آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 00:16
المحور:
الادب والفن
الرحيل إلى المجهول
كان السائق ومعاونه يتكلمان معي, يحاولون أن يخرجوني من صمتي وإنطوائي على نفسي, يسقوني الشاي بين الفنية والأخرى. في استراحة دير الزورقدموا لي وجبة طعام على حسابهم, رزودجاجة. قلت له أيها الأخ الصديق:
لا أستطيع هضم الطعام النظيف والدسم. لقد تعودت على طعام السجن الكريه والوسخ, ولا أستطيع أن أغيره الأن. أحتاج إلى وقت طويل قبل أن أتمرن على الجديد. نظرإلي ساخراً قال:
ـ ماذا تقول. لا تستطيع أن تأكل القليل من الرز. قلت:
ـ لا.. لا أستطيع. سأصاب بالإسهال بعد قليل وستكون هناك مشكلة. أنا أعرف ماذا أقول.
كانت الحافلة التي تقلنا مملوءة بالركاب. وجوه الناس كئيبة, قاسية, مثقلة بالهموم, غائصة في المجهول والحزن. نظراتهم تائهة. كل واحد منهم منكمش على نفسه, مغروس في ذاته, في داخله, يجول في ثنايا ثناياه. كنت مستغرباً من هذا الانطواء الغريب لهؤلاء الناس على ليلها المنهك, تأملها الملتوي, المنحازإلى السراب الراحل إلى نهاية لا تنتهي.
لم أربسمة عجولة على وجه امرأة جميلة أوضحكة عابرة على محيا شاب في مقتبل العمر. كما لم اسمع صرخة بكاء من طفل صغيريحرك الركود الساكن في المكان.
وحدها شاشة التلفزيون المربوطة بالفيديو تشيئ لفعل حركي مصطنع.
لأول مرة أسمع الموسيقا والرقص, أرى النساء الجميلات يرقصن ويغنين ويدبكن على صدرهذه الشاشة المعلقة في أعلى الحافلة من الأمام.
كما لم أرمن قبل هذا النوع من الحافلات الجميلة.
كل شيئ كان غريباً, مختلفاً أمام ناظري.
ظل القمرطوال الطريق مبتسماً, حنوناً, رؤوفاً بنا متمدداً في قبة السماء, مغموراً بالضوء والأغاني. يبعث نوره الوردي كأجنحة فرح, كنخلة مسترخية, متوجة في عرش الكون. يغرد بإسراف مرمري اللون على تويجات الدهرالمنغرسة في جذرالحياة على طول المسافات المفتوحة أمامه.
كان الليل حلو المذاق, أليفاً, معروش الخواطر, مسترسلاً بالهمسات الحلو.
عبرنا دير الزوروجسورها, الفرات والأشجارالمحيطة به. كانت عيني تدرس كل التفاصيل التي نمرعليها, الطريق الأسود الطويل, عرضه, البادية الممتدة خلف النار الصاعدة من أعمدة الغازالصاعدة من باطن التغييرات التي طرأت على وطني بعد هذه السنوات الطويلة التي غبت فيها عنه.
الحافلة تشق طريقها في عباب الليل المطمئن, قاطعة المسافات المتوجعة. كلما كنا نقترب من مدينة الحسكة أكثر كلما كان قلبي يدق في صدري أكثر. أخاف المفاجأة, أن أرى ما لا تحمد عقباه. لم يكن لدي أية فكرة عن أهلي. خائفاً من لحظات اللقاء الأول والآثارالتي ستتركها عليهم
سألني السائق الكريم:
ـ هل تعرف بيتكم. ألم تنساه. المدينة توسعت كثيراً. أريد أن أضعك أمام باب البيت. قلت:
ـ نعم أعرف البيت. لكني لن أذهب إليه الأن, لأنني لا أعرف أي شيئ عن أهلي. من مات, من عاش, من بقي. أخاف أن أرى شيئاً لا أريد ان أراه الأن. قال:
ـ كما تريد وترغب. أين تريد أن أضعك يا أخي. أي مكان تريده سأضعك بجانبه, الركاب لن يزعلوا. قلت:
ـ ضعني على الطريق العام, بجانب الملعب, وأكمل طريقك.
نزلت من الحافلة وسرت إلى بيت أختي القريب. كانت الساعة تشيرإلى الحادية عشرة ليلاً. لم يكن في الشارع أحد من الناس الذين أعرفهم. دخلت باب الحديقة وقرعت الباب. خرجت أختي فاتحة الباب. نظرت إلي ملياً. رجل عجوز, وزنه لا يتجاوزالأربعين كيلوغرام, يلبس الأسمال البالية وينتعل الشحاطة والبنطال المقطوع. سألتني أختي زوفينار:
ـ ماذا تريد يا عم, ما هي حاجتك؟. وقفت مبتسماً. نظرت إليها ملياً وهي تنظرإلي مستغربة. أقتربت أخت زوجها ووقفت بجانب أختي موجهة سؤالها لأختي:
ـ ماذا يريد هذا العم العجوز. ردت أختي:
لا أدري. أسأله ولا يجيب. تدخلت الأخرى وقالت:
ماذا تريد يا عم. هل تريد خبزاً, حاجة ما يمكننا أن نقدمها لك. وجهت جوابي بأتجاه أختي وقلت لها:
ـ أنا أخيك. هل نسيت؟ نسيتي شكلي! وقفت مذهولة, وضعت يدها على فمها مستغربة. قالت:
ـ أخي, غير معقول. ثم راحت تولول وتقول:
ـ لست الذي أعرفه, لقد تغيرت كثيراً, ماذا فعلت بك الأيام يا أخي. ثم سقطت على الأرض مغشية عليها. التم الجيران والناس. لا أعرف من أين جاءت الناس كلها في تلك الساعة. رشوا الماء على وجه أختي التي كانت ترجف من الخوف والقلق والذهول وصدمة المفأجاة. قلت لها:
ـ هل أبي وأمي على قيد الحياة, أخوتي البنات, أخي. قالت:
ـ نعم.. أنهم على قيد الحياة, لا تقلق. إنهم مسافرون. ثم أردفت:
ـ لقد تغيرت كثيراً. قلت:
ـ هذا قدر, علينا التأقلم معه.
طوال الوقت كانت فاغرة فاها, تنظر إلي مستغربة, تغطي فمها بيديها من هول التتغيرالذي طرأ على شكلي ولوني وملامحي.
امتلأت الناس في البيت وفي الشارع. حدث هرج ومرج. صراخ من هنا وزعيق من هناك. بكاء الأطفال الصغار, المحادثات بين الناس بصوت عالي, دعاء من امرأة, وزغردة من أخرى. كنت أقول بين الفينة والأخرى:
ـ خففوا الصوت أيها الأخوة. صوتكم عالي. لا أستطيع أن اسمع الأصوت العالية. سنوات طويلة عشناها في صمت مطلق. إنني متعب. خففوا الصوت العالي قليلاً. الأصوات العالية تتعب أعصابي. رد أحدهم:
ـ إننا فرحون بك, بخروجك من السجن بالسلامة. قلت:
ـ شكراً لكم من كل قلبي. الفرح أيضاً يتعبني. كنت أخرج الكلمات من حنجرتي بصعوبة بالغة, لإرتخاء عضلات الحبال الصوتية. لأن الكلام كان ممنوعاً في ذلك الجب العميق, لذلك لم أستطع التكلم إلا بصعوبة. كانت الكلمات تخرج كحشرجة مبحوحة الصوت.
كنت أنظرإليهم باستغراب لقدرتهم على لملمة العتمة المسدلة بين عينيهم وجفونهم.
عندما أقتربت الساعة من الرابعة صباحاً استئذنت أختي ودخلت لأنام. لكني لم استطع. حاولت مرات كثيرة. تمددت على الفراش لكن سلطان النوم بقي بعيداً, غائباً. قلت لنفسي:
ـ إنها المرة الأولى التي تستلقي فيها على فراش نظيف منذ عدة سنوات دون طماشة, دون رقيب يحسب عليك خطواتك ويعد عليك أنفاسك. حاول أن تنام وتسترحي بعد هذا العناء الطويل. ها.. إنك خارج السجن وسط أهلك. لماذا لا تنام, ما الذي يشغل ذهنك وروحك. كل شيئ على ما يرام. لكن صوتاً أخركان يطرق أذني ويمنعني من النوم, لم أكن أعرف هذا الآخرالذي يرشق جفوني باليقظة والأرق. بقيت سهراناً, أمسك حبال الفجرورداً ليتدلى ويقترب من هضابي وسفوحي.
كنت متوتراً, مستفزالأعصاب. قلقاً دون سبب محدد. تقلبت مرات كثيرة على الميمنى والميسرى, على الظهروالبطن, لكن سلطان النوم لم يأت. قلت لأختي سأذهب إلى بيتنا. أريد مفتاح البيت. عندما لفظت اسم البيت أحسست بالرهبة والخوف, راح قلبي يخفق بين ضلوعي بسرعة.
مشيت في الشارع المفتوح على نفسه, غارفاً الصمت. الشارع خال من المارة, منتظراً انقشاع الليل المتدحرج إلى الزوال والأنهاك.
الحرارة لافحة تكاد تقطع أنفاسي.
سرت في الشارع الذي لفني تحت عباءة جناحيه الواسعتين, وحضنني تحت قبة سراجه المضيء فيما مضى من الزمن. راح قلبي يأخذني إلى بيت حبيبتي. وقفت أنظرملياً إلى الحيطان النائمة على الحيطان, إلى شحوب الصمت. كان قلبي يدق في صدري كإيقاع الأجراس القديمة. قلت:
ـ أنا غريب.. غريب, لا أحد يعرفني.. وأنا لا أعرف نفسي.
تابعت المشي على الأرض الاسفلتية الصلبة مطأطأ الرأس, مستغرباً من قدرة الناس على دفن أصواتها في حنجرتها وصدرها وروحها. رحت أمشي شارداً, أراقب الطريق الأسود, مستعذباً قافلة الزمن التي أخذتني من جذوري ورحلتني إلى الغياب الطويل. لم أرالحبيبة! قنديل بيتهم كان غارقاً في العتمة. طأطأت رأسي مرة أخرى, مستسلماً, مشيت بأتجاه بيتنا الكائن على الصفحة اليمنى من خد الخابور.
تنهدت طويلاً, سرت في لجج الشوارع, أتنفس زغب الشمس النائمة وراء نبيذها الخمري المشرئب, اتدلى كناقوس مضجرفي خمرة السكون. مسكون بالأسئلة النائحة النائمة وراء شح الصمت وأرقْ الكلمات. قامتي منكسرة ومنكسة مخنوقة الصوت.
لاح بيتنا من بعيد, متألقاً بصمته وسط الأشجار. أحسست بالارتباك وضراوة اللهفة التي تأخذني إلى مزالق متعددة.
لم يكن بمقدوري أن أبدد السكون المنتشر في كل مكان. اقتربت من المدخل, صعدت الدرج المضني. وقفت على المصطبة متهامساً مع نفسي عن قدرة المكان على تهييج الخواطرورفع نبرة الآهات الخارجة من الصدر.
طوال القوت كنت حاملاً روحي بيدي.
فتحت الباب بهدوء ودخلت ببطء شديد. كنت خائفاً من نفسي, مستغرباً, متمهل المشية, مغموراً بشهق الأنفاس, مندفعاً بسيل من الاحاسيس المركبة تتداخل في نفسي كنارتلج في خنق خفقان قلبي. عيوني تتأمل الفراغ, تتأمل أغصان الماضي ووشوشاتها. أنظرإلى البيت, الحيطان والصمت في مهابة. ناثراً شحوبي وحزني على الألوان الغائبة. مشيت خطوة إلى الأمام ووقفت منكمشاً, متدفق الخلجات العارمة. أسراب من الأفكارالغريبة تدخل وتخرج من وإلى عقلي وفكري. غمامة من الوميض الغامض ينهض من بين الأوتارالنائمة فوق فلوات الريح داخل داخلي ينتشرعلى شكل شريط من الذكريات والحيرة, يغرقني لينتشلني ثم يحطني في القاع ليدفعني إلى مجريات مختلفة.
غرقت في كومة من الضباب الكثيف, محمولاً على ثوب منثورفي الهواء.
كل شيئ كان يخلد إلى الصمت, مرتدياً بحة موجعة ملتصقة في أنفاس الجدران وأنفاسي المتقطعة. رحت اشهق وازفر بصعوبة, عائداً إلى الصور. هنا كان يجلس أبي, أمي. هناك أخي, أختي. هنا المدفأة وهناك الكرسي, الطاولة, ركوة القهوة, إبريق الشاي. رائحة الجدران تنطق بإيقاعات الفصول المتبدلة. تبددت تلك الحركة التي كانت تضج بالحياة والحيوية.
أرى وجوه الجميع غائبة, غائمة في غابات الذكرى. دخلت غرفة النوم رأيت كل شيئ مرتب ونظيف. رائحة الأهل جاءت كغيمة محملة بالأمطارالغزيرة فوق ترانيم المرايا العاكسة لوشوشات الألفة والمودة.
كنت طفلًا عندما نجح حافظ الأسد في الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري، طوى فيه ماضي رفاقه بعد ان زجهم في السجن إلى أن ماتوا.
كان يقدم نفسه حمامة سلام، يضحك كالأطفال، ويتصرف بنعومة عاهرة محترفة.
زار عدة محافظات، قابل رجال الدين المسيحيين والمسلمين، الناس العاديين، رقصوا له ودبكوا وغنوا، وركض وراءه الأطفال والنساء والشيوخ، وكان ممثلًا بارعًا.
اليوم لا يختلف الواقع عن الامس، أنه يلعب بالوقت، تصريحاته ناعمة، يقدم هذا لإرهابي نفسه كإنسان وديع، طيب القلب، رغم أن في رقبته آلاف القتلى والمشوهين عدا الجرحى.
على السوريين ان يتيقظوا، أمامهم مهمات كثيرة، جماعة الجولاني وداعمه أردوغان المجرم، هناك إيران، بقايا فلول النظام، جماعة حزب الله، إسرائيل، امريكا، روسيا، كلهم جاهزين لتدمير سوريا.
القوى الموجودة في رأس السلطة لا تعمل من رأسها، أنهم لا عقل مفكر، لا إرادة.
على المجتمع الإسراع في العمل من أجل اإقامة مجلس وطني تمهيدا لانتخابات حرة للاقرار بدستور وطني جامع.
الثقافة لا تبني بيوتًا عتيقة، تقليدية، ولا أرض راسخة أو تاريخ معروف.
الثقافة هي فضاء واسع، حر، حرية وأمل ومستقبل، لهذا يلجأ إليها الغرباء والمحرومون من الحياة والسعادة، والحب.
ويجلسون فيها كغرباء يمحون عن أنفسهم غربتهم.
أنهم غاوون بالأماني، منقادون للهوى العقلي والفكري، أي ابتعادهم عن الظاهر، إمالتهم الحياة عن الطريق المستقيم، انزاحوا، استمالتهم الأهواء بعيدًا عن ثقل الأرض ومتطلباتها وحاجاتها الأرضية المكررة.
الثقافة أرض وعرة، أرض بور، مفروشة بالشوك والصخور البرية المملوءة بالنتواءات المذببة، من يدخلها عليه أن يمسك معوله، يكسر هذه الغربة في ذاك المكان الموحش الذي لا نبات فيه ولا أخضرار.
المثقف الذي لا يفلح الغربة بالماء واليد الخشنة، ويزرعها بالأشجار والأزهار ليس بمثقف.
في طفولتي المبكرة، أي في الخامسة من عمري، بكيت كثيرًا وطويلًا، كذاك البوهيمي العجوز المرتحل دون ملجأ أو موضع، ودون مأوى، حزنًا وقهرًا ورغبة في الحصول على الآلة الموسيقية، الهارمونيكا العظيمة.
كنت عاشقًا حبيبًا محتاجًا لها، لأبدد الفراغ والسكون والصمت في ذلك المكان البعيد، في الضيعة الجرداء من الحيوية والنشاط لمثل طفل مملوء بالحياة والحركة والنشاط، الفارغة من الألعاب، والخالية من حاجات الأطفال.
الهارمونيكا بمجملها، رغم صغر حجمها، لكن عظيمة، تكوينها كله ككيان وشكل كان جذابًا لي كطفل صغير، كصديق دائم للحياة، لنقل صديق صادق للطبيعة الحرة، بيد أنه لم يصل إلى هذه الآلة الإله.
ربما كنت سأكون عازفًا، فنانًا، اتوحد معها، مع نفسي، مع هذا العالم، مع ذاك المكان غير المرئي البعيد عن القبض عليه.
أحلام كثيرة بسيطة تموت في جوف الحياة لعدم إدارك الكثير من الأباء والأمهات أن الطفولة عالم واسع وسع الكون، مفتوح على الخيال الواسع، لا يعرفه العجزة الكبار في السن.
عندما يودع الإنسان الطفولة، يودع العقل الطبيعي الغني بكل شيء، بالمثل العليا والصدق والرقة والحب والبراءة والخيال الساحر والذكاء الخارق، فيتحول إلى حيوان مجتر يكرر نفسه في كل شيء.
اللغة هي البيت، الوطن، الحرية الذي تمارس فيها حريتك، المكان الذي تتعرى فيه أمام نفسك عندما تكون مع ذاتك، أو عندما تقف عند حدودك في لحظة العري الكامل أو في لحظة ارتداء ثيابك.
عندما تغيب اللغة يغيب الإنسان ويتحول إلى نكرة.
اللغة هي اللبنة الأولى للغربة أو الانتماء أو الانفصال.
في الغربة تضع اللبنة الأولى للاستقلال عن الحياة عندما لا تتكلم بلغتك الأم.
اللغة هي سرك وسر وجودك.
تموت العقلانية إذا اجتمع رجل واحد بامرأتين.
جنون العظمة، هذا الإحساس العالي بالتعالي، بالآلوهية، هي التي خلقت عظماء التاريخ ومساره المتصاعد من الادنى إلى الأعلى.
لولا هذا الجنون لما رأينا شونبهور أو سبينوزا أو ديكارات أو نابليون أو جان جاك روسو أو سارتر أو هتلر أو ستالين أو جنكيزخان ولأفازيه ونيوتن وافاكدرو وفولتير وشكسبير وديوستوفسكي وعباس بن فرناس وابن المقفع.
التاريخ أعوج، ويحتاج إلى رجال مجانين بجنون العظمة، عقلهم ملتهب، عقل يبحث عن الطريق ليكمل عليه مشواره.
إن الافتراق عن الأخرين، والإحساس بالنشوة، بالنيرفانا العالية، باللذة المفتقدة، بالبحث عن الرغبات المكبوتة، هو الدافع للانتقال من الأدنى نحو الأعلى.
إن النرجسية المبتورة، الجرح الذاتي العميق الكامن في أعماق كل واحد من هؤلاء العمالقة هو الدافع للذهاب نحو التميز والتمييز، لإخضاع التاريخ للذات القلقة المتوترة التي تبحث عن لا مستقر.
النرجسية المبتورة ، هو قضيب مبتور، لا يكتمل إلا بالوصال، بالوصول إلى اللذة المحرمة.
القارئ يحي النص، يوقظه من سباته أو غفوته أو نومه ويدفعه للذهاب إلى عمله.
لا قيمة لنص دون رعشة صادرة من القارئ.
القراءة تدخل الحياة إلى النص، وتأجج نبضاته ودقات قلبه، تنقله من حالة الجمود إلى الحركة.
فحركية النص يحتاج إلى قارئ يفعله، يزيح الغبار المتراكم فوق الحروف والكلمات.
وينفخ فيه رعشة البقاء ليتحرك وينطلق. وهذه الرعشة، هي اهتزاز اليقين في السكون.
النصوص في حالة موات دون الإنسان، ولم يخلق النص قبله، ولن يحيا دونه.
إذا قبلنا أن النص هو الوجود، فحيوية الوجود يتجدد بالنبض الصادر عن الإنسان، بتفاعله معه عبر العمل.
الهدايا السياسية إشارات ورموز معبأة بغايات كثيرة، لهذا على المرء أن لا يركن إلى براءتها.
السياسيين غير طاهرين، لم يتوضأوا بالماء أو الصابون أو التراب، ورائحتهم العفنة لا يمكن لكل بارفانات الأرض أن تغطي عليهم
أرض ورماد
الإنسان، هو الكائن الوحيد الذي يلجأ إلى الرموز؛ للإمساك بالزمن والموت والغربة، وتتداخل في ذلك الرغبة في الخلود، وامتلاك اللانهاية. يلجأ إلى الفن والأدب والموسيقا؛ للدخول إلى الأبدية، محمولًا على الوقائع الحزينة، لمعرفة الحقيقة.
رواية، أرض ورماد، للروائي الأفغاني عتيق رحيمي، يحيل عالم النص، إلى الفناء والموت والضياع، إلى انهيار الروح، في مكان، كان مملوءً بالطقوس الصوفية، والخيال الوثّاب، والسحر اللذيذ القابع في أرض أفغانستان.
على هذه الأرض، كانت تنتعش ملحمة الشاهنامة للفردوسي. الملحمة الطويلة، الحافلة بالجلال والجمال والأسطورة. وكل شيء فيها يشير إلى القصائد والفرح والصفاء.
هذه الرواية، مملوءة بالرموز، تذكرني بالرواية السحرية (بيدرو بارامو) لخوان رولفو، من حيث أجوائها، وحيوات الناس الممزقة، والطاقات الروحية المفتوحة على المدى، حد الهذيان.
خلفية النص، أنتجت واقعًا على مقاسه. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذه الحضارة بمعزل عن الحمولة الثقافية التي يستند إليها. ولأن هذه الثقافة معقدة، مركبة بشدة، تجعله في حالة صدام مع نفسه، ومحيطه وواقعه.
كُتبت الرواية بأسلوب المونولوج الداخلي، لتفعيل الإسقاطات الفنية العميقة فيها. وكأن ما يكتبه عتيق رحيمي، عبارة عن قصيدة نثرية، رمزية، حداثية، تجنح إلى وضع الاستفسارات العميقة، في عالم ينحو نحو التعقيد.
ترتفع معها، وفيها، شحنات الألم العميقة جدًا؛ حتى نستطيع القول إنها رواية مجبولة بالقهر. صوت الشرق البعيد، الذي كان يعج بالروحانيات وقيم التسامي، وبات اليوم مهزومًا، مكسورًا، يعاني آلام المخاض البعيد، أو الحمل الغامض والغريب.
تتحدث الرواية عن التدخل السوفياتي في أفغانستان، والصراع العبثي الذي دار بين الفصائل المسلحة في إثر خروجه، والدمار الذي خلفه في الذوات والنفوس، جعلت الحياة في هذا البلد، صعبة جدًا، إن لم تكن مستحيلة.
يستند الطفل الأصم، ياسين، وجده، الذي يدعى داستاغوير، على درابزين جسر، يصل بين حافتي نهر جاف. يعود بنا النص -السرد الروائي- إلى الوراء، إلى الزمن الآخر؛ زمن المجزرة التي ارتكبها الجيش السوفياتي في أثناء احتلاله لأفغانستان، والتي أدت إلى قتل قرية كاملة، وتحويلها إلى رماد. لم ينجو أحد منها إلا هذا الجد، داستاغوير، والطفل الصغير ياسين، الذي أصيب بالصمم الكامل. طوال الرواية، يحاور الجد نفسه، لأن ياسين أصم:
” عند سماع صرخة ياسين تنزلق نظرتك من الجبل على مجرى النهر المجزّع، ومن النهر إلى شفتي حفيدك الجافتين، الذي يطالب بالماء بعصبية”.
” منذ أسبوع، ما إن يراك تبكي، حتى يردد ياسين هذه العبارات.
في كلّ مرة، يروي ويقلد مشهد القصف:
” القنبلة كانت قوية جدًا. أسكتت كل شيء. أخذت الدبابات أصوات الناس ورحلت؛ حتّى أنها أخذت صوت جدي. لم يعد يستطيع جدي الكلام، لم يعد يستطيع توبيخي”.
عمليًا الحرب تقتل الأصوات قبل أن تقتل الناس.
وفي مشهد البكاء يرفع الطفل عينيه نحوه. ينظر إليه، ويقول:
” جدي يبكي، عمي مات، بيبي رحلت، قادر مات، بوبو ماتت”
وقوفهما -الجد والحفيد- على الجسر في إشارة إلى انفصال وتقاطع زمنين. ينتظران سيارة عابرة تقلهما إلى المنجم، لرؤية الابن، مراد. في رحلة الذهاب والعودة، الزمن مثقل بزمن الموت، الماضي والمستقبل المنهار، الحرب التي قضت على كل شيء. وزمن الأبن مراد العامل المقيم في المنجم، الذي لم يستطع أن يراهما، أو أن الإدارة لم تسمح بهذا اللقاء لغموض تكوين المنجم، وغاياته وأهدافه الدفينة. يبقى مراد في الطبقات الأدنى من المنجم.
في دكان، ميرزا قادر، الموجود في العراء، لا مدينة حوله، ولا ناس بالقرب منه، ولا يمر أي كائن من هذا المكان باستثناء الجندي وسيارة. إنه على تقاطع طريق يفضي إلى المنجم. يسأل ميرزا قادر، داستاغوير ساخرًا:
– لماذا هاجموها؟ يقصد، لماذا هاجم السوفيات القرية. يرد عليه، داستاغوير:
“تعرف جيدًا يا صديقي، في هذه البلاد، إن تساءلت لماذا، عليك أن تبدأ بسؤال الأموات في قبورهم”.
إنه رد صادم لواقع صادم. يتمنى المرء، في الحرب الأهلية أو في أثناء التدخل الخارجي السافر، أن يموت ولا يرى المشاهد المدمرة التي تقتلع الأرض والسماء:
“كنت في الطاحونة. فجأة سمعنا صوت انفجار، خرجنا، لم أر سوى اللهب والغبار، بدأت بالركض نحو البيت. لماذا لم تقتلني شظية قبل أن أصل إلى منزلي! أي خطيئة ارتكبت ليحكم عليّ بالحياة، لأكون شاهدًا على…”.
يتشنج حلق الجد، العجوز داستاغوير، تنهمر الدموع من عينيه ولا يوقفها. يستخدم الروائي الرموز المقلوبة، ربما يسخر من القدر، أو من نفسه، أو من وطنه والعالم:
” فوق غيمة من اللهب والدخان. على الطريق، رأيت والدة ياسين. كانت تركض عارية بالكامل… لم تكن تصرخ، بل تضحك.
لنتخيل مقدار السخرية من الذات، من قسوة الواقع المدمر، المآسي التي جبل بها هذا البلد المنكوب، أفغانستان، أن يرى الجد، زوجة ابنه، مراد، عارية تمامًا، أن يرى أفغانه، وطنه”:
– كأنها مجنونة تركض في جميع الاتجاهات”.
كان الوطن، وطنه مبللًا بالدم والعار والخيبة من كل شيء:
– كانت في الحمام عندما سقطت القذيفة… انفجر الحمام… ماتت بعض النساء، ودفن بعضهن الآخر وهن أحياء… لكن كنّتي… لو فقدت عينيّ لحظتها؛ كي لا أراها في عارها هذا”.
لم يستطع التقاط اللحظة، أن يمسك بالزمن والموت، أن ينقذ أفغانه من الدمار؛ بيد أن ثقل الواقع أكبر من رغبته:
– أردت التقاطها لكنها اختفت في اللهب. لا أعرف كيف وجدت المنزل. لم يبق منه شيء، لقد تحول إلى قبر لزوجتي، لابني الآخر، لزوجته وأطفاله”.
لقد تحولت أفغانستان، إلى مقبرة، إلى موات، ينتظر الإنسان في هذه البلاد المنكوبة، الوقت ليدفن ما تبقى. يرد عليه ميرزا قادر:
– ” أيها الأب الوقور، في هذه الساعة الراهنة، الأموات أسعد من الأحياء”.
إنها رواية مكثفة، قصيرة، بيد أنها مملوءة بالدلالات. لم يبق من سحر الشرق وجماله إلا صوت البارود والنار. الحداثة الانتقائية التي فرضت نفسها على الجزء المتقدم من هذا العالم، وسّعت التناقض والصراع على مستوى العالم، مزقت العالم القديم، البلاد التي كانت تقف فوق الشمس والضوء. تحول هذا الشرق إلى مكان لإفراغ الجنون، إلى التمثيل به، بماضيه وحاضره، بجسده وضيائه
هل لدى أحدنا صورة واضحة عن سوريا قبل العام 1920، العراق، الأردن أو فلسطين، الجزيرة العربية أو غيرهم من الدول العربية؟
كانت سوريا جزء من بلاد الشام مقسمة إلى أقضية في ظل السلطنة العثمانية، ومثلها الجزيرة العربية، وماذا عن سوريا قبل حكم السلاطين العثمانيين؟
بمعنى، لم يكن للبلاد العربية شخصية وطنية مستقلة ولها تاريخ خاص بها، يمكننا القول، أن تاريخ هذه المنطقة متداخل مع من حكمها بالحديد والنار.
لدى اغلبنا حنين إلى الماضي، ولكن لم يقل لنا أحدهم، أين يقع هذا الماضي المجيد، في اي زمن وأي ماضي؟
بعد الثورة السورية، كشفت الأيام، أن أغلب السوريين لا انتماء واضح لهم، لا صبغة وطنية، ولا رغبة فكرية وسياسية واجتماعية في معرفتها.
أغلبنا مشوش الانتماء بين الدين والطائفة والمذهب والعشيرة، بمعنى لا يوجد عقل عربي واضح المعالم، يمكننا الشغل عليه أو تقوية دعائمه.
ثم، هناك حنين للحكم السني، نتساءل:
متى كان هذا الحكم، في أي زمن، وكيف حكمت بلاد الشام والجزيرة العربية، وبأي أسلوب.
أساسًا لولا القرآن لما كان هناك شيء أسمه العرب على الخارطة، لكنا تحولنا إلى التركية أو الفارسية.
تصور، كتاب واحد شكل الرابطة النفسية والمعنوية لأغلبية السكان في عالمنا العربي، وحتى هذا الكتاب نفسه معرض اليوم للتفكيك، والتدمير من قبل جهات كثيرة، لأنه مبني على المقدس، وهذا المقدس لا واقع موضوعي يدعمه ويوقفه على قدميه. والمشكلة أن المؤمنين به، أكثر الناس طعنًا به، يتعاملون معه من خارجه، وغير حريصين عليه.
واليوم يعوموه، يربطوه بأمة هجينة لا أساس واقعي لها.
أغلبنا هاجر إلى البلدان الغربية، ولا اعتقد أننا نفكر بالعودة، ذهبنا إلى بلدان جاهزة سياسيًا واجتماعيًا وقوية اقتصاديًا، وخلال فترة قصيرة حصلنا على كل شيء، المواطنة، الشقة، التدفئة، المدرسة، وراتب المعيشة والأمان وحرية الوصول إلى العمل، لهذا لا نرى الحرص على فهم سوريا القادمة، الدولة والمجتمع، وكيف ستكون، ومتى؟
الوطن السوري القادم، سيقرره النظام الدولي، كما قرره سابقًا، بعد الحرب العالمية الاولى، بمعنى، نحن شعوب ودول منفعلين بالأحداث، ولسنا فاعلين، والجعجعة الذي نحن فيها، طاحونة دون طحن، وعلى سن ورمح.
علي الشهابي ما زال في السجن
السجن هو حصن الديكتاتور، القلعة التي يسهر فيها على أدلجة مجتمعه، كي يحول الناس إلى أشكال نمطية متشابهة على مقاس عقله لإخراج بشر منفصلين عن مصائرهم وشؤون حياتهم وشجون أوضاعهم ومستقبلهم.
المجتمعات الحيوية، المقاومة، التي ترفض الذل والخضوع والضيم، يكثر فيها المعتقلون الرافضين لشروط الواقع وتسلط الأنظمة الاستبدادية مهما كان شكل وقسوة هذا الديكتاتور المريض.
في ثمانينيات القرن العشرين تعتبر سورية أكثر دولة في التاريخ دخل إليها سجناء سياسيين نسبة إلى عدد السكان، ومكثوا عشرات السنين في زنازينيهم وأقبية الظلم لرفضهم أحادية الرؤية للدولة والمجتمع من قبل نظام منفصل عن الدولة والمجتمع.
لقد عشت مثل آلاف السجناء السوريين في السجن، وتعرفت على المئات منهم قبعوا في الظلام والعتمة مرغمين، منهم الأخ والصديق علي الشهابي، الذي قاسمته المكان والزمان ومرارة الحرمان من الحرية والحياة والشمس والضوء، من رؤية الأهل والأصدقاء والأقرباء، من العيش في وطن يمنحنا الحق في العيش الكريم.
أذكر الصديق علي، هدوئه، صمته، تفانيه في مساعدة رفاقه وزملاءه وأصدقاءه في السجن. فهو كريم النفس والروح، إنسان معطاء دون تذمر أو تأفف دفاعا عن قضية أمن فيها وعاش من أجلها.
لقد اشتغلنا معا على عدة قراءات لعدة كتاب ومفكرين عالميين، وكتب التراث في باحة سجن عدرا في دمشق منهم، مهدي عامل وسمير أمين واسحق دوتشر وإرنست ماندل، وتعمقنا في قراءة الواقع والمجتمع السوري من زاوية ماركسية ومفاتيحها الذي منحتنا القدرة على الدخول في مفاصل السياسة المحلية والعالمية وتناقضات الصراع بين المحلي والعالمي، ومعرفة لغة عالمنا المعاصر من زوايا واسعة.
لقد كان علي الشهابي يؤمن بفكر ماركس، ثوريًا، يؤمن بالسلم للوصول إلى الحرية وبناء عالم الإنسان، وضد العنف مهما كانت مصادره.
أذكر زاوية المهجع الذي كان يجلس فيها يقرأ طوال الليل، يسهر عندما كنا ننام. لم يثنه مرض ابنته الخطير، أو تشتت أسرته عن الرجوع عما أمن به. اعتبر أن القضية هي الإنسان، قضية القضايا، قضية الحق في الحياة والسعادة والمساواة والعدالة والحب والجمال.
كان قليل الكلام، لا يدخل في الأحاديث الجانبية بين الناس. ولم ينزل إلى مستوى الثرثرات الفارغة التي كانت تحدث للبعض من المأزومين في السجن، ينظر إلى الأمام، مؤمنا برؤيته وتطلعاته وثقته بانتصار قضية الحياة والإنسان.
كان فكر علي الشهابي ينصب ضد الشكل الجمودي للماركسية، ضد الستالينية المتوحشة. ووقف ضد نهج السوفييت في ثمانينيات القرن العشرين، واعتبر ان ستالين كان موجودا في شخوص القيادة القائمة بعده، ومع الانفتاح وتعميم فكر ماركس من أجل الخروج من الصالونات الضيقة إلى الفضاء العام، أن تبقى الثورة العالمية مستمرة في كل مكان دون تحديد بقعة ضيقة أو ستار حديدي كما فعل ستالين بالدولة والمجتمع السوفييتي.
لقد عاش علي الشهابي في مخيم اليرموك، كونه من أصل فلسطيني، وترعرع في بيئة قاسية، ومنها اكتسب المرونة في الحوار والمجادلة. وكان يكتب ابحاثًا في السجن، وعندما خرج نشر أعماله وأفكاره، بيد أنه عاد إلى السجن على أثر اعتقاله مرة ثانية من قبل الأمن العسكري في العام 2006 ومكث في أقبيتهم مدة ستة أشهر، جل مطالبه هو العمل السلمي لنشر أفكاره، وبقي خلال الثورة ناشطاً حراً مطالباً بسلميتها إلى أن اعتقل للمرة الثالثة في 19 كانون الأول من العام 2012 وما زال إلى اليوم قابعًا في السجن.
يبدو أن الدكتاتور يكرر ذاته، بأمثاله، نسخته النمطية المشابهة لتكوينه.
لقد سجن حافظ الأسد علي الشهابي عشرة أعوام، منذ العام 1982 إلى العام 1992، ولم يقصر بشار الأسد، فكلاهما على خط واحد سيء:
أما أنا أو الطوفان من بعدي.
في هذه الظروف الصعبة نرى أن الثورة أكلت أبناءها كما أكل النظام الدولة والمجتمع وحول سورية إلى ساحة حرب يعبث فيها كل الديايثّة من كل العالم.
لا يسعني القول في هذا النص:
إن علي الشهابي وأمثاله مكانهم ليس في السجن أنما في الهواء الطلق لكونهم كانوا أول من نبه إلى مخاطر التسلح والتسليح والتدخل الخارجي.
الحرية لعلي الشهابي، الأخ والصديق والرفيق والمناضل والإنسان والعار لجلاديه، جلادي سورية اليوم والبارحة.
والحرية لكافة المعتقلين السياسيين في سورية والعالم
الرحمة على تلك الأيام، عندما كان لدى الشيوعيون، النخوة، على بلدهم ووطنهم.
عندما قام حسني الزعيم بانقلابه على الدولة والدستور في العام 1949، نزل الشيوعيون بيانات، تدعو إلى عودة الجيش، إلى ثكناته، وافساح المجال، أمام الشعب لبناء حياة نيابية سليمة، وإطلاق الحريات العامة.
وصفت إحدى المنشورات، الزعيم حسني الزعيم، بأنه بهلوان، من الطراز الأول أو عميل أو مخادع، وقالت:
" إن الشعب هو الذي يبدل الأوضاع وليس الجيش وحده.
وجرت اعتقالات كثيرة في صفوفهم، وربما هم أول من رفض الانقلاب العسكري، وطالبوا بعودة الحياة النيابية للبلاد.
هذه الثورة، كشف عورات كبيرة وصغيرة، ثقيلة وخفيفة. وعرتنا بالكامل. كشفت، زيفنا، قدراتنا الثقافية والأخلاقية. وكشفت موت الضمير عند أغلبنا. ودناءة النفوس، ودونيتها، ورسوخ الروح الذليلة، عند قطاعات كبيرة من المثقفين، والفئات الاجتماعية ذات انتماءات متعددة.
كنا قاعدين على خراء ولم نكن نعلم.
إذا كان هناك من فائدة لهذه الثورة، أنها جعلتنا ننظر إلى الأسفل، أسفلنا، بدلاً من التبختر المزيف، والإدعاء الكاذب، بأهميتنا.
تاريخيًا, عرفت السلطة العربية الإسلامية قدرة رجال الدين على تطويع المجتمع وإخضاعه عبر نشر فكرها البرغماتي القذر, واستخدام الفتاوى وبعض النصوص الموجودة في القرآن من أجل تأبيد بقاء الحاكم واستمرار حكمه وحكم أولاده وعائلته وقبيلته من بعده, مما شكل لدينا ثقافة مريضة, خاضعة لإرادة السلطة ومصالح القوى التي تعمل في فلكها.
يكفي أن ننظر إلى بعض الأمثال الشعبية لنعرف مقدار الخراب الكامن في ثقافتنا
في الصباح الباكر, بحدود الساعة الخامسة. ايقظتني ام ليفون من النوم. جاءت إلى فراشي, الذي يتساوى مع الأرض في المستوى ذاته مع بقية أخوتي.
كانت الشمس خجولة, نائمة في مخبائها, تحت دفة ستائر الكون, ملفوفة بلونها المخملي المعجون ببعض باقات متناثرةمرشوشة كسنابل صفراء رشيقة. قالت:
ـ انهض. لقد رحلوا. تستطيع أن تلحق بهم.
مثل الذئب وقفت على قدمي وأخذت ثيابي وركضت وراءهم.
كانت الحصادة, نوع كلينير, مختلطة الألوان, سوداء ورمادي. لم تكن المسافة التي قطعوها سوى بضعة عشرات من الأمتار. كانوا يسيرون على مهل, وعينا انترانيك تترقب, وتراقب خروجي من حوش البيت. ركبت في المؤخرة, في المكان الذي تخرج منه شوالات القمح. بقيت جالسًا عند الأسفل, في المكان القريب من الأرض, وسط صراخ انترانيك والعم عزو والخياط ابراهيم, وهدير المحرك الذي يصم الأذان.
ـ تعال, أجلس بالقرب منّا.
لم يكن الشارع معبدًا, إنما مرشوشًا ببقايا مقالع. عبرنا بيت العم نعوم, عائلة قصورانية على علاقة جيرة ومودة مع أهلي, وعلى علاقة صداقة مع المغني الكردي محمود عبد العزيز الذي لحن وكتب أغنية / روشه روشه روشنه/ الذي ذاع شهرتها في المدينة في تلك الفترة. أذكر ملامحه, شاب في مقتبل العمر, فيه حول بسيط, ومتوسط الطول ونحيف الجسم, وكان يتردد عليهم كثيرًا كونه كان صديقًا لابنهم الكبير. ثم اجتزنا بيت عائلة رجل أرمني منطوي على نفسه, ولا اتذكر اسمه. ولم يسمح لأولاده بالاختلاط بنا. وصلنا إلى تقاطع الشارع الذي يربط المحطة بسوق المدينة, التففنا إلى اليسار مسافة مئة متر باتجاه السوق, محطة البنزين على اليسار, صاحبها رجل ارمني, غني لديه وكالة بيع قطع تبديل للسيارات والجرارات والحصادات. ملئنا الخزان بالكاز, على غير عادة الحصادات التي تسير على الديزل. في مواجهتنا كان محل اللحم الكردي ابو كريم, الذي نشتري منه اللحم, وندفع له في نهاية الشهر. محل تصليح دولايب السيارات. ثم اتجهنا نحو اليمين باتجاه طريق تل حلف, المبروكة أو الرقة الغير معبد.
كان الهواء عليلًا, والسماء فراشة ملونة, ترقص وتغني. وشهر آيار سارح في الغناء. وترشقنا النسمات العذبة بكومة فرح وضحك. هدير المحرك كانت ثقيلًا, إلى حد البكاء.
عبرنا بيت صديقي طوني ابن الحلاق هاكوب, الذي كان في صفي في المدرسة, ولم أكن أطيقه على الاطلاق لكثرة كذبه وميوعته وسمنه. ثم اجتزنا محطة البنزين, التي صادرتها الدولة, وكانت ملكيتها تعود للمزارع حبيب مريمو
وانفتح الفضاء أمامنا, وتلاقى الأفق في الأفق, موحدًا السماء بالأرض. وبدأت الرتابة والملل على وقع سير الحصادة البطيء كأنها سلحفاة. وبدأت الشمس ترتفع, ووصلنا جسر تل حلف, شاهدت بقايا نهر سمحت به تركيا ليحط كرافد في الخابور. وعلى بعد مئة أو مئتان من الأمتار يقع الجسر العسكري للقطار, المكان الذي ينقسم على بعضه. ففي الجهة الأخرى, الشمال, تركيا والطرف الثاني, الجنوب, وطني وبلدي سوريا. إلى اليمين, على مبعدة يسترخي قصر اصفر ونجار الذي صادرته دولة الاصلاح الزراعي وشمع باللون الاحمر, ولم يسمح بالسكن فيه في هذه المرحلة لترفه وجماله/ تحول إلى استراحة المحافظ في فترة حافظ الاسد, ثم استراحة لرئيس المخابرات العسكرية في محافظ الحسكة, القرباطي محمد منصورة, الذي حكم البلد بالخداع وشراء الذمم/
لم يبق أمامنا أي شيء نتكئ عليه بعد أن ودعنا تل حلف.
في منتصف فترة الاربعينيات, جلب اصفر ونجار شاحنات ماك لفلاحة الأراضي من رأس العين, مبروكة إلى حدود الرقة. لم تف الجرارات بالغرض لهذا كانت الشاحنات أقوى واسرع وتستطيع أن تجر الكثير من السكك التي تحمل الرؤوس المذببة وتحفر في عمق التربة وتخرجها لتعانق الشمس. وبدأ يزرع مساحات تقدر بمئات الآلاف من الدونمات. تبدأ الأرض بالزراعة ولا تنتهي. استورد أحدث الآلات الحديثة من حصادات وجرارات وسيارات لخدمة العمل الزراعي. وجلب أفضل الخبراء بالزراعة والصناعة من الخارج, أوروبا والولايات المتحدة, ومن الداخل. ووضع الاسس العلمية لزراعة الرز واستقدم خبراء ايضا بهذا الشأن. ووضع الخطط لسقاية الراضي المزروعة بالقمح والشعير وغيرهم بالرش. لقد حول الأرض إلى عروس تنتظر يوم زفافها. كان مقره القصر, ومكان تمركز العمل. في الحقيقة, كان لدى عائلة اصفر ونجار طموحات لا تتسعها السماء والأرض. وأرادوا أن يحولوا الجزيرة السورية إلى قطعة من الجنة لوفرة أراضيها الخصبة ووفرة المياه والخيرات. ووجود يد عاملة جاهزة للعطاء. في ذروة هذا العطاء جاءت الوحدة والقرارات السياسية الارتجالية والفوقية التي صاغها عسكر يفهمون في تلميع الحذاء بالاستيلاء على اراضي جميع المزارعين بحجة محاربة الاقطاع.
في الحقيقة لم تتشكل في سوريا طبقة اجتماعية سياسية اسمها الاقطاع, التسمية جاءت مجازية, سوقية في التنفيذ دون حرمة لصاحب المشروع أو التجربة أو الغاية من هذا التصرف. ولم يدركوا ابعاد هذا القرار, ولم يستشيروا خبراء في هذا المجال ولم يطلعوا على تجارب الآخرين أن كانت فاشلة او ناجحة. وكأن بناء الأوطان لعبة أطفال نلعبها وقت ما نريد. او يتعاملون مع المجتمع كمجرد أدوات أو أرقام عابرة.
وبمصادرتهم لهذه الأرض صادروا المستقبل والتخطيط. وغيروا اتجاه الزمن وتفعيل الزمن وتجاربه من مكان إلى آخر.
السجن هو الساحة الواسعة. السجن مكان الخلوة مع الروح, يراجع بها الإنسان حساباته الذاتية والموضوعية بشكل دائم. يطرح على نفسه دائرة واسعة من الاسئلة, تساؤلات كثيرة. يفرش أمام عينيه منظومة القيم التي يعتنقها. يقف أمام نفسه والجدران, يطرح ويحسب كل المنظومة الفكرية التي استند عليها, في زمن اهتراء واهتزاز القيم والمبادئ والأحلام والأفكار, ماذا نغير ومن نغير؟ من أين نبدأ وإلى أين نسير؟ من أية محطة أوخارطة ننطلق وأين سنحط رحالنا؟ ماذا نريد من أنفسنا ومن الآخرين؟ هل لدينا وطن؟ هل لدينا دولة؟ هل يمكن بناء وطن دون دولة معاصرة وكيف؟ من هي القوى الفاعلة التي لها مصلحة في هذا البناء؟ هل نحن وطن أم صدى وطن؟ هل لدينا دولة أم صدى دولة؟ هل نبدأ من التأريخ أم الحاضر؟ وإذا بدأنا من التأريخ فأي تاريخ سنختار, ما قبل الإسلام أم بعده؟ وإذا بدأنا من الحاضر فمن أي حاضر نبدأ؟ لقد علقنا كل مشاكلنا على مشجب الحل الديمقراطي, هل هذا الخيار يحل كل أزماتنا المستفحلة؟ علاقتنا بالآخرين, الولايات المتحدة كيف ستكون؟ هل نقبل العلاقة معها كفاعل مهم في حياتنا, نقبل بها من موقع التابع أم الرافض؟ هي أسئلة مهمة تمس صميم السجين السياسي واعتقد أن الجميع يعيش طقوس هذه التساؤلات الكبيرة والمهمة. إذاً, بقاءنا في السجن مرهون بجملة اعتبارات داخلية وخارجية, هذه الاعتبارات تؤثر على نفسية السجين وتجعله يقبل البقاء في السجن أو يخرج
من كتابي الرحيل الى المجهول
غابت دمشق تماماً. بقي في فضاءها العالي خيط دخان أسود فاحم يهلهل فوق سماءها.
دمشق, يا دمشق, نحن هاربون من سديم الضباب, نبحث عن أرجوانة معلقة في قبة السماء. نسير في حافلة الريح العاتية, محملون بالفراق. عطشان. احتاج إلى نقطة ماء ابلل لساني وريقي الجاف في هذا الصباح البارد.
أليس غريباً أن يكون كل شيء عاقراً على هذا الامتداد الواسع والطويل لبادية من بوادي بلادي. على طول الطريق. الأرض خالية من الماء والزرع والشجر, من الأنهار أو التلال, من وجه كلب أو قط أو حمار. كنت أتمنى أن أرى طيراً من طيور الله السارحة في هذا الفضاء اللانهائي.
أين نعيش نحن
الاحتشام ليس دليلًا على العفة، أو الخجل والحياء، أو مسلكًا محمودًا، أو رزانة وأدب ووقار ومستحى وتواضع.
انقسام الرجل والمرأة على نفسيهما، موضوعي وذاتي، عالمان مختلفان، لهما بعد سايكولوجي وعقلي وسلوكي مختلف، ارتباطهما وظفته الطبيعة توظيفًا قسريًا، وقدمت لهما رشوة أو رشا لتبادل المنفعة أو الرغبة، كإنجاب الأطفال واستمرار النسل.
لا تشابه بينهما، كل واحد منهما لديه تصوراته ورُؤاه وممارساته الموضوعية بعيدًا عن الأخر.
في أجواء الحرية يبان كل طرف على حقيقته، لا ثقة بينهما في العمق والسطح. وأحدهما يتوجس من الأخر.
إن إنكشاف النفس على نفسها يبدأ عندما يقف المرء على مسافة من نفسه ومن شريكه، ويقارن سلوكه وسلوك الطرف الأخر من حيث النظرة الشمولية أو الخصوصية، الانضباط والالتزام أو الفلتان، التسيب أو الانتظام.
في أجواء الحرية تتشتت المرأة ويضعف تركيزها على نفسها في العمق والسطح، وتتفكك مهامها الحياتية والنفسية، وتقع في حيرة ما بعدها حيرة، لأنها وحيدة، وربما تحتاج إلى مقود أو مرشد ينتشها من حالة الضياع.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟