رأفت الغانم
الحوار المتمدن-العدد: 8341 - 2025 / 5 / 13 - 22:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لطالما تساءلتُ، كما يتساءل كثر من أبناء هذه المنطقة، عن السرّ وراء قدرة النظام السوري، القديم منه والجديد، على ممارسة الكذب والتكذيب علنًا، وبكل هذه اللامبالاة. لا يتعلق الأمر فقط بحادثة عرضية، أو خطاب إعلامي متوتر في لحظة أزمة، بل نحن إزاء ثقافة سياسية متكاملة الأركان، تُجيد الإنكار، وتتفنن في إعادة رواية الواقع بطريقة تتنكر لأبسط الوقائع وأوضح الحقائق.
لقد شهد السوريون طوال سنوات حكم النظام، ثم الثورة وما بعدها، ممارسات قمعية لا لبس فيها، من اعتقال وتعذيب وإخفاء قسري وقصف عشوائي، واستخدام الصواريخ الباليستية، وإبادة قرى كاملة، وتدمير أحياء وبلدات، إلى استخدام ممنهج للأسلحة الكيماوية، والذي تم توثيقه في أكثر من 120 هجومًا مؤكدًا بالسلاح الكيماوي، بشهادات أممية ومنظمات دولية مستقلة.
ومع ذلك، لم يتورع النظام لحظة عن نفي مسؤوليته. بل بلغ به الأمر أن يعكس السردية بالكامل، كما فعلت مستشارة الرئاسة بثينة شعبان، حين ادعت في مقابلة مع شبكة CNN أن الأطفال الذين قضوا في مجزرة الغوطة ليسوا من أبناء المنطقة، بل "أطفال علويون خطفهم الإسلاميون من الساحل السوري". لم تكتفِ بإسقاط التهمة، بل حمّلت الضحية المسؤولية، في مستوى من الإنكار يثير الذهول والأسى معًا.
حتى خرج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن أعراف الدبلوماسية الدولية، ووصف بشار الأسد بـ"الحيوان"، لم يكن ذلك فقط بسبب استخدام النظام للكيماوي، بل بسبب إصراره الوقح على نفي كل شيء، وابتذال الكذب بوصفه أداة سياسية، لا بل فضيلة عند الضرورة.
أبواق الإنكار المتعددة
من أبسط المسؤولين المحليين إلى ممثلي النظام الدبلوماسيين مثل بشار الجعفري إلى أبواقه الإعلامية كخالد العبود، الذي هتف ضده أبناء درعا "خالد عبود... كاذب"، وفوزي الشعيبي وآخرين، يتكرر الخطاب ذاته: إنكار الواقع، وعكس الحقائق، وتحويل القاتل إلى ضحية. لا وجود لمجزرة، لا استخدام للكيماوي، لا معتقلين. بل إن كل ما يحدث مجرد "مؤامرة" أو "فبركة إعلامية" أو "حرب كونية على سوريا الصامدة".
لكن الأهم من ذلك أن هذا الخطاب المريض ليس طارئًا ولا شخصيًا، بل هو جزء من بنية فكرية سياسية تمتد عقودًا، وتستند إلى إرث ثقيل من التلاعب الأيديولوجي واللغوي والرمزي، مارسته قوى سياسية وفكرية منذ ما قبل حكم الأسد الابن.
جذور الخطاب في الثقافة السياسية
لقد أسهمت قوى اليسار السوري بشكل عام، في صياغة خطاب سياسي أخفى تحته كل الحساسيات الطائفية والانقسامات العميقة، دون معالجتها. تم تجاهل البعد الروحي في الدين، واختزال المجتمعات إلى طبقات أو بنى اقتصادية، وتم إفراغ الهويات من سياقاتها لصالح "القراءة الثورية" المزعومة.
حين كان النظام الذي تجمع مراكز الدراسات والأبحاث وكذلك تقارير أجهزة المخابرات العالمية أنه نظام طائفي، حاول اليسار السوري، وعلى رأسهم يسار الطائفة العلوية، نفي بنية النظام الطائفية. ولكن حينما أسقطت النظام قوى إسلامية سنية واستلمت السلطة معلنة عن مرحلة انتقالية، قامت هذه القوى نفسها، واستحضرت الخطاب الطائفي دفعة واحدة، ليس لتحليل الإدارة الجديدة أو نقدها، بل لاستخدامه كسلاح اتهامي، وفزّاعة تُخيف بها الجمهور المؤيد له، وتُحمّله المسؤولية الجماعية عن كل ما جرى من انتهاكات.
هولت الأحداث وضخمت أعداد ضحايا الجرائم الطائفية التي حدثت في الساحل على يد فصائل منفلته، فبينما اكدت مصادر عديدة منها الشبكة السورية لحقوق الانسان ونيويورك تايمز أن عدد الضحايا في أحداث الساحل بلغ 1600 ضحية، بما فيهم الضحايا الذين قتلتهم فلول النظام. لكن هذا لم يمنع الكتاب الطائفيين المحرضين من الادعاء بأن الرقم بلغ عشرات الآلاف. وعلى الرغم من أن الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوروبي أقروا بأن هذه الاحداث كان سببها تمرد فلول النظام فإن الكتاب الطائفيين ينكرون هذا ويقارنون من يقر بها بتصديق روايات النظام السابق الكاذبة، مشبهين ما حدث في الساحل بما حدث في مدينة حماة، وأن الطليعة المقاتلة بالتالي هي السبب بردة الفعل، دون الأخذ بالاعتبار الفرق بين السياقين وأن الفلول هي عناصر ارتكبت الجرائم على مدار أربعة عشر عام سابقا وضد حكومة انتقالية لم تكمل شهرها الثاني، في حين قامت الطليعة المقاتلة بجرائمها ضد نظام مستقر قادم بانقلاب عسكري، يجلس على سدة حكمه حافظ الأسد منذ تسع سنوات.
عقب فشل تمر الفلول وحين لم تمر كذبة الإبادة الطائفية، واعتراف الحكومة الانتقالية بالانتهاكات وتشكيل لجنة تحقيق خاصة، راحوا يشككون في أعمال اللجنة قبل الاطلاع على نتائجها، ويبحثون في ماضي الأسماء على ما يعزز ذلك، ثم انتقلوا إلى كذبة آخرى عبر اتهام عناصر الإدارة الجديدة بخطف نساء علويات من الساحل السوري ونقلهن إلى إدلب، من دون أي دليل، أو إثبات واقعة واحدة، وإعادة تكرار هذه الرواية عبر الإعلام ووسائل التواصل، ليعيدوا الفعل الذي ينتمي إلى النسق نفسه، القديم المتجدد، من الإنكار والتزوير المتعمد. إنه خطاب لا يعترف بالواقع، بل يصنع واقعًا بديلاً، ينهل من السردية البائدة للنظام ويتقمصها حرفيا والمؤسف أن هذا التقمص يأتي من كتاب كانوا مناصرين للثورة.
الختام: كلفة الإنكار
الثمن الذي دفعه السوريون، ولا سيما الأغلبية المقهورة منهم، التي تعرّضت للإبادة تحت أنظار العلم طوال عقد ونصف، كبير جدا، واليوم يتابع الكتاب الطائفيون شيطنة الضحية وتجريمها، وزيادة الأضرار التي لحقت بها والتي لم تأتي فقط من الممارسات القمعية وحدها، بل أيضًا من هذا الخطاب الذي كان شريكا في صناعة عقيدة الإنكار الرسمية، والتطبيع مع الكذب وجعله أداة حُكم، واعتباره أن تزييف التاريخ استراتيجية للبقاء في السلطة.
إن الخروج من هذا النفق المظلم يتطلب تفكيكًا صريحًا لهذه البنية الذهنية الإنكارية الأكاذيبية الوقحة، القائمة على استباحة الضحية التي كانت لعقود هي الأكثرية، وإنكار الحقائق المتعلقة بالإجرام بحقها، وشيطنتها طائفيا واختلاق الأكاذيب بحقها وتكرارها بشكل مستمر من نخبة ثقافية طائفية تعرف ما تكتب وتعرف أهدافها.، وفضحها وتجريمها وإقصاء خطابها على غرار ما حدث مع النخبة النازية في أوروبا بعد هزيمة نظامها.
#رأفت_الغانم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟