|
إضاءة فلسفية .. ما الذي يجعل الجميل جميلاً؟
سامي عبد العال
الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 00:12
المحور:
الادب والفن
ينتمي الجَمال كظاهرةٍ معياريةٍ إلى الفلسفة. تحديداً إلى النظرة العامة للتفلسف بحكم مقاييس الجمال الكامنة لدينا جميعاً. الجمال مثلُه مثل الأخلاق يدخل حيز ما ينبغي أنْ يكون. أي أننا نتطلع إلى الشيء الجميل، لكوننا نتمثل مقاييس بعينها تجاهه. ونقول إنّ هذا المشهد أو ذاك جميلٌ، لأنه يتوافر على سماتٍ معينةٍ دون سماتٍ أخرى. ويظل التطلُّع نحوّه بمثابة القدرة على شحذ ذائقتنا إزاء الموضوعات المختلفة. ومن ثمَّ، يتقاطع علم الجمال مع مساحة الفلسفة ضمن هذا الجانب، فهو حقل معرفي يرجع إلى الإحساس الجمالي بالأشياء والعالم والوجود والطبيعة. وهي موضوعات الفلسفة الأثيرة كما هو مشهور. فالأشياء" تتقطّر" دلالةً عن طريق التذوق والحس الجماليين إلى محدداتٍ للخبرة الحياتية. حتى أنَّها تشكل بُعداً من أبعاد القيمة لدينا نحن البشر.
القيمة هي المبحث الثالث فلسفياً بعدَ مبحثي الوجود والمعرفة. بلغة اصطلاحيةٍ، القيمة هي مجال الأكسيولوجيا Axiology بعد الابستمولوجيا ( نظرية المعرفة Epistemology ) والأنطولوجيا ( الوجود Ontology) عبر تاريخ الفلسفة. وفي حالة لو غَضّ الإنسانُ نظرَه التأملي حول هذه الأشياء، ستظهر أبعاد القيم السابقة على هيئة خلفيات تُضفي على الأشياء والأفعال دلالةً ومغزى. ويصبح الإنسان معنيّاً بما تُمثله الخلفيات داخل المجتمع واللغة والتاريخ، وستبدو مهمة في رؤيتنا للعالم. إن الدلالة تعطي الإنسان ( براحاً جمالياً) من جهة كيفية العيش وممارسة الحياة. فهو كائن باحث عن المعنى، باحث عن الجمال ، باحث عن المعزى العميق لوجوده. تحت كافة الأكراهات تقبع هذه القيم الحرة داعية إياه إلى مقاومة القبح ودفع القيود جانباً.
الحس الجمالي
في رصيد المعجم اللغوي اليوناني، كان الجَمالُ يعني الأستطيقا Aesthetics. يشير في دلالته المبدئية إلى " الإدراك الحسي perception " تجاه الأشياء، والاشتراك معها في تجربة معيشةٍ. ولا أدل على ذلك من أنَّ اللوغوس Logos كان يشير في الثقافة اليونانية إلى الكلام speech. وهو ليس أيُّ كلام متى جاء على ألسنة الناس، بل هو تجربة " الكلام مع ".. أي التكلُّم مع شيءٍ أو كائن أو حقيقةٍ لها حضور حسي.
عندما يتكلم الإنسانُ مع تلك المفردات، فإنّ هناك " علاقةَ جَمْعٍ " بين المتكلم والمتلقي، أي لا يجمعهما إلاَّ علامات منطوقةٌ. وإذْ يتكلم الإنسان، يكون في حضرة من يكلمه وجهاً لوجه، أي يدخل معه في دلالة حضور. إنَّ كل كلامٍ هو شكل تواصلي بين طرفين أو أكثر لا من طرف واحد. على هذا المنوال، فالحس الجمالي يتجلي بهذا التنويع: " حس مع " أو "حس بـ" أو"حس تجاه". وذلك يؤدي إلى أن يعيش الإنسان تجربة تذوق بطريقةٍ من الطرق.
1- "حسٌ مع" هو تجرية إحساسٍ مع شيءٍ ما، أنْ نكون في تجربة سماع موسيقى أو غيرها.
2- "حسٌ بـ " هو الشعور بتجربة الحس على مستوى الأثر الواقع لدينا، فالحس هنا بمثابة المادة المشتركة التي نتذوق بواسطتها الموضوع الجمالي.
3- "حسٌ تجاه" قدرة تبلور الإدراك الحسي إزاء شيء ما، مثل مشاهدة المسرح والاستمتاع بالصورة والتفاصيل التي تجسد العمل المسرحي.
و بناءً عليه، فإنَّ هنالك حقيقةً ما دالةً قد يفترضها الجمال افتراضاً عندما ( يحس) الإنسان بموضوع جمالي. ومع ذلك لا يستمر افتراض الحقيقة دون السؤال حول ماهية الإبقاء عليها وإمكانية وجودها بالنسبة إلينا. حيث تتأخر الحقيقة رويداً لتظهر الدلالة متعلقة بقيم الإنسان. هي القيم الكبرى في الحياة ( الخير – الحق – الجمال). وفيما بعد طالما أن الإنسان يشعر بنوع من الدلالة أو غيرها، فهي مصدر الإحساس تجاه هذه الحقيقة. بالأحرى تجدد الدلالة زخم الحقيقة التي يتمثلها الجمال بين الذوات. ذلك أنَّ "الحس مع" هو تجربة جمالية مع الطبيعة أو الكائنات أو الأشياء في مظاهرها المتنوعة لترتد إلى كونها معنى. و" الحس بــ " عبارة عن إحساس بالآخر ووضع الشعور في مستوى تاريخي موازٍ لمغزى وجوده كما يقول الفيلسوف الألماني فيلهلم دلتاي في كتابه "مقدمة إلى الدراسات الإنسانية". بينما "الحس تجاه كذا" هو تمثُل صوب كائن متعالٍ بالمعنى الميتافيزيقي أو صوب مشهد ما قابل للتذوق.
ومثلما يرى مارتن هيدجر: إذا كانت اللغةُ هي التي تحمل تاريخَ الفلسفةِ، فإن الحسَ الجمالي يعبرُ عن ماهية القيمة الجمالية الممنوحة في تجربة أو أخرى على هيئة صورةٍ. والصور مرتبطة بمستويات المعنى لدينا. لرُبّ صورة لا قيمة لها عند البعض بيد أنها لدى البعض الآخر تأخذ إطار القداسة أو التذوق الجمالي النادر. وذلك مرهون بقدرتنا على الاحساس بالمعنى. إذن لا بد من التنقيب حول ما يجعل الجميل جميلاً؟ وما الذي يوفر المفاهيم التي تقف خلف الموضوعات الجمالية؟
إن التحليل الفلسفي الجمالي لا يسير في الهواء. أي ليس علم الجمال نظريةً في حد ذاته على الرغم من تعدد اتجاهاته ومذاهبه. لكن المهم عندما ندرْسَّه يجب أن نستحضر ونفكر في الخلفية الفلسفية التي ينهض عليها. و يجب بذل المحاولة تلو المحاولة لمعرفة نقد معايير الجميل وأسسه. أي لا بد أن نعرف المذاهب الفكرية التي تشكل رؤى الفلاسفة، لكي نعرف مبررات الموضوع الجميل وشروطه. وذلك أيضاً لكي ندرك - على سبيل التوضيح- العلاقة بين الجمال والمفاهيم الأخرى، كمفاهيم المثال والطبيعة والحقيقة والفن والسياسة والرمز والمقدس وغيرها. لأن هذه الأخيرة تتداخل مع الجميل بصورة أو بأخرى.
مرتبة وسيطة
معنى ذلك أنَّ علم الجمال في ( مرتبةٍ وسيطةٍ ) بين الرؤية الفلسفية والموضوعات التي يحللها. فهو يستعمل مفاهيم وأدوات الفلسفةِ في تحليل وتبرير ما ليس فلسفياً. والجدير بالذكر أنه لكي نعرف كُنه علم الجمال يجب علينا أن نتعلم تقنياته الفلسفية أو نذكر الأمثلة الشعرية أو الفنية أو اللغوية التي تنطبق عليها، وذلك البعد حتى نستطيع تبرير المواد(المفاهيم، الموضوعات)غير الفلسفية في أكثر من مجالٍ قريب أو بعيد. وأثناء تحقق المستوى الجمالي يمكن له أن ينقل أشياءً غيرَّه مثل التصورات السياسية أو الحقائق الاجتماعية. ولعلّ ذلك يتضح من خلال المدارس الفنية الجمالية، مثل الرومانسية، أو الانطباعية أو الفوضوية، أو الماركسية. فهي مدارس نشأت ومارست دورَّها في سياق فلسفي له معطياته السياسية والتاريخية. ولم تبتعد عن مشكلات العصر الذي وجدت فيه. إنَّ مادة علم الجمال كتحليل فلسفي لجماليات النصوص واللغة والطبيعة والفنون والممارسات الثقافية تتيح لنا فرصةً لاستعمال ذلك المنهج الكشفي. من هنا سنعرف أثناء مطالعة القضايا الجمالية: لماذا يستخدم بعض النقاد وسائط فنية كالشعر والرواية والأسطورة والمسرحية وغيرها، أو لماذا يستخدمون أية مادة ثقافية مكتوبةً أو منطوقةً كمادة للتفكير الفلسفي الجمالي؟! من هنا يمكن معرفة أفكار علم الجمال فلسفياً كمنطلقات نظرية لتحليل موضوعات متفرقة كما ذكرت. لقد كانت تلك الأفكار شغل الفلاسفة الشاغل لرؤية جوانب الطبيعة، والأشكال الفنية، والفعاليات الإنسانية. نفهم منها بالدرجة ذاتها أنَّ تلك الموضوعات تلبس أرديةً ثقافيةً أو اجتماعيةً. وأن أبعاد الجمال لا تنسلخ بعيداً عن فحوى الأشياء والممارسات، لأن الجمال جزء (دلالة) من وجودنا الإنساني في كافة مناحيه وإن غاب موضوعه المباشر.
لا موضوع جمالي خام خارج هذا الفهم، لا موضوع جمالي يحتاج إلى طهي فوق نار غريبة غير ذائقتنا. ونعرف من ذلك أيضاً: كيف يفكر المجتمع في قضايا الجمال من منظوره الفلسفي ككل؟! أكاد أقول إنه في جميع الأحوال يصعب دراسة مذهب جمالي لأي فيلسوف من غير الاطلاع على منطلقاته الفلسفية. هذا ما سنؤكده لدى أفلاطون وأرسطو وكانط .. وصولاً إلى جماليات الحداثة وما بعد الحداثة. وسيحكم التحليل من جهةٍ، وسيعيد تشكيل المواد التي يحللها من جهةٍ أخرى.
السؤال المُهم اختصاراً: بأية صيغة يكون الجميل جميلاً؟ ثمة مقولة شائعة مأخوذة من شعر إيليا أبي ماضي، لكنها تبلغ درجة من العمق والوضح معاً: " كن جميلاً ترى الوجود جميلاً". أي أنَّ الجمال يعود إلى الانسان القاطن داخلنا، هو من يحكم ويعاير ويرى الأشياء من زاويته المفتوحة. الجمال غاية لا وسيلة، معنى لا مادة، قدرة على الاحساس لا مجرد إدراك. لأنّ المعايير داخلية والتقييم يبدو مأخُوذاً بدلالة الجمال إنْ وُجدت.
يؤكد أبو ماضي تلك الفكرة: " والذي نفسه بغير جمال، لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً ..." فالمعاملة بالمثل مع القيم الكبرى في حياتنا، لا ينتج الجمال الداخلي إلاّ جمالاً.. كيف لمَن لا يشعر بدلالة الجمال أنْ يجد شيئاً من ذلك. بل قد لا يرى أيّ شيء، فالبوصلة التي تسمى الدلالة بوصلة مشطوبة العلامات وحائرة بين أشياءٍ بلا قيمةٍ.
#سامي_عبد_العال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صوت فيروز .. الفناء والبقاء
-
اللغة... لحمُ الشُعراءِ
-
العقل والسلطة في الثقافة العربية
-
الكتابة ... الرؤية والزمن
-
تأويل النعال (8)
-
تأويل النعال (7)
-
تأويل النعال (6)
-
فلسفة النعال (5)
-
فلسفة النِعال (4)
-
فلسفة النِعال (3)
-
فلسفة النِعال (2)
-
فلسفة النِعال (1)
-
جنة الملعون
-
اغراء المختلف
-
الأشياءُ التي كأنَّها لم تكُن
-
الإشباع الثقافي
-
تجليات الروح الشعبي
-
ترويض الطُقوس
-
السعادةُ قهراً
-
الناسُ ... هكذا هي الحياة
المزيد.....
-
نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالروائي حميد المختار
-
صراع في نقابة الفنانين السوريين.. مازن الناطور يلغي قرار عزل
...
-
نقيب الفنانين في سوريا مازن الناطور يرد على قرار عزله بإقالة
...
-
-مين فيهم-؟.. صناع فيلم -درويش- يشوقون الجمهور لشخصية عمرو ي
...
-
سوريا.. هل قرار سحب الثقة من نقيب الفنانين مازن الناطور صائب
...
-
قداس يتسم بأجواء أفلام -حرب النجوم-.. كنيسة ألمانية تبتكر وس
...
-
قبل حوالي 2500.. كيف أسست أميرة بابلية أول متحف في العالم؟
-
سناء الشّعلان تفوز بجائزة مهرجان زهرة المدائن الفلسطينيّة عن
...
-
نقابة الفنانين السوريين تسحب الثقة من نقيبها مازن الناطور وس
...
-
مصر.. مقترح برلماني بتقليص الإجازات بعد ضجة أثارها فنان معرو
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|