منذر ابو حلتم
قاص وشاعر ، عضو رابطة الكتاب الاردنيين
()
الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 00:50
المحور:
الادب والفن
في زاوية عتيقة من مخيم اللاجئين، أسير في غرفتي في المنزل القديم المبني من الطوب .. اجلس بتثاقل على سريري الخشبي الذي يصدر صوتا يشبه الأنين كلما تحركت. الليل يطبق بثقله على المكان، والريح تتسلل عبر الثقوب الصغيرة في النافذة الخشبية المطلة على الزقاق.
المح صورة وجهي المنعكسة عن المرآة الطويلة الملصقة على خزانة الملابس .. من هذا العجوز .. صاحب الوجه المتجعد والملامح الحزينة القاسية .. متى كبرت فجأة لأصبح هذا الرجل العجوز المتآكل ؟
اتحسس لحيتي البيضاء . واهمس : ليش تركتيني يا فايزة ؟ لو متت معك مش كان احسن من هالحياة ؟ اخ يا فايزة .. رحتي قبل يتحقق حلمنا وقبل نرجع ونبني بيتنا الجديد في يافا !
أُحدق في صورة مسجد يافا الكبير المعلقة على الجدار فوق السرير مباشرة ، أطرافها باهتة وملامحها ذابلة من فرط الزمن. هل سأعود يومًا؟ هل ستحتضنني يافا من جديد؟
أضع رأسي على وسادتي المتهالكة، مغمضًا عينيّ.
“يافا…” أرددها كما أردد دعاءً قديمًا، ثم يغلبني النعاس.
…
أفتح عيني. شيء ما مختلف. رائحة الياسمين ممتزجة برائحة زهر البرتقال تعبق في الهواء، وصوت بعيد للبحر يصلني كما لو أنني أقف على شاطئه. أنهض من فراشي. أتحسس الجدران من حولي. هذه ليست غرفتي في المخيم… هذا بيتنا في حي العجمي!
أسمع صوت أمي من المطبخ، تناديني كما كانت تفعل في صباي:
“أمين! قوم يا حبيبي، الفطور جاهز.”
أخطو نحو المطبخ وكأنني في حلم. أراها هناك، تمامًا كما أتذكرها: وجهها الطيب، شعرها المصفف بعناية، وثوبها المطرز الذي لم يفارق ذاكرتي. أقترب منها.
“يما… انتي هون؟”
تلتفت نحوي مبتسمة، “شو مالك؟ ليش واقف هيك؟”
أتردد للحظة قبل أن أقترب وأحتضنها. رائحة خبزها، دفء صدرها، كل شيء حقيقي.
اخرج لباحة المنزل فأرى ابي جالسا تحت شجرة البرتقال بملامحه تلك المرتسمة في اعماق ذاكرتي . بشاربيه الكثيفين ونظرته التي تجمع بين الابتسام والحزم معا .. اتأمله بدهشة واقترب منه .. ينتبه لي وينظر لي مستغربا : مالك يا ولد ؟ .. تعال عشان تطلع معي بعد الفطور عالسوق ..!
هل يعقل أنني عدت؟ هل انا في حلم ؟
…
ها أنا أسير في أزقة حي العجمي مع والدي. الممرات الحجرية تضج بالحياة. الباعة ينادون على بضائعهم، الأطفال يركضون بين الأزقة، والنساء يجلسن أمام البيوت يتحدثن بهمس. أشعر بنفسي وكأنني شاب مرة أخرى، خطواتي خفيفة وقلبي يفيض بالحماسة.
يلتقي ابي ببعض اصدقائه ويجلس معهم في المقهى المطل على الميناء .. بعد ان طلب مني الذهاب مع اخي لسوق باب البوابه لاحضار الاغراض … وعندما سالته عن الاغراض قال : انت اليوم مش عاجبني .. خلص اخوك بيعرف روح لعندو ..
بعد الإفطار، أخرج إلى الشارع. أسير في أزقة حي العجمي، وأنا أتنفس عبق الماضي. فجأة، أراها… هناك عند نافذة منزل قريب، فتاة ترتدي ثوبًا أبيض مزينًا بزخارف زرقاء، شعرها الأسود يتدلى على كتفيها، وابتسامة خجولة ترتسم على وجهها. إنها فايزة، خطيبتي، أو بالأحرى الفتاة التي كنت أعشقها .. لكنها الان هيىهي .. ونحن لم نتزوج بعد !!
أقف مذهولاً للحظات. هل يعقل أنني أراها كما كانت في صباها؟ أقترب بخطوات مترددة.
“فايزة؟” أناديها.
تنظر إليّ، عيناها الواسعتان تلمعان تحت ضوء الشمس. “نعم؟ ثم تبتسم وتقول بدلال : شو جابك بهالوقت .. اشتقتلي ؟”
نجلس على درج منزلها، أتأملها وهي تتحدث عن أحلامها، عن بيتنا الذي سنبنيه معًا بعد الزواج، وعن رغبتها في زيارة سوق البلح. قلبي يخفق بشدة. إنها هنا، حقيقية، شابة كما تركتها، لكنني أنا الوحيد الذي يحمل أعباء المستقبل.
أمسك يدها وأقول: “فايزة، لو تعرفي قديش كنت مشتاق أشوفك.”
تنظر إليّ متعجبة: “إيش بتحكي؟ كأنك غبت عني سنين.”
أسير نحو ميناء يافا. ها هو البحر يلمع تحت أشعة الشمس. السفن ترسو، والصيادون ينهمكون في إصلاح شباكهم. أصوات النوارس تعلو وتختلط مع ضجيج الميناء. أمد يدي للمس الماء، أشعر ببرودته على أصابعي.
…
أعود إلى بيتنا في المساء مع اخي ونحن نحمل ما طلبه ابي .. ها هو أبي يجلس في الباحة، يجهز صناديق البرتقال. نقترب منه ونجلس بجانبه وننهمك في تجهيز الصناديق وعدها.
بعد ان انتهينا تحضر امي صينية الشاي .. واجلس مع اخي الذي ينظر إليّ مستغربًا.
“مالك يا أمين؟ شكلك سرحان.”
“إيش بدي أحكي لك، يا أخوي… أنا بعرف إشي أنتو ما بتعرفوه.”
يرفع حاجبيه بدهشة: “إيش قصدك؟”
أتردد للحظة قبل أن أقول: “أنا جاي من المستقبل. شفت اللي رح يصير. شفت الاحتلال، شفت كيف بلدنا رح تنسرق.”
ينظر إليّ وكأنني فقدت عقلي. “إيش بتحكي، يا أمين؟ شو احتلال؟”
“اليهود اللي بييجوا ع السفن هاي ما جايين عشان يعيشوا معنا. جايين ياخدوا الأرض كلها. ورح يصير خراب كبير إذا ما استعدينا.”
يصمت لبرهة، ثم يقول: “إذا كان اللي بتحكيه صح، لازم نعمل إشي. تعال معي.”
“لوين؟” أسأله بقلق.
“رح نروح عند شباب رح بوصلونا للشيخ عز الدين القسام. يمكن يقدر يساعدنا.”
…
ها أنا أقف أمام الشيخ عز الدين القسام. هيئته تملؤها الهيبة، وعيناه تلمعان بحكمة المحارب. يجلس وسط مجموعة من الشباب، يخططون لمواجهة الاحتلال البريطاني. أشعر بالتردد، لكن أخي يدفعني للأمام.
“الشيخ القسام، هذا أخوي أمين. بيحكي إشي غريب عن المستقبل.”
ينظر إليّ القسام باهتمام، ويقول: “احكي، يا ولدي. شو عندك؟”
أبدأ بالكلام، صوتي مليء بالتوتر: “الشيخ عز الدين، أنا شفت اللي جاي. السفن اللي بتنقل المهاجرين اليهود جايين ياخدوا فلسطين. المستقبل فيه نكبة، وأهلنا رح يتشردوا. لازم نوقفهم قبل ما يتمكنوا.”
يرفع يده ليوقفني، ثم يقول: “اللي بتحكيه خطير. بس كيف عرفت كل هذا؟”
أنظر في عينيه، وأقول: “أنا جاي من زمن بعيد. يمكن الله بعثني لهون عشان أحذركم.”
يصمت للحظة، ثم يقول: “حتى لو كان حلم .. اللي بتحكيه إله وزن. إحنا بنعرف خطر اليهود، وعم نشتغل ضد الاحتلال البريطاني. ادعِ الله يقوينا.”
…
أعود إلى بيتنا في الليل. أمي تقف في المطبخ تعد لنا العشاء، وأبي وأخي يتحدثان في الباحة. أختي الصغيرة تلعب في الزاوية. أجلس وأراقبهم بصمت. هل يمكن أن أبقى هنا للأبد؟
أختلس نظرة إلى الجدران الحجرية، إلى السقف الخشبي، إلى كل زاوية في بيتنا. أحاول أن أحفرها في ذاكرتي. لا أريد أن أنسى أي شيء.
في الليل، أستلقي على سريري وأغمض عيني، قلبي مليء بالحزن والفرح معًا.
…
أفتح عيني لأجد نفسي في غرفتي بالمخيم. الجدران متهالكة، والسقف يوشك على الانهيار. أين أمي؟ أين أبي؟ اين فايزه ؟
هل كنت هناك فعلاً؟
أتحسس جيبي، وأجد قطعة نقدية قديمة. إنها من زمن يافا. أضمها إلى صدري وأهمس: “انا كنت في يافا، حلم أو حقيقة ؟، لا لا مش حلم .. مش حلم .. مش حلم .”
#منذر_ابو_حلتم (هاشتاغ)
#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟