زياد الماجري
الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 17:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
على الرغم من التطور غير المسبوق في أدوات التحليل الاجتماعي خلال العقود الأخيرة – بدءًا من النماذج الإحصائية التقليدية وصولًا إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي – تظل دقة التنبؤات الاجتماعية محدودةً بشكلٍ لافت. يُثير هذا التناقض بين التقدم التكنولوجي والفشل التنبؤي تساؤلًا جوهريًا: هل يعكس هذا القصورُ نقصًا في المنهجيات، أم يكشف عن طبيعةٍ جوهريةٍ للمجتمعات الإنسانية ترفض الخضوعَ للقوانين الحتمية؟ تشير الأدبيات العلمية الحديثة إلى أن الإجابة تكمن في الاحتمال الثاني، حيث تُظهر المجتمعاتُ الحضريةُ الكبرى – بتركيبتها السكانية المتشعبة وتفاعلاتها غير الخطية – حساسيةً عاليةً للشروط الأولية، مما يجعلها أنظمةً ديناميكيةً عصيةً على الترويض الرياضي.
من هذا المنطلق، تُصنَّف المجتمعات البشرية ضمن الأنظمة المعقدة التكيفية (Complex Adaptive Systems)، التي تتميز بثلاث سمات رئيسية تتحدى المنطقَ التنبؤي التقليدي:
• اللاخطية: حيث لا تتناسب النتائجُ مع المدخلات بالضرورة، فحدثٌ بسيطٌ مثل منشورٍ على وسائل التواصل قد يُحدث تأثيرًا مضاعفًا يفوق توقعات أي نموذج.
• الظهورية: تنبثق خصائصُ النظام الكلي من تفاعلات عناصره الفرعية بطرقٍ غير قابلةٍ للاختزال، فسلوكُ الحشودِ لا يُفسَّر بجمع سلوكيات الأفراد.
• الحساسية المفرطة للشروط الأولية: وهي سمةٌ تشترك فيها مع الأنظمة الفوضوية، حيث تُحدث تغيراتٌ طفيفةٌ في البداياتِ تحولاتٍ جذريةً في النتائج. في هذا الصدد، يرى علماء الاجتماع الحسابي أن هذا التعقيدَ ثلاثي الطبقات – تعقيد المكونات، والتفاعلات، والسياق – يشكل حاجزًا منهجيًا أمام أي محاولةٍ لنمذجة المجتمعات بدقة.
لتوضيح هذه الإشكالية، تقدم الأمثلةُ الواقعيةُ دليلًا ملموسًا على التناقض بين النظرية والتطبيق. ففي ذروة جائحة كوفيد-19، كشفت دراسةٌ نُشرت في دورية *ساينس* عن تحديّاتٍ جوهريةٍ في نمذجة انتشار الفيروس في المدن الكبرى. بينما افترضت النماذجُ الرياضيةُ اعتمادَ الانتشارِ على العوامل الوبائية وحدها، أظهرت البياناتُ أن 86% من الإصابات المبكرة في نيويورك نتجت عن عدوى غير مُبلَّغ عنها، مما أدى إلى تفشٍّ أسرعَ بمرتين من التوقعات (1). الأهم من ذلك، أن التفاعلات الاجتماعية غير الرسمية (مثل التجمعات العائلية) لعبت دورًا حاسمًا في تعقيد النمذجة، إذ يصعب رصدُها كميًا مقارنةً بالبيانات الرسمية.
في سياقٍ متصل، يكشف تحليلٌ طويل الأمد لأداء 284 خبيرًا سياسيًا عن مفارقةٍ مثيرة: لم تتجاوز دقةُ تنبؤاتهم في الأحداث الكبرى – مثل الانتخابات الرئاسية أو التحولات الجيوسياسية – 47%، وهي نسبةٌ تكادُ تطابق التخمين العشوائي (2). بلغ الفشلُ ذروتَه في أحداثٍ مثل استفتاء بريكست 2016 وثورات الربيع العربي، حيث فشلت جميعُ التوقعاتِ التقليديةِ رغم توفر البيانات الضخمة. تُعزى هذه النتائجُ إلى ثلاث آلياتٍ معرفيةٍ معيبة: تحيز التأكيد (Confirmation Bias)، والإفراطُ في الاعتماد على الأنماط التاريخية، وعجزُ الخبراء عن تمييز الإشارات الضعيفة في الضجيج الاجتماعي. المفارقة الأكثر إثارةً أن النماذجَ الجماعيةَ (كأسواق التنبؤ) تفوقت بشكلٍ ملحوظٍ على الخبراء الأفراد، مما يُشير إلى أن الحكمةَ الجماعيةَ قد تكونُ أداةً أفضلَ لفهم التعقيد الاجتماعي.
في مجالٍ آخر، يقدم بحثٌ رائدٌ نُشر في *ساينس* دليلًا تجريبيًا على ظاهرة النقاط الحرجة الاجتماعية. من خلال تجارب محكمة على منصات رقمية، وجد الباحثون أن التحولات الثقافية (مثل تغيير أعراف التسمية) تنتشر بشكلٍ مفاجئٍ عندما يصل الداعمون للفكرة إلى عتبة 25% من المجتمع (3). هذه النتيجةُ تتوافق مع نماذج الانتقال الطوري (Phase Transition) في الفيزياء، حيث تؤدي التراكماتُ الكميةُ إلى قفزاتٍ كيفيةٍ غير متوقعة. تطبيقيًا، يفسر هذا النموذجُ كيف انتقلت حركة #MeToo من الهامش إلى التيار الرئيسي خلال أشهر قليلة، متحديةً جميع التوقعات البطيئة.
تتفق هذه الأدلةُ على ثلاث سماتٍ جوهريةٍ للمجتمعات المعقدة:
- اللاتحديدية الجوهرية التي تجعل عدمَ التنبؤ خاصيةً نظاميةً لا قصورًا منهجيًا.
- الديناميكيات غير الخطية التي تحوّل التراكماتِ الكميةَ إلى قفزاتٍكيفيةٍ مفاجئة.
- حساسية السياق التي تجعل نفسَ المدخلاتِ تنتجُ مخرجاتٍ متباينةً في أزمنةٍ أو أماكنَ مختلفة.
في ضوء هذه النتائج، يبرز سؤالٌ منهجيٌّ حول جدوى السعي للتنبؤ الدقيق. بدلًا من ذلك، يقترح علماءُ الاجتماع الحسابي التحولَ إلى نمذجة السيناريوهات التي تستكشف مساراتٍ محتملةً، وقياسَ مرونة الأنظمة أمام الصدمات، ودمجَ مناهجِ العلوم المعقدة – مثل نظرية الشبكات – في صلب التحليل الاجتماعي.
كما يلخص دنكان واتس هذه الإشكاليةَ بقوله: المجتمعات ليست آلات، بل أنظمة حية ترفض التبسيط (4). يبقى السؤالُ الأعمق: إذا كانت هذه الأنظمةُ الحيةُ بهذا التعقيد، فكيف نفسرُ الظواهرَ المدهشةَ لانتشار الأفكار المتزامن عبر القارات؟ الإجابةُ قد تكمن في تشابكٍ اجتماعيٍّ يشبه – في غرابته – ظواهرَ العالم الكمومي، حيث تتفاعل العناصرُ البعيدةُ بطرقٍ غير مرئيةٍ لتوليد أنماطٍ عالمية. هذا التشابكُ المعقّدُ يجدُ صداه في ديناميكيات المدن الحديثة، التي تُقدِّمُ نموذجًا حيًّا لنظرية الفوضى وأثرها في تحويل التفاصيل التافهة إلى تحولات جذرية.
ففي عالمٍ تزداد فيه المدن تعقيدًا، تبرز نظرية الفوضى كعدسةٍ لفهم التفاعلات غير المتوقعة بين مكوناتها. تُشبّه هذه النظرية المدنَ بأنظمة ديناميكية غير خطية، حيث تُنتج التغييرات الصغيرة – كتغريدة عابرة أو إغلاق مفاجئ لمحطة مترو – سلسلةً من التبعات المتضخمة، وهو ما يُعرف بـ أثر الفراشة. يسعى هذا التحليل إلى كشف الآليةَ التي تتحولُ بها التفاصيلُ اليوميةُ العابرةُ إلى محركاتٍ للتغيير الجذري في الحضر، مُستلهمًا التشابكَ بين السلوكيات الفردية والظواهر الجماعية الذي أشار إليه واتس.
تشبه المدن الكبرى كائنًا حيًّا تتداخل فيه المكونات المادية مع الشبكات الاجتماعية. هذا التشابك – كما تصفه جين جاكوبز (5) – يجعلها أنظمةً مفتوحةً قابلة للتأثر بأدق التفاصيل. على سبيل المثال، قد يَنتُج عن تغيير مسار حافلة زيادةٌ في معدلات التلوث بحي مجاور، ليس بسبب الحافلة ذاتها، بل بسبب اختلال التوازن في توزيع الحركة. هذه الحساسية المفرطة للشروط الأولية هي جوهر نظرية الفوضى، التي تُعيد تعريف علاقتنا بالتحولات الحضرية.
في سياق تحليل التفاعل بين المكونات الحضرية، تبرز الوسائط الرقمية كعاملٍ محوري في تعبئة الحركات الاجتماعية. وفقًا لدراسة أجراها Chen وMace (5) بمركز ميت للتقنية المدنية، تسهم المنشورات على منصات كتويتر في تسريع انتشار الاحتجاجات عبر شبكات مغلقة، حيث تُحوّل التفاعلات الصغيرة إلى حركاتٍ واسعة. يُلاحظ مثلًا أن تداول خرائط تجمعات احتجاجية عبر مجموعات محلية أدى إلى تضاعف المشاركة خلال أيام قليلة. في هذه الحالة، لم يكن المحتوى بذاته محركًا رئيسيًا، بل السياق الاجتماعي المشحون بتوترات متراكمة، مما حوّل منشورًا عاديًا إلى عامل تفجيرٍ لتحولات جذرية. يُعرف هذا النمط بـ "الانتشار الأسي"، الذي يُظهر أن العلاقة السببية في المدن لا تخضع لمنطق خطي، بل تشبه موجاتٍ تتعاظم مع كل طبقة تفاعلية.
من جهةٍ أخرى، تكشف الاضطرابات في البنية التحتية عن تشابكٍ عميق بين العوامل المادية والاقتصادية. خلال إضراب مترو لندن عام 2014، رصدت دراسة Bowers وJohnson (6) ارتفاعًا ملحوظًا في جرائم السرقة بمناطق بعيدة عن مسار الإضراب. يعود السبب إلى الانزياح غير المتوقع لتدفقات المشاة نحو مناطق أقل أمانًا، مما عطّل آلية "المراقبة الطبيعية" الناتجة عن وجود الجمهور. تُبرز هذه الحالة كيف تُنتج التغييرات الطفيفة – حتى المؤقتة – سلسلة تأثيرات تُعيد تشكيل النظام الحضري، وهو ما يُطلق عليه في نظريات الفوضى "التأثير التموجي".
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليشهد الاقتصادات هشاشةً غير متوقعة. عند إلغاء "مهرجان فاير" السياحي في جزر البهاما، كشف بحث لـ Baptista et al. (7) عن خسائر تجاوزت 50 مليون دولار، لم تنتج عن الحدث نفسه، بل عن التفاعل المتسلسل بين تدهور البيئة وانهيار الثقة السياحية. يُظهر "تأثير الدومينو" هنا كيف تتفاعل الصدمات الصغيرة مع الثغرات الهيكلية لتوليد أزماتٍ تفوق حجم المسبب الأصلي، خاصة في الاقتصادات أحادية القطاع.
تجتمع هذه النماذج – الاجتماعية والمادية والاقتصادية – لتؤكد أن إدارة المدن تستلزم رؤيةً غير تقليدية للسببية. فبدلًا من التركيز على علاقات خطية بسيطة، يتطلب الأمر تتبع الشبكات المعقدة التي تربط الأحداث. لا يعني هذا قبول العشوائية، بل تبني استراتيجيات كـ "المرونة التكيفية". على ذلك، يمكن لمراقبة البيانات لحظيًا أن تنذر بذروات النشاط الرقمي المرتبط باحتجاجات محتملة، بينما يُقلل تنويع البنى التحتية والاقتصادات من الاعتماد على مساراتٍ هشة.
في هذا الإطار، تكتسب مقولة جين جاكوبز حول تحويل الاضطرابات إلى طاقة إبداعية أهميةً عملية. فالفوضى – بحسب هذا المنظور – ليست عيبًا يُستبعد، بل سمةٌ حيوية في نسيج المدن. إن فهم هذا التعقيد يُصبح ضرورةً لصنع سياساتٍ تتعايش مع عدم اليقين، وتحوّل هشاشة الأنظمة إلى فرص للتجديد.
عند دراسة التشابكات الاجتماعية المعاصرة، تظهر الأفكار كتياراتٍ تنتقل عبر شبكات خفية دون اتصال مباشر. يصف مالكولم غلادويل هذه الآلية بقوله: "تنتشر الثقافة كالعدوى، لكن من المستحيل تحديد نقطة البداية" (8)، مما يعكس طبيعة التفاعلات غير المتوقعة بين أفرادٍ قد لا تجمعهم سوى روابط هشة. لتوضيح هذا التشابك، تقدم ثلاث حالات رؤىً حول انتقال الأفكار عبر المسافات:
أولها دراسة دان سينتولا وفريقه (9) حول انتشار ممارسة اليوجا في مدن أمريكية متباعدة. خلافًا للتوقعات، لم تكن الحملات التسويقية سبب الانتشار، بل مجموعات صغيرة مرتبطة عبر منصات كـ Meetup. فورشة محلية في بوسطن، مثلًا، انتقل تأثيرها إلى سان فرانسيسكو وشيكاغو عبر مشاركة صور في منصات افتراضية، مستفيدةً من "روابط ضعيفة" بين شبكات مختلفة. يعكس هذا الانتشار نظرية "العالم الصغير"، التي تسمح للأفكار بالقفز عبر مسافاتٍ شاسعة عبر نقاط تماس طفيفة.
ثانيًا، يُظهر تحليل جاكسون et al. (10) لحركتي Black Lives Matter وEndSARS تشابهًا تنظيميًا لافتًا رغم انفصالهما الجغرافي. يعزو الباحثون هذا إلى "السرديات الرقمية" المشتركة عبر منصات كتويتر، حيث أعادت صور الاعتداءات العنصرية في الولايات المتحدة إحياء ذاكرة العنف الشرطي في نيجيريا، مما دفع نشطاء EndSARS لتبني تكتيكات مماثلة. هنا، يصبح المحتوى الرقمي جسرًا عابرًا للحدود، مُشكّلًا لغة بصرية وعاطفية موحدة.
في سياق التشابك بين العوامل الزمنية والرقمية، تُظهر دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Media Lab) عام 2019 (11) انتشار "التريندات" على تويتر عبر مدن كبرى كإسطنبول وسيول ومكسيكو سيتي. وفقًا للبحث المنشور في مجلة *Science Advances*، فإن 55% من هذه الظواهر الرقمية تظهر في ثلاث مدن متباعدة على الأقل خلال 24 ساعة، لا بسبب التشابه الثقافي، بل نتيجة تداخل المناطق الزمنية وذروات نشاط المستخدمين. على سبيل المثال، قد يبدأ هاشتاغ في الصباح الباكر بإسطنبول، ثم ينتقل إلى مكسيكو سيتي مع ذروة مشاركة المستخدمين هناك. تُفسَّر هذه الآلية بأن المدن الكبرى تعمل كعُقد رئيسية (Hubs) في الشبكة العالمية، حيث يُسهّل اتصالها نقلَ المحتوى عبر القارات. الجدير بالذكر أن الانتشار لا يعتمد على جودة المحتوى، بل على التزامن بين أنماط الاستخدام البشري والبنية التحتية الرقمية، مما يعني أن أفكارًا عابرة قد تتحول إلى ظواهر عالمية بفضل التوقيت والموقع المناسبين.
بناءً على ذلك، تُبرز هذه التحليلات نظامًا خفيًّا يحكم التشابك الاجتماعي، حيث تنتقل الأفكار عبر روابط هامشية، وتتكاثر عبر سرديات رقمية عابرة للحدود، وتتسارع عبر عُقد حضرية تعمل كجسور للمعارف. هذا التفاعل بين المادي والافتراضي يُعيد تشكيل مفهوم المجتمع، حيث تصبح العضوية فيه مرتبطة بالمشاركة في تدفقات الأفكار أكثر من التواجد الجغرافي. أمام هذه الديناميكيات، يبرز سؤالٌ حول إمكانية توظيف السياسات العامة لهذه الآليات الخفية لتعزيز التماسك الاجتماعي، بدلًا من تفكيكه.
على صعيدٍ أوسع، تشبه التحولات المجتمعية المفاجئة ظاهرة "النفق الكمومي" في الفيزياء، حيث تتخطى المجتمعات عوائقَ تبدو مستحيلة عبر قفزات غير متوقعة. تؤكد ثيدا سكوكبول أن التغيير الجذري يحدث عندما "تُحاصر النخب بتحالفات غير متوقعة" (12)، وهو ما تُظهره ثلاث حالات معاصرة: الانفتاح الاجتماعي السريع في السعودية، وثورة العمل عن بُعد في الغرب، والقفزة النوعية في قبول المثلية بكوريا الجنوبية.
في يونيو 2018، مثل قرار رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة في السعودية تحولًا مفاجئًا بعد عقود من الجمود. تشير دراسة معهد بروكينجز (13) إلى أن هذا القرار نتج عن تحالف غير مسبوق بين النخبة الحاكمة والضرورات الاقتصادية، خاصة مع تراجع عائدات النفط واشتداد المنافسة الإقليمية. هنا، تحوّلت قيادة السيارة من قضية رمزية إلى خطوة عملية لتمكين المرأة اقتصاديًّا، تماشيًا مع أهداف "رؤية 2030" لرفع مشاركتها في سوق العمل. نفذت السلطات القرار خلال أشهر قليلة رغم المعارضة، مما يعكس تحول النخب نحو تجاوز الحواجز الثقافية تحت ضغوط اقتصادية خارجية.
من ناحية أخرى، شهد الغرب تحولًا جذريًا في ثقافة العمل خلال جائحة كوفيد-19. وفقًا لبحث نشره المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER) (14)، قفزت نسبة الأمريكيين العاملين عن بُعد من 7% إلى 42% بين 2020 و2021. لم يحدث هذا بسبب اقتناع الشركات فجأةً بفعالية النموذج، بل نتيجة تحالف غير متوقع بين العمال والتكنولوجيا والتهديد الصحي. فالجائحة كسرت حلقة مقاومة الشركات، بينما منحت المنصات الرقمية (مثل زوم) العمال قوة تفاوضية غير مسبوقة، مما أدى إلى إعادة تعريف مفهوم "المكتب" كليًّا.
في سياق تحليل الفجوة بين التنبؤات والواقع، تُظهر البيانات الحديثة محدوديةَ النماذج القائمة على البيانات الضخمة في استيعاب التعقيد البشري. تؤكد شيري توركل أن "البيانات تُخبرنا أين كنا، لكنها لا تكشف أين سنذهب" (15)، وهو تنبيهٌ يُلقي الضوء على ثلاثة تحديات جوهرية: تأثير المحادثات غير المرئية على قرارات المستهلكين، وإخفاق تحليلات التواصل الاجتماعي في توقع تحركات الأسواق المالية، وتقلبات الناخبين العاطفية عشية الانتخابات.
بدايةً، تكشف دراسة نُشرت في *Journal of Consumer Research* (16) أن 73% من قرارات الشراء تتشكل عبر محادثات خاصة على تطبيقات كواتساب أو تلغرام، بعيدًا عن رادارات النماذج التنبؤية التقليدية. فبينما تتعقب هذه النماذج سلوك التصفح وعمليات البحث، تفشل في رصد المناقشات المغلقة التي تُغيّر المشاعر تجاه العلامات التجارية. على سبيل المثال، قد يُظهر فرد اهتمامًا بسيارة كهربائية عبر بحثٍ على جوجل، لكن قراره النهائي يتأثر بتجربة سلبية يشاركها صديقٌ عبر رسالة خاصة. هكذا، يصبح جزءٌ حاسم من "نية الشراء" غير مرئيٍ للتحليلات، مما يحوّل التنبؤات إلى عملية ناقصة تشبه جمع أجزاء من أحجية مفقودة.
من ناحيةٍ أخرى، يُبرز بحثٌ لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Sloan Management Review) (17) فشلَ البيانات الاجتماعية في تحسين تنبؤات الأسواق المالية بشكلٍ جذري. فعند دمج منشورات تويتر وريديت في النماذج، لم تتجاوز نسبة التحسن 18%، رغم الادعاءات بفعالية الذكاء الاصطناعي في قراءة "مزاج السوق". يعود هذا إلى طبيعة البيانات الضخمة كضوضاء غير قابلة للفك: فمنشورًا عن شركة قد يجمع بين الإعجاب بمنتجاتها والسخرية من إدارتها، دون مؤشرات واضحة للتمييز. بل إن الاعتماد على معلومات زائفة قد يُضخم التوجهات الخاطئة، مما يحوّل البيانات إلى مرآة مشوّهة تعكس جزءًا يسيرًا من الحقيقة.
في الإطار السياسي، تُظهر بيانات مركز بيو للأبحاث (18) أن 52% من الناخبين الأمريكيين يغيرون آراءهم قبل أيام من الانتخابات، غالبًا تحت تأثير عوامل عاطفية كالخوف من العزلة الاجتماعية. هنا، تفشل استطلاعات الرأي في قياس "الخجل الاجتماعي" أو الرغبة في الانتماء إلى الأغلبية، خاصة مع تأثير نشر التوقعات نفسها على سلوك الناخبين. فالبعض قد يُعدل اختياره كي لا يُنظر إليه كطرفٍ منعزل، مما يجعل التنبؤات أداةً تُغيّر الواقع الذي تحاول قياسه، بدلًا من تفسيره.
في سياق التطورات المنهجية التي تشهدها العلوم الاجتماعية، أصبحت الاستعانة بأدواتٍ من حقولٍ مثل الفيزياء وعلوم البيانات حجرَ زاويةٍ في فهم التعقيد البشري. لم يعد هذا التقاطع المعرفي مجرد استعارة، بل تحول إلى منهجيةٍ قائمة تُحلل الظواهر الاجتماعية عبر عدسةٍ رياضيةٍ دقيقة، مستبدلةً الاعتمادَ التقليدي على الاستبيانات بتحليلاتٍ كميةٍ تعتمد على البيانات الضخمة. هذا التحول جاء استجابةً لطبيعة المجتمعات الحديثة شديدة التشابك، والتي تتطلب أدواتٍ قادرةً على رصد التفاعلات غير الخطية.
من أبرز مظاهر هذا التحول، تطبيقُ نماذج مستوحاة من ميكانيكا الكم لفهم السلوك البشري. ففي دراسةٍ نُشرت بمجلة *Psychological Review* (19)، استخدم الباحثان بوثوس وبوسماير نظريةَ الاحتمال الكمي لتحليل تناقضات القرارات الاجتماعية. أظهرت النتائج أن هذه النماذج قادرةٌ على تفسير تغيرات التفضيلات حسب السياق، مثل تأثر الآراء السياسية بطريقة طرح الأسئلة، بشكلٍ يفوق النظريات الكلاسيكية. يتجاوز هذا المنهج الفردَ إلى مستوى الجماعات، حيث يُسهم في فهم ظواهر كانتشار الشائعات أو تشكُل الرأي العام عبر تفاعلاتٍ غير متوقعة.
في سياقٍ متصل، حققت نماذجُ التعلم الآلي قفزاتٍ نوعيةً في تحليل البيانات السلوكية للتنبؤ بالأحداث الاجتماعية. كشفت دراسةٌ في *EPJ Data Science* (20) إمكانيةَ استخدام بيانات الهاتف المحمول ووسائل التواصل للتنبؤ بالاضطرابات المدنية قبل وقوعها. اعتمد الباحثون على رصد أنماط الحركة عبر الـ GPS وزيادة النشاط الرقمي، حيث وصلت دقة التنبؤات إلى 82% عند ربط التغيرات المفاجئة في الحركة باستخدام كلماتٍ محددة على تويتر. تُبرز هذه النتائج قيمةَ البيانات السلوكية الفعلية في تجاوز محدودية الاستبيانات التقليدية، مع تطبيقاتٍ عمليةٍ في إدارة الأزمات.
على مستوى أوسع، أتاحت تحليلاتُ الشبكات المعقدة فهماً جديداً للترابط العالمي بين المدن. دراسةٌ نُشرت في *Nature Communications* (21) استخدمت بيانات النقل الجوي والاتصالات لتكشف أن مدنًا كنيويورك وطوكيو ترتبط بعلاقاتٍ تشبه تفاعلات الجيرة في المدن الصغيرة، رغم بعدها الجغرافي. هذه الرؤية الكمية تُعيد تعريف مفهوم "المجتمع" ليشمل شبكاتٍ عابرةً للحدود، مما يفتح آفاقًا لدراسة انتشار الثقافات أو انتقال الأزمات الاقتصادية.
في ضوء هذه التحولات، تُعيد العلوم الاجتماعية صياغةَ منهجياتها لدمج الأدوات الكمية مع الرؤى النوعية. كما يذكر أليكس ساندريت بينتْلاند: "لم يعد فهم المجتمعات حكرًا على المنظورات الوصفية" (22)، بل أصبح مزيجًا من تحليل التدفقات البياناتية والفهم العميق للسياقات الإنسانية حيث يطرح الناقدون تساؤلاتٌ جوهرية حول قدرة النماذج الرياضية على استيعاب التعقيد البشري. ففي دراسةٍ حديثة بمجلة *Nature Computational Science* (23)، حلل الباحثون أسباب فشل 72% من النماذج القائمة على البيانات في التنبؤ بسلوك المجموعات خلال الأزمات. يرجع هذا الفشل إلى اختزال السلوك البشري في معادلاتٍ خطية، بينما يشبه الواقعُ لعبةَ شطرنجٍ ديناميكيةٍ تتغير قواعدها باستمرار. على سبيل المثال، تعجز النماذج عن رصد اللحظة التي تتحول فيها فكرةٌ رقميةٌ إلى حركةٍ جماهيرية، بسبب الطبيعة "الانفجارية" للتفاعلات البشرية التي تفلت من الإطار الرقمي.
في سياق الانتقال من تحليل المجموعات إلى مستوى المدن، تتعقد التحديات بشكلٍ لافت. وفقًا لبحثٍ نُشرت في *Journal of The Royal Society Interface* (24)، تفشل النماذج التنبؤية التي تنجح في المناطق الريفية عند تطبيقها على مدنٍ كبرى مثل مكسيكو سيتي. لا يعود السبب إلى حجم البيانات فحسب، بل إلى التشابك غير المسبوق بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تُشكّل النسيج الحضري. هنا، تتحول مهمة النمذجة إلى إشكاليةٍ منهجية: كيف يمكن عزل تأثير الإعلام المحلي على قرارات الأفراد، أو دور الروابط العائلية في تشكيل أنماط التنقل؟ تذهب الدراسة إلى أن محاولة اختزال المدينة في معادلاتٍ رقمية قد يُفقدها جوهرَها ككائنٍ حي، حيث تظهر التفاعلات اليومية – التي تعجز الخوارزميات عن تتبعها – كعصبٍ رئيسي لديناميكيتها.
من ناحية أخرى، تُظهر الأزمات العالمية مثل الحروب والأوبئة هشاشةَ النماذج التنبؤية أمام الفوضى المنظمة. دراسةٌ في *Proceedings of the National Academy of Sciences* (25) استخدمت نظرية الفوضى لتحليل تفاعلات الأزمات العابرة للحدود، وكشفت أن 85% من هذه التفاعلات غير خطية، أي أن آثارها تتضخم بشكلٍ متفجرٍ بدلًا من التراكم التدريجي. خلال جائحة كوفيد-19، مثلًا، توقعت النماذج الاقتصادية نقصَ السلع، لكنها فشلت في رصد تحول الأزمة اللوجستية إلى موجاتٍ من الاضطرابات الاجتماعية وفقدان الثقة في الحكومات. تُؤكد هذه الحالة أن الفوضى في النظم الاجتماعية ليست شذوذًا، بل آليةً جوهريةً تُعاد صياغتها عبر تفاعلاتٍ لا متناهية بين الأفراد والمؤسسات.
في هذا الإطار، يبرز تناقضٌ جوهري: كلما تطورت أدوات فهم المجتمعات، اتسعت الفجوة بين التنبؤات والواقع. كما يلخص إيمانويل والرشتاين: "التاريخ هو سجل لحظات اللايقين التي هزت الأنظمة الاجتماعية" (26). لا يعني هذا التخلي عن النماذج الرياضية، بل تبني منهجيةٍ تعترف بأنها تعكس جزءًا من الحقيقة، بينما يظل التعقيدُ البشري يحتفظ بمناطقَ ظلٍ لا تُضاء إلا عبر السرد الإنساني. فالمستقبل، رغم تطوّر الأدوات، سيستمر في تحدي الحدود بين الواقع ومرآته الرقمية.
في قلب التحولات الجذرية التي تعصف بالمجتمعات الحديثة، تبرز حقيقةٌ مفادها أن طبيعتها تشبه - إلى حدٍ مدهش - قوانين فيزياء الكم: فكما تتصف الجسيمات باللايقين وازدواجية الموجة/الجسيم، تتحرك المجتمعات في فضاءٍ من الاحتمالات المتشابكة، حيث التقلبات السريعة والحساسية المفرطة للشروط الأولية. سواءٌ أكان السبب تعقيدَ التفاعلات الحضرية، أم قصورَ الأدوات التحليلية عن ملاحقة السرعة الهائلة للتغير، فإن المجتمعات الحديثة تفرض واقعًا جديدًا تُصبح فيه "الفوضى المنظمة" قانونًا أساسيًا، واللايقينُ مكونًا جوهريًا في حمضها الاجتماعي.
هذه الديناميكية تجعل من المستحيل اختزال المجتمعات إلى معادلاتٍ خطية، أو نماذجَ تنبؤية مغلقة. فكما أشار والرشتاين (26)، التاريخُ ليس سجلًا لمسارٍ محتوم، بل حقلًا لـ "القفزات الكمومية" الاجتماعية التي تعيد تشكيل الأنظمة بلمحةٍ عين. هنا، تصبح المرونةُ في التعامل مع التقلبات ضرورةً وجودية، سواءٌ عبر تبني سياساتٍ قادرة على استيعاب المفاجآت، أو عبر تطوير منهجياتٍ بحثية تجمع بين دقة البيانات وعمق السرد الإنساني.
في هذا السياق، قد تكون الإجابة عن سؤال "كيف نفهم ما لا يمكن توقعه؟" ليست في ابتكار أدواتٍ أكثر تعقيدًا، بل في التواضع المعرفي. فكما أن فيزياء الكم علمتنا أن الرصد نفسه يغير من طبيعة الظاهرة، فإن دراسة المجتمعات تتطلب اعترافًا بأن أدوات التحليل – مهما بلغت ذكاءها – تظل جزءًا من النظام الذي تحاول فهمه. المستقبلُ، بهذا المعنى، ليس لغزًا يجب حله، بل مساحةٌ من الإمكانيات التي تُعيد فيها المجتمعات اختراع نفسها، بعيدًا عن أي مرآةٍ رقمية تحاول تجميدَ حركتها الحيوية.
المراجع:
1. Li, R. et al. (2020). "Substantial undocumented infection facilitates the rapid dissemination of novel coronavirus (SARS-CoV-2)". Science, 368(6490), 489-493.
2. Tetlock, P. E. (2005). Expert Political Judgment: How Good Is It? How Can We Know?. Princeton University Press.
3. Centola, D. et al. (2018). "Experimental evidence for tipping points in social convention". Science, 360(6393), 1116-1119.
4. Watts, D. J. (2003). Six Degrees: The Science of a Connected Age. W.W. Norton & Company.
5. Chen, X., & Mace, R. (2018). Social Media Mobilization: The Role of Digital Networks in Protest Movements. MIT Center for Civic Media.
6. Bowers, K. J., & Johnson, S. D. (2016). The Effects of Public Transport Strikes on Crime Patterns: A Case Study of London. Journal of Transport Geography, 52, 1–10.
7. Baptista, A., Silva, J., & Fernandes, C. (2019). The Economic Impact of Festival Tourism Failures: Lessons from the Fyre Festival. Tourism Management Perspectives, 32, 1–12.
8. Jacobs, J. (1961). The Death and Life of Great American Cities. Random House.
9. Gladwell, M. (2000). The Tipping Point: How Little Things Can Make a Big Difference. Little, Brown and Company.
10. Centola, D., et al. (2018). Experimental evidence for tipping points in social convention. Science, 360(6393), 1116-1119.
11. Jackson, S. J., et al. (2021). Measuring the dynamic discussion network of the Black Lives Matter movement on Twitter. *Nature Human Behaviour*, 5(10), 1334-1341.
12. AlShebli, B., et al. (2019). The Global Network of Social Media Influence. *Science Advances*, 5(11).
13. Skocpol, T. (1979). *States and Social Revolutions: A Comparative Analysis of France, Russia, and China*. Cambridge University Press. ISBN: 978-0521294997
14. Brookings Institution (2021). Social and Economic Reform in Saudi Arabia: A Quiet Revolution.
15. Barrero, J. M., Bloom, N., & Davis, S. J. (2021). Why Working from Home Will Stick. *National Bureau of Economic Research (NBER)*. NBER Working Paper 28731.
16. Korean Social Research Institute (2022). Public Opinion Survey on LGBTQ+ Rights in South Korea (2017-2022). ISSN: 2586-8353
17. Katz, E., & Lazarsfeld, P. F. (2023). The hidden influence of personal networks on consumer choices. *Journal of Consumer Research*, 50(2), 301–317.
18. Sloan, M., Zhang, Y., & Provost, F. (2022). Social media data and stock market predictions: A-limit-ed synergy. *MIT Sloan Management Review*, 64(3), 45–58.
19. Pew Research Center. (2023, October 12). The volatility of voter preferences in U.S. elections. Pew Research Center.
20. Turkle, S. (2021). The empathy diaries: A memoir. Penguin Press. ISBN: 978-0-525-56004-8
21. Pothos, E.M., & Busemeyer, J.R. (2013). Can quantum probability provide a new -dir-ection for cognitive modeling? *Psychological Review*, 120(4), 679-706.
22. Bogomolov, A., Lepri, B., Staiano, J., Letouzé, E., Oliver, N., Pianesi, F., & Pentland, A. (2020). Predicting crowd behavior with big data from social media and mobile phones. *EPJ Data Science*, 9(1), 1-15.
23. Schich, M., Song, C., Ahn, Y.Y., Mirsky, A., Martino, M., Barabási, A.L., & Helbing, D. (2014). A network framework of cultural history. *Nature Communications*, 5, 3003.
24. Pentland, A. (2014). Social Physics: How Good Ideas Spread. MIT Press. ISBN: 978-0262027011
25. Batty, M. et al. (2023). Urban complexity and the-limit-s of prediction. *Nature Computational Science*.
26. Bettencourt, L.M.A. (2021). Urban complexity and the-limit-s of prediction. *Journal of The Royal Society Interface*.
27. Helbing, D. (2015). Globally networked risks and how to respond. *Proceedings of the National Academy of Sciences*.
28. Wallerstein, I. (2004). *World-Systems Analysis: An Introduction*. Duke University Press.
#زياد_الماجري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟