موسى بصراوي
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 00:12
المحور:
حقوق الانسان
كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن العدالة الانتقالية في سوريا، خاصة بعد تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية بمرسوم رئاسي. وتمثل هذه العدالة الانتقالية الشاملة ضرورة ملحة في سوريا، فهي ليست مجرد مصطلح أكاديمي، بل الطريق الوحيد نحو مستقبل يمكن أن يتعايش فيه السوريون بكرامة وسلام. هذه العدالة تسعى لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتضع الضحايا في قلب اهتمامها، وتهدف لتحقيق المساءلة والإنصاف.
المخاوف الحقيقية تكمن في احتمال تحول هذه العدالة في سوريا إلى عدالة انتقائية، تستهدف طرفاً وتتغاضى عن آخر. فالصراع السوري المعقد، الذي استمر لأكثر من عقد، شهد انتهاكات مروعة من جميع الأطراف، ولا يمكن لأي عملية عدالة أن تكون ذات مصداقية إذا لم تشمل الجميع. العدالة الانتقالية الحقيقية تتطلب نهجاً شاملاً يعترف بمعاناة جميع الضحايا، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية أو العرقية.
سجل الدم: توثيق الانتهاكات من جميع الأطراف
تشير التقارير الحقوقية الصادرة عن منظمات دولية إلى أن النظام السوري ارتكب انتهاكات واسعة النطاق، من استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة إلى التعذيب الممنهج في سجن صيدنايا، حيث وثقت منظمة العفو الدولية إعدام أكثر من 13 ألف معتقل بين عامي 2011 و 2015. كما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 15075 حالة وفاة تحت التعذيب على يد قوات النظام منذ آذار/مارس 2011 وحتى آذار 2024. وتقدر الأمم المتحدة بالتعاون مع منظمات حقوقية دولية عدد المعتقلين المغيبين قسرياً في سوريا بأكثر من 130 ألف معتقل. إلا أن مصير غالبيتهم مجهول تماماً. في حين تؤكد منظمات حقوقية محلية في سوريا وجود نحو 300 ألف معتقل، لقي عدد كبير منهم مصرعه تحت التعذيب.
وفي المقابل، ارتكبت فصائل المعارضة المسلحة أيضاً انتهاكات جسيمة، كمجازر قرى ريف اللاذقية التي استهدفت العلويين، ومجزرة عدرا، ومجزرة خان العسل. وقد شملت هذه الانتهاكات عمليات قتل خارج نطاق القانون، وتعذيب، واختطاف، وقصف عشوائي للمناطق المدنية. كما وثقت منظمات حقوقية انتهاكات ارتكبتها تنظيمات متطرفة كداعش وجبهة النصرة، شملت إعدامات ميدانية وفرض قوانين متشددة على المدنيين.
الأقليات في مرمى النار: العلويون والدروز ضحايا العنف الطائفي
ومما يثير القلق بشكل خاص أن الانتهاكات لم تتوقف حتى بعد 8 ديسمبر 2024، بل شهدت مناطق مختلفة من سوريا موجات جديدة من العنف. فقد وثقت منظمة العفو الدولية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 111 مدنياً في المنطقة الساحلية، ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 658 شخصا في اللاذقية، و384 في طرطوس و171 في حماة و12 في حمص، على يد الفصائل المسلحة وقوات الأمن العام التابعة للسلطة السورية الانتقالية، مع تأكيدات أن الرقم الفعلي أعلى بكثير. وشملت هذه الانتهاكات قتل العلويين على الهوية في عدة مناطق من الساحل السوري، في أعمال عنف طائفية مروعة تذكر بأسوأ فترات الصراع.
تعرضت الطائفة الدرزية أيضاً للقتل والانتهاكات في مناطق مختلفة، خاصة في السويداء وصحنايا وجرمانا. وشملت هذه الانتهاكات هجمات مسلحة على قرى درزية، وتهجير قسري، وتهديدات طائفية. وقد وثقت منظمات حقوقية تعرض مسلحين من أبناء الطائفة الدرزية لكمائن خلال توجههم لمساندة أبناء طائفتهم في صحنايا، مما أدى إلى سقوط ضحايا وتفاقم التوترات الطائفية في المنطقة.
وجوه العدالة المفقودة: حاتم أبو شقرا وشادي الويسي نموذجاً
ومن الحالات الفردية البارزة التي تستدعي المساءلة، قضية حاتم أبو شقرا (المعروف أيضاً باسم أحمد الهايس)، قائد فصيل "أحرار الشرقية"، المتهم بقتل السياسية الكردية هفرين خلف والتمثيل بجثتها. وقد أثار تعيينه قائداً للفرقة العسكرية 86 بدلاً من محاكمته موجة من الاستنكار والإدانات من منظمات حقوقية محلية ودولية، التي أكدت أن مكانه يجب أن يكون خلف القضبان وليس في المؤسسة العسكرية.
كذلك برزت قضية شادي الويسي، وزير العدل السابق، الذي ظهر في مقاطع فيديو وهو يشرف على إعدام امرأتين في ريف إدلب بتهمة الزنا. وقد أثارت هذه القضية موجة من الاستنكار والمطالبات بإقالته ومحاكمته، خاصة وأن الإعدام تم دون محاكمة عادلة ودون احترام للإجراءات القانونية الواجبة.
دروس من رواندا: عندما تنتصر العدالة على الانتقام
تقدم تجربة رواندا دروساً ثمينة في هذا السياق. فبعد الإبادة الجماعية عام 1994، التي راح ضحيتها نحو مليون شخص، واجهت رواندا تحدي محاسبة أكثر من 120 ألف شخص متهمين بالمشاركة في عمليات القتل. ورغم هذا التحدي الهائل، لم تتخذ رواندا من حجم الجناة أو هشاشة السلام مبرراً لتعطيل العدالة. بل اعتمدت على مزيج من آليات العدالة، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والمحاكم المحلية، ومحاكم "الجاكاكا" التقليدية.
محاكم الجاكاكا لعبت دوراً محورياً في تحقيق العدالة والمصالحة، حيث جمعت أفراد المجتمعات المحلية وأشركتهم في تحديد الوقائع وتأكيدها وتحقيق العدالة. هذه المحاكم، التي استندت إلى تقاليد محلية قديمة، مكنت المجتمعات من المشاركة في عملية العدالة، وساهمت في كشف الحقيقة، وتعزيز المساءلة، وتسهيل المصالحة.
الدرس الأهم من تجربة رواندا هو أن الإفلات من العقاب ليس خياراً أبداً، مهما كانت الظروف. وأن المساءلة والمصالحة ليستا متناقضتين، بل متكاملتين. وأن إشراك المجتمعات المحلية في عمليات العدالة أمر حيوي لنجاحها. كما أظهرت التجربة الرواندية أهمية الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق والاعتراف بالأخطاء الجسيمة التي عانوا منها.
نحو مستقبل عادل: خارطة طريق للعدالة الانتقالية في سوريا
لذلك، من الضروري أن تكون العدالة الانتقالية في سوريا شاملة، تطال جميع الأطراف والفصائل التي ارتكبت انتهاكات، دون استثناء. وأن تغطي جميع الفترات الزمنية، قبل وبعد 8 ديسمبر، وجميع أنواع الانتهاكات، بما في ذلك المجازر والتعذيب والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والقصف العشوائي والتهجير القسري. كما يجب أن تكون الهيئة العليا للعدالة الانتقالية في سوريا مستقلة وذات نزاهة، وأن تضم أشخاصاً مستقلين ومحايدين، بعيداً عن أي تأثير سياسي أو طائفي. فاستقلالية هذه الهيئة ونزاهتها شرط أساسي لنجاح عملية العدالة الانتقالية وكسب ثقة جميع الأطراف.
إن تحقيق العدالة الانتقالية الشاملة في سوريا ليس ترفاً، بل ضرورة حتمية لبناء مستقبل سلمي ومستقر. وهي ليست مجرد عملية قانونية، بل عملية اجتماعية وسياسية ونفسية معقدة، تهدف إلى شفاء جراح المجتمع وإعادة بناء الثقة بين مكوناته. وتتطلب هذه العملية التزاماً حقيقياً من جميع الأطراف بمبادئ العدالة والمساءلة والمصالحة، وإرادة سياسية قوية لمحاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات، مهما كان انتماؤهم.
العدالة الانتقالية الحقيقية هي التي تضمن عدم إفلات أي طرف من العقاب، وتحقق المصالحة الحقيقية في المجتمع، وتمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل، وتبني ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة الجديدة. وهذا ما يجب أن يسعى إليه الجميع، من أجل سوريا تنعم بالسلام والعدالة والكرامة لجميع أبنائها.
#موسى_بصراوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟