفجوات، أيضا، أنظر لوضعنا الخاص. وغياب القمع في المسألة، في الإجمال، يسمح بالنظر حصرا إلى الذات المنكسرة في فواعلها ومقدراتها، كمفسر حاسم للصعودِ والقهقرةِ واستمرارٍ في الأزمة. وذلك لم يكن متاحا لعديد التجارب الآفاقة. وإن أهمية هذه الحالة تكمن في إمكان رؤية التناقض القاتل للذات، وهو إمكان لم يكن سهلا في حضارتنا برمتها، نتيجة تشويش الاستعمار وانتصار الرأسمالية الغربية على "أصالة" الشرق.

نتقاسَم مع الحركةَ الأمازيغية نفسَ الخصوصية، إلا أن تجربتها فتية سياسيا ومحدودة و محلية، زد على ذلك أنها لم تعش بعد حالة قوية من الهزيمة واليأس. فلا يزال أمامها الكثير لتجريبه. ورغم ذلك أستبق القول بشأن إحتمال إنهزامها الصادم في القادم القريب، لما تحمله هي الأخرى في أحشائها من بذور المرض والسقم.

فتح الجراح أم حجبها؟

هناك انحسار سياسي وأدبي تشهده القوى التي ننتمي إليها. غالبا ما يُفسر هذا الإنحسار بالجزر النضالي الذي أعقب "الربيع العربي"، وكظاهرة طبيعية وإجتماعية لا بد منها. وأن من مهام التنظيم إبان الجزر، شد الحبل للحفاظ على "مكتسبات" المد في انتظار شروط أكثر حيوية. وأن "الهشاشة" التي تم التساهل معها هي ما ندفع ثمنها. قد يكون للأمرين قدرٌ من المسؤولية، لكنها بنظري، تم تحميلهما ما لا يطيقان. فقد أبان الوضع النضالي بالبلد عن إنفلات نضالي أعقب حركة 20 فبراير. والحركات التي أعقبتها كانت استثنائية، فهي جديدة وأكثر قوة وإستمرارية. أما تلك "الهشاشة" فقد كانت مرونة سمحت للمناضلين بامتلاك شخصيات قوية وفعالية نضالية. وتلكم الفعالية هي ما يتميز بها تيار الأممية بالبلد، ودونها يمكن التحدث عن موقع إلكتروني وجريدة بالأكشاك.

هذا الإنحسار، برأيي، هو تعبير عن إعاقة ذاتية. فقد أبانت فعالياتنا المناضلة عن كثير من القدرات في عز الركود والجزر المرتبط بحكومة "اليوسفي" والعهد الجديد. اليوم تنضم حركتنا لحالة هذا الركود الذي تقوقعت فيه عديد القوى المناضلة، حتى أصابها الشلل أو تنشط بقدر ما تعرج إلى اليمين. وما كان المخرج لعديد الأفآقين منها إلا التوقف لتأمل وتشريح الإنسداد الحاصل، إلا ان ذلك كان حكرا على أشخاص. ومعلوم أن النضال لا يفتقد إلى مراجعات وتقاييم داخلية، لكنها شخصية أو محصورة في نطاق ضيق. فذلك كان غير مفيد في مضمونه وفي موقعه. فالقادة والنقاد ليسا المعنيان وحدهما بالسياسة، الرأي العام للإحتجاج معني بها أكثر مما يتصورون، فهو الذي تأذى وأصيب بإعاقات تقعده باستمرار. أما "القادة"، فـفقط وضعهم الإعتباري، كاف لعدم الإحساس بالضجر بشكل مزمن، ولن يُعييهم الإجترار باستمرار. فهم يتسلحون بـ"تفاؤل الإرادة" ويتركون "تشاؤم العقل" لنا.

من إعاقة الحضارة العربية إجمالا، حجب الجميل ورفض التعري. ولا تُعلن إلا البشاعة بإصرار واستكبار. وبإقدامنا هذه الخطوة نكون قد شرعنا في نقد ثقافتنا ومنحها بلسم التجربة لإستشراف البدائل والإنتعاش. وهذا بالغ الأهمية. فالسجال السياسي عادة ما يروم إلى خلق حالة نقاش داخلي بين الآخرين لتقويم إعوجاجاتهم، حبا فيهم. وحتى يكون الحب صادقا وعميقا، آن الأوان لإعطاء المثال فينا. ففيه صدارة وتربية ومبدئية، فضلا عن أن هذه العملية النقدية لايمكن إلا أن تكون إضافة للنضال، وهو في حاجة إليه.

إن الإشهار الفاضح الذي يتسلح به المعارضون دوما، طبعا ليس بجديد. فكل المعارضين الهامشيين لا ينفكون في فضح السائدين، وهذا النص معزولا عن أي تجاوب، لا يخرج عن هذه العادة. إن القيادة تشكل مخيالا سلبيا وخائفا من القاعدة. والقاعدة بدورها، تراكم مخيالا سلبيا ومليئا بالإحكام المسبقة وغير الدقيقة عن القادة. كلا المخيالين ينبذان بعضهما البعض في الثنايا والخبايا. الجديد يكمن في المساهمة في النقاش مذنيبن هنا ومظلومين هناك. قادة وقواعد. ونقد (بمعنى تبيان) لإهتمامات الغافلين وغفلات المهتمين. وهذا عمل بطولي وثوري لو نضطلع به.

وقد يكون هذا الأمل ساذجا، ومدى إحتمال فشله متعاظم أكثر فأكثر. إلا أننا نفضل المحاولة لنتأكد من إنسداد هذا الزقاق من انفتاحه. وأيضا، لأن الازمة لا تكون كارثية إلا إذا واجهناها بأفكار جاهزة مسبقة، ويفوت علينا تجريب الواقع وفرصة التفكير التي تتيحها التجربة. فلم نعد نخشى فشل المحاولات، اكثر مما نخشى سبات هذا المألوف. ولأنه أيضا لا يمكن تجاوز المحنة دون إدراكها حقيقة، فإننا لا ننظر للمسألة من زاوية الثنائية قادة-قواعد، إنما كتجربة سياسية منتمية لسياق تاريخي وثقافي. ولا أستطيع أن أسمي ذلك "موضوعيةً"، لأنني مستغرق في ذاتي بغية التمكن من استقراء الصورة الذاتية التي نشكلها عن السياسة في الإجمال. ولأن الإنطباع كان غالبا عن الإقتناع والتحقيق.

تبزغ الحداثة الأروبية بإعلان "كانط" عن خروج الإنسان من وضع الحِجر الذي هو نفسه مسؤول عنه. هذا الحِجر لا يعود لقصور في عقل الإنسان وإنما الى العجز عن استعماله دون وصاية غيره. فالعمل النقدي المشار إليه، لا تهم كثيرا نتائجه أكثر مما يهم نمطه وأسلوبه الذي نفتقر إليه في ثنايا ثقافاتنا السائدة عبر قرون. فعن طريق الإنتفاضة يمكن أن نسقط به استبداد طاغية ما، لكن لن نبلغ به إصلاحا حقيقيا لنمط التفكير.

نستعير، أيضا، عند "جورج طرابيشي" ناموسا من نواميس الحركة في التباث والتحول، وإن خلص به في مضمار الفلسفة بين المسيحية والإسلام، نسقطه على الموضوع قدر ما أمكن. إن رسم العقيدة القويمة والصحيحة وتحقيق الإجماع عليها، يغلق على الفكر مسامه ويوقع في ركود حضاري. فكل مُغرد خارج سرب الإجماع يُرمى بالهرطقة إن لم يُشرد ويُنفى. هكذا إنطلق سبات العقل الإسلامي بعد تحالف مدرسة الحديث مع السلطة فأعقبه سقوط الأندلس. فدخلت الحضارة العربية في نفق مظلم ومشلل للقوى. وتطلقت الفلسفة من الحضارة الرومانية بعد "مجمع نيقا الثاني" المنظم بإشراف الدولة، وتم تحديد ملامح العقيدة الصحيحة، فأعقبه سقوط القسطنطينة. فاستطالت القرون الوسطى.

"إتحاد المغرب العربي".. المرآة للأسف

رغم الإستفزاز الشديد للتسمية والمثال، نستعين به رغم مرارته، أملا في التركيز على أسباب فشله. نستعين بالتجربة ونسقط عناصر عضالها على الموضوع. لقد مثل الإتحاد المغاربي، أملا شعبيا في النماء والتحرر، إلا أنه صار لعبة حكام لا غير. في هذا الإسقاط نختبر درجة نقديتنا تجاه الإستبدادات المحلية. أليس في الامر تماه مع المتسلطين في سلوكاتهم وتبريراتهم، وأن الشعوب على دين وسياسات ملوكها تشارِك وتعارِض؟

يعتبر هذا المثال، بنظري، ناطقا بالكثير عن نوعية السياسة السائدة لدى "الطغاة" و"الجمهور" على السواء. لا يسمح المقام بالتفصيل اللازم، وسنكتفي بما يفيد الإشكال قيد النقاش، مفترضين أن للقارئ-ة إطلاع على هذا التاريخ، بل وله رأي في الموضوع.

لم يكن إنقسام شمال إيفريقيا إلى دول هزيلة ومتنافرة نتيجة سيرورة داخلية من الصراعات كما جرى في تاريخها قبيل الإستعمار في القرن التاسع عشر. وكان هذا محتملا بشكل كبير. غير أن مقاومة الإستعمار بالكاد أدت إلى توحيدها وبناء حاضرة أقليمية. وفشلت المقاومات في عملية التوحيد بإغترار البعض باستقلاله مسايرين قادة دولهم، وإغتاض الآخر من تجزييء المشوار. نشأت حزازة بريئة، لكنها إندمجت كليا في حزازة الحكام غير البريئة. وتمادى الجميع فيها إلى الآن. اندمجت كليا خصومة الأصدقاء في عداوة ونفاقية الأعداء. لم يكن القادة جزء من الحل، إلا ناذرا.

فالذي يصرخ ويفصل بينها، كما فعل "المهدي بن بركة" في خطاب بالجزائر، يصرخ في الخلاء، بلا أصداء. الصداقة، وخصوصا التي لا بد منها، لا تتشنج إلى الأبد. فمن لا يستطيع الوفاء بالعهود، لا يعدم الإستطاعة للإعتدار، على الأقل. ومن يرتاح في انعزاله كيف يرتاح في الكذب بنشدان الوئام؟ والذي سيربح الكثير في الوفاق، هل يزغرد مع من يكسب الكثير في الفراق؟ أم أن ضمير ورأي المحكومين غالبا ما يكون إمدادا لمزاجية الحكام؟ إذا كنا على مسافة نقدية من "التحكم"، فلا بد من نشوب حساسية ونفور من "التحكم". وإذا ناضلنا من أجل "الإستقلال" وصار لنا منها ذكرى، ألا يمكن، أيضا، أن نفكر يوما في استقلال الفرد، كما الحكم الذاتي وما شابه؟
المقاومات القروية المسلحة تطبعت بنعراتها المجالية والقبلية وغرور رموزها، رغم إقتحامها أفقا يتجاوز ضيق القبيلة وفقرها.

وكانت القدرة للإنتصار على أمراض الذات، متناسبا مع القدرة على الإنتصار في معركتها ضد الإستعباد الأجنبي. ففي معركة غير متكافئة، وبرصيد هزيل تصَدت المقاومات للغزو الذي اعتلى صهوة جياد التاريخ. ورغم ذلك، حققت المقاومات انتصارات متواضعة قد تعكر صفوة إنتصار الغزاة الكبير والساحق.

السياسة الحربية الرامية إلى هزم المستعمر لم تكن، طبعا، تراهن على تشكيل جيوش نظامية على عجل وعلى مقاس العدو، فهذه خطة لم تكن في الإمكان. غير أنه كذلك، لا يمكن إنزال الهزيمة بالخصم إلا بالتفوق عليه، أما إقتناصه في نقاط ضعفه يشوش على النتيجة، لا غير. الإحتكاك الحضاري يتميز بتقدير الخصم ونقد الذات، أكثر من العكس. وكانت معركة المقاومات معركة حضارية في غالب الأوصاف. انتصر "الخطابي" في الريف بمنافسته الغزاة في حضاريتهم، وانهزم حيث تقهقرت حضاريته المرتبطة بمجال ثقافي وشعوبي متخلف ومترامي الأطراف. وبمحاولته توحيد المقاومات ومتابعتها من "القاهرة"، كان يحاول تجاوز المستعمر في حضاريته، لضمان الإنتصار عليه. تلك الحضارة التي كان الأروبيون يدوسون عليها في الحربين العالميتين وحروب الإستعمار، ويكتشفوها متأخرين في بناء إتحادهم الأوروبي.

وهذا مثال مهم ومُلهِم.

إن إنتصار المقاومات في دقته، لم يكن إلا نجاح دفاع هامشي عن النفس، لأنه صارع مظاهر الغزو وتمثلاته فقط. ورغم قزمية الإنتصار، فقد كان متطلبا وصعبا جدا. المقاومات هنا تنطبق على كل مثيلاتها المعاصرة. فيا ترى، هل سنتسابق مع الدولة في التخابر والقوة العسكرية وشراء الذمم وحبك الدسائس القانونية؟ أم سنتنافس في الدفاع عن معنى للدولة وضروراتها، ومعنى للسياسة وآدابها، ومعنى للمواطن والوطن؟.. وهذا بعيد عن اهتمامنا، للأسف. وهل سنعارض المؤسسات المالية العالمية برفض التجارة الدولية والعيش المشترك، أم في الدفاع عن المواطن الكوني وبناء الدمقراطية بين الدول وتكامل الإقتصادات؟ وإن نموذج مؤتمر القارات الثلاث الذي اشتغل عليه رعيل "بنبركة" وفكرة بنك الجنوب، لهما مثالين قويين للنضال على صعيد أممي.

حكام هذه الدول، يفضلون مفاوضة الدول العظمى على حدة. ويراهن كل منهم على حدة، على توطيد علاقاتهم إلى منتهاها مع وحوش العالم بالرغم من تفاهة الرهان. وفي المقابل يحرصون على نخر أي علاقة مع الجوار الضعيف أمثالهم، ويتم تبادل صداقة رخوة منافقة وعداوة صريحة جادة. ونحن إذ نعي سذاجة القادة وتلاعبهم بمصير الشعوب، لا أظن أننا نعيه حتى فينا. أسَرَّ لي رفيق ذات يوم بأن "معارك الأصدقاء أشد ضراوة من معارك الأعداء"، من أجل تفهم الإسبسال في المخاصمة بين أصدقاء الأمس، كما يقول. هذه العبارة لا ينبغي أن تكون من مقولاتنا بل ما يجب أن نحاربه فينا.

يفاوض القادة لبناء إتحادهم بروتينية غير جادة عكس جديتهم في بناء دولهم (دولة=غلبة) وتمتينها وتحصينها. ويتنافسون لإنماء أنفسهم بما يخضع الآخر ويجعله معتلا، وليس بما يسمح لمشاركة النماء. وذلك رهان بائس، هم على وعي به. لكن العداء المضمر أقوى وأفيد لهم من ذلك الرهان. لقد شيدت أروبا إتحادها، وأمريكا فدراليتها، ليس خضوعا صرفا لضرورات إقتصادية واستعمارية، بل تتويجا لديمقراطية طبقتها السائدة.

أما الطاغية الذي يستطيع التضحية بثلثي شعبه من أجل استفراده بالحكم، فلا يمكن أن يشارك الحكم من أجل ما يفوق أربعة أضعاف أخرى من شعبه وأرضه.

إذن فكل اللغط عن بؤس نيات الآخر وخسته، ليس صائبا. وإن قدرا من الديمقراطية الليبرالية، على الأقل، وحده يسمح بالتقدم والتعايش والإجتماع. أما دونه، فالرجعية دوما. الوعي بالضرورات يرسم الأهداف، لكن لا يُحققها. والأمراض لا يعزوها الأطباء إلى المحيط والخارج بل إلى المناعة، لذلك فهم يُقوون جسم الإنسان ومناعته، ولا يلومون موجة البرد و بكتيريا الخارج.

الحاكم يخاف دوما من شعبه، ولذلك يتستر عليهم بكواليس الدولة. وحتى لا تتفرد هذه الحجة فتُفضح، فالتستر "أساسا" على أعداء الخارج والجوار. وينفرد الحكام بقرارهم، أيضا، بمبرر سذاجة شعوبهم وغير أهليتهم، في الوقت الذي يصرون على هشاشة التعليم وصعوبة الوصول للمعلومة. هكذا تستطيع حتى أعفن السلط، التربع على عرش الزمان ما دامت الشعوب قابعة في الحِجر وبعيدة عن الثقافة العمومية في تفاصيلها وعمومياتها على السواء. وهذه عقبة لا تناهزها في التاريخ عقبة، لهول ضرورة تخطيها وصعوبتها. هذا قدَرُنا، فمن إختار المواجهة حقيقة، على الأقل، لا يتلصص منها كالنعامة. ولنقس ذلك على على علاقة المناضلين بقادة منظماتهم.

هذا القول لا نسقطه بتطابق، ولا نعني به مصالح الإقتصاد واستغلال الخيرات. إنما لعبر واضحة وهي: فشل إتحاد الشعوب يعزى لتماهيها مع قادتها، دون المراقبة والمحاسبة اللازمتين للقادة. يُعزى الفشل ابتداء من أي فرد من الشعوب، فلا يجب التعويل على حصافة الرأي العلني للقادة، ناهيك على كواليسها الغاشة. كان أمثل إتحاد ممكن، في مقاومات الشعوب وتنسيقها أكثر مما في ديبلوماسية حكامها. وإن الإستمرار في طريق مسدود ضياع لمجهودات الشعوب. وأي قيادة تخشى من شعبها وتتستر عليه هي أول المشكلة. فالوحدة العربية أو الإقليمية لشمال إيفريقيا، لن تمر بتعقل وإجتهاد الحكام، كما سارت قيادات أروبا.

يُقايض الحكامُ التنميةَ بإغفال سؤال الديمقراطية، والأمنَ بالتمسكِ الشديد بالإستبداد. هكذا تَرهن الشعوبُ مستقبلها بفقدِ سيادتها، في حين أن لا مستقبل لها إلا بفضل سيادتها وديمقراطيتها. لم يعد ممكنا التقدم في شيء دون الديمقراطية. إن الديمقراطية ليست هدفا لابأسَ بتأجيله، بل وسيلة ملحة لكل غاية حضارية.

لقد بَقيت هزيمة المقاومة أمام الإستعمار غصَّة في حلقنا. وبقي فشلها في توحيدِ شعوبٍ تشترك التاريخ والمصير، منغصا ومكدرا لصفوة التاريخ العريق لشمال إيفريقيا. ودون مجابهتنا لأسباب تلك الهزيمة، وفك لغز ذاك الفشل، لا يمكن أن نمارس السياسة إلا كتصريف أعمال هزيمة مستدامة.

لا أمل في تحرر أي شعب إلا بالتفوق الحضاري على "الخصم" (مثال روسيا السوفياتية، الصين الماوية، اليابان المستنجدة بالمعرفة التقنية). ولا يضمن نجاح التحرر والتمادي فيه، إلا بوحدة شعوب المنطقة، على الأقل، وتعاضدها(وسنرى في مأساة البلشفية كيف كان ذلك التعاضد مع الخارج المَخرجَ الوحيدَ من أزمة الإشتراكية). وإذا أمْكن إسقاطُ هذا القانون العام على حالتنا الأكثر خصوصية، فلا يمكن أن نضطلع ببديلٍ عن السائد إلا بالتفوق السياسي عليه، تفوقا صافيا. ولا يضمن هذا التفوق سوى التعاضد والتضامن العميق بين شخصيات النضال، على تعددها.

التماهي مع متسلطين أصيلين لا يقتضي مقاسمة نفس الوضع بل مقابلته. ولا يستدعي الوعي به، بل دونه وفي غفلة تامة عنه. إلى أي حد نختلف ونعارض هذه السياسات المستنزفة؟ نختلف عنه على نحو أكثر يمينية من الدولة. على الأقل هناك إنتخابات وديمقراطية سطحية، وهناك مؤسسات ودساتير وقوانين ونقاشات عمومية على الدولة وإختياراتها. إن هذا الإرث من التفاهة السياسية لحكام دول الشمال الإفريقي، هو أيضا إرثنا- نحن المعارضون، ونساهم في توفير البيئة الملائمة لإستمراره.

وإن قدرا معتبَرا من آرائنا ومواقفنا، لهو أشبه برجع صدى لما تلوكه ألسنة القادة الممتهنين للشعبوية. متى أتعبت المرء تلك الرطانة السياسية سهل نسيانها. فهي لا تشغل البال كثيرا وتسمح بإراحة الضمير ساعة التخلي عنها والإنطواء على الذات.

تتمثل الجدارة بالنقد في نقذ الذات بشراسة، إبان المعمعة وبعد أن تضع الحرب أوزارها. ففيه ينبلج الإقتدار على الخلق والظفر والإتيان ببديل في حال الوهد والسقط. أما الإطمئنان "الجاهلي" لأنموذج بديل مسبَق، مهما كان وجيها، فلا يولد غير عمى إديولوجي مطبِق. وهذا هو إدعاؤنا في هذا المسار التدقيقي المسائل. يتطلب الأمر وضوحا كافيا وتحديدات قاطعة، في نفس الآن. وتلك رحلة إنشائية حاولنا ما أمكن التعبير عنها، ولو في حدها الأدنى.
(يتبع)



#حسن_أوعثمان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجس في السياسة: نص مراجعة فكرية يسارية


المزيد.....




- رأي لفريد زكريا: الرئيس ترامب قادر على تحقيق اتفاق أفضل مع إ ...
- WSJ: مالكو العملات المشفرة يتعرضون للخطف والابتزاز بكثرة في ...
- -انهيار كامل-.. احتجاجات في جزر الكناري ضد السياحة الجماعية ...
- كيف نتعامل مع تدخلات الآخرين في قراراتنا وحياتنا الشخصية؟
- ضغوط دولية تدفع إسرائيل للموافقة على إدخال مساعدات إلى غزة
- ماسك يعرب عن تأييده لمؤسس -تلغرام-
- ترامب يطالب بالتحقيق في تسديد مبالغ كبيرة لمشاهير خلال حملة ...
- -الغارديان-: رئيس فنلندا حاول إقناع ترامب بأن روسيا لم تعد ق ...
- إصابة سائق حافلة في هجوم بمسيرة أوكرانية في مقاطعة بيلغورود ...
- الفواكه المجففة الأكثر فائدة لكبار السن


المزيد.....

- نعوم تشومسكي حول الاتحاد السوفيتي والاشتراكية: صراع الحقيقة ... / أحمد الجوهري
- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حسن أوعثمان - الهجس في السياسة: نص مراجعة فكرية يسارية