الانتحار و-العدوى العاطفية- أو -Copycat Effect-

حسام كناعنة

الحوار المتمدن-العدد: 8330 - 2025 / 5 / 2 - 00:24
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    

تقرير صحفي "غير عادي" يجعلني أغوص في الشبكة العنكبوتية العالمية، وأستحضر ثِقل غرفة العلاج وقصص الانتحار ومحاولات الانتحار لدي مراهقات تعرّضن للتنمّر.
فقبل ثلاثة أيام ظهر تقرير إخباري في إحدى المواقع العبرية، بعنوان "دراما في شيبا: ثلاث مريضات حاولن الانتحار"، وجاء به:
"حادث خطير في المركز الطبي شيبا: ثلاث مريضات شابات حاولن إنهاء حياتهن بعد خروجهن من قسم نفسي مفتوح خلال 48 ساعة". في نهاية التقرير ذُكر تعليق إدارة المركز الطبي: "هناك ظواهر معقّدة يصعب توقّعها، مثل "Copycat Effect" (العدوى العاطفية). نحن نرافق المريضات والعائلات في رحلة العلاج المعقّدة".
ما تقوله إدارة المركز الطبي هو إنّ الفتيات الثلاث، إحداهن تبلغ 19 عامًا والأخريات في العشرينيات من العمر واللّواتي "نجَونَ من إصابات خطيرة، وخَضعْنَ لعمليات جراحية"، أقدمْنَ على "محاكاة" بعضهن البعض، وتأثّرْنَ يما يعرف بـ "العدوى العاطفية"، الـ"Copycat Effect"، التي تُشير إلى ظاهرة اجتماعية- نفسية حيث يقوم الأفراد بتقليد سلوكيات سلبية (مثل الجرائم والانتحار وغير ذلك) بعد التعرّض لها عبر وسائل الإعلام أو مصادر أخرى (مثل التواجد في ذات المحيط والبيئة، كالمشفى أو المدرسة أو البلدة). يُلاحَظ هذا التأثير غالبًا عندما تؤدّي التغطية الإعلامية الواسعة لحادثة مُعيّنة إلى زيادة في الحوادث المشابهة بسبب التقليد.
في حالات الانتحار، تُعرَف هذه الظاهرة أيضًا باسم "تأثير فيرتر" (Werther Effect)، وهي ظاهرة اجتماعية- نفسية تُشير إلى "تقليد الانتحار" بعد نشر أخبار أو تفاصيل عن حالات انتحار بشكلٍ مُبالغ فيه أو إعلامي جذّاب. سُمي هذا التأثير نسبةً إلى رواية "آلام فرتر" للأديب الألماني "غوته" (1774)، "حيث انتحر بطل الرواية (فيرتر) في نهايتها، ممّا أدى إلى موجة من حالات الانتحار المماثلة بين الشباب في أوروبا آنذاك، الذين قلّدوا طريقة انتحاره وارتدوا ملابس مشابهة لملابسه!".
وقد ذكر الباحث "سمير الشناوي" (2018)، في مقالة له بعنوان "هل الانتحار مُعدٍ؟ تأثير فيرتر"، إلى أنّ أوّل من درس هذه الظاهرة وصاغ مصطلح "تأثير فيرتر" (Werther Effect)، كان عالم الاجتماع الأمريكي والأستاذ بجامعة كاليفورنيا "دافيد فيلبس"، عام 1974، وذلك في دراسة له: "تأثير الإيحاء على الانتحار: التداعيات النظرية والواقعية لـ "تأثير فيرتر" Influence of Suggestion on Suicide: Substantive and Theoretical Implications of the Werther Effect. حيث " برهن (فيليبس) بإحصاءاتٍ عديدة على صحة هذه الظاهرة، مؤكدًا على أنَّ التغطية الإعلامية الكبيرة وتكرار نشر التفاصيل الخاصة بحالات الانتحار تؤدي إلى زيادة حالات الانتحار؛ حيث يؤدي ذلك إلى تشجيع الفئات الهشَّة والأكثر عرضة لمخاطر الانتحار".
دراسة جديدة نسبيًا عن هذه الظاهرة، بعنوان: "Werther effect in the juvenile population. About a series of cases" والتي نُشرت في "19 يوليو 2023" ضمن مجلة "European Psychiatry"، كانت تهدف إلى "دراسة تأثير "فيرتر" (تقليد السلوك الانتحاري) بين الشباب الذين يعانون من اضطرابات الشخصية وتعاطي المخدرات، بعد انتحار صديق مشترك". "عيّنة" الدراسة تكوّنت من 4 أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و21 عامًا (3 إناث و1 ذكر)، جميعهم من نفس المجموعة الاجتماعية، حاولوا الانتحار خلال شهرين بعد انتحار صديقهم البالغ 20 عامًا.
وقد جاءت النتائج، كما ورد في الدراسة على النحو التالي:
1. تم تشخيص اثنين منهم باضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder) وتعاطي متعدد للمخدرات.
2. حالة واحدة شُخِّصت باضطراب الشخصية الفصامية (Schizoid Personality Disorder).
3. جميع الحالات تطلبت تدخلًا نفسيًا طارئًا، بما في ذلك العلاج النفسي والمتابعة في عيادات الإدمان.
أمّا الاستنتاجات فكانت كالتالي:
- الشباب المصابون باضطرابات الشخصية وتعاطي المخدرات أكثر عرضة لتقليد السلوك الانتحاري، خاصة في بيئات اجتماعية مغلقة.
- أهمية تحسين التغطية الإعلامية للانتحار لتجنّب الترويج غير المقصود للظاهرة .
من الجدير ذكره هنا هو أنّه تزداد خطورة "التقليد الانتحاري" بشكل كبير جدًا عند تغطية حالات انتحار المشاهير، خاصة بين الفئات العمرية المشابهة؛ ففي كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، "أدّى انتحار ممثّلة شهيرة إلى زيادة بنسبة "30%" في حالات الانتحار بين الشباب خلال 6 أسابيع".
للوقاية من هذا التأثير تنصح "منظمة الصحة العالمية" بتجنّب "نشر صور أو تفاصيل دقيقة عن طريقة الانتحار"، وعدم تقديم الانتحار كـ "حدث إخباري عادي" أو "تجميله"، والتركيز بدلًا من ذلك على "قصص النجاة والدعم النفسي المُتاح".
في هذا السياق يتمّ الإشارة إلى تعزيز ما يُعرف بـ "تأثير باباجينو" (Papageno Effect)، وهو التأثير المعاكس، "حيث تُسهم قصص التغلّب على الأزمات ومنع الانتحار في تقليل نسبة التقليد"، نسبةً إلى شخصية المهرّج "باباجينو" في أوبرا "الناي السحري"، التي وضع موسيقاها "موزارت" (1791). في الأوبرا، يوشك "باباجينو" على الانتحار لكنّه يجد الأمل، بعد أنْ أثناه عن القيام بذلك ثلاثة أطفال من شخصيّات الأوبرا عندما طرحوا عليه عدَّة بدائل.
في النهاية، إنّ الانتحار ظاهرة إنسانيّة معقّدة، تجعل المعالج النفسي يمشي على خيط دقيق، لكنّه ثقيل جدًا، خاصة حين يُلقي علينا المنتفع بتفكيره في "الرحيل" ويُفصِح عن رغبته في ذلك، ثمّ يخرج إلى عالمه وأفكاره، ويتركنا "والسكّين على الرقبة" (خاصة مع معرفتنا بوجود محاولات سابقة)، ونبقى مع هواجسنا إن كان سيُقدم على ذلك أم لا؟ وإن كان سيتّبع خطة الأمان التي وضعناها معًا وسيتوجّه إلى الطبيب النفسي وسيبلغ أحدًا من العائلة؟! و... و...، إلخ؟!

فيما يلي تعليمات وقائية موجّهة من "خط الحياة للوقاية من الانتحار"، في الولايات المتحدة الأمريكية:
من المهم جدًا الاستماع. حافظ على هدوئك وطمئنهم. اعترف بألمهم ولا تحكم عليهم. اسألهم عما إذا كانوا قد فكروا في الانتحار. إذا أجابوا بنعم، فإن الشخص المعني يحتاج إلى مساعدة فورية.
أعطِ رسالة مفادها أن الشعور بالإحباط أو الاكتئاب هو تجربة إنسانية وأن طلب المساعدة هو استجابة صحية، وليس علامة ضعف. شجعهم على التحدث إلى شخص يثقون به.
قدم لهم الأمل دائمًا. أشر إلى المواهب والقدرات التي يمتلكونها، وما تعنيه لحياة الآخرين ورفاهيتهم. دعهم يعرفون أن هناك حلولًا أخرى حتى لو لم يتمكنوا من رؤيتها الآن.
تعرف على علامات التحذير من الانتحار مثل:
• التحدث أو الكتابة عن الموت
• إظهار تحسن مفاجئ بعد فترة من الحزن أو الانسحاب
• مشاعر الفشل المستمرة
• إهمال المظهر الشخصي
• التشاؤم أو اليأس
• الانسحاب من العائلة والأصدقاء
لا تترك شخصًا يفكر في الانتحار بمفرده أبدًا. إذا شعرت أن الخطر وشيك، فقم بتوصيله بشخص ما، أو مقدم رعاية صحية، أو مركز أزمات، لضمان سلامته، وتقديم المساعدة والمتابعة.
تأكد من أن شخصًا ما سيعمل معه ومع عائلته للتأكد من عدم وصوله إلى الأسلحة النارية أو المواد التي قد يستخدمها لقتل نفسه.
إذا كنت على اتصال بأي شخص يعاني من أزمة صحة نفسية، فاتصل بوكالة الصحة النفسية المحلية أو الخط الوطني للوقاية من الانتحار. إنها خدمة مجانية وسرية.
حسام كناعنة: معالج نفسي
مصادر:
1. سمير الشناوي (2018): هل الانتحار مُعدٍ؟ – تأثير فيرتر Werther Effect، موقع المحطّة.
2. Phillips, D. P. (1974). The influence of suggestion on suicide: Substantive and theoretical implications of the Werther effect. American Sociological Review, 39(3), 340-354. https://doi.org/10.2307/2094294
3. Valverde Barea, M., et al. (2023). Werther effect in the juvenile population. About a series of cases. European Psychiatry, 66(Suppl 1), S1112–S1113. https://doi.org/10.1192/j.eurpsy.2023.2366
4. Concerned About Suicide? https://www.suicidepreventionlifeline.org

#حسام_كناعنة (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات