|
الإبادة والخطاب: فجوة اللغة والواقع في زمن الدمار
وليد عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 8303 - 2025 / 4 / 5 - 05:56
المحور:
الصحافة والاعلام
مقدمة في زمن تتداخل فيه المصطلحات وتتشابك الروايات، تبرز الفجوة بين واقع الإبادة وطريقة تعاملنا معها لغويًا وإعلاميًا واجتماعيًا كأحد أبرز التحديات التي تواجه الوعي الإنساني المعاصر. نتحدث عن "الإبادة" كما لو كانت كلمة عابرة، نُدرجها في خطاباتنا وننشرها في إعلامنا ومنصاتنا، لكننا نُحيلها إلى إطار "الحرب" التقليدي، وكأننا بذلك نستطيع تبسيط ما لا يُبسط، أو احتواء ما لا يُحتوى. في غزة، حيث تتكشف واحدة من أبشع فصول التاريخ الحديث، نرى هذا التناقض بوضوح: واقعٌ يحمل كل سمات الإبادة الممنهجة، وخطابٌ يصر على تصويره كصراع عسكري ينتهي بنصر أو هزيمة. هذه المقالة تتناول هذه الفجوة بعمق،و هدفنا ليس فقط التشخيص، بل إعادة التفكير في كيفية استعادة اللغة والخطاب ليعكسا الحقيقة، ويحفزا الفعل بدلاً من تعميق العجز. القسم الأول: الإبادة ليست حربًا - تناقض اللغة والوعي في زمن الدمار نردد كلمة "الإبادة" بسهولة مخيفة، كما لو كانت مجرد مفردة عابرة في قاموسنا اليومي، نكتبها في منشوراتنا، نُلقيها في نقاشاتنا، لكن وعينا الجمعي، وخطابنا السياسي، وسلوكنا الإعلامي يظل أسيرًا لمنطق "الحرب". نتحدث عن غزة كما لو كنا نشهد صراعًا عسكريًا تقليديًا، ننتظر نهايته بـ"نصر" أو "هزيمة"، وكأن الدماء التي تُراق والأرواح التي تُزهق يمكن أن تُختصر في ثنائية بهذا البساط. لكن الحقيقة أعمق وأقسى: ما يحدث ليس حربًا بالمعنى الذي نعرفه، بل إبادةٌ ممنهجة، فعلٌ قصديٌ يستهدف ليس فقط الأجساد، بل أسباب الحياة ذاتها، في الحاضر والمستقبل. إنها عملية تتجاوز القصف والصواريخ، لتشمل تدمير البنية التحتية، تهجير السكان، ومحو الذاكرة الجماعية، بهدف استئصال إمكانية الوجود ذاتها. السبب الجوهري لهذا التناقض يكمن في الرواية الإعلامية التي شكّلت تصوراتنا منذ اللحظة الأولى. عندما أُعلن "وقف إطلاق النار" في المراحلة الأولى في غزة، اندفعت وسائل الإعلام وخصوصا الاكثر متابعة ومشاهدة – عربية كانت أم عالمية – لتقديم هذا الحدث كفصلٍ نهائي في قصةٍ عسكرية، تُفسرها وتُحللها ضمن إطار النصر والهزيمة. كأن ما مرّ على غزة لم يكن سوى مواجهةٍ بين احتلالٍ ومقاومة، تنتهي بتوقيع ورقة أو صمت المدافع. لكن الإبادة لا تُختصر في هذه الإجراءات السطحية. إنها ليست مجرد قصفٍ يتوقف أو صواريخ تُسكت، بل عمليةٌ عميقة تترك آثارها في نسيج الحياة، في ذاكرة الأرض والناس، في مستقبل من نجا ومن لم ينجُ. حتى لو توقفت الآن بمعناها المباشر، فإن شبحها سيظل يطاردنا بأشكالٍ لا تُحصى: منازل مدمرة لا تُعاد بناؤها، أجيال تُولد في ظل الفقدان، وجراح نفسية لا تُشفى بمرور الوقت. هذا التناقض بين اللغة والواقع ليس مجرد سوء فهم، بل هو نتاج تصميم متعمد. الإعلام، بمؤسساته الكبرى، اختار أن يُحصر الإبادة في قالب الحرب لأن ذلك يجعلها أكثر قابلية للاستهلاك والتبرير. الحرب لها قواعد، أطراف، ونهايات متوقعة، بينما الإبادة تُثير أسئلة أخلاقية لا تُحتمل، وتتطلب مواجهةً مباشرة مع المسؤولية الجماعية. لكن الواقع يصرخ بما لا يمكن تجاهله: غزة ليست ساحة معركة فحسب، بل مسرحٌ لجريمة تاريخية تتجاوز حدود الصراع العسكري. إن استمرارنا في استخدام لغة الحرب لوصفها ليس فقط تحريفًا للحقيقة، بل تفريغًا لها من قوتها الأخلاقية، وتخديرًا للوعي الذي كان ينبغي أن يتحرك لوقفها. القسم الثاني: وسائل التواصل - من المأساة إلى المشهد السينمائي لم تكن وسائل الإعلام التقليدية وحدها المساهمة بتشويه الحقيقة، بل جاءت وسائل التواصل الاجتماعي للتشارك مع وسائل الإعلام في إضافة طبقة أخرى من الاغتراب عن الواقع. لقد حولت مشاهد الإبادة – تلك الصور المروعة للأطفال تحت الأنقاض، والعائلات المشردة، والمدن المسحوقة – إلى محتوى افتراضي يفقد قوته الحقيقية مع كل إعادة نشر. بإضافة الموسيقى الدرامية، والتأثيرات الصوتية، والعناوين المثيرة، فتتحول هذه المشاهد من واقعٍ ملموس – جغرافيا نعرفها وألم نشعر به – إلى مجرد عرضٍ بصري يثير تعاطفًا عابرًا دون أن يُحرك غضبًا عميقًا أو يدفع إلى فعلٍ ملموس. كأنها أصبحت مشهدًا سينمائيًا، نُذرف عليه دمعةً سريعة، ثم ننتقل إلى المنشور التالي في سلسلة لا نهائية من التشتت الرقمي. هذا التحويل ليس بريئًا، بل هو جزء من عملية تفريغ الإبادة من دلالاتها القاسية. عندما تُصبح صورة طفلٍ مقتولٍ مجرد "محتوى" يُقاس بمعدل التفاعل أو عدد المشاهدات، تفقد تلك الصورة قدرتها على إثارة الصدمة الأخلاقية التي تستحقها. وسائل التواصل، بطبيعتها السريعة والاستهلاكية، تُحول المأساة إلى سلعة، تُباع وتُشترى في سوق الانتباه الرقمي. النتيجة هي اغترابٌ مزدوج: اغتراب المشاهد عن الواقع، واغتراب الضحية عن إنسانيتها. بدلاً من أن تكون هذه الصور دعوةً للتحرك، تصبح مادةً للاستهلاك العاطفي، تُثير الشفقة للحظة، ثم تُنسى في خضم الضجيج الإلكتروني. الاحتلال، في هذا السياق، نجح في تسويق خداعه إعلاميًا وسياسيًا. بينما يواصل تنفيذ الإبادة على الأرض، يعتمد على هذا التحويل الرقمي لتخفيف وطأتها في الوعي العام. لقد أدرك أن تكرار الصورة يُفقدها قوتها، وأن تحويلها إلى مشهدٍ سينمائي يُبعد الجمهور عن إدراك أن ما يحدث ليس حدثًا عاديًا يُقاس بمقاييس الحرب، بل جريمةٌ تتجاوز الثنائيات البسيطة للانتصار أو الخسارة. ونحن، بوعينا أو دونه، شاركنا في تكريس هذا الخداع، سواء بنشرنا غير الواعي لهذا المحتوى، أو بتقاعسنا عن مواجهة الواقع بما يستحقه من فعلٍ حقيقي. إن وسائل التواصل، التي كان يُفترض أن تكون أداةً للتعبئة، تحولت إلى مسرحٍ للعرض، يُعيد إنتاج المأساة كترفيهٍ عابر، بدلاً من أن يكون صوتًا للحقيقة. القسم الثالث: الإعلام العربي - أداة الدعاية الصهيونية ولعل أشد ما يثير الحسرة هو دور الإعلام العربي في هذا المشهد المأساوي. بدلاً من أن يكون صوتًا للحقيقة، أصبح منصةً دعائية تُكرر القوالب اللغوية الإسرائيلية بحذافيرها. النقل المباشر لمؤتمرات المتحدث العسكري الصهيوني، دون تمحيص أو إعادة صياغة، ليس مجرد خطأ تقني، بل خيانةٌ للغة وللمعنى. يتم تداول تصريحات مثل "صرح مصدر إسرائيلي مسؤول" دون التحقق من دقتها أو صحتها، ودون مراعاة الرمزيات المقصودة التي تحملها هذه الكلمات، أو الحرب النفسية التي تُصمم لتُشل الإرادة وتُزرع اليأس. إن هذا النقل الأعمى ليس مجرد تقصير مهني، بل مشاركةٌ فعلية في تكريس رواية الاحتلال، وتجريد الضحية من صوتها. المشكلة لا تكمن في المعلومة ذاتها – فقد تحمل بعض التصريحات الإسرائيلية شيئًا من الحقيقة – بل في غياب الفصل بين المعلومة والقالب اللغوي الذي تُقدَّم فيه. كان ينبغي للإعلام العربي أن ينقل ما يستحق النقل بلغته الخاصة، بعد التحقق من مصادر موثوقة، وبسياقٍ يحفظ كرامة الضحية ويُعرّي القاتل. لكن ما حدث هو العكس: انعكاسٌ أعمى للرواية الصهيونية، يُضفي عليها شرعيةً لا تستحقها، ويُكرس الشعور بالعجز بدلاً من تحفيز المقاومة أو التضامن. عندما يُصبح الإعلام العربي مجرد مرآة للدعاية الإسرائيلية، فإنه لا يخون مهمته فحسب، بل يُشارك في حربٍ أخرى، حرب الوعي، التي تُشن علينا بأدواتنا نحن. هذا الدور المؤسف للإعلام العربي ليس وليد الصدفة، بل نتاج ضعفٍ هيكلي وتبعيةٍ سياسية طويلة الأمد. لقد تخلى الكثير من هذه المؤسسات عن دوره كحامل للذاكرة الجماعية وصوتٍ للضمير العربي، مفضلاً الراحة في ظل الروايات الجاهزة التي تُقدمها آلة الدعاية الصهيونية. النتيجة هي خطابٌ مشوه، يُعيد إنتاج الإبادة كحدثٍ عادي، ويُحرم الشعوب من أدوات الفهم والمقاومة. إن استعادة الإعلام العربي لدوره تتطلب ليس فقط إعادة صياغة اللغة، بل تغييرًا جذريًا في النهج، يضع الحقيقة والكرامة في صدارة أولوياته. القسم الرابع: ردود الفعل الاجتماعية - بين الغضب والتطبيع في مواجهة الإبادة، تتأرجح ردود الفعل الاجتماعية بين الغضب العارم والتطبيع المُخيف. في الشوارع العربية والعالمية، خرجت مظاهراتٌ حاشدة تندد بالجرائم في غزة، وفي الفضاء الرقمي، غصت منصات التواصل بصور الدمار وأصوات الضحايا. لكن هذا الغضب، رغم صدقه، سرعان ما يصطدم بحائط العجز. التكرار المستمر للمشاهد المروعة، إلى جانب غياب فعلٍ سياسي حاسم، يُحول الغضب إلى حالةٍ من الاستسلام، أو حتى التطبيع مع المأساة. لقد أصبحت الإبادة، في أذهان البعض، جزءًا من "الوضع الطبيعي" في المنطقة، حدثًا يُشجب لكنه لا يُغير. هذا التحول ليس عفويًا، بل هو نتاج الفجوة بين الواقع والخطاب. عندما يُقدم الإعلام الإبادة كحرب، وعندما تُحول وسائل التواصل المأساة إلى مشهدٍ عابر، يفقد المجتمع أدواته لفهم ما يحدث، وبالتالي للتحرك ضده. الغضب يظل مشروعًا، لكنه يُصبح بلا أفق، محصورًا في دائرة الشجب اللفظي دون أن يترجم إلى ضغطٍ سياسي أو فعلٍ جماعي. في الوقت نفسه، يبرز التطبيع كآلية دفاعية لدى البعض، حيث يُصبح تحمل الإبادة أسهل من مواجهتها، خاصة في ظل شعورٍ متزايد بالعجز أمام القوى الدولية الداعمة للاحتلال. لكن هذه الحالة ليست نهائية. إن استعادة الفعل الاجتماعي تتطلب إعادة بناء الخطاب، بحيث يعكس الواقع بدلاً من تزييفه. يجب أن يتحول الغضب من انفعالٍ عابر إلى طاقةٍ موجهة، تُترجم إلى تضامنٍ فعلي وحركةٍ سياسية قادرة على تغيير المعادلة. المجتمع، بكل تنوعه، يملك القدرة على رفض التطبيع واستعادة صوته، لكن ذلك يتطلب وعيًا جديدًا باللغة والخطاب، وإدراكًا بأن الإبادة ليست قدرًا، بل جريمةً يمكن وقفها. خاتمة في النهاية، تظل الفجوة بين واقع الإبادة وخطابنا عنها تحديًا يتجاوز اللغة إلى صلب الوعي الإنساني. لقد أظهرت الأحداث في غزة كيف يمكن للخطاب أن يُشوه الحقيقة، سواء عبر تقديم الإبادة كحرب، أو تحويلها إلى مشهدٍ سينمائي، أو تكرار الرواية الصهيونية، أو ترك المجتمع يتأرجح بين الغضب والعجز. إن استعادة الحقيقة تتطلب تغييرًا جذريًا في اللغة والإعلام، وتحركًا اجتماعيًا يرفض التطبيع ويُحول الغضب إلى فعل. الإبادة ليست مجرد كلمة، بل واقعٌ يستحق أن نُسمعه بصوتٍ يليق بألمه، وأن نُواجهه بما يستحق من مقاومة وتضامن.
#وليد_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-غزة تباد وانت تحلل: رسالة الى صديقي الشعبوي العزيز-
-
“الهوية المزدوجة: التطور التاريخي والتوترات المعاصرة بين الم
...
-
غزة: مقاومة الوجود في وجه الإبادة
-
العنوان: مسلسل معاوية: تزييف الوعي عبر دراما تاريخية مُعلّبة
-
العنوان : الوحدة الفلسطينية: مفتاح الصمود أم وهم الانتصارات
...
المزيد.....
-
اعترضوهم بأجسادهم.. شاهد ما حدث لمجموعة حاولت عرقلة سيارات إ
...
-
هل ستسمح مصر بوصول قافلة الناشطين المتضامنين مع سكان غزة إلى
...
-
ترامب: ضرب إسرائيل لإيران -محتمل للغاية-.. وأحذر من -صراع وا
...
-
ما الذي تعنيه سيطرة قوات الدعم السريع على مثلث العوينات الحد
...
-
تقرير خطير عن مساعي -داعش- للعودة إلى دولتين جارتين بعد سقوط
...
-
مصر رفضت منذ 10 أيام.. كواليس جديدة للتواصل بين قافلة الصمود
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه تحذيرا عاجلا لسكان عدة مناطق في غزة
-
قافلة الصمود.. تحد جزائري تونسي لإسرائيل
-
والد ماسك: ابني أقر بخطئه تجاه ترامب
-
تقرير عبري عن سبب امتناع إسرائيل عن اغتيال قائد بارز في -حما
...
المزيد.....
-
مكونات الاتصال والتحول الرقمي
/ الدكتور سلطان عدوان
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
المزيد.....
|