رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8327 - 2025 / 4 / 29 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ الإطاحة بالإقطاع، ظلت الحداثة تقدَّم على أنها مشروع تحرري يقود البشرية نحو العقلانية والتقدم، لكن في واقع الأمر، لم تكن سوى حقبة جديدة من السيطرة الطبقية. لم تحرر الجماهير، بل استبدلت استبداد الملوك بديكتاتورية السوق، ولم تُزل الأوهام، بل صنعت أوهاما جديدة تخدم رأس المال.
أما ما بعد الحداثة، التي ادعت "هدم اليقينيات"، فقدمت خيانة فكرية أفرغت المقاومة من محتواها، وجعلت النضال من أجل التغيير يبدو كأنه مجرد "خطاب متجاوز". وبين الحداثة البرجوازية وما بعد الحداثة العدمية، يكمن الصراع الحقيقي: الثورة الدائمة ضد النظام الرأسمالي.
أولًا: الحداثة – ديكتاتورية البرجوازية المقنّعة.
1. مفهوم الحداثة: عقلانية في خدمة رأس المال.
غالبا ما يتم تعريف الحداثة بأنها عصر العقل والعلم، لكن من يحدد مسار هذا العقل؟ ومن يملك أدوات العلم؟ لم يكن التنوير مشروعا محايدا، بل كان انعكاسا لمصالح الطبقة الصاعدة: البرجوازية.
عندما أعلن ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود", لم يكن يقصد العامل أو الفلاح، بل المثقف البرجوازي، الذي أصبح الفكر أداة لتبرير سلطته. وعندما تحدث كانط عن التنوير باعتباره "خروج الإنسان من حالة القصور"، لم يكن يدعو إلى تحرر الجماهير، بل إلى إحلال سلطة البرجوازية محل الإقطاع.
كما قال كارل ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية": "الأفكار السائدة في كل عصر ليست سوى أفكار الطبقة الحاكمة".
2. الحداثة والاستعمار: قناع التقدم على وجه الوحشية.
باسم "نشر التنوير"، غزت أوروبا بقية العالم، مستغلة العلوم الحديثة لتبرير الهيمنة. لم يكن التحديث سوى استعمار تحت غطاء "الرسالة الحضارية"، حيث تم نهب ثروات الشعوب وتدمير ثقافاتها المحلية.
وكما كتب فرانز فانون في "معذبو الأرض": "القوة الاستعمارية تتحدث عن التحضر، لكنها لا تعرف سوى العنف".
3. الدين كحليف عضوي للرأسمالية والعنف والتسلّط.
رغم أن الحداثة قدمت نفسها على أنها قائمة على العقل والعلم، فإنها لم تقطع فعليا مع الدين، بل أعادت تشكيله كأداة في خدمة النظام الرأسمالي. لم يكن الدين مجرد بقايا الماضي، بل كان ولا يزال شريكا أساسيا للهيمنة الطبقية.
كما قال ماركس: "الدين أفيون الشعوب"، لكنه أيضا أداة في يد الطبقات الحاكمة لإخضاع المضطهدين عبر إيهامهم بعدالة مزيفة في عالم آخر.
على الرغم من أن شعار "فصل الدين عن السياسة" أصبح من ركائز الحداثة، فإن الواقع يُظهر أن هذا الفصل لم يكن حقيقيا. في أوروبا وأمريكا، التي لطالما تباهت بعلمانيتها، نشهد عودة الأحزاب اليمينية ذات المرجعية الدينية، والتي تستغل المسيحية لتبرير سياساتها المعادية للمهاجرين والفقراء.
في الولايات المتحدة، أصبح "اليمين المسيحي" قوة مهيمنة داخل الحزب الجمهوري، حيث تُستخدم الأيديولوجيا الدينية لدعم السياسات الرأسمالية المتوحشة. كما كتب نعوم تشومسكي: "الدين في أمريكا ليس مجرد معتقد، بل هو سلاح سياسي يُستخدم لتبرير الاستغلال".
وفي أوروبا، نشهد صعود أحزاب يمينية قومية ذات طابع ديني، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا والجبهة الوطنية الفرنسية، التي تستخدم الخطاب المسيحي لتعزيز القومية وكراهية الأجانب.
بالتالي، لم يكن الدين ضحية الحداثة، بل تحول إلى أحد أدواتها في تكريس النظام الطبقي.
ثانيًا: ما بعد الحداثة – تفكيك الثورة بدلا من تفكيك السلطة.
1. تفكيك السرديات الكبرى:
الضربة القاتلة للوعي الطبقي
عندما أعلن جان فرانسوا ليوتار أن "ما بعد الحداثة تعني نهاية السرديات الكبرى"، كان ذلك إعلانا ضمنيا لنهاية النضال. إذا كانت كل الأفكار الكبرى مشبوهة، فما الذي يبقى من الماركسية؟ من فكرة الثورة؟
بدلا من أن تكون ما بعد الحداثة امتدادا لنقد النظام الرأسمالي، أصبحت سلاحا لتفكيك أي إمكانية للمقاومة.
2. فوكو: السلطة في كل مكان، لكن أين المقاومة؟.
اعتبر ميشيل فوكو أن السلطة ليست محصورة في الدولة أو الطبقة الحاكمة، بل هي متغلغلة في كل المؤسسات والخطابات. لكنه رفض الاعتراف بأن الصراع الطبقي هو جوهر السلطة، مما أدى إلى استنتاج خطير: إذا كانت السلطة في كل مكان، فمن المستحيل هزيمتها!
هذا التحليل قاد إلى السلبية السياسية، حيث تحولت مقاومة السلطة إلى مجرد احتجاجات رمزية، بدلا من الثورة الحقيقية.
3. دريدا والتفكيكية: العبث في زمن المعركة.
بينما كانت الطبقات الكادحة تناضل ضد الاستغلال، كان جاك دريدا مشغولا بـ"تفكيك النصوص"، وكأن الثورة ليست معركة سياسية واقتصادية، بل مجرد لعبة لغوية.
كما قال تروتسكي: "الثورة تحتاج إلى إيمان بالمستقبل، أما التشكيك المستمر فهو أداة للرجعية".
4. ما بعد الحداثة والرأسمالية المتأخرة: تكامل لا صراع.
يبدو للوهلة الأولى أن ما بعد الحداثة ترفض الرأسمالية، لكنها في الواقع شكلها الثقافي الجديد. كما كتب فريدريك جيمسون:
"ما بعد الحداثة ليست نقدا للرأسمالية، بل هي المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة."
ثالثًا: الحداثة الثورية كبديل – الثورة الدائمة ضد الاستغلال.
1. استعادة التنوير من البرجوازية.
لا يمكن للثورة أن ترفض العقلانية والعلم، بل يجب أن تستعيدهما من يد البرجوازية، وتوظفهما لصالح الجماهير. وكما قال ماركس:
"العلم بلا ثورة أعمى، والثورة بلا علم عرجاء."
2. تجاوز ما بعد الحداثة نحو النضال الحقيقي.
بدلا من إعلان "نهاية الأيديولوجيا"، يجب إعادة الاعتبار للماركسية كنظرية للنضال. الصراع الطبقي لم ينته، بل اشتد، وما نحتاجه اليوم ليس تفكيك الأفكار، بل تفكيك الأنظمة التي تكرس الاستغلال.
3. التاريخ ليس "نصّا"، بل ساحة معركة.
التاريخ ليس مجرد "سرديات"، بل هو سجل للصراعات بين الطبقات. وكل محاولة لجعله مجرد "نص قابل للتأويل" ليست سوى خدعة برجوازية لإفراغه من محتواه الثوري.
لم يكن الدين ضحية الحداثة، بل حليفا لها. لم تكن ما بعد الحداثة ثورة، بل خيانة للثورة. لم يكن الصراع يوما بين "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، بل بين الرأسمالية وخصومها.
وكما قال تروتسكي:
"البرجوازية لن تتخلى عن سلطتها دون نضال، وما من طبقة حاكمة عبر التاريخ تخلت عن سلطتها طواعية. الثورة هي ضرورة، وليست خيارا."
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟