أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - الثورة الاشتراكية - نضال من أجل مجتمع حر وعادل - هل كانت حرب أكتوبر انتصار ؟ ام كذبة من كذبات النظام ؟















المزيد.....



هل كانت حرب أكتوبر انتصار ؟ ام كذبة من كذبات النظام ؟


الثورة الاشتراكية - نضال من أجل مجتمع حر وعادل
منظمة سياسية

(Socialist Revolution - Struggle For A Free And Just Society)


الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 00:13
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


حسن مصطفي

مقدمة:

شهيرة هي مقولة “التاريخ يكتبه المنتصرون”، وقد قيل لنا طوال الوقت إننا من بين هؤلاء المنتصرين، وكُتب التاريخ الذي تعلمناه في المدارس بهذا الشكل. وظلت وسائل الإعلام الحكومية تردد علينا باستمرار سردية أننا حققنا انتصارًا حاسمًا على الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1973، وأن هذا الانتصار هو الذي جلب لنا السلام العادل الذي أعاد إلينا أرضنا المغتصبة في سيناء كاملة، وأكد على سيادتنا واستقلالنا الوطني. وأن هذا السلام جلب لنا الرخاء والازدهار الاقتصادي، وأكد على حق أشقائنا الفلسطينيين في إقامة دولتهم وفق آليات حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية التي تضمن تحقيق السلام الشامل والدائم… وإلى آخر هذه الديباجة التي ألفنا سماعها طوال عمرنا، والتي لا يجد الساسة الرسميون أي غضاضة في الاستمرار بترديدها إلى الآن ببلادة وبلاهة لا مثيل لهما.

ألا تشعر، أخي المواطن، أنك منتصر؟
لا تغضب مني.
أنا مثلك تمامًا، لا أشعر بأي انتصار، بل أشعر بالخزي والعار، وبثقل الهزيمة.

لكن، ألا تتعارض سردية الانتصار هذه مع الواقع الذي نعيشه من تدهور اجتماعي، واتساع دائرة الفقر، والتفاوت الطبقي، والأزمة الاقتصادية، وتضاعف الدين الداخلي والخارجي، والفساد الحكومي، وإهدار كرامة المواطن، والقمع السياسي، وغياب الديمقراطية، ومصادرة الحريات العامة؟ ألا تتعارض سردية الانتصار تلك مع واقع ما نشهده من إبادة جماعية للفلسطينيين على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي لا يحرك النظام المصري ساكنًا لإيقافها، بل لا تتوقف خدماته – بكل ما يستطيع – عن الاحتلال، من التسهيلات العسكرية والاقتصادية، إلى حظر التظاهر في مصر ضد إسرائيل أو دعمًا للفلسطينيين، ورفض الإبادة الجماعية بحقهم؟

كما ألا تتعارض سردية الانتصار، فيما يخص الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية، مع المساومة الأمريكية العلنية للنظام على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ومحاولة فرض الخطة الإسرائيلية بإعادة توطينهم في سيناء؟ أين ذهب إذًا “حل الدولتين” الذي ظل الساسة المصريون يرددونه علينا مثل الببغاوات على مدار عقود؟ هل تحول “حل الدولتين” إلى “الحل النهائي” الصهيوني بإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم، وإزالة الوجود الفلسطيني من فلسطين التاريخية، مرة واحدة وإلى الأبد؟

لفهم هذا التناقض بين سردية الانتصار الرسمية والواقع الاجتماعي والسياسي المرير الذي نعيشه، سواء داخليًا أو على المستوى الجيوسياسي الإقليمي – والذي يفرضه ويرسم خطوطه الطرف الذي يُفترض أننا انتصرنا عليه – فعلينا أن نقوم بإعادة دراسة وقراءة تاريخنا الاجتماعي والسياسي والعسكري، كي نتمكن من إزالة هذا التناقض واستبيان الحقيقة.
هل نحن حقًا من انتصرنا في حرب أكتوبر؟
وإذا كانت الإجابة “نعم”، فلماذا لا يبدو واقعنا كواقع المنتصرين؟
وإذا كانت الإجابة “لا”، وكانت الحقيقة أننا لم ننتصر، وأنه تم فقط تسوية الصراع بين النظام والاحتلال عبر تفاهمات تضمن مصالح الطرفين، فهل نحن قادرون على تحدي هذا الواقع؟ أو راغبون في تحديه؟ أو هل نملك خيارًا آخر غير تحديه؟

سوف نعتمد على الطريق العلمي لإعادة قراءة تاريخنا، عبر استخدام التحليل المادي للتاريخ، على ضوء الصراع الطبقي والاجتماعي وتداخله مع الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك كي نتمكن من تجميع الصورة والسياق العام للأحداث، بالشكل الذي يسمح لنا بفهم الواقع الذي نواجهه اليوم. لا سيما وأنه، كلما تقدم التاريخ وكُشف منه فصول ووقائع جديدة، أمكننا تفكيك وفهم أحداث الماضي وإعادة قراءتها واستيضاح حقيقتها بشكل أفضل.

انعكاس الصراع الطبقي والسياسي على الصراع مع الاحتلال:

لم يعمل النظام المصري، منذ تأسيسه عام 1952، على بناء نظام ديمقراطي كجزء من مشروعه النهضوي، بل على العكس، فقد كان النظام منذ تأسيسه معاديًا للديمقراطية. وقد نجح في استخدام الخطابات الشعبوية والشعارات القومية لتعبئة الجماهير خلفه، وفي الوقت نفسه عمل على إقصاء كل التيارات السياسية ومختلف أشكال المشاركة الجماهيرية الحرة عن أمور الحكم والسياسة بشكل عام. واقتصرت السياسة على نخبة ضيقة متحلقة حول الرئيس، الذي يحتكر وحده، دون سواه، سلطة صناعة القرارات وتوجيه شؤون الحكم، على طريقة الحكام الفراعنة في الدولة المصرية القديمة.

ومنذ تأسيس النظام وحتى اليوم، يمثل القمع السياسي الوسيلة الرئيسية في الحكم وفي تسيير الدولة المصرية، ما جعل الصراع السياسي على السلطة، وصعود الحراك الاجتماعي في المجتمع، ذا أثر بالغ على مجمل تطور الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي وفي مواجهة الهيمنة الأمريكية.

ذلك أن التركيبة السلطوية الإقصائية للنظام جعلته ينظر طوال الوقت إلى الحركة السياسية والاجتماعية على أنها “العدو الداخلي” الذي يتهدد بقاءه وسيطرته على السلطة، والتي يعتبرها حكرًا عليه، ويعتقد أنه وجد في السلطة ليبقى فيها للأبد، تمامًا كما تدّعي سلطة الاحتلال الإسرائيلي أنها وُجدت في فلسطين لتبقى فيها للأبد هي الأخرى.

تأسس النظام عقب استيلاء الضباط على السلطة سنة 1952، بذريعة مقاومة الاستعمار البريطاني ومشروع الاستعمار الصهيوني التوسعي، بعد هزيمة الجيش في حرب 1948 وفشله في منع تأسيس دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين. وقد شكّل الخطاب التحرري ومقاومة الاستعمار مضمون جوهر شرعية النظام الجديد. إلا أن الهزيمة الثقيلة التي تلقاها النظام في 1967 كادت أن تكون ضربة قاصمة له، لولا الفراغ السياسي الذي سبّبته سنوات القمع السابقة، بالإضافة إلى شعبية عبد الناصر الطاغية وبراعته في دغدغة مشاعر الجماهير والتلاعب بها، ما سمح للنظام بالتماسك ومنع انهياره.

ورغم ذلك، اضطر النظام لقمع مظاهرات العمال والطلبة في القاهرة والإسكندرية عام 1968، والتي خرجت احتجاجًا على الأحكام المخففة التي صدرت بحق قادة سلاح الطيران المتهمين بالتقصير في حرب الأيام الستة (1967)، والتي تسببت في كارثة الهزيمة. كانت تلك المظاهرات تحمل في طياتها إدانة واضحة للنظام وشعورًا واسعًا بالاستياء من أدائه ومصادرته للمجال العام، وقد عبّر عنها الطلبة والعمال بالشعارات والبيانات التي تبنوها، والتي طالبت بالديمقراطية وفتح المجال العام وكف يد الأمن عن النشاط الطلابي والنقابي. وعلى إثر تلك المظاهرات، التي قمعت بوحشية، أصدر النظام بيان 30 مارس 1968، والذي اشتمل على وعود بالإصلاح وتغيير النهج، إلا أن شيئًا من ذلك لم يحدث.

شكّلت هزيمة 1967 لحظة تأسيسية في عمر النظام، وذلك على مستويين:

المستوى الأول: تمثّل في تخلي النظام عن أهدافه التحررية الإقليمية، وعلى رأسها تحرير فلسطين، وانكفائه على هدف واحد هو تحرير الأرض المصرية التي احتلتها إسرائيل في سيناء.

المستوى الثاني: هو شعور النظام بخطر فقدان السلطة، بسبب ما شكلته الهزيمة من طعنة في شرعيته وشعوره باستحقاق الحكم، وهو خطر كاد أن يُطيح به، كما أوضحنا سلفًا. هذا الشعور بخطر فقدان السلطة سيكون له أثر كبير على وعي وسلوك النظام لاحقًا، وسوف يدفعه في المستقبل إلى اتخاذ مواقف واتجاهات محددة تحت ضغط التهديد الجماهيري، مع قدوم السادات إلى السلطة رئيسًا جديدًا.

كان درس التهديد الداخلي بفقدان السلطة بسبب هزيمة 1967 حاضرًا في ذهن السادات منذ اليوم الأول له كرئيس للجمهورية، لا سيما وأنه كان يعلم جيدًا أنه لا يتمتع بشعبية تُذكر مقارنةً بشعبية سلفه، جمال عبد الناصر، وأن أي هزيمة أو تراجع جديد ستكون الإطاحة به ثمنًا لها. خصوصًا أن صعوده للرئاسة جاء محض صدفة، أمّنتها له الصراعات البينية داخل مجلس قيادة الثورة، والتي دفعت عبد الناصر إلى تعيينه نائبًا له، كونه من جهة يقف على مسافة واحدة من جميع أطراف المجلس، ومن جهة أخرى يسير تحت جناح عبد الناصر ولا يشكل تهديدًا مباشرًا له.

كانت أولى خطوات السادات لتثبيت أقدامه في منصبه الرئاسي هي التخلص من منافسيه على السلطة، وإزاحة كل من قد يشكّل تهديدًا لبقائه واستمرار حكمه. فبعد سبعة أشهر فقط من توليه الرئاسة، قام باعتقال وعزل المستويات العليا من القيادات المدنية والعسكرية الناصرية، فيما أطلق عليه “ثورة التصحيح” في مايو 1971، بذريعة تخطيطهم لتدبير انقلاب ضده، واستبدل تلك القيادات بقيادات موالية وخاضعة له، يضمن ولاءها وسيطرته عليها.

ونستطيع أن نرصد هنا كيف أن استبدال القيادات العسكرية تم بناءً على اعتبارات الولاء السياسي، لا الكفاءة والخبرة، وكيف أن الحاكم غير المنتخب، والتركيبة الطبقية للسلطة السياسية التي تعبّر عن مصالح الطبقة البرجوازية، تضع أولى أولوياتها البقاء في الحكم وصيانة مصالحها الطبقية، في مواجهة، أو على حساب، مصالح الشعب. الأمر الذي سيدفع الأحداث إلى مسار من الخيارات المتناقضة، بين مصالح تلك الجماعة الحاكمة – التي يحكم تفكيرها طابعها الطبقي البرجوازي – ومصالح الشعب الذي فُرضت عليه خيارات هذه الجماعة الحاكمة بقوة القمع السياسي، رغم كل المعارك التي خاضها دفاعًا عن مصالحه.

هذه الخيارات، التي سيتحمل الشعب في النهاية نتائجها ويدفع ثمنها، بحكم تناقضها مع مصالحه، ستنتج عن اندفاع الجماعة الحاكمة في اتجاه الخضوع للهيمنة الأمريكية الكاملة، والاستسلام للعدو الإسرائيلي، كما سنرى، وكما سيتبين من الأحداث التي ستصل بنا إلى اللحظة المهزومة الراهنة التي نعيشها اليوم.

حاول السادات تجنّب مسار الحرب الشاملة طويلًا، عبر العديد من مبادرات التسوية السلمية التي طرحها، والتي باءت جميعها بالفشل. وأصبح التسويف والتردّد هو السمة الغالبة على موقف السلطة تجاه قضية تحرير الأراضي المسلوبة، مما انعكس على الوضع الداخلي، وأدى في يناير 1972 إلى اندلاع انتفاضة الطلبة، واستمرارها خلال العام الدراسي 1972/1973، حيث عبّر الطلبة فيها عن ثلاث قضايا محددة هي:

1- تحرير الأراضي المصرية والعربية المحتلة، وانتقاد تردّد النظام ومحاولاته استعادة الأرض بالوسائل الدبلوماسية من خلال الضغط الدولي، مع تمسك الطلبة بضرورة استعادة الأرض بالقوة، عن طريق حرب تحرير شعبية شاملة.

2- قضية تحقيق الديمقراطية في المجتمع بشكل عام.

3- توجيه الاقتصاد لخدمة حرب التحرير، وتحويله إلى اقتصاد حرب.(1)

لا يمكن بأي حال فصل قرار حرب أكتوبر 1973 عن سياق ضغط الانتفاضة والحراك الطلابي 1972/1973، وتهديده للنظام، لا سيما بعد أن تجاوزت الانتفاضة حدود الحرم الجامعي وخرجت إلى الشوارع، وما نتج عن ذلك من تعامل عنيف من قِبل الشرطة، والقبض على أعداد كبيرة من الطلبة، سواء داخل الجامعات أو خارجها، ما أدى إلى تعاطف شعبي واسع مع الانتفاضة. وقد تبنت جماعات من المثقفين وأساتذة الجامعات مطالبها؛ فكتب الدكتور لويس عوض في الأهرام مقالًا تحت عنوان “تقرير حول المسألة المصرية”، تبنّى فيه إحدى المقولات الأساسية للطلبة، مؤكدًا أن البرجوازية المصرية، رغم امتلاكها إمكانيات مواجهة نظيرتها الإسرائيلية، إلا أنها غير راغبة في الإقدام على التضحية. (2)

دُفع السادات إذن إلى حرب أكتوبر 1973، لكن ليس على أرضية أن تكون “حرب تحرير شاملة”، كما طالبت انتفاضة الطلبة، بل على أرضية حرب محدودة، تهدف إلى “تحريك الموقف العسكري” بما يفسح المجال أمام الحلول السياسية، وفقًا للوعود الأمريكية التي تلقاها. وقد كرّر السادات وجهة النظر تلك مرارًا أمام القادة العسكريين المصريين خلال اجتماعاته معهم قبل الحرب، مؤكدًا أنه:
“لو أمكنهم عبور القناة والسيطرة، ولو على متر واحد فقط شرقها، لأمكنه تحريك الموقف الذي تجمّد، وحلّ القضية سياسيًا.” (3)

بالطبع، تبخّرت الوعود الأمريكية للسادات بالدفع في اتجاه حلول سياسية تُعيد سيناء إلى السيادة المصرية، وحلّ محلّها تعنّت وصلف أمريكي يهدف إلى إدخال مصر في حظيرة الطاعة الأمريكية، وإخضاعها الكامل. وعندما وجد السادات نفسه أمام خيارات محدودة: إما خطر فقدان السلطة، أو الاستسلام لإسرائيل والخضوع للهيمنة الأمريكية، اختار الطريق الثاني.

ولأن لا رقيب ولا حسيب على قرارات الرئيس وأفعاله، ولأن القمع السياسي هو الصيغة الأساسية التي تحكم علاقة السلطة بالمجتمع، ولأن غياب الديمقراطية يجعل الحاكم غير المنتخب يضع بقاءه في السلطة على رأس أولوياته – كما أسلفنا – فقد اختار السادات البقاء في الحكم والمحافظة على نظامه، مقابل الاستسلام لإسرائيل والخضوع للهيمنة الأمريكية الكاملة، كما ستكشف لنا متابعة تطورات ما بعد حرب أكتوبر 1973.

هل انتصرنا في حرب أكتوبر؟
بالرغم مما شكلته حرب أكتوبر 1973 من ملحمة عسكرية فريدة، تمثلت في نجاح القوات المصرية في عبور قناة السويس وتدمير خطوط الدفاع والتحصينات الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة والسيطرة عليها في بداية المعركة، إلا أن الثغرة التي نجح جيش الاحتلال في التسلل منها في منطقة “الدفرسوار” ليلة 15 أكتوبر، وعبور قواته إلى الضفة الغربية للقناة، بالإضافة إلى فشل القيادة العسكرية المصرية في القضاء عليها خلال أيامها الأولى، أدت إلى قلب نتائج الحرب رأسًا على عقب وتحولها لصالح العدو. (4)

كانت الثغرة وفشل التعامل معها وتصفيتها نقطة تحول رئيسية في الحرب، إذ أدت – بعد توسعها – إلى احتلال العدو مساحة شاسعة من الأراضي غرب القناة، ومحاصرة الجيش الثالث ومدينة السويس. ويعود السبب في فشل القيادة المصرية في التعامل مع الثغرة إلى فرض السادات رؤيته السياسية القاضية بضرورة بقاء كل جندي وكل قطعة سلاح تم عبورها إلى شرق القناة في مكانها – مهما حدث غرب القناة – لتكون القوات المصرية في الشرق ورقة رابحة في يد المفاوض المصري خلال المفاوضات السياسية المتوقعة لحل أزمة الشرق الأوسط، وفقًا للوعود الأمريكية للسادات. (5)

تتسق هذه الرؤية مع وجهة نظر السادات في الحل السياسي، وتحديدًا في مقولته المتكررة للقادة العسكريين قبل الحرب:
“لو أمكنهم عبور القناة والسيطرة ولو على متر واحد فقط شرقها، لأمكنه تحريك الموقف المتجمد وحل القضية سياسيًا.”

في 22 أكتوبر، صدر قرار مجلس الأمن رقم 338 بوقف إطلاق النار، فتوقفت العمليات العسكرية من جانب واحد فقط (الجانب المصري)، بينما استمرت القوات الإسرائيلية في عمليّاتها غرب القناة رغم إعلانها قبول القرار، بهدف توسيع رقعة الأرض التي باتت تحتلها ومحاولة احتلال مدينة السويس. وبعد فشلها في اقتحام السويس بفضل المقاومة الشعبية الباسلة، صدر قرار مجلس الأمن رقم 339، الذي كرر المطالبة بوقف العمليات العسكرية من كلا الطرفين، وهو ما تحقق في 24 أكتوبر. ولكن بحلول هذا التاريخ كانت إسرائيل قد احتلت غرب قناة السويس رقعة من الأرض أكبر من تلك التي حررتها القوات المصرية شرق القناة، بالإضافة إلى حصارها الجيش الثالث ومدينة السويس.

نعم، كانت حرب أكتوبر تعبيرًا رائعًا عن بسالة المقاتل المصري، لكنها انتهت بنتائج كارثية بسبب إخفاق القيادة السياسية والعسكرية في التعامل مع الثغرة. ومع ذلك، لم يُرِد أحد الاعتراف بالحقيقة أو تحدي الواقع الجديد. فلم تُفتح أي تحقيقات من قبل القوات المسلحة في أسباب حدوث الثغرة أو أسباب الفشل في تصفيتها. وتعود هذه التعمية على الحقيقة إلى تركيبة السلطة البرجوازية، المكوّنة من ضباط وموظفين حكوميين، التي فضّلت الهروب من المحاسبة لتفادي الغضب الشعبي.

ونعود إلى العبارة التي أوردها د. لويس عوض في مقاله خلال انتفاضة الطلبة عام 1972، والتي تلخّص الموقف:
“البرجوازية المصرية، رغم امتلاكها إمكانيات مواجهة نظيرتها الإسرائيلية، إلا أنها غير راغبة في الإقدام على التضحية.”

فهي وإن أقدمت على تضحية محدودة في حرب أكتوبر – تحت ضغط انتفاضة الطلبة والرأي العام الداخلي – لم تكن راغبة في تقديم المزيد من التضحيات، بل فضّلت المضي في حلول توفيقية، وفقًا لرؤية السادات السياسية التي اعتبرت أن الولايات المتحدة الأمريكية تملك “99% من أوراق اللعبة”، واتجهت نحو شراكة تحقق مصالح البرجوازيتين المصرية والإسرائيلية تحت مظلة الهيمنة الأمريكية.

في 18 يناير 1974، وقّعت مصر اتفاقية فك الاشتباك الأولى مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي نصّت فقرتها الأخيرة، الفقرة (د)، على أن:
“هذه الاتفاقية لا تُعتبر اتفاق نهائي، بل تمثل خطوة أولى نحو سلام نهائي عادل ودائم.” (6)

وفي نفس العام، أعلن النظام المصري تخليه عن نموذج رأسمالية الدولة للتنمية الاقتصادية – كانت الدولة تطلق عليه تسمية الاشتراكية – الذي يعني تدخل الدولة في الاقتصاد لدفع وتيرة التنمية، وتبنّيه لسياسة الانفتاح الاقتصادي، واقتصاد السوق الحر الرأسمالي، مع تقارب متصاعد تجاه الغرب والولايات المتحدة.

ثم، في 1 سبتمبر 1975، وُقّعت اتفاقية فك الاشتباك الثانية، والتي نصّت في مادتها الأولى على:
“إن النزاع بينهما وفي الشرق الأوسط لا يُحل بالقوة المسلحة بل بالوسائل السلمية، وقد شكلت الاتفاقية الموقعة بين الطرفين في 18 يناير 1974 في إطار مؤتمر جنيف للسلام خطوة أولى نحو سلام عادل ودائم، وفقًا لقرار مجلس الأمن 338 الصادر في 22 أكتوبر 73 وإذ يعتزمان التوصل لتسوية سلمية نهائية وعادلة عن طريق المفاوضات فإن هذه الاتفاقية خطوة هامة نحو تحقيق هذا الهدف.” (7)

كانت هذه الاتفاقية الأساس الذي بُنيت عليه عملية السلام لاحقًا بين النظام المصري والاحتلال الإسرائيلي. ورغم الانفتاح الاقتصادي، لم يشمل هذا الانفتاح الحريات السياسية أو الديمقراطية، بل ظل مقتصرًا على الجانب الاقتصادي، في غياب كامل للإرادة الشعبية الحرة، وإسكات وقمع كل صوت معارض.

أدّى هذا التحوّل إلى صدور سلسلة من قوانين الانفتاح الاقتصادي (1974، 1975، 1976)، والانخراط في آليات السوق الرأسمالي العالمي، والحصول على قروض من البنك الدولي، مع اشتراطات تقشفية قاسية، كان أبرزها رفع الدعم عن السلع الأساسية، مما أدى إلى اندلاع انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977.

أمام هذه الانتفاضة الشعبية الواسعة، التي هددت بقاء النظام، أمر السادات بنشر وحدات من الجيش في الشوارع لقمع المتظاهرين، بينما فرّ بنفسه إلى أسوان خشيا من خروج الموقف عن السيطرة ووقوعه في أيدي المحتجين. ورغم قمع الانتفاضة بسبب عفويتها وعدم تبلور أفكار وأهداف واضحة لدى المشاركين بها، اضطرت الحكومة إلى التراجع عن قرار رفع الدعم.

في تلك الأثناء، كانت إسرائيل لا تزال تحتل كامل سيناء باستثناء شريط ضيق شرق القناة والذي تمكن الجيش من تحريره بعمق يتراوح بين 10-15 كم، وتسيطر كذلك على أجزاء غرب القناة من سرابيوم شمالا والى ميناء الأديبة جنوبا، داخل الأراضي المصرية. وكل ما نتج عن اتفاقيات فك الإشتباك 1-2 هو الفصل بين القوات ونشر قوات اممية على طول خط التماس لمراقبة وقف إطلاق النار. وفي ظل هذا الوضع، ومع تصاعد الغضب الاجتماعي الذي شعر النظام معه بخطر فقدان السلطة، قرر السادات الاندفاع في التقارب العلني مع الاحتلال الإسرائيلي، لإعطاء إشارات واضحة للولايات المتحدة الأمريكان بأنه حليف موثوق يجب دعمه وتثبيت حكمه، ففي نوفمبر من نفس العام 1977 قام بزيارة القدس من أجل “إقناع القادة الإسرائيليين بالسلام” بحسب وصفه.

يمكن بسهولة هنا الربط بين الصراع الاجتماعي المتفجر في الداخل، وتبنّي السلطة لخيار السلام مع الاحتلال، إذ شكّلت زيارة السادات للقدس عربون ولاء للولايات المتحدة، وتعبيرًا عن رغبة النظام في تثبيت أركانه المتداعية مقابل الحصول على الدعم الأمريكي.

أجمعت البرجوازية المصرية على دعم السادات، وسوّقت قراراته عبر الإعلام الرسمي باعتبارها طريق الرخاء والتنمية. وفي عام 1979، تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وهي اتفاقية ثلاثية (مصر – إسرائيل – الولايات المتحدة)، لم تُعلن بنودها للشعب ولا حتى لمجلس الشعب، بل مُرّرت تحت عنوان عام: “معاهدة السلام مع إسرائيل”.

ورغم موافقة المجلس – المشكّل بغالبية حكومية ساحقة – إلا أن رفض خمسة عشر نائبًا للاتفاقية وانسحابهم من الجلسة، دفع السادات إلى حل المجلس بالكامل. (8)

المحصّلة النهائية
المحصلة النهائية هي أن النظام المصري، منذ تأسيسه، مارس وصاية على الشعب، وصادر الحقوق السياسية للمواطنين بذريعة مواجهة الاستعمار. ثم جاءت هزيمة 1967، فرفع النظام شعار: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، من أجل تحرير الأرض المحتلة، مع مزيد من القمع والمصادرة لحقوق المواطنين السياسية.

خاض حرب الاستنزاف من عام 1967 حتى 1970، ثم حرب أكتوبر 1973، وفشل في تحرير الأرض عسكريًا. بل تحولت الحرب إلى ما يمكن وصفه بـ”نكسة جديدة”، بل إلى مهزلة عسكرية بكل ما في الكلمة من معنى. فلو كان النظام قد أوشك على السقوط إثر نكسة 1967، فكيف كان سيكون الحال لو تم الإعلان بعد وقف إطلاق النار في 24 أكتوبر عن الواقع العسكري الصادم؟ بأن إسرائيل باتت تحتل، على الضفة الغربية لقناة السويس، مساحة تفوق ربما ضعف المساحة التي نجح الجيش المصري في تحريرها داخل سيناء، بعد كل البروباغندا الدعائية الصاخبة التي صاحبت انتصارات بداية العبور وأيام الحرب الأولى؟

الحقيقة أن الحرب، بعد بداياتها المبهرة، انتهت بهزيمة مذلّة للجيش المصري، بل مهزلة عسكرية، ومعها كان النظام مهددًا بفقدان السلطة والشرعية. وفي مواجهة هذا الخطر، قرر النظام موالاة العدو مقابل الحفاظ على السلطة، فبدأ مسار “الاستسلام” من اتفاقيات فك الإشتباك، ثم قوانين الانفتاح الاقتصادي، ثم الدخول في التحالف الأمريكي.

وحين فشلت كل هذه الخطوات في امتصاص الغضب الداخلي المتصاعد بفعل الأزمة الاقتصادية، وانفجرت انتفاضة الخبز في يناير 1977، وأصبح خطر السقوط وشيكًا، اندفع السادات إلى أقصى مدى في هذا المسار، فقام بزيارة القدس، وانتهى بتوقيع اتفاقية السلام في 1979.

ومقابل هذا “السلام” الذي حمل في طياته الاستسلام المقنّع، أعاد الاحتلال الإسرائيلي للنظام السيطرة على سيناء، ولكن النظام السياسي المصري ذاته، ومعه الجيش الذي يحميه، أصبحا خاضعين للنفوذ الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية.

تحوّل السادات إلى أداة في خدمة المصالح الأمريكية في المنطقة: بدءًا من استقبال شاه إيران المخلوع الذي رفضت أمريكا بقائه على أراضيها بعد استقباله كي لا تغضب النظام الإيراني الجديد بسبب أزمة رهائن السفارة الأمريكية في طهران، ومرورًا بدور “مقاول الأنفار” في الحرب الأفغانية ضد السوفييت، حيث سهّل إرسال المقاتلين والسلاح لأفغانستان خدمة للأجندة الأمريكية في الحرب الباردة. وفي المقابل، عانى الداخل المصري من موجات قمع لكل من عارض السلام المزعوم أو التوجه الجديد للنظام.

وشهدت نهاية عهد السادات حوادث غامضة، أبرزها حادث تحطم طائرة المشير أحمد بدوي، وزير الدفاع في مارس 1981، والذي راح ضحيته مع 13 من كبار قادة القوات المسلحة، في ظروف مثيرة للشك – إذ نجا طاقم الطائرة، بينما قُتل جميع الركاب. ولم يُفتح أي تحقيق جاد، في ظل كون الجيش المصري “صندوقًا أسودًا” مغلقًا، ودولة داخل الدولة، لا تخضع للمساءلة.

وبعد ستة أشهر من هذا الحادث، اغتيل السادات في حادث المنصة الشهير، أثناء العرض العسكري في أكتوبر 1981.

ما بعد السادات: عصر التبعية
خلفه حسني مبارك، وقد دخلت البلاد مرحلة النفوذ الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية الكاملة. وعلى مدار ثلاثة عقود، حققت البرجوازية المصرية طفرات اقتصادية كبيرة، لكنها لم تنعكس إيجابًا على بقية شرائح المجتمع. بل استمر النظام في الاقتراض من البنك الدولي، وفرض السياسات التقشفية التي أدت إلى تدهور حاد في مستوى معيشة معظم فئات الشعب.

وظل هذا النمط من الرأسمالية المشوّهة النهبوية يراكم ثروة الطبقة البرجوازية، تحت حماية الجيش، الذي تدفقت عليه المعونات الأمريكية، وصار يمتلك إمبراطورية اقتصادية ضخمة تعمل في معظم القطاعات، في ظل فساد مستشرٍ ونهب منظم للمال العام، رافق عملية خصخصة القطاع العام.

وفي الجهة الأخرى من المجتمع، كان هذا النمط المشوّه يراكم الفقر والانهيار المعيشي والخدمي، في ظل حكم قمعي استبدادي، يغلق كل أبواب التعبير أو التغيير.

ونمنا سنواتٍ مدهشة،
نحلب لياليَ حُلمنا المنتظر،
وامتلأت الأسواق بالمواكب،
تبيع صديد الوهم والمراكب،
فارشةً بالوطنِ على الرصيف،
بالفكر والجياع، وبالعناكب، ومذلّة الرغيف.

ثورة 25 يناير: “الشعب يريد إسقاط النظام”
لعب تحالف البرجوازية والجيش دورًا إجراميًا خبيثًا في خداع الشعب وتضليله، بدءًا من كذبة أن الجيش حقق انتصارًا حاسمًا في حرب أكتوبر 1973 وأنه حرر سيناء، وهو ما لم يحدث، وصولًا إلى كذبة السلام، الذي كان في حقيقته استسلامًا، وتحول إلى مهادنة للكيان الصهيوني، العدو الطبيعي للشعب المصري وشعوب المنطقة.

في حين أن الدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة، باعتبارها قوة استعمارية ذات مشروع استيطاني قومي، هو إبقاء شعوب المنطقة مقسمة وخاضعة للقوى الاستعمارية الداعمة لها (بريطانيا سابقًا، وأمريكا حاليًا)، وإجهاض أي محاولات مستقلة للتصنيع أو التحديث تسمح بازدهار المجتمعات العربية، بما يضمن استمرار خضوعها للهيمنة الغربية. ومنذ منتصف السبعينيات، أصبح النظام المصري، بقيادة البرجوازية الخاضعة للجيش، جزءًا من هذا المشروع الصهيوني المعادي.

وقد حذر كثير من المفكرين والمثقفين والعلماء، منذ بداية مسار السلام مع الكيان الصهيوني، من أن هذا “خطأ تاريخي”، وأن إسرائيل كيان استعماري سرطاني يستهدف إضعاف وتفكيك المجتمعات العربية. وبعد مرور أكثر من نصف قرن، تحققت بالفعل تلك التحذيرات، حيث ظل النموذج الاقتصادي الرأسمالي المشوّه، الخاضع للنفوذ الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية، يراكم الأرباح لصالح الطبقة البرجوازية، بحماية الجيش الذي استحوذ بدوره على حصة معتبرة من الاقتصاد، فيما ظل المجتمع يغرق في الفقر والجهل والتهميش.

حتى جاءت لحظة الانفجار في عام 2011، واندلعت ثورة 25 يناير، معبّرة عن فشل العملية السياسية برمتها، وفشل نموذج التنمية المرتبط بها. ولأول مرة يهتف ملايين المصريين بحرية: “الشعب يريد إسقاط النظام”، تعبيرا عن رغبة صادقة في إسقاط النظام الذي أورثهم الهزائم والتبعية والمذله. لكن لم تُسقط الثورة النظام، بل أسقط النظام الثورة نفسها وإخماد صوت الشعب.

نجح النظام في التماسك، وإجهاض الثورة، وانتصرت الجيش على الخصم الوحيد الذي دائماً ما ينجح في هزيمته وهو أبناء الشعب من المدنيين. فمنذ 2011 وحتى اليوم، قُتل وسُجن وعُذب واختُفي قسريًا عشرات الآلاف من المواطنين، وفي المقابل، اندفعت العلاقات بين النظام والاحتلال الإسرائيلي نحو مزيد من التقارب، حيث قال عبد الفتاح السيسي في مقابلة مع برنامج 60 دقيقة على قناة CBS الأمريكية عام 2018، عندما سُئل: “هل تقول أن هذا أعمق وأقرب تعاون جرى بينكم وبين إسرائيل؟”، فأجاب دون تردد: “صحيح”.

ربط واستنتاجات منطقية
“التاريخ يكتبه المنتصرون” مقولة صحيحة لكنها لا تنطبق على واقعنا، لأننا لسنا المنتصرين. بل نحن من خُدعنا بتاريخ مزيف صاغه المنتصرون الحقيقيون، كي يستمر انتصارهم وهيمنتهم. في واحدة من أكبر الأكاذيب في القرن العشرين، حيث خدع شعب بأكمله لعقود طويلة.

وكما تحالفت الطبقة الإقطاعية والقصر مع الاحتلال البريطاني في مواجهة الثورات الشعبية، كما حدث مع ثورة عرابي، فإن البرجوازية العسكرية الجديدة، التي ورثت السلطة عن الطبقة الإقطاعية ورثت تقاليد الطبقة التي أطاحت بها، فتحالفت هي الأخرى مع الاحتلال الصهيوني وخضعت للهيمنة الأمريكية لضمان بقائها واستمرار حكمها. هكذا أصبحت البرجوازية العسكرية المصرية شريكًا في مشروع الهيمنة الإسرائيلي الأمريكي.

هل يعني ذلك أن لا مصالح أو تنمية تحققت من هذا “السلام”؟ بالطبع لا. لقد تحققت مصالح وتنمية، لكنها ليست مصالح عامة. بل هي مصالح مشتركة للبرجوازية العسكرية المصرية، وإسرائيل، والولايات المتحدة، على حساب الشعب المصري وضد مصالحه، تمامًا كما كانت مصالح القصر والإقطاعيين متحققة تحت الاحتلال البريطاني.

إن مسار الخضوع والتبعية، الذي سلكته الطبقة الحاكمة المصرية بعد هزيمة الجيش مجددًا في 1973، ما زال مستمرًا حتى اليوم، محققًا مصلحة الطبقة الحاكمة من الجيش والبرجوازية على حساب الشعب المصري، وكذلك على حساب الشعب الفلسطيني الذي يُباد الآن جماعيًا.

نحو الإجابة الحتمية
حين طرحنا في المقدمة سؤالًا افتراضيًا: ماذا لو أننا لم ننتصر في أكتوبر، بل جرى تسوية الصراع عبر تفاهمات تضمن مصالح النظام والاحتلال؟
وقد فندنا هذه الفرضية وخلصنا إلى أنها صحيحة. وبالتالي، فإن الواقع الذي نعيشه اليوم من تدهور وتراجع وتواطؤ مع الاحتلال هو نتيجة حتمية لهذه التسوية.

لكن يبقى السؤال الحقيقي الآن هو: هل نحن قادرون على تحدي هذا الواقع؟ وهل نرغب حقًا في تحديه؟ وهل نملك خيارًا آخر غير تحديه؟

لكن قبل الإجابة، من المهم التأكيد على العلاقة الوثيقة بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، وهي العلاقة التي عبّر عنها لينين بوضوح في عبارته الشهيرة: “السياسة هي التعبير المُكثف عن الاقتصاد”. أي أن السياسة ليست سوى أداة لتهيئة الأوضاع بما يخدم نمطًا اقتصاديًا محددًا. ولأن القوة العسكرية تُعد إحدى أدوات السياسة، فإن الحروب الإسرائيلية التي أعادت تشكيل المشهد السياسي في المنطقة طوال 77 عامًا، منذ تأسيس دولة الاحتلال، لم تكن تهدف فقط إلى تحقيق مكاسب سياسية أو توسعية، بل كان هدفها الأعمق هو استدامة السيطرة الاقتصادية الرأسمالية الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، على بلدان وشعوب المنطقة، وإخضاعها للنموذج الغربي النيوليبرالي، ومنع أي مسار تحرري أو مشروع نهضوي مستقل.

ما يعني أن الأفق الوحيد لتحررنا، كشعوب في هذه المنطقة، يمر بالضرورة عبر الخروج من هذا النسق الاقتصادي الذي فُرض علينا بقوة القمع السياسي، والذي تتبناه النخبة الحاكمة حفاظًا على امتيازاتها وبقاء سلطتها، وضمانًا لتدفق أرباح الطبقة البرجوازية المتحالفة معها.

وهذا يقودنا إلى نتيجة بالغة الأهمية هي: إننا لسنا ضد الاحتلال الإسرائيلي فقط لأنه يحتل فلسطين ويُبيد شعبها جماعيًا، رغم أن ذلك وحده كافٍ تمامًا لرفضه ومعاداته. بل إننا، بالأساس، ضده لأنه يُشكّل نقيضًا مباشرًا لمصالحنا الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، ويعمل باستمرار، مع داعميه الغربيين، على إدامة تبعية نُخَبنا الحاكمة، وإحكام السيطرة علينا من خلال وكلائه المحليين من برجوازيات ونظام استبدادي. وعلى الرغم من أن هذا التناقض يبدو بديهيًا ومنطقيًا، إلا أن واقع الهيمنة السياسية والإعلامية، والقمع الممنهج، قلب المعادلة، فأصبح الضحية تابعة للجلاد، ومصالح الشعب مفقودة في زحام تحالفات القمع.

نعود الآن للإجابة سؤال: هل نحن قادرون على تحدي هذا الواقع؟ وهل نرغب حقًا في تحديه؟ وهل نملك خيارًا آخر غير تحديه؟

بدايةً، فإن سؤال القدرة مرهون بالإرادة. فإذا امتلكنا الإرادة ونجحنا في كسر القيود التي تكبلنا، سنكون دون شك قادرين على تحدي وتغيير هذا الواقع. أما سؤال الرغبة، فهي أمر بديهي في ظل تضاد المصالح. فأنت إذا واجهك ذئب جائع في طريقك، فهل سترغب أن تكون وجبة عشاء له، أم تصارعه لتحمي نفسك وتدفعه للانصراف لحال سبيله بعيدا عنك؟

نصل إلى السؤال الأخير: هل نملك خيارًا آخر غير تحدي الواقع؟
وفي الحقيقة، هو ليس مجرد خيار، بل مفترق طرق وجودي.
فأمام الواقع المهزوم الذي ينتصب أمامنا كالجبل ويسد عنا طريق المستقبل، لا خيار أمامنا سوي تحدي هذا الواقع، وهو ما سيحدد ما إذا كنا سنحجز لأنفسنا مكانًا في المستقبل، أم سنقبل الخروج من التاريخ كجماعة بشرية فاشلة. فحقا هو مفترق طرق وجودي. وإما نكون، أو لا نكون.

يا مصر قومي وشدي الحيل
كل اللي تطلبيه عندي

يا مصر لسه عددنا كتير
لا تجزعي من بأس الغير

هوامش:

1- أحمد عبد الله، “الطلبة والسياسة في مصر”.
2- المصدر السابق.
3- جمال حمّاد، “حرب أكتوبر 1973 العاشر من رمضان.. المعارك الحربية على الجبهة المصرية”.
4- المصدر السابق.
5- الفريق سعد الشاذلي، “مذكرات حرب أكتوبر”.
6- اتفاقية فك الاشتباك الأولى (مصر إسرائيل).
7- اتفاقية فك الاشتباك الثانية (مصر إسرائيل).
8- عصمت سيف الدولة، “هذه المعاهدة.. رسالة إلى مجلس الشعب المصري حول معاهدة كامب ديفيد”

https://soc-rev-egy.org/2025/05/04/%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D8%9F-%D8%A7%D9%85-%D9%83%D8%B0%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D9%83/



#الثورة_الاشتراكية_-_نضال_من_أجل_مجتمع_حر_وعادل (هاشتاغ)       Socialist_Revolution_-_Struggle_For_A_Free_And_Just_Society#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أمانة شباب الحركة المدنية مسار إصلاحي بلا إصلاح
- فعلتها العصابة وقتلتهما بدم بارد، لن ننسي لن نغفر لن نسامح
- لن تكون هذه الزيادة الأخيرة ما لم نتحرك الآن
- لا لتهجير أهالي الوراق يا سيسي
- من أجل معتقلين وأطفال ولاجئين وناجيات وغيرهم
- عدوان امريكي على اليمن وإعادة تشغيل الإبادة الفلسطينية
- رفض التهجير ليس بالشعارات- تعليق على بيان القمة العربية
- بين الوقاحة الأمريكية والخذلان المصري
- الاصطفاف المشبوه
- حزب الجبهة “المخابرتية” إعادة تدوير النفايات الوطنية
- ذكرى مجزرة استاد الدفاع الجوي 8 فبراير 2015
- ماذا ينتظر السيسي بعد سقوط بشار ؟
- حادثة السفينتان كاشفة – بناء جيش الثورة واجبة
- من نحن
- موقعة الجمل .. كي لا ننسى - مصر
- -غندور بطل يشجع- شهداء مجزرة ستاد بورسعيد، لن ننساكم
- إضراب عمال النساجون الشرقيون للمطالبة بزيادة العلاوة السنوية ...
- صفقة السيسي السياسية الدفع مقابل الإبادة الجماعية
- في ذكرى الثورة الرابعة عشر: “جاك الدور يا ديكتاتور”
- توقفت الإبادة، لكن لم يتوقف العدوان. تحرير فلسطين يبدأ بتحري ...


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون عزمهم فرض -حصار جوي- على إسرائيل
- الأردن.. إحباط محاولة تسلل وتهريب كميات كبيرة من المواد المخ ...
- ترامب يقول إنه لا يسعى للترشح لولاية رئاسية ثالثة
- بوتين يؤكد.. نملك كل ما يلزم لتحقيق هدفنا
- انفجار الوضع في السويداء مجددا.. اشتباكات وقصف بـ-الهاون- (ف ...
- رومانيا.. سيميون يتصدر الانتخابات الرئاسية بعد فرز 90% من ال ...
- لـ-أطفال غزة-.. وصية الراحل فرنسيس الأخيرة (صور)
- الأردن.. إحباط محاولة تسلل وتهريب كميات كبيرة من المواد المخ ...
- الحوثيون يخطرون منظمة الطيران الدولي والاتحاد الدولي للنقل ا ...
- مسيرة الفوج الخالد تجوب شوارع بيروت


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - الثورة الاشتراكية - نضال من أجل مجتمع حر وعادل - هل كانت حرب أكتوبر انتصار ؟ ام كذبة من كذبات النظام ؟