أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - توفيق أبو شومر - قصة أفلاطون في خيمة اللجوء!














المزيد.....

قصة أفلاطون في خيمة اللجوء!


توفيق أبو شومر

الحوار المتمدن-العدد: 8069 - 2024 / 8 / 14 - 02:56
المحور: الادب والفن
    


ركبتُ إلى جوار امرأة تحتضن وليدها وهي تجلس فوق كرتونة مهترئة تغطي القفص الخشبي لعربة يجرها الحصان، كانت تبكي وتقول: "ليتنا متنا مع أبيك وأخيك وأختك تحت ركام بيتنا، كيف سنعيش بعدهم"؟!
لأول مرة أشعر بعدم القدرة على السير مسافة طويلة وأنا في مخيم اللجوء، أحسست بالتعب بعد أن خطوت بضعة أمتار، كنت أسمع بوضوح لهاثي السريع، وجدت قطعة نايلون ممزقة، وضعتها تحت مؤخرتي، جلستُ على طرف الطريق، غطيت رأسي بالطاقية حتى لا يعرفني المارون، حاولت استعادة نشاطي من جديد، لكنني شعرتُ بالدوار، هربت من تفسير سبب ما أشعر به من إرهاق وتعب، تجنبتُ أن أرجعه إلى نقص الغذاء، واضطراري لتناول المعلبات لعدم وجود طعامي الصحي المعتاد، خشيت أن أنظر إلى أظافر يدي الجافة الصفراء، كنت أحس بأنني أحمل جسدا آخر فوق جسدي الهزيل، حاولت أن أقنع نفسي بتفسيرٍ آخر غير صحيح، أرجعتُ السبب إلى أنني ألبس ملابس شتاء ثقيلة جدا، تناسب شهر يناير، فأنا ألبس تحت القميص قميصا صوفيا ثقيلا وألبس فوق القميص الخارجي معطفا ثقيلا أضع فيه كل أوراقي، وألبس بنطالا من الصوف تحت بنطالي القماشي، كنتُ أعلم أن تفسيري هروبٌ من الحقيقة.
كنت أنوي الذهاب إلى حيث مقر لجوء زوجتي، ومقر لجوء ابنتي، كلاهما في مكانين مختلفين، وأنا في مكان ثالث، خطوت بضع خطوات أحسست بنشوة لم تدم طويلا، فقدتُ بسرعة توازني، وقعت فوق الإسفلت، لم تفلح يدي التي وضعتها تحت أنفي من اتقاء الجرح في شفتي وأنفي، أحسستُ بيد شاب قوي ترفعني، حررتُ يدي من يد الشاب شكرته، أخرجت بقية منديل ورقي من جيبي وضعته على الجرح في أنفي وشفتي، قلتُ وأنا أحاول الابتسام للشاب: تعثرتْ قدمي بحجر، كذلك لم أكن صادقا، كنت أحاول أن أجرب هذا الادعاء، عندما ألتقي مع عائلتي، فهم سيرون بوضوح الجرح في أنفي وشفتي ويطلبون مني أن أقدم لهم تفسيرا مقبولا يُريحهم.
صرتُ أشتاق إلى موت سريع لا يزعج أحدا، أدركتُ أن انتظار الموت هو الأصعب والأقسى من الموت نفسه، فعندما يفقد الإنسان كل مقومات حياته في لحظات معدودة، ويشعر باستحالة استعادة السعادة، حينئذٍ يصبح الموت مريحا العقل من التفكير في فقدان السعادة، خسرت بواعث سعادتي، بيتي ومكتبتي وفراش نومي، ووسادتي، وخزانة ملابسي، بخاصة سلسة مفاتيحي مَن يعيد لي سلسلة مفاتيحي الجالبة لسعادتي، مفتاح بيتي وبيت ابني وابنتي، ومفتاح بوابة العمارة التي أسكنها ومفتاح المصعد، من يعيد لي كرسي مكتبي الذي صممته ليلائم حركات ذراعي وأصابعي التي تحرك قلمي وأنا أجلس على مكتبي؟ من يعيد لي صور شهاداتي، ووعاء إنضاج قهوتي على البخار؟ أشعر بشوق إلى صوري الخاصة بلونها الأبيض والأسود وأنا طالب في المرحلة الإعدادية، مَن يعيد إليَّ كل ذلك الشوق المفقود؟!
كنت قبل أن أُهجَّر في الخيمة عاشقا للحياة، أما اليوم فقد صار عشقي للغياب هو المحبب، أمشي في شوارع خالية من الناس ولا أشعر بالرعب، صرتُ أبحث عن ميتة سريعة ودفن سريع بلا عناء، مثلما يحدث للشهداء الذين ظفروا بهذا الفوز بدون الطقوس التقليدية ومراسم الدفن والعزاء، أن يوضع ما تبقى من جسدي فوق إحدى عربات النقل إلى المقبرة المكتظة بالأجساد، يدفنون رفاتي، بلا تأبين، ثم يغادر المشيعون في انتظار قبر جديد آخر.
أنا اليوم أتعمدُ السير أمام إحدى الأبنية المهددة بالدمار، قليلون هم الذين يغامرون بالمرور بالقرب من المكان، شعرتُ وأنا أسير وحدي في المكان بهدوء منقطع النظير، بخاصة كلما اقتربت من المكان المهدد بالدمار.
هل كنت أبحث عن ميتة سريعة؟ ام أنني كنت أتحدى الموت؟ لا أدري بالضبط سوى أنني كنت أبحث عن الخلاص.
لماذا استعدت حكمة أفلاطون: "ليس الموتُ أسوأ الشرور، ولكن الأسوأ أن نتمناه ولا نلقاه"؟ هل يعود إلى أنني حفظت هذا القول في السابق، لأصنع منه مادة تصلح للتطبيق على شقاء الآخرين وآلامهم، وليس لأطبقه عليَّ أنا؟ أم لأنني كنت مؤمنا باستحالة أن أصل إلى هذا الحال؟ طويت هذا القول في ذاكرتي سنوات طويلة، إلى أن استخرجتْه المرأةُ التي ركبتُ إلى جوارها في العربة.
اكتشفت بالفعل صدق مقولة أفلاطون، أحسستُ بأنني توحدتُ مع أفلاطون هيمنت سيرتُه على وسادة نومي في خيمتي، استوطن أفلاطون وسادتي المهترئة ولم أستطع نزعه منها، لماذا قال عميد الفلاسفة أفلاطون: ليس الموت هو الأسوأ، بل الأسوأ أن تتمناه ولا تلقاه؟ هل أحس بالقهر كما أُحسُّ في خيمة لجوئي، أم أنه خسر بواعث السعادة مثلي؟ فقد كان مؤمنا بفلسفته المثالية، أحسَّ أنها ستوصله للسعادة، وفجأة اكتشف أن فلسفته المثالية لا تصلح وسط عالم غير مثالي، كان سعيدا بتأسيس أكاديميته في أثينا، كان ينوي تأسيس (جمهورية أفلاطون) جمهورية المثالية والأخلاق، انتشى عندما تخرج من أكاديميته تلميذُهُ، ديونيسيوس وصار حاكم سرقوسة اليونانية، ووصل إلى قمة السعادة عندما طلب التلميذُ من أستاذه أن يُساعده على حكم البلاد ليؤسس جمهورية السعادة والأمل، لم تدم سعادة أفلاطون طويلا عندما اكتشف ديونيسيوس أن هناك فرقا شاسعا بين الحكم النظري الذي تعلمه من أفلاطون وبين حكم الجماهير العملي، فأقصى أستاذه، وامتنع عن الاستماع إلى نصائحه، ولم يكتفِ بذلك بل حاول بيعه في سوق الرقيق.
اكتشفتُ أن أفلاطون ابتدع مقولته السابقة بعد أن فقد سعادته، وأصبح مثلي بلا مأوى، أنا إذن أشبه أفلاطون حين ظننتُ أن شغفي بمحفوظاتي ومفاتيحي هي السعادة الدائمة. اكتشفت أن للسعادة عمرا قصيرا جدا، هذا ما أدركتْه المرأةُ التي ركبت إلى جواري في العربة، كانت هي أيضا من أنصار افلاطون، بكتْ لأنها لم تحصل بعد على سعادة الموت، فهي لم تذرف الدمع خوفا من الموت، إذن، لم تكن رغبتها بالموت تشاؤما وإحباطا، بل هي أقل ألما من انتظار الموت في خيمة اللجوء!



#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسرائيل أو أمريكا أيهما القائد؟!
- Baby Sitter من الإيباك لكل عضو كونغرس أمريكي!
- قصة فرن الطين وسط خيام النازحين
- إعلام التضخيم والتقزيم!
- الترنسفير القسري والطوعي!
- احذروا الاحتراب بين العائلات في غزة!
- قصة من غزة ..عبوات غذائية متفجرة!
- لوحات (غرونيكا) في غزة!
- الموساد يهدد قضاة العدالة!
- هل الأونروا منظمة دولية إرهابية)
- قضايا فلسطين المركزية!
- مضيفة الطائرة لا سامية!
- مظاهرات الطلاب الأمريكيين مؤامرة روسية صينية!
- برفسورة يهودية تدعو لنبذ الحركة الصهيونية!
- خطط إسرائيلية لاستبدال الأونروا!
- إلى فقهاء التحليل السياسي!!
- اربطوا أحزمتكم، أنا من غزة!
- إسرائيل جندت بلاك ووتر في غزة!
- المرأة الفلسطينية المهَجَّرَة في معسكرات اللجوء!
- اقرؤوا تاريخكم!


المزيد.....




- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي ...
- الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال ...
- ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
- لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار ...
- جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - توفيق أبو شومر - قصة أفلاطون في خيمة اللجوء!