|
هواجس أدبية وشخصية وعامة ــ 368 ــ
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8182 - 2024 / 12 / 5 - 02:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
السياسة فن الممكن، أن تتحرك ضمن قدراتك، موقعك، أن تحسب جيدًا خطواتك، قوتك، حلفاءك، أعدائك، مكاسبك وخسائرك. وعندما تدخل الحرب أو المعركة عليك أن تعرف ما هي النتائج سلفًا. كن قويًا وقرر، لا تدخل الحرب وأنت ضعيف. حماس اخترقت الحدود الإسرائيلية في السابع من أكتوبر، المعترف بها دوليًا. هذا يعتبر جريمة في القانون الدولي، كلنا يعرف كيف تم طرد السكان الأرمن من أرضهم وتاريخهم الذي عاشوا عليه قبل آلاف السنين، من قبل النظام الدولي على الرغم من أن هذه الأراضي كانت أرمنية حتى العام 1922، منحها ستالين لأذربيجان، لأن الاتحاد السوفييتي كان يعتبر دولة واحدة. حماس غير معترف بها أنها فصيل فلسطيني، بل يعتبر عملها جريمة بحق الفلسطينيين العزل والإسرائيليين العزل. والنظام العربي القذر على علاقة مع هذه الإسرائيل منذ قيامها في العام 1947 ولا يزال، ولهما تواصل مشترك، ولأنه جبان ورخيص لا يتجرأ أن يقول الحقيقة، بل يساهم في خداع المجتمع العربي، ويعمم أفكاره بحيث لا يعرف ماذا وراء الأكمة. من الواجب أن يدرك العرب أن إسرائيل قامت أو انشأت باعتراف دولي، وعليهم أن يعلموا أن ما تفعله إسرائيل سيلاقي قبول من أغلب دول العالم وخاصة الغرب. أما مفهوم أنها أرض الرباط والجهاد، وأنها لنا، هذا في الخطاب العربي العربي، العربي الإسلامي، وكفى ضحك على الدقن، اما الواقع فالأمر مختلف. إن استخدام المفاهيم الغلط خارج نطاق الفهم السياسي العالمي، بسببه خسرنا في الحروب العام 1948 والعام 1956 و 1967، و1973 و العام 1982 وإلى اليوم. الأمور ليست شوربة نضع فيها كل شيء حسب الحاجة، ورميها عندما نريد. لهذا نقول: لا تلعبوا بالنار، لأن الذي دفع وسيدفع الفاتورة هم البسطاء، عدا عن الحزن والألم الذي عشنا بسببه، والانكسار الوطني والاجتماعي والنفسي الذي عشناه. ولم يعتذر نظام عربي واحد أو تنازل أو انتقد نفسه على أنه غلط أو صارح الناس عن سبب هزائمه. شعب غزة دفع الفاتورة الثقيلة، وسيدفع، وربما يرحل من أرضه إلى دول آخرى. في السياسة لا يوجد شيء أسمه حق، هذه لنا، القوى العالمية هي التي تحدد ما تراه مناسبًا لمصالحها.
قال لي: اسندت يدي على جدع شجرة قريبة عارية، ووقفت على مبعدة، رأيت امرأة جميلة تبتعد عن الزمن، ترحل، تمتطي الظل والنور فوق سراج شاحب. تتكلم بخوف، كأنها تتبوأ القدر. وكأن الزمن الهارب حاضر في ذهنها. وكأن الإنسان لم يتجاوز ظله، مستوطن داخل عذابه، قيمه وآلامه. المراكب التي امتطاها لا تزال قديمة، صدئة، تتجه نحو السراب. تملكتني رغبة شديدة القوة أن أفتح قلبها، أصعد فوق تلك الصواري القديمة، اتسلل فوق تلك السفوح، لأرى أي قدر يحمل ثقله. رأيت البحر صامتًا، يتبختر، يَمْشِي مُتَعَجِّباً بِنَفْسِه، يضرب موجه في موجه، في رتابة ومجون، سكران وبقايا خمر في زواته. وبدت لي الحياة كائن غريب، انفصال الذات عن الذات.
هناك بتر عاطفي وجنسي للإنسان في بلادنا منذ اللحظة الأولى لبدء حياته. أول مهامنا هو إزاحة القيد أو القيود عن حياتنا، أن نعطي أجسادنا حقها في الجمال والحرية. إن يتصالح الجسد مع الذات، ذاته حتى يتصالح مع الحياة.
الدولة كمفهوم، كيان هش ضعيف، عاجز، مهزوز التكوين، بالرغم من كل القدرات التي تحت سيطرتها، كالجيش والشرطة والمخبرين والمخابرات، وجني الضرائب والمؤسسات. لا توجد دولة تتعامل مع المجتمع كند أو شريك، أنها على تناقض معه، ودائما تلجأ الدولة على أخذ الحذر من المجتمع، تبني له السجون وأدوات القهر وتتفنن في إنتاج الأساليب والطرق لاخضاعه، وتتنصت على حياته وسلوكه وتشك في تصرفه. سلوك الدولة المريب جزء من تكوينها، لأنها ليست أصلية. إن ما تفعله الدولة راسخ، لديها اعتقاد أكيد أنها غير عادلة، وأنها جهاز قمع مادي ومعنوي، وأنها في صراع مع المجتمع، وأنها فوقه تبتزه وتسرقه وتمارس الوصايا عليه. الدولة لا تشعر بالأمان والاستقرار، الأمان ليس جزء من تكوينها، لأنها مدركة أنها في صراع خفي مع المجتمع.. إنها كيان مضطرب، خائف، تحاول حماية نفسها من خارجها، لهذا تلجأ إلى تسليح نفسها من خارج ذاتها، توظف الشخصيات الضعيفة المهزوزة، مثلها في المواقع العليا منها، تزرع العملاء والمخبرين في كل مكان، تقتل، تمثل بضحاياها، تسجنهم. ولا يمكن أن يكون رجال الدولة أقوياء، هذا محال، أنها تحتاج إلى أضعف الناس، إلى الخبثاء، الديياثة، أصحاب الضمائر الميتة، قطاع الطرق ليبقوا يقظين جاهزين للفتك بالمجتمع.
في الدولة الديمقراطية تختفي مظاهر السلطة، بيد أنه موجودة تحت قاعها، لكنها واضحة جدًا في الدولة الاستبدادية. عندما أمشي في الشارع، في السويد موطني الجديد، وهي دولة ديمقراطية، الأكثر التزاما بها، عندما أرى الشرطي، أشعر أنه ممثل الجهاز القمعي بالرغم من أن الدولة قصقصت أنيابه. الدولة الديمقراطية قصقصت مظاهر العنف المباشر، ولكن العنف الخفي أو المخفي لا يمكن القضاء عليه، لأن القضاء عليه يعني أن الدولة ماتت. السلطة الحاف في بلادنا واضحة، لا قانون نافذ ولا مؤسسات نافذة، ولا دستور ، والمواطن لا حماية له ولا ظهر يسنده.
قبل سنتين الموقع اليساري العلماني، الحوار المتمدن، كله مشفر. أنا حزين جدًا لهذا الموقع الذي خدمنا جميعًا ولم يفرق بين سين من الناس أو جيم. فتح هذا الموقع قلبه للماركسي والقومي واليساري المتطرف والمعتدل واليمنيي المتطرف وللمتدين ولكل الناس من مختلف المشارب. حررنا الحوار المتمدن من وصاية الجرائد والمجلات القميئة للأنظمة العسكرية والخليجية، فتح لنا الباب والنافذة أن نطل على عالمنا كله. اتمنى عودة هذا الموقع الرائع والكريم.
قراءة متأنية في رواية الرحيل إلى المجهول للكاتب آرام کربیت "ما أذكى الإنسان، لديه القدرة على استنباط الوسائل والأساليب التي تساعده على تكييف الواقع الصعب لشروط عيشه، حتى ولو كان قاسياً وهداماً " الرحيل إلى المجهول، صفحة (61). هذا ما قاله آرام في روايته، فلنستمع ونقرأ هذه الرواية لواقعيتها وتصويرها ظروف الاعتقال والسجن الذي يتعرض له كل من يتفوه بكلمة تعارض النظام الاستبدادي ، وكذلك تصويرها للتفاعلات الداخلية للمعتقل واجتراره حياته السابقة مثلما انفلاش مخيلته وأحاسيسه وحتى كرامته لما يتعرض له من صنوف القهر والتعذيب لينالوا منه وتحديداً من كرامته . هي ، أي الرواية، يحق لها أن تلج مايسمى ب (أدب السجون بجدارة .. مثلما جسد ذلك بعض الأدباء الذين كتبوا عن السجون والمعتقلات كعبد الرحمن منيف في شرق المتوسط، ونبيل سليمان في السجن ، ومصطفى عبد القادر في القوقعة وغيرهم ، بل وتأخذ رواية آرام الرحيل إلى المجهول حيزاً جميلاً ومتقدماً في هذا المجال ، وهذا ليس تحيزاً ولا كيل مديح في غير محله. تبدأ الرواية بوصول المساعد أبو عزيز إلى مبنى المحافظة في مدينة الحسكة للحصول من الحاكم العرفي على توقيعه على اعتقال بطل الرواية وصديقه وخروجه مزهواً مختالاً وهو العارف أنه مهما بلغ شأن الحاكم العرفي ومنصبه العالي لن يجرؤ حتى على مناقشة ما يُطلب منه من أجهزة الأمن. في الزمن الفاصل بين دخول المساعد أبو عزيز وخروجه، كان بطل الرواية ينقل تصوراً دقيقاً وواقعياً لما يراه من حوله وهو يرفل بقيوده في سيارة الأمن، فيستعرض محيط المكان الذي يستطيع فيه الرؤية من مكانه القابع في سيارة الأمن، فيرسم لنا ملامح الناس في الشارع ولا ينسى الإشارة إلى حال رؤيتهم لسيارة الأمن في إشارة خفية منه ومبطنة للخوف المرعب من الأمن الذي زرعه فيهم هذا النظام الاستبدادي الشمولي، دون أن يسيء لهذه الجموع من البشر والذي تجلى بوصفه لهم بأنهم (كوكب ) ولم يقل عنهم أي وصف يسيء لهم لما يبدونه أو أبدوه بلامبالاتهم وعدم اهتمامهم بما يحصل داخل سيارة الأمن سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا .. يصف لنا ذلك دون أن يغفل تلبد السماء بالغيوم ليضيف للقارئ الغم والهم والجو المفعم بعدم الهدوء ، وذلك في الأسطر الأولى من الرواية حالة الناس هذه، وحالة الطقس ، تقوده إلى تيار ذكرياته .. طفولته .. علاقته بوالده .. عائلته حبيبته .. ويربطه بوصف جميل يعكس فضاء ذكريات قد تصبح في غياهب النسيان كونه ذاهب إلى المجهول ، وقد يعود وقد لا يعود. في المعتقل أشار الكاتب إلى ارتداء العقيد فؤاد بدر حسن لباس الرقة والرحمة والتعاطف مع أهل وذوي المعتقل للحصول منه على المعلومات وكسبه مخبراً لهم على رفاقه وزملائه، وهذا هو أسلوب بعض المحققين الأمنيين في البداية، فإن لم يجد تجاوباً من المعتقل انتقل إلى مرحلة القسوة والتحول إلى وحش لاتهمه حياة أو كرامة المعتقل بما يذيقه من صنوف التعذيب إضافة لذلك فقد أشار الكاتب إلى قضيتين مهمتين ، الأولى محاولة الرائد علي محسن العزف على وتر المذهبية الدينية لبطل الرواية كونه أرمنياً في إشارة من الكاتب لفضح العقلية المذهبية والطائفية لرجال الأمن وكل السلطة في إدارة شؤون البلاد وفق هذه العقلية، والثاني الصراع الخفي والظاهر أحياناً بين رجال الأمن ذاتهم في محاولة منهم لإزاحة الآخر واستلام منصبه، ويتجلى هذا الخلاف وتلك المزاحمة والصراع بينهم فيمن يقدم الولاء والانبطاح وحتى التذلل للسلطة أكثر من الثاني، هذه العقلية الذهنية المذهبية والطائفية التي يديرون بها شؤون البلاد بدءاً من هرم السلطة وحتى أصغر موظف مدني زرعت الخوف والرعب في قلوب المواطنين وأعطت حافزاً ودافعاً لرجال السلطة كي يتمادوا بتعسفهم وعنجهيتهم وحصولهم على المكاسب المادية والمناصب والزهو والنظر لبقية الناس كمواطنين أقل منهم درجة ومواطنة . وهذا الصراع الخفي أو المعلن بين رجال السلطة ذاتها غذاه السلطة بين موالاته للحصول منهم على المزيد من الخضوع والخنوع وتنفيذ رغباته فصراعهم ينحصر بمن يقدم الولاء والتذلل لهرم السلطة وليس لأي مصلحة أخرى ، وقد انسحب ذلك على الوظائف المدنية أيضاً وليس العسكرة أو الأمن فقط، فقلما ترى توافقاً بين المدير العام ومعاونه أو مدراء الفروع، وقلما ترى هذا التوافق نزولاً بين مدير الفرع ورؤساء الدوائر بل وقد تجده أحياناً بين الموظفين أنفسهم ، وجميعهم يدور صراعه في الدس ونقل الأخبار لرئيسه في العمل ليكسب وده الشخصي على حساب أقرانه . هاتين الميزتين في بنية النظام لم يغفلها الكاتب بل أشار إليها دونما استفاظة أو توسع في الشرح وفق ما تقتضيه البنية الأدبية للرواية ولمحاتها المعبرة، مما أعطاه بعداً أدبياً جميلاً ولم يخرجه عن سياق الرواية في رحلته للمجهول فهو يكتب عملاً أدبياً وليس تحليلاً سياسياً ، بل يشير له بشكل روائي أدبي ينكش فيه ذهن القارئ ليوصل له ما يريد من تحليلات سياسية وحتى اجتماعية . حالة الكاتب بطل الرواية، وانفعالاته، وقلقه ، وحتى الخوف, جعل ذهنه يتفتح عن ذكرياته، وهذا طبيعي لكل من يمر في هذه المحنة ، أما وصفه الدقيق لما يمر به من تعسف وإذلال وقهر وتعذيب جسدي ونفسي فقد استطاع به الكاتب أن يلتقط تفاصيلاً تدخل القارئ في الجو والحالة التي يعيشها المعتقل .. فهاهو يصف كيف تعرض للإذلال والقهر والألم الفظيع عند حاجته للتبرز والتبول ، هذان الأمران الطبيعيان والحاجة الملحة لأي شخص في الحياة ، بل لم ينس في خضم هذا الألم والقهر صوت صفير السجان وسلسلة المفاتيح في يده وما شكلته من تعنيف نفسي برتابة صوتها وهو يخبط بها على فخذه في وصف نفسي جميل يدخلك في عالمه وتقمص شخصيته كمعتقل يذوق به العذاب النفسي والجسدي، فكان موفقاً في وصف ذلك ونقل شعوره للقارئ . لم يستخدم الكاتب اللغة السردية في وصف حياته بل استخدم لغة الربط الجميل بين أشياء صغيرة قد تبدو تافهة وبسيطة في المعتقل ، أو ما يتعرض له من تعذيب وقلق وخوف، وبين ما تتفتق ذاكرته من ذكريات يصف ويشرح لنا حياته، هذا الربط الذي لم يدخل القارئ في رتابة الوصف المتسلسل لحياته ومعتقله كلاً على حدة، فكان موفقاً جداً في إبعاد الملل والرتابة عن القارئ ، فالكاتب قدم وصفاً وشرحاً لحياته المدنية بتسلسل ممتع من خلال أحداث بسيطة تمر معه في المعتقل .. كأن يصف لنا طفولته حينما كان في سيارة الأمن عند باب المحافظة وذكرياته مع والده وعائلته .. أو حينما رأى أشعة الشمس من خلال الكوة في زنزانته التي ذكرته بمدرسته القريبة من مبنى الأمن السياسي الذي يقبع به فوصف أقرانه وزملائه ولعبهم بالكرة والحارس التركي ومراقبة الفتيات لهم أثناء اللهب دون أن ينسى التلاحم الديني والمذهبي والطائفي والعرقي لزملائه وعيشهم المشترك دونما أي حساسية أو تفرقة، وهذا ما أضاف للرواية متعة المتابعة دون ملل . يتكلم الكاتب بشخصية المعتقل عن الوطن الحقيقي وليس الوطن الذي يراه ويرونه الأمنيون والعساكر ورجال السلطة.. يتكلم الكاتب عن التلاحم بين أطياف الشعب السوري، وعن وطنه سوريا الذي عاش وولد فيه وأحبه وذلك من خلال نقاشه مع المحقق حينما ذكره انهم حموهم كأرمن عند دخولهم سوريا .. وعن ترديد أنشودة : شعارنا على الزمن عاش الوطن حينما يرددونها وراء المطران أنترانيك في الكنيسة..يتكلم عن ذلك بشغف المواطن الذي يعشق ويحب وطنه .. وعن الضريبة القاسية والمذلة التي يتعرض لها بسبب حبه لوطنه واعتناقه أفكاراً تخالف الرأي لسلطة شمولية مستبدة لاترى سوى نفسها ومصلحتها وحفاظها على الكرسي.. يتكلم بإشارة عميقة لظروف السجناء من الأحداث ووصف مؤلم لحالتهم ، ووصف حالة السجن المدني، دون أن يبعده ذلك عن محور روايته المتمثلة في ما يتعرض له من اعتقال وتعذيب لمجرد تبنيه فكراً مغايراً للسلطة تكلم عن أشياء جداً بسيطة قدمت لها مثل اقتراح الرواية لموقف الشرطي هذا .. تكلم عن نهب المحافظ ورؤساء الفروع الأمنية لخيرات البلد وهم يزرعون أراضي البادية المحرم زراعتها كمحمية طبيعية لمصلحتهم الشخصية وتسويق محاصيلها باستثناءات من الدور والأسعار ... تكلم عن تفاصيل صغيرة تبدو غير ذات أهمية لكنها تدخل القارئ في جو المعتقل وما يحصل معه وتجعله أكثر اندماجاً في حالته وشعوره ، تفاصيل تبدأ من وصف الجدران والشبابيك والأسوار وكوى الزنازين والأرضيات وما تلمحه عيناه وتنقله لذكريات مرت به ليندمج القارئ في بوتقة الرواية حد انصهاره في شخصية بطلها . تكلم عن مختلف الشرائح والأحزاب والتجمعات السياسية المعتقلين بوضوح وتقسيماتهم في سجن عدرا في مهاجع قد يختلط فيها تيارات حزبية مختلفة، كما تكلم عن لقائه ورفيقه محمد خير برفاقهم الحزبيين في المهجع في ذات السجن ولقائهم الحميم من رفاقهم وحفاوتهم بهم ليخففوا عنهم وطأة الخوف والقلق .. وقد ذكر أسماءهم في محاولة لتسجيل وتثبيت وتدوين أسماء معتقلين زج بهم النظام تعسفاً في سجونه ، وتحدث عن شرح رفاقهم القدامى لوضعهم وما يجب عليهم فعله بناءً على تجربتهم الطويلة في السجن ، كما تكلم عن تنوع المعتقلين السياسيين واتجاههم الفكري ، ورصد لنا في شرح دقيق حالاتهم النفسية وحركات أياديهم ورمشات أعينهم وصمتهم بطريقة تجعل القارئ مندمجاً بما يكتبه ومتابعاً لحالة كل معتقل . تكلم عن حياة المعتقلين اليومية وظروف معيشتهم وقلقهم وخوفهم على عائلاتهم وأسرهم خارج السجن من جور وتعسف النظام الذي يعاقب من تربطهم صلة قربى بهم قد تصل إلى الجد العاشر ومعاملتهم كمواطنين درجة ثانية وحرمانهم من التوظيف أو مختلف ميزات المواطن بذريعة قرابتهم للمعتقل السياسي بطريقة لا يجاسب عليها أي مجرم ارتكب الفظائع .. وثق بالاسم من التقاهم في المعتقل وحفرأسماءهم في سجل تاريخ النظام الإجرامي وأوصل همهم ومعاناتهم وطول فترة سنوات سجنهم الطويلة لكل قارئ ، وهذا صنيع يُكافأ عليه الكاتب كروائي.. تكلم عن حياته داخل السجن ووصف بدقة معاناته سيما ذكرياته التي لم تغادر مخيلته وعقله وقلبه هذه الذكريات التي تأخذه إلى فضاء اللحظات الجميلة بين ذويه وبيته ونمط حياته ... تكلم عن تنوع الأفكار والأحزاب للمعتقلين ، وعن حتى المواطن العادي الذي قال بفقدان البيض من الأسواق ليعاقب بالاعتقال .. وعن اعتقال الأقرباء كرهائن المطلوبين فارين .. كل ذلك بوصف واقعي وحقيقي لما يعانيه المواطن السوري من كم للأفواه وعدم السماح بأي شكل من أشكال التذمر أو التأفف ناهيك عن تبني فكر معاد لهم.. كما انتقل للحديث عن سجن تدمر الذي رُحل إليه من سجن عدرا وما يحصل فيه من أهوال وفظائع لم يكن يصدقها عندما كانوا يروونها من هم في سجن عدرا.. تكلم عن تغيير المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية التي فرضها رأس النظام بمعاملته للمعتقلين السياسيين ذوي الرأي عن باقي المعتقلين من اللصوص والمرتشين وتفاخرهم بذلك أمام المعتقلين السياسيين وتكتلهم على بعضهم خشية اتهامهم بقضايا سياسية .. تكلم عن ضرورة التعاضد ومساندة أي معتقل يمر بظروف قاهرة للوصول إلى تحقيق مطلب هو من أبسط حقوق إنسانيته .. تكلم عن إخفاء بعضهم ما يراوده من حالات عاطفية تتجلى في سماعه أغاني أم كلثوم وإخفائه ذلك عن أخوانه بل والكذب أحياناً إن سئل عما يسمع تكلم عن تفاصيل حياة المعتقلين ووثقها بصدق وصراحة وبأسلوب أدبي يضيف إلى حالة التعاطف الإنساني لما يمر به المعتقل من ظروف بائسة يضيف نكهة الحس المرهف للكاتب في وصفه لكل هذه الحالات.. تكلم وتكلم وتكلم ، ولم يغفل الجوانب السياسية للأحداث التي وقعت في العالم وفي الوطن العربي من هدم جدار برلين إلى قتال ميشيل عون في لبنان، وإلى صدام حسين واحتلاله للكويت والضربة الأمريكية له والتي تعادل برأي الكاتب قنبلة هیروشیما.. تكلم عن مجزة تدمر من خلال المطالعات في المحاكم الصورية التي شكلت لهم مثلما تكلم عن الترهيب والمساومات التي تعرضوا لها لإخلاء سبيلهم.. تكلم عن تباين المواقف من هذه المحكمة واختلاف طرق تعامل المعتقلين معها ... تكلم عن الخلافات الأسروية والزوجية التي حصلت للمعتقلين بسبب طول فترة اعتقالهم .. تكلم تفصيلاً عن سجن تدمر الإجرامي وما تعرض له ولرفاقه المعتقلين من صنوف العذاب والمرار والشتائم والسادية والتفنن في الإجرام وصنوف العذاب التي يذيقها السجان لهم، والشتائم التي يندى لها الجبين مما كانوا يكيلونها عليهم ... سجل بروايته هذه تاريخاً سياسياً لأحداث أوردها باقتضاب واختصار شديدين لكنه سجلها ووثقها في ذهن القارئ مضيفاً له قراءة الواقع السوري بنكهة الأديب والأدب ... رواية حديرة بالقراءة لأنها تعتبر برأيي المتواضع وقراءاتي البسيطة عملاً أدبياً رائعاً تتخلله روح شاعرية يتمتع بها إحساس الكاتب ، وتؤرخ مرحلة سوداوية من مراحل أكثر سواداً في تاريخ بلادنا المستمرة حتى تاريخه بل زادت عنفاً وقسوة وإرهاباً.. رواية تجمع بين الأدب والتاريخ والتوثيق تجعلها في مراتب عليا من أدب السجون كقريناتها من الروايات .. وهذا رأي شخصي لقراءتي لها بحيادية تامة دونما أي تحيز "لكم تمنيت أن أعيش في وطن يكفّ الحذاء العسكري أن يقرر مصيرنا" (الرحيل إلى المجهول صفحة 67) وهذا ما توصل إليه آرام وما كنا ولازلنا نطمح له
صفة العذراء الطاهرة الذي اسقطها الرجل على المرأة، بهذا المفهوم استطاع أن يجردها من أنوثتها، ووضعه في مصاف الوهم. هذه الصفة، العذراء، فيه استعلاء، فوقية، تجريد المرأة من الغرائز، أي أنه احتقار لها. لماذا نربط النبالة والأخلاق والسلبية بالعفة، بالخواء، بالفراغ؟ لماذا يجب أن تبقى المرأة عفيفة وليس الرجل على سبيل المثال؟ لماذا نفرغ المرأة من الأمومة كظاهرة إنسانية طبيعية؟ المرأة عندما تكون طفلة صغيرة أول شيء تفعله أنها تجلب لعبة صغيرة وتعاملها كطفلها، تشعر بالأمومة منذ اللحظات الأولى من حياتها. عقدة الدونية هي عند الرجل، لديه حسد من المرأة، إحساس بالخواء، لأنها تنجب بينما هو مجرد عابر سبيل. أراد لها في الأسطورة أن تصبح دون مضمون، أن تنجب من الوهم. التاريخ الإنساني دساس وخبيث وماكر، لم يقل لنا شيئا دون معاني أو خبث ويشير إشارات خبيثة، زراعة السم في العسل، ويقدمه لنا شهيًا من الخارج، بينما داخله ملوث بالموت. إنه الرجل الذي صنع الموت والسيطرة والتعذيب والقهر والتراتبية الاجتماعية.
لا تبحث عنه، ما تنتظره لن يأتي. أذهب إليه أنت، في الحقيقة هو غير موجود، إنه لديك. ذلك الحلم الجميل الذي يدغدغك دائما، هو للتعويض عن الفاكهة اللذيذة، عن الحرمان، عن عدم الإشباع. إن الفطام اللذيذ الذي خسرته إلى الأبد، لن يعوض، كن شفافا كما كنت عليه دائما، فالأشجار ستبقى هي الأشجار، خضراء دائما والينابيع ستستمر بالطيران والجلوس في أعالي الجبال وفي حضن الأنهار والبحار. هذا .. أو هكذا هو الخلود. تذكر جيدًا، أنت هو الشيء ونقيضه، أنت كل شيء، ينبع منك ويحط رحاله فيك. إنهما معك في ذاكرتك، في الرغبات المجنونة الكامنة فيك، وفي الهزائم الدائمة النائمة على وسادتك وفي سريرة روحك، في الشغف الدائم إلى الحياة والجمال. أنت أنت ولا أحد سواك. أنت الجنة واللذة والحياة والموت، لا تخف أنت الذي صنعت المطلق وأصبحت ظلاله. مرة أخرى مع رائعة عرج الجوى وتصرف فقط في السطر الأخير
قرأت رواية مائة عام من العزلة، لغابرائيل ماركيز غاريسيا، أول مرة رأيتها ساحرة، قرأتها المرة الثانية قبل بضعة أعوام رأيتها باهتة جدًا. عرى ماركيز الديكتاتور، وعلاقاته، هذا ممتاز، ولكنه لم يعر، أسياد الديكتاتور الذي هو أصل القضية كلها. لقد مارس التقية بأسلوبه الساحر، واللعب على الكلمات، مثل اي لأعب بارع، واستطاع أن يهرب من تعرية دور الولايات المتحدة المسبب الأول في خراب بلده كولومبيا، وجمهوريات الموز. المثقف وغد، لأنه يعرف كيف يستفيد من التناقضات، ليضع نفسه في المقدمة، ليكسب الشهرة والمال. يريد لذاته الميتة أن تحيا بين الاموات. تمت قراءة الرواية بدقة من قبل المتروبول، وعلموا انه يسوقهم بذكاء، ويرجم أعداءهم، الاتحاد السوفييتي ومنظومته الأمنية، وذلك في ذروة الحرب الباردة. بالطبع السوفييت يستاهلوا. استطاع ماركيز ببراعة الانتهازي أن يعرف من أين تأكل الكتف. وأغلب الذين يطوفون على السطح يسيرون مع التيار، إلا من قبل على نفسه ان يبقى صليبًا. تم تسويقه سياسيًا وأدبيًا، ورقصت عاشقات الهوى أمامه بابتذال، وضاعت حقيقة انهيارات دول الكاريبي على يد أسياد جمهوريات الموز الذي لم يذكرها إلا لتمرير نفسه بين ثنايا الكلمات، ليقول لهم: أنا أبنكم البار أيتها الولايات المتحدة، هدفي أن تعطوني جوائزكم، وأنا أمنحكم براءة الذمة من خراب بلدي.
جائزة نوبل مؤسسة سياسية تمنح جوائزها كل عام للقرد الأكثر اتقانًا لفن الرقص في السيرك. أعرف أن هذا الكلام جارح، بيد أن المونديل أيضًا سيرك كبير، يمنح جوائزه للأكثر امتاعًا والأكثر تمثيلًا لصناع المال والإعلام. في عالمنا المريض، كل شي جميل يتحول إلى هدف وغاية لاصحاب المال والتجارة. قوة الولايات المتحدة أنها الأكثر وضوحًا في علاقتها بالحياة، لقد حولت هذه الأخيرة، الحياة، إلى مجرد سيرك يباع فيه الإنسان والشجر والنهر والغابة والبحر والمحيط والحرب والعقل والفكر إلى مجرد مال. الناجح في عالمنا، عالم المال، هو ذاك القرد الذي يعرف كيف يسوق نفسه، يتحول إلى لأعب جميل يصفق له بقية القرود. ماركس العظيم، قال هذا قبل مئتي سنة، كل شيء يتحول إلى مال، الأخلاق والقناعات والمبادئ.
إن ما كتب ليس النص الأصلي. والنصوص الأصلية في بحث دائم عن ذاتها. دائمًا هناك ممكنات أكثر مما بين يديك. بمجرد أن تنتهي من كتابة النص الأصلي وفي لحظة نشره يتحول إلى ظل. إن الصراع بين النص الأصلي والظل سيبقى قائما ومستمرًا ما دامت الحياة قائمة ومستمرة. بمجرد أن تولد أو تخرج من رحم أمك تتحول تلقائيًا إلى ظل وفي صيرورة دائمة ومستمرة في محاولة الوصول إلى الأصل. هل أنت الكائن الأصلي أم الظل، ومتى ستصل إلى المبتغى؟ هذا مرهون بجريك الدائم تحت ظلال الظل؟ لهذا لا تحاول أن تعلن عن نفسك أنك الأصل يا ظل. والأصل لم يولد، ولن يولد لأنه جزء من هذه المتاهة الغريبة
منذ أن حلم الإنسان بالسماء والأبدية والجنة فقد صلته بالمكان. والأرض لم تعد وطنًا له. كانت الأرض حيازة، مجرد مكان لإدارة هواجسه وجنونه وضياعه وغربته واغترابه. إنه الكائن الضائع الذي لا يعرف له قرار أو مستقر. ولا يستطيع أن يكون عابثًا أو منتميًا، عاقلًا ولا مجنونًا. إنه مهموم حزين، تكتنف ذاته الهواجس والأحلام المتناقضة. إنه موجود وغير موجود. ولا يعرف إلى أين يسير أو يتجه. منذ أن فقد الإنسان الحب لم يعد كائنًا صالحًا للحياة
في فترة السجن، كان لدي أمنية واحدة في الحياة، فيما إذا خرجت من هذا المستودع المغلق. إن اكتري شختورة، أو قارب صغير، وأصعد عليه وأضع فيه الماء والغذاء وأنطلق به من نبع عين الكبريت في رأس العين، وأسير به مع التيار إلى أن أصل إلى الحسكة. إن املأ عيني وقلبي بجمال النهر والناس والقرى والبيوت والأراضي الواسعة التي تنام على ضفاف الخابور العظيم. كان حلمًا أن أعيش هذا الحلم كما كنت أرغب وأريد. إن أسمع مواويل الفلاحين وأغانيهم، وأشاهد جمال المرأة الطبيعي الخالي من تقنيات الحضارة وصباغها. إن أعيش مع البراءة والجمال والرقة والحياة. كنت أرغب أن أدون كل ما أراه وأشاهده وأسمعه ليكون شاهدًا على زماننا. لإن الزمن المعاصر زمن هارب من الزمن. بيد أن الخابور كان قد رحل إلى زمن أخر قبل خروجي.
لا أعرف من القائل: إن ماركس لم يكن ماركسيًا، والمسيح لم يكن مسيحيًا. بتقديري أنها إشارة للأيديولوجية، فماركس لم يكن أيديولوجيًا، ولم يتقيد بمنظومة فكرية محددة. كان ماركس مفكرًا من طراز رفيع، وباحثًا وفيلسوفًا ومحللًا اقتصاديًا كبيرًا وعالم اجتماع. الأيديولوجية تلجأ إليها الأحزاب للترويج عن نفسها وتسويق أفكارها أو برامجها السياسية أو منظومة أفكارها وفق خطوط ومقاسات محددة بزمان ومكان وفق مقاسات معينة لا يمكن الخروج عنها. أما المفكر، فهو باحث مرن عن أفاق مفتوحة وتطلعات جديدة. أي غير مقيد بأي شيء يحد من الانفتاح على معرفة العالم ووضع رؤيته ونسق أفكاره وفتوحاته في مجال علمه. الأيديولوجية عبودية والإنسان المأدلج عبد خاضع لرؤية مسبقة، أما المفكر فهو كائن حر، باحث عن الحقيقة في مكان مملوء بالغيبيات المتنوعة اجتماعية واقتصادية وإنسانية ووجودية وفكرية..
الإشباع العاطفي هو المدخل إلى السعادة في الحياة، لهذا ترى أغلبنا يعيش حزنًا على حزن، دون قدرة على التصالح مع الواقع في غياب هذا الإشباع إننا هائمون، في حالة ضياع، نبحث عن أرض، عن صدر حنون يضمنا بين دفتيه علنّا نتصالح مع أنفسنا وعالمنا. وأغلب الاختلالات النفسية والجنسية التي يعيشها الناس في بلادنا هو نتاج هذه التجربة المأزومة المهزومة. لهذا ترى أغلب أغانينا فيها حسرة ولوعة وألم، مواويل حزينة، وبكاء على الغياب والفقد، الذي في جوهره ضياع الحب والأم والحبيب. هناك بتر عاطفي وجنسي للإنسان في بلادنا منذ اللحظة الأولى لبدء حياته.
النص الحي هو ابن الحقيقة، والحقيقة خالدة. الحقائق الخالدة، المفاهيم الخالدة تعيش بيننا وستستمر، كالحرية والحب والجمال. الحقائق لا تموت. والنص الحي يتحرك ويعيش في الحقيقة. لكن عندما نتكلم عن النصوص التي تعيش في الماضي، نقول عنها أنها ميتة.
بعد ثورة آيار العام 1968 في العديد من الدول الغربية، جرى غسل دماغ الإنسان الغربي بزيادة جرعة ضبط المجتمع، وهندسته، ليتحول إلى مدجنة أو مفرخة لإنتاج ناس نمطيين، سطحيين، لا هم لهم سوى كيف يستهلك السلعة. بمعنى، يجري أدلجة الإنسان منذ عمره سنة أثناء وضعه في الحضانة. في هذه المرحلة المبكرة من حياته يبدأ في تهيئته ليتحول إلى عامل في مؤسسة، يدربوه ليعتمد عليها، يتمسك بها ليكون شيء مشيء. بمعنى يجري تقليمه ليخرج موظف مبدع في إنتاج السلع وهضمها. فالمدارس والجامعات عم تخرج مداجن مغلقة الدماغ، ليس لديها اهتمام بأي شيء إلا في المزيد من الذاتوية الاستهلاكية.
رفيق الطريق, ودرب الآلام, المرحوم حمزة حبوس مكث في السجن مدة أثنا عشرة سنة. قضى زهرة شبابه فيه. في العام 2013, اعتقلوا ابنه العباس على الحاجز في طريقه إلى دمشق لتسجيل اسمه في المعهد. أكاد أبكي من الحزن والألم والقهر. في الأمس, حمزة, الأب, واليوم, العباس, الأبن. فهو شاب ياقع, في الصف العاشر. وكان حمزة, أخر صديق ودعته. حيث نمت في بيته, في قرية غباب. ومن هناك تركت سوريا. أمل أن يخرج العباس حمزة حبوس في أقرب فرصة. ويعود لدراسته وأمه الحزينة يا قسوة الأقدار, متى ترحمينا.
قريش ناصبت العداء للرسول العربي محمد. هرب الرجل إلى المدينة مع بقية المهاجرين المؤمنين به. والانصار وقفوا إلى جانبه وحموه. ولم تكتف قريش بالعداء, وأنما لاحقوه وحاربوه. ومع هذا فأن قريش حكمت الدولة الإسلامية أكثر من ستمائة عام بناء على فتوى من الخليفة الثاني, عمر بن الخطاب: ـ الإمارة لقريش. السؤال: ـ ولماذا قريش يجب أن تحكم؟ السؤال الأخر: هل كانت قريش أقلية مسلمة أم أكثرية؟ ولماذا جرى تهميش الأنصار؟ ولماذا قتل سعد بن عبادة اغتيالا سياسيا, وهو المعروف عنه أنه كان أشد الناس حماسة لحماية الرسول؟ ولماذا لم تحاسب الدولة المسلمة, القاتل؟ كما هو معروف, أكثرية قريش لم يؤمنوا بالرسول, وسماهم المؤتلفة قلوبهم. ومع هذا, الاشد عداءًا للإسلام والرسول حكموا الدولة, مروان بن الحكم, أولاد أبو سفيان, وغيرهم. وما دمنا في القرن الواحد والعشرين, وحسب الفتوى: ـ يجب ان نعود إلى قريش لتحكمنا. هل بقي من قريش أي كائن؟ فهؤلاء تحديدا, المخولين في حكم الدولة الإسلامية. وإلا سنسمي الجميع خوارج. أو, أن نخرج من عقدة الاضطهاد, أن السنة هم الأكثرية ويجب أن يحكموا البلد لأنهم مؤتمنين عليه. للتذكير فقط, أن الإخوان المسلمين في سورية كانوا يجرون مفاوضات مع السلطة للعودة إلى البلاد قبل الثورة, وبشروط السلطة وأخيرًا الرجاء أن ننظر إلى بعضنا كمواطنين, وليس أقلية أو أكثرية دينية. نحن في القرن الواحد والعشرين.
في صيف العام 1971 كنت في الثالثة عشرة من العمر، في الصف السابع، تعرفت على شاب أكبر مني في السن، بحدود السنتين. كنت واقفًا في زاوية الشارع الذي أقطنه مع أهلي في مدينة القامشلي. في هذه الفترة شعرت أنني تحررت من فترة الطفولة الأولى، وأصبحت كبيرًا، وأميز الكثير من الأشياء، وحضرت الكثير من الندوات السياسية في المدرسة في زمن صاخب، فيه حركة سياسية نشيطة في العالم والمنطقة وسوريا. ليس مهمًا شكل النشاط، لكنه بالنسبة لي كان شيئًا رائعًا. مر يعقوب وأمعن النظر في عيني، ألقى السلام علي فابتسمت وبادلته بالسلام، قال لي: ـ الأخ يقطن في الحارة؟ ـ نعم ـ منذ متى أنتم في الحارة؟ ـ منذ ثمانية أشهر ـ حارتكم جميلة، فيها أعدادية القادسية للبنات، ونظيفة وسكانها أنيقون. كان واقفًا على مسافة، ثم اقترب مني أكثر، ومضينا نتحدث في شؤون المدرسة والحياة والرياضة، قال لي: ـ أنا أقطن في الحارة الغربية، جئت إلى هنا لأن بيت أخي كبرو يقطن في زاوية الشارع، ومد أصبعه وأشار لزاوية البيت والنافذة التي تطل علينا، ثم قال: ـ هل تحب أن نتمشى قليلًا؟ ـ نستطيع المكوث هنا ونتابع حديثنا، لكن لا مشكلة. مشينا، وبدأ يعقوب يسترسل في الحديث في السياسة، أخذني إلى بلاد بعيدة جدًا، بلاد الواق واق، إلى الصين وفيتنام وكوريا الشمالية والجنوبية والهند واليابان، إلى الثورة الصينية وانتصارها بقيادة ماو تسي تونغ، وانتصار كيم إيل سونغ على كورية الجنوبية وتدخل الولايات المتحدة إلى جانب هذه الأخيرة، وعمالة تشان كا شيك، وفورموزا، والقصف الأمريكي على فيتنام ومعركة ديان بيان فو، والجنرال جياب. في المحصلة وضعني يعقوب في أجواء سوريالية على تكعيبية، على تجريدية، ضيعني، وصرت أنظر إليه وكأني أنظر إلى خيالي. ولم استوعب كلمة واحدة. رأيت الأسماء تطير في الفضاء، تسبح فيه ثم ترتد علي، وترقص أمامي، وأنا تائه، أركض وراءه بسرعة هائلة، وأرى وأسمع أسماء غريبة وعجيبة تهرب، ثم أطرح على نفسي الأسئلة: ـ من هو ماو ومن هي فوزموزا، ومن أين جاء بتشان كا شيك، ومن هو جياب أو كافور أو أراغون أو فولتير أو سارتر أو ألبير كامو؟ هل يتكلم بالألغاز، هل سلطه الله علي ليتوهني؟ صرت أمشي معه وكأني أمشي مع ظلي، وكل دقيقة وأخرى يسألني: أليس كذلك.. أليس كذلك؟ فأردد خلفه كالصدى البعيد: ـ طبعًا طبعًا. وأنا كالسكران لم أكن أفقه أي شيء. الله عليك يا يعقوب شو عملت فيني في ذلك اليوم.
لا أحد يعرف قيمة الأشياء الذي يملكها إلا إذا فقدها. في يديك نعم كثيرة، بيد أنك لا تراها، لأنك لا ترى. لأنك أحمق ومغرور، وظنونك تأخذك إلى البعيد، إلى السراب. هذه الحياة فخ، مصيدة يمكنها أن تمتحن قدراتك، ضعفك، وأنت غير مستعد لها. ولا يوجد كبير في هذه الحياة. والحياة مسنن مذبب، تجرش الكبير قبل الصغير، يمكنها أن تمزقك أربا في ليلة مقمرة، وتحولك إلى كائن مهزوم. هؤلاء الذين يزمجرون بمناسبة وغير مناسبة، يظنون أنهم خارج معادلة الحياة ولعبتها، وتقلباتها وامتحانها القاسي. من كان يظن أن صدام حسين، سيد العراق سيتحول إلى كائن مأسور أو أن يقتل القذافي بهذه الطريقة البشعة، أو نيرون، وربما غدًا أردوغان أو ترامب. في الامتحان الحقيقي للحياة يكرم المرء أو يهان وأغلبنا سمع بقصة النمر الذي وضع في الأسر، وكيف دجن، وذل مقابل لقمة الطعام. وتحول من وحش طبيعي إلى فأر خاضع.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس عن الدولة ــ 367 ــ
-
هواجس عامة وخاصة 366
-
هواجس أدبية ووطنية وفكرية 365
-
هواجس سياسية 364
-
هواجس وذكريات ــ 363 ــ
-
هواجس كثيرة 362
-
هواجس وذكريات عن مدينة الحسكة ــ 361 ــ
-
هواجس عن الطفولة ــ 360 ــ
-
هواجس ثقافية ودينية 359
-
هواجس عن الاستقلال 358
-
هواجس عن اليسار ــ 357 ــ
-
هواجس تتعلق بعالمنا 356
-
هواجس عن عالمنا القائم اليوم 355
-
هواجس عن نهر الخابور 354
-
هواجس تاريخية ــ 353 ــ
-
هواجس عن الدولة 352
-
هواجس تتعلق بالرواية ــ 351 ــ
-
هواجس وقلق 350
-
هواجس فكرية وسياسية 349
-
هواجس وطنية 348
المزيد.....
-
في يوم استثنائي.. الفاتيكان يحتضن مربي الحيوانات للاحتفال بع
...
-
الإشارة الأقوى على الإطلاق.. متوفر الآن تردد قناة طيور الجنة
...
-
نزل الآن تردد طيور الجنة 2025.. استمتع بأجمل الأناشيد والأغا
...
-
محمد حبش: هكذا يمكن بناء الدولة المدنية وفق مرجعية إسلامية و
...
-
إسرائيل ستفرج عن مستوطنين يهود محتجزين إدارياً رداً على اتفا
...
-
مزاعم جديدة بالاعتداء الجنسي تدفع الكنيسة الفرنسية لفتح تحقي
...
-
60 ألفًا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
رجل دين إيراني: إسرائيل تريد قتل الإمام -المهدي المنتظر- في
...
-
أحلى ضحكة ونغمة لأطفالك على قناة طيور الجنة.. تثبيت التردد
-
60 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|