شادي أبو كرم
كاتب سوري
(Shadi Abou Karam)
الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 17:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في يناير 2021، لم يكن صوت لؤي العلي الذي وصل من فرع المخابرات إلى هاتف الشيخ حكمت الهجري مجرد إهانة شخصية، كان انهياراً رمزياً لآخر ما تبقى من توازن هش بين سلطة ترى في نفسها الإله، وبين جماعة تقليدية كانت تظن أن لها حرمات تُصان. تلك اللحظة لم تُهَن فيها عمامة رجل دين فحسب، فقد كُشف فيها القناع عن علاقة مشوهة، فيها المركز لا يكتفي باحتقار السياسي والمعارض، بل يحتقر حتى من صمت طويلاً ووسّط نفسه لحماية الناس. ما جرى مع الهجري لم يكن شرخاً في العلاقة مع النظام فحسب، كان تصدعاً في بنية الدولة نفسها، التي لم تعد تعرف كيف تدير سوى الإهانة.
حكمت الهجري، المولود في المنفى الفنزويلي، العائد إلى قنوات حاملاً عباءة أخيه الراحل، لم يرث فقط منصباً دينياً، كانت تركة شائكة من التأويلات والرموز، وموقعاً معلقاً بين القداسة والتوازن الأهلي. لم يكن يوماً ثورياً، لكنه لم يكن متواطئاً تماماً. بل مارس ما يمكن تسميته "التقوى السياسية"، حيث الصمت حكمة، والاعتدال فضيلة، والتفاوض مع السلطة ممارسة دينية لحماية الجماعة. وحين انكسرت تلك المعادلة، حين صار الصمت تواطؤاً، والكلام ضرورة، خرج الشيخ من العباءة إلى المعترك، فبدأ الخطاب يتحوّل من وساطة إلى موقف، ومن توسل إلى رفض.
لكن هل ما جرى هو تحول رجل دين إلى معارض؟ أم أن ما تكشف هو أن السياسة كانت دوماً تتسلل من عمامة المشيخة، حتى حين تُنكر ذلك؟
ما مثله الهجري لا يعتبر جديداً على جبل العرب، لكنه استعاد وظيفة منسية لرجل الدين في مجتمع تم تفكيك نُخبه المدنية والعسكرية والحزبية. منذ لحظة سقوط النظام، لم يقف الشيخ حكمت الهجري على تلة المراقبة، بل دخل المشهد الوطني بخطاب واضح: لا دولة دينية، ولا سلطة جديدة تستنسخ القديمة، ولا سلاح خارج شرعية وطنية متوافق عليها. طالب بدستور لا يكتبه الغالب، وبجيش لا يُعاد تشكيله من بقايا الميليشيات، وبإعلان يؤسس لشراكة لا لوصاية. لكن السلطة الجديدة، التي استعجلت احتكار القرار، لم ترَ في خطابه سوى تأخّر عن الانصياع. هكذا وُضع الهجري في زاوية ضيقة: بين ضغطٍ خارجي يطالبه بالتسليم، وتململ داخلي بدأ يتصاعد في جبل العرب، متهماً إياه بالانصياع للخارج.
في تلك اللحظة، لم يكن الهجري في موقع الفعل، بل في عين الشك. جماعته التي قاومت شعرت أن شيخها بات أقرب إلى حكمة الإنحناء منه إلى صلابة الموقف. لم تكن أزمة ثقة كاملة، لكنها كانت بداية تفكك صامت. حتى جاءت المجازر، مجازر الساحل، ثم المقطع المفبرك الذي نسبت شتائم للرسول إلى أحد رجال الدين الدروز، وتبعها الهجوم الدموي على أحياء درزية كجرمانا وأشرفية صحنايا، بينما السلطة الجديدة تداري الحدث ببيانات باردة، وتفعّل فجأة دور رجل دين هامشي كليث البلعوس، لتقدّمه بديلاً مطواعاً عن شيخٍ صار عبئاً على مشروع الهيمنة. لم تنجح الخدعة، فالشارع التفت إلى الهجري، لا إلى من أُعِدّ ليكون واجهته.
كان ذلك التحول لحظة مفصلية. فالشيخ الذي اهتزت مكانته، صار فجأة على قاعدة صلبة من حجارة البازلت، تصطف خلفه كل الفئات، لا لتحصينه فقط، وإنما لتكذيب سردية السلطة عن الطائفة. من يُطلب منه أن يسلّم السلاح، قال: سلّموه لجيش وطني، لا لميليشيات طائفية. من يُطلب منه الصمت، قال: ليس باسمنا. من يُطلب منه البيعة، قال: نحن لسنا غنائم ثورة. في تلك اللحظة، لم يعد الهجري رجل دين يُمثل طائفة، بل ضمير جماعة، ومرآة وطن لم يعُد يثق بوعود أحد.
هنا بدأ الانقلاب الثاني، حين قرر الهجري أن يطالب بالحماية الدولية. لا بوصفه زعيم طائفة، بل ممثلاً لجماعة تم استباحتها وتُركت وحدها تحت القصف والمجازر. لم يكن النداء استقواء بالخارج كما يعتقد خصومه، إنما صرخة عار في وجه الداخل الذي تخلّى عن جماعة أخرى، كما فعل بالعلويين من قبلهم. العار إذاً ليس في من طلب الحماية، العار كله في من دفعه إلى ذلك. حين تصبح النجدة جريمة، والتضامن خيانة، تصبح السياسة ضرباً من اللاهوت المعكوس، وتصبح الطائفة ساحة اختبار لوطن لا يعترف بها إلا حين يريد دفنها.
الخطير في تجربة الهجري أنه التقى مع خطاب مدني، ليقول بصراحة غير مسبوقة: لا مكان لدولة دينية جديدة، ولا مستقبل لشعار وطني يخفي طموح طائفة واحدة بالحكم. لم يقلها باعتباره خصماً، وإنما باعتباره بديلاً لفراغ قاتل. فمشيخته، التي لم تكن يوماً حزباً، صارت صوتاً لأوسع قطاعات المهمشين. ولعل في ذلك مفارقة عصرنا السوري: أن يصبح رجل دين ناطقاً باسم العلمانية، بينما يرتدي السياسي عمامة المذهب.
لقد قالها الهجري بوضوح: نريد دولة، لا سلطة مقدسة. نريد قانوناً، لا فتوى. نريد شراكة، لا وصاية. كانت كلماته صادمة، لا لأنها خارجة عن دوره، لكن لأنها أعادت تعريف دوره. ففي غياب الدولة، تصبح المرجعيات التقليدية ضرورة لا خياراً. لكن هذه الضرورة لا تعني العودة إلى ما قبل الدولة، بل العبور نحوها. وعلى من يخشون من طغيان العمامة أن يتأملوا جيداً: من الذي يطلب الحماية؟ ومن الذي يرسل الموت؟
المؤلم أن من يهاجم الهجري اليوم، ليس فقط خصومه العقائديون، بالإضافة إلى ذلك هناك جوقة من مدّعي المدنية ممن خذلتهم لحظة الحقيقة. أولئك الذين اعتقدوا أن التغيير يبدأ من الصراخ على فيسبوك، ويُختتم بنيل رضا الحاكم الجديد. لكن الهجري، الذي قال "لا" بلسان هادئ، أربكهم. لأنه لم يكن يشبههم، ولا يشبه خصومهم. كان وحده، تماماً، كما ينبغي للضمير أن يكون.
لا يمثّل الهجري الطائفة فحسب، بل يمثل سؤال الدولة في زمن انهيارها. فحين يفشل الجميع في قول كلمة حق، يُترك الصوت لحاملي الأسرار القديمة، ولمن لا يخشون دفع ثمنها. هو ليس معصوماً، ولا فوق النقد، لكنه ببساطة لم يقبل أن يُهين نفسه ليستحق الحماية. بل طالب بالحماية كي لا تهان الجماعة كلها.
من يهاجمه اليوم لأن صوته بات عالياً، عليه أن يتذكر: لو أن البلد فيها دولة، لما احتجنا لمن يصرخ باسم الضحايا. ولو أن الحكومة الجديدة ليست مشروع عنف مقنّع، لما احتجنا لمن يفضح تطرفها. المسألة ليست في أن الهجري شيخ، لكن في أنه ليس شيخهم. العار ليس في من طلب حماية، لكن في من أجبره على ذلك. ولهذا السبب تحديداً، لا يغفرون له.
في زمن الهزائم الكبرى، لا يكشف القادة المتطرفون حقيقة المجتمع، بل يكشفها أولئك الذين يحاولون أن يبقوا واقفين حين يسقط الجميع. حكمت الهجري ليس ملاكاً، لكنه المرآة التي كسرها الجميع لأنهم لم يتحملوا رؤية وجوههم فيها. والعار ليس في الشيخ الذي يطالب بالدولة، بل في الدولة التي تفضّل أن تُقاد من شبح أمير، على أن تسمع صوت رجل دين يذكّرها بأنها ليست الله.
#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)
Shadi_Abou_Karam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟