حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8183 - 2024 / 12 / 6 - 08:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدولة العميقة في الجزائر هي مفهوم يتجاوز مجرد التوصيف السياسي أو المؤسساتي، إذ يعكس حالة معقدة من التداخل بين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتمتع بسلطة غير رسمية، تؤثر في مجريات الأحداث وتوجهات السياسات الوطنية. هذه الدولة ليست مجموعة من الهياكل التقليدية مثل الحكومة أو البرلمان، بل هي شبكة مترابطة من شخصيات ومؤسسات متغلغلة في كافة مفاصل الدولة، تعمل خلف الستار لضمان استمرار الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي، بعيدا عن رقابة الشعب أو المؤسسات الرسمية.
تعود جذور "الدولة العميقة" في الجزائر إلى حقبة الاستقلال، حيث برزت المؤسسة العسكرية بشكل خاص كلاعب رئيسي في الحياة السياسية، متحكمة في مفاصل الحكم. بعد الاستقلال، تم بناء شبكة من العلاقات غير الرسمية التي جمعت بين العسكريين ورجال الأعمال والسياسيين من مختلف الأطياف، وهذا التكتل كان يضمن استمرارية السيطرة على مفاصل الدولة. هذه القوى غير المنتخبة، التي تملك قدرات هائلة على التأثير، تمكنت من التأثير في الانتخابات، وتوجيه السياسات العامة، بل وحتى التأثير في القوانين والدستور ذاته.
لقد كانت الدولة العميقة، على مدار العقود الماضية، هي المتحكم الفعلي في توجهات الدولة الجزائرية، متجاوزة بذلك الصراعات الحزبية الرسمية والمنافسات الديمقراطية. ورغم أن الجزائر قد شهدت تغييرات سياسية كبيرة، من بينها التغيير الحكومي والانتخابات المتعددة، إلا أن تلك القوى الخفية قد نجحت في الحفاظ على مصالحها، مستفيدة من علاقاتها التاريخية والأمنية، التي تتيح لها استخدام الآليات العسكرية والاستخباراتية للحفاظ على استقرار النظام القائم.
الجزائر، وعلى الرغم من محاولات إصلاحية كانت قد انطلقت في أعقاب الحراك الشعبي لعام 2019، والذي طالب بالتغيير الحقيقي في النظام، إلا أن الدولة العميقة كانت أحد أبرز العوائق أمام تحقيق التغيير الجذري. حيث ظلت تحكم بقوة خفية وراء الكواليس، تواكب الأحداث وتديرها بما يضمن استمرار مصالحها.
ومع تطور الأوضاع على الساحة السياسية، يبقى السؤال المطروح: هل يمكن للجزائر أن تخرج من قبضة الدولة العميقة التي أضحت جزءًا لا يتجزأ من بنيتها، أم أن هذه القوى ستظل مسيطرة، تتحكم في حاضر البلاد ومستقبلها؟ إن فهم طبيعة الدولة العميقة في الجزائر يتطلب تحليلًا دقيقًا للتركيبات السياسية والعسكرية والاجتماعية التي تجعل منها قوة غير مرئية لكنها حاسمة في تحديد مصير الدولة.
الدولة العميقة في الجزائر:
تعد الجزائر واحدة من أبرز الأمثلة في العالم العربي على وجود "الدولة العميقة"، وهو مصطلح يشير إلى القوى غير المرئية التي تمارس تأثيرًا كبيرًا على السياسة من وراء الكواليس. على مدار تاريخ الجزائر الحديث، لعبت هذه القوى دورًا محوريًا في تشكيل السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، وكان لها تأثير على استقرار النظام السياسي، بل وأحيانًا على تشكيل الحكومة وتغيير السياسات.
العوامل التي ساعدت على ظهور الدولة العميقة في الجزائر:
الجيش والمخابرات: يعتبر الجيش الجزائري من أبرز مكونات الدولة العميقة في البلاد. منذ الاستقلال عام 1962، كان للجيش دور حاسم في السياسة الجزائرية. كان يُعتبر العمود الفقري للنظام السياسي، وبشكل غير رسمي، يسيطر على الكثير من القرارات الحكومية الكبرى، بما في ذلك السياسة الخارجية والأمنية. في الجزائر، لم يكن من الممكن تصور أي حكومة أو تغيير سياسي دون موافقة الجيش. بالإضافة إلى الجيش، كانت أجهزة المخابرات، لا سيما "دائرة الاستعلام والأمن" (DRS)، تمثل جزءًا مهمًا من الدولة العميقة.
الفساد والمحسوبية: كانت الفساد والمحسوبية من العوامل التي عززت وجود الدولة العميقة في الجزائر. بعد الاستقلال، عملت النخب العسكرية والأمنية على ترسيخ نظام من المحسوبية يضمن استمرار نفوذها. هذه الشبكات كانت تجمع بين المسؤولين السياسيين ورجال الأعمال، مما أدى إلى تداخل السلطة السياسية والاقتصادية داخل دائرة ضيقة من النخبة الحاكمة. الفساد كان يشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الدولة العميقة، حيث تم استخدامه من أجل تأمين الولاء للنظام.
التحديات الاقتصادية: في ظل الاعتماد الكبير على عائدات النفط والغاز، كانت الدولة العميقة تعمل على ضمان استمرارية النظام السياسي من خلال التحكم في الموارد الاقتصادية. هذا أدّى إلى تكريس الاحتكار الاقتصادي من قبل النخب العسكرية والسياسية، مع استمرار توجيه عائدات النفط لمصلحة هذه الطبقات.
أمثلة بارزة على الدولة العميقة في الجزائر:
الجيش في السنوات الأولى من الاستقلال: بعد استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي في عام 1962، تولى الجيش الجزائري دورًا حاسمًا في إدارة شؤون البلاد، حيث لعب دورًا كبيرًا في تشكيل السياسات الوطنية. في البداية، كان أحمد بن بلة، أول رئيس جزائري، يحظى بدعم الجيش، ولكن مع مرور الوقت بدأ الجيش يتحكم في السلطة بشكل أكبر، وتم عزل بن بلة في 1965 عبر انقلاب عسكري قام به هواري بومدين، الذي أصبح رئيسًا للبلاد.
هيمنة الجيش على الحياة السياسية: منذ العهد البومدي، أصبح الجيش الجزائري يشكل حجر الزاوية في النظام السياسي. كان من المستحيل أن يحكم الجزائر دون موافقة الجيش. بومدين نفسه، على سبيل المثال، كان منتميا إلى الجيش وعزز من نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية. بعد وفاته في 1978، بقي الجيش في صدارة السلطة، وهو ما تكرر بعد ذلك مع خلفائه.
المرحلة العشرية السوداء: في فترة التسعينات، وخصوصًا في أعقاب الحرب الأهلية الجزائرية (العشرية السوداء)، ازداد نفوذ الجيش والمخابرات. بعد أن ألغت الحكومة الانتخابات التشريعية في 1991 التي كانت ستفوز بها جبهة الإنقاذ الإسلامية، اندلعت احتجاجات وأعمال عنف واسعة في البلاد. تدخل الجيش والمخابرات بشكل حاسم في ضمان استقرار النظام عبر استخدام القوة. تلك الفترة أبرزت بشكل كبير الدور المحوري للمؤسسة العسكرية في تحديد مصير السياسة الجزائرية.
عهد بوتفليقة: عبد العزيز بوتفليقة، الذي حكم الجزائر من 1999 إلى 2019، كان يُنظر إليه كواجهة سياسية، بينما كان الجيش والمخابرات يحكمون فعليًا. خلال فترة حكمه، تم تحقيق الاستقرار النسبي بعد الحرب الأهلية، ولكن هذا الاستقرار كان يعتمد على تحالفات مع النخب العسكرية والاقتصادية. لم يكن بوتفليقة، في كثير من الأحيان، هو الشخص الذي يتخذ القرارات الجوهرية. في الواقع، كانت "الدولة العميقة" تمارس تأثيرًا قويًا على التعيينات السياسية والاقتصادية.
الاحتجاجات وحراك 2019: في 2019، اندلعت احتجاجات ضخمة ضد بوتفليقة، وهو ما أدى في النهاية إلى استقالته. ورغم الاستقالة، بقيت الدولة العميقة، التي تضم النخب العسكرية، الأمنية، والاقتصادية، في موقع قوة. الجيش، الذي كان يشرف على العملية الانتقالية السياسية، ظل في موقع مؤثر في صنع القرار السياسي، وهو ما قوبل بانتقادات من قبل المتظاهرين الذين طالبوا بتغيير شامل في النظام، وليس فقط في الوجوه السياسية.
التأثيرات السياسية والاجتماعية للدولة العميقة في الجزائر:
تعزيز الاستبداد: واحدة من أهم نتائج وجود الدولة العميقة في الجزائر هو أن الأنظمة الحاكمة غالبًا ما كانت تظل بعيدة عن الرقابة الشعبية. سواء عبر الانتخابات الشكلية أو المؤتمرات السياسية، كانت السلطة الحقيقية في يد النخب العسكرية والأمنية. هذا أسهم في تعزيز الاستبداد وتقييد الحريات السياسية.
تعطيل الإصلاحات: كان من الصعب تنفيذ إصلاحات سياسية حقيقية في الجزائر بسبب سيطرة الدولة العميقة على المؤسسات الحاكمة. التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلاد، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفساد، كانت تُقابل بتجاهل من قبل النخب السياسية التي تسيطر عليها القوى العسكرية.
التأثير على الاستقرار السياسي: على الرغم من أن وجود الدولة العميقة حافظ على استقرار النظام السياسي في فترات معينة، فإنه في أوقات أخرى كانت هذه القوى تشكل عبئًا على استقرار الدولة. خاصة عندما كانت النخب العسكرية تتصارع حول السلطة أو عندما كان الشعب يشعر بأن الدولة لا تمثل مصالحه.
وفي المجمل، فإن الدولة العميقة في الجزائر هي حقيقة معقدة ترتبط بمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، ولها تأثير عميق في تشكيل السياسة الجزائرية. على الرغم من أن هناك محاولات لتخفيف نفوذ هذه الدولة العميقة، مثل الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها الجزائر في 2019، إلا أن هذه القوى ما تزال تملك تأثيرًا كبيرًا على مستقبل البلاد.
في الختام، تظل الدولة العميقة في الجزائر لغزًا معقدًا ومحورًا رئيسيًا في تحديد مسار السياسة الداخلية والخارجية للبلاد. لقد أثبتت هذه القوى غير الرسمية قدرتها على التكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، وفرض نفوذها عبر عقود طويلة من الزمن، حتى باتت جزءًا من هيكل النظام الحاكم. ورغم الحركات الاحتجاجية والتغييرات الظاهرة التي شهدتها الجزائر، لا تزال الدولة العميقة تمسك بخيوط اللعبة السياسية، مما يضع تحديات كبيرة أمام أي محاولة حقيقية للتغيير الديمقراطي.
إن قوة الدولة العميقة تكمن في قدرتها على التحكم بالمسارات الأمنية والاقتصادية، بل وأحيانًا التلاعب بالأيديولوجيات والسياسات الاجتماعية بما يخدم مصالحها. ولكن، وفي ظل تحولات العصر وصعود الوعي الجماهيري، تبرز تساؤلات عن مدى قدرة الشعب الجزائري على تفكيك هذه الشبكات المعقدة والضغط نحو تغيير حقيقي يعيد للسلطة الشرعية والشفافية.
من هنا، يتضح أن المستقبل السياسي للجزائر لا يمكن أن يُبنى إلا على أسس من التوازن بين السلطات، وقوة المؤسسات الديمقراطية، وكشف طُرق تأثير الدولة العميقة التي لطالما تلاعبت بمصير الوطن. ولعل الأمل يكمن في قدرة الأجيال الجديدة على تجاوز هذه التحديات، والتمسك بمبادئ الحرية والعدالة، لكي تنعم الجزائر بنظام سياسي يعكس إرادة الشعب، لا إرادة القوى الخفية التي تعودت على إدارة كل شيء من وراء الستار.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟