|
المعجزة والأبد والمستحيل: في الشوق إلى الممكن
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 15:06
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تواترت على ألسنة وفي كتابات عديد من المتكلمين على الشأن السوري كلمة المعجزة في وصف سقوط الحكم الأسدي. معجزة من حيث السرعة القياسية لإسقاط نظام "الأبد" الذي حكم البلد فوق 54 عاماً خلال 12 يوماً، وهذا وقت كان يجري تطبيعه إقليمياً ودولياً؛ ومعجزة من حيث الكلفة المحدودة لعملية الإسقاط قياساً للتوقعات ولاستعدادات النظام المجربة خلال نحو 14 عاماً سبقت سقوطه؛ ومعجزة من حيث أنها أتت دون توقع من أحد من السوريين أو غير السوريين، حتى ممن قادوا العملية؛ ومعجزة أخيراً من حيث الفرار المخزي لبشار الأسد وقادة مخابراته بعد تجبر مديد. لكن مفهوم المعجزة لا ينتمي إلى التاريخ في تصوراته الحديثة. وكل التفكير التاريخي الحديث مبني على شرح دنيوي يستبعد المعجزات والخوارق والكرامات، لكن ليس هذا حال التفكير الديني، ولا بعض مدارس اللاهوت السياسي، مثل تلك المتأثرة بعمل كارل شميت. الفيلسوف السياسي الألماني يرى أن حالة الاستثناء، والقرار في شأنها هو ما يُعرِّف السيادة بحسبه، هي وريثة علمانية لمفهوم المعجزة بقدر ما إن السيد نفسه وريث الله. هذا للقول إننا حين نتكلم على معجزة، وخاصة حين لا نكون حيال استخدام بلاغي، نجازف بأن نخرج من مجال التاريخ والتفكير التاريخي إلى مجال الدين واللاهوت. وهذا مثلما نفعل حين نتكلم على الأبد كزمنية سياسية عرّف نفسه بها الحكم الأسدي. الأبد من خصائص الله أو الجواهر الميتافزيقية، وليس الكيانات السياسية التاريخية. ومعلوم أنه حين دخل الأبد شعاراً أساسياً للحكم الأسدي في العقد الثاني من حكم حافظ الأسد، دخلت معه مدركات دينية أو شبه دينية، مثل البطولة والعظمة والفرادة والعبقرية والاستثنائية منسوبة إلى رأس النظام، والقداسة أحياناً، ثم الخلود، بعد أن رحل "الأب القائد". وكان وراء السخف الظاهر لنسبة الأبد إلى هذا الكيان وظيفة تشريعه، بل تطبيعه، اعتبارها واقعة من وقائع الطبيعة الثابتة لا من وقائع التاريخ الاجتماعي والسياسي المتغيرة. ولهذا التطبيع عاقبة سياسية مباشرة: نزع طبيعية وشرعية أي اعتراض على "سورية الأسد"، وإقصاء الاعتراض إلى نطاق الجريمة والخيانة واللاطبيعية، وبالتالي تشريع الإبادة، وهذا مثلما يحال الاعتراض على سلطة دينية، مقدسة في عين نفسها، إلى نطاق الكفر المبيح للدم. وبالفعل واجه الأبد الأسدي الاعتراض عليه بالإبادة وليس بالسياسة. وفي جذر ذلك خوض الصراعات السياسية كصراعات وجودية ومطلقة، بالنظر إلى أن من غير الطبيعي أو الشرعي الاعتراض على نظام هو الطبيعة بعينها. والخلاصة أن دولة الأبد الطبيعية هي دولة مطلقة، تخوض صراعاتها وجودياً، أي عدمياً، أي إبادياً وإفنائياً، وليست دولة تاريخية وسياسية. ليس هناك حلول سياسية للصراعات الاجتماعية في الدولة الأبدية الطبيعية. دولة الأبد لا تنتهي أبداً، إلا بمعجزة. لكن لماذا نتكلم على معجزة ولا نتكلم على مؤامرة منسقة جيداً بين قوى دولية، هي التي تسببت في السقوط غير المحتمل للنظام؟ لأنه لا يبدو أن هناك معطيات حاسمة ترجح ذلك. التآمر فعل سياسي عادي، يتمثل في استغلال السوانح، والاستفادة من الخصومات، واستغلال التواطؤات المحتملة، وهو ينجح ويفشل. هذا الفعل يحدث طوال الوقت، لكنه لا يطابق دعوى المؤامرة. وبالمقابل، التفسير بالمؤامرة، أو نظرية المؤامرة، تفسير بعْدي لما وقع فعلاً، ينسبه إلى إرادة قديرة خفية، تقرِّبه في واقع الأمر من المعجزة، هذا بينما تقرب الفاعلين التاريخيين الفعليين من الأشياء السلبية، "البيادق". قد يمكن القول إن المؤامرة هي معجزة الشيطان، بقدر ما إن المعجزة هي مؤامرة خيرة، هبة إلهية.
السؤال الذي تثيره هذه المناقشة هو: هل هناك علاقة ضرورية بين المعجزة والأبد؟ أو بين الشكل غير المتوقع، بل الخارق و"الإعجازي"، لسقوط الحكم الأسدي، وبين تكوينه الأبدي/ الإبادي المفتقر إلى السياسة والمعالجات السياسية؟ يبدو الأمر كذلك بالفعل. إذ لا يبدو أن دولة الأبد تسقط سقوطاً عادياً ومتوقعاً، ولا يبدو أن سقوطها من الممكنات السياسية التي يمكن تبيُّنها بتحليل سياسي مطلع وبصير. قبل يوم 26/11/2024 لم ير أحد في العالم كله أن سقوط النظام الأسدي ممكن سياسي، لا خلال 12 يوماً، ولا خلال 12 شهراً. بل ولم يبدُ ذلك ممكناً حتى تجاوزت القوى المؤتلفة تحت مظلة "هيئة تحرير الشام" حمص باتجاه دمشق، أي قبل يومين أو ثلاثة فقط من سقوط النظام. كان المستحيل هو المدرك الذي استخدمه كاتب هذه السطور مراراً للتعبير عن تعطل الممكن، أو عن فاعلية الممتنع كمقولة سياسية. المستحيل مفهوم أنسب من الممتنع لأنه لا يدل على غير الممكن فقط، وإنما كذلك على ما هو متحول، ما هو متشكل في صورة كائن مغاير وغير معقول، غول، مثلما حين نتكلم على المستحيلات الثلاث. وما كان قد بدا مستحيلاً في المقام الأول هو الثورة السورية نفسها، ثم مدى الدمار والدم والقسوة والوضع الرهيب للبلد بينها وبين السقوط، الوضع النادر المثال الذي لا يشبه شيئاً نعرفه لا في تاريخنا الحديث ولا في تواريخ غيرنا المعاصرة. ولقد بنيتُ على هذين المستحيلين، الثورة والدمار، مستحيل ثالث ينتمي إليه الخلاص من الحكم الأسدي. بدا لي أنه إن كان لنا أن نبحث عن حل للمحنة السورية، فليس لنا أن نجدها في نطاق الممكن، عمليات جنيف وأستانة ومقاربات الأمم المتحدة في أيام دمستورا وبدرسون، بل في نطاق المستحيل الذي تنتمي إليه الثورة السورية وما وقع بعدها. وبطبيعة الحال لم يكن في البال من قريب أو بعيد الشكل الذي تحقق فيه هذا المستحيل، تلك "المعجزة". لكن هذا الشكل يستجيب بالفعل للتقدير الخاص بوجوب النظر خارج نطاق الممكن من أجل حل المشكلة الأسدية، وبالتحديد تكوينها الأبدي. ترى، هل انتهى الأبد بسقوط النظام وبدأ التاريخ؟ هل قطعت سورية مع البنية المكونة من الأبد والمستحيل والمعجزة؟ وهل هي في سبيلها نحو تشكيل سياسي تاريخي مختلف، يقوم حول التاريخي والممكن والدنيوي والعادي؟ لا يتشجع المرء كثيراً لقول ذلك. لدينا في السلطة فريق ديني تفكيره السياسي ليس تاريخياً عقلانياً، ولا يفكر في أمره وأمر البلد الذي يحكمه بمفردات الدولة والمواطنة والقانون وأخلاق المسؤولية واستقلال الحقيقة، واستقلال الضمير، واستقلال السياسة. وقاعدته الاجتماعية مزودة بنزعة ثأرية قوية وخشية شديدة من فقدان السلطة، لا تشبه شيئاً أكثر من شبهها لخشية حافظ الأسد وقاعدته من فقدان سلطته. وهو نفسه، هذا الفريق، ينزع بحكم تكوينه الديني إلى أن يفكر في التحرير كمعجزة أو كتدبير إلهي فوق بشري. وما قاله وزير الثقافة الجديد شعراً (ركيكاً في واقع الأمر): "دمشق لنا إلى يوم القيامة" يذكر بقوة بالأبد، إن بمنطوقه، أو بالبناء الهويتي الديني الذي يقوم عليه (أو بالشكل الشعري الذي ورد فيه المقطع المذكور: عمودي، خطابي، افتخاري، غنائي، غير حديث بالمرة). ولا تبدو مقولة الممكن، وما يرتبط بها من مهارات سياسية ومن جهود لتوسيع نطاق الممكنات، ومن صنع أوضاع اجتماعية وسياسية معقولة لتسير الأمور سيراً يقبل التوقع ويمكن التقدير الرشيد فيه، لا تبدو من العتاد الفكري لأوضاع اليوم. ليس أن هناك سياسة راهنة للمستحيل، لكن الارتجال السياسي وإرادة الجمع بين متناقضات: الاحتكار الفعلي وزعم المشاركة، الدين والدولة العامة، الطائفية والوطنية، "إلى يوم القيامة" والتاريخ، لا تؤدي إلى غير الوقوع في شباك المستحيل مثلما حدث في الحقبة الأسدية. أي حدوث غير الممكن، إن في صورة تجاوز مستمر للحد، أو في صورة فظائع وتعسف هائل، وفي صورة أبد، وفي النهاية سقوط إعجازي. الأصل في التغول والمستحيل هو بالضبط إرادة الجمع بين متناقضات، كان منها في الحقبة الأسدية: حالة الاستثناء الدائمة، الجمهورية الوراثية، الفرد المتأله والدولة، الوطنية والطائفية كذلك. وهذا لأنه لا يمكن الجمع بين متناقضات بغير العنف واللامعقول. التغول هو بالضبط مزيج من غير المعقول والعنف، أو دين (هو غير المعقول) ودولة (هي العنف). لقد نجح حافظ الأسد نجاحا باهراً في الحفاظ على السلطة، بل وتوريثها لابنه، لكنه بذلك بالذات خلق شروط الدمار المستحيل اللاحق، وصولاً إلى الدمار الذاتي للتشكيلة الأسدية. وليس ممتنعاً أن ينجح الفريق الحالي في بقاء مديد في السلطة، وإن كانت المؤشرات الراهنة لا ترجح ذلك، لكنه إن فعل فسيورط نفسه والبلد في أوضاع مستحيلة، غير معقولة وغير عقلانية، لا مخرج منها بغير معجزة. ومحصلة هذه المناقشة أن مدركات الأبد والمستحيل والمعجزة (بما فيها معجزة الشيطان: المؤامرة) تشكل بنية، لا يكفي الانتقال السياسي وحده لطي صفحتها، بل لعل شكل حدوثه المعلوم يتوافق مع إعادة ترسيخها. وهي من جهتها تحكم على الانتقال بأن يكون ضحلاً: من أبد سابق يتقادم إلى أبد معاش خانق، ومن غير معقول عنيف مضى إلى غير معقول عنيف معاش، ومن سقوط خارق حدث إلى سقوط خارق يرتجى. نحن سلفاً في شوق إلى الممكن والعادي والمتغير والمعقول، إلى وجود غير بطولي في التاريخ. فإن طردنا أنفسنا منه من جديد، فلا يبعد أن تكون الوقعة خارجه مميتة هذه المرة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكثير السلطة: لماذا الحكم منحدر في مجالنا؟
-
سقط النظام، الثورة لم تنتصر، والصراع السوري مستمر!
-
الحزب السياسي وأزمة الذاتية المعاصرة
-
بعد أربعة أشهر، سورية من هنا إلى أين؟
-
القنبلة السلفية والسلم الأهلي في سورية
-
100 يوم سورية جديدة: أحداث، ديناميّات، وتناقضات
-
حملة -أنا أعتذر- ومراتب المسؤولية
-
قمعي وإبادي: نظرات في عنف الدولة في سورية
-
ما الأسدية؟ ما الذي انتهى في سورية قبل ثلاثة أشهر؟
-
رسائل إلى سميرة (16): سقط النظام!
-
سياسة الضعفاء: سورية الجديدة وإسرائيل الاستعمارية القديمة
-
ملاحظات وخواطر ثانية عن سورية في زمن جديد
-
مقابلة عن حرية سورية وسياسة النسيان
-
السياسة أولاً في سورية، الاقتصاد ثانياً، والإيديولوجيا آخر ش
...
-
في وداع السجن الأسدي والدولة السرية
-
ملاحظات وخواطر من سورية في زمن جديد
-
سورية وإسلامية ما بعد التغول
-
إله المشرق الإسرائيلي وتناسُخاته
-
ليلى سويف: دفاع استشهادي عن النفس
-
في وجوب تحرير قضية فلسطين من الممانعة والممانعة المعكوسة
المزيد.....
-
روسيا والصين.. شراكة لمواجهة التحديات
-
شاهد.. الشتاء يعود إلى إسبانيا في نهاية الربيع
-
مشرعان جمهوريان يهددان بتفجير اتفاقين محتملين مع إيران والسع
...
-
ترامب يعتزم إعلان خطة لإنهاء حرب غزة بإشراف أمريكي مباشر
-
استطلاع رأي يكشف عن موطن -أجمل نساء العالم-
-
مفاجأة طبية.. فيتامين شائع يثبت فعاليته في علاج التهاب البنك
...
-
ترامب يدعو أوكرانيا وروسيا إلى وقف إطلاق النار لمدة 30 يوما
...
-
ترامب يدلي بتصريح مفاجئ عن فون دير لاين
-
توقعات بسقوط محطة فضائية سوفيتية قديمة على الأرض قريبا
-
بين حائك السجاد والتاجر.. منهج إيران والأميركيين في التفاوض
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|