|
زورق صغير بين بحرين
بدورعبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 8062 - 2024 / 8 / 7 - 22:08
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في حوار كان قد دار بيني وبين ضيف على برنامجي (ثمانية وعشرون حرفاً) وضيفي كان متخصصاً في اللغة العربية، وأستاذاً جامعياً. في ذاك الحوار، والذي كان حول الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي، تصادف أن قرأ ضيفي للشاعر بيت الشعر التالي وعلى الشكل التالي: على قَلِقٍ كأن الريح تحتي أوجهها يميناً أو شِمالا
فقرأ كلمة قَلِقٍ بكسر اللام، فاعترضت لأنه لو قرأنا البيت بفتح اللام قَلَقٍ ، لكان المعنى أعمق وأجمل، حيث سيصبح البيت : على قَلَقٍ كأن الريح تحتي أوجهها يميناً أو شِمالا حيث الشاعر في هذه الحال، يتحدث عن شخصه هو، فيصف حالته النفسية الداخلية، وليس حالة أو سرعة حصانه، وتجادلنا، ثم لم نصل إلى اتفاق، وتجاوزنا البيت، في تتمة لحوارنا حول الشاعر. مضت على هذا الحوار سنوات، وغاب تحت طيات متراكمة من الأحداث والقراءات، إلى أن تصادف أثناء قراءتي مقالاً حول قا1سم أمين -أحد مفكري عصر النهضة- حيث وردت فيه الجملة التالية : "في اللغات الأجنبية تقرأ لتفهم، بينما في اللغة العربية، تفهم لتقرأ" أي أن عليك أن تفهم أولاً، حتى تقرأ ثانياً. والجملة من حيث البدء وصفية وليست حكميّة، ولا أظن أبداً أن قاسم أمين قد قصد إلى إلحاق علة، أو حتى إيحاء بعلة تلحق باللغة العربية، مع أن الجملة توحي بصعوبة تلحق باللغة العربية من حيث المبدأ، إذ ليس سهلاً أن يضطر المرء إلى الفهم قبل القراءة، كأنما تتحرك الجملة عكس التيار، وعلى هذا فقد أحسست فيها شيئاً من رائحة علة جوانية، تلحق باللغة العربية ، ذاك أنه في تلك الفترة وما تلاها، تعرضت اللغة العربية لاتهامات شتى، وحتى إلى بعض الضغوط من قبل فئة من الأدباء المتغربنين لتغييرات يجب أن تخضع لها، حتى تصبح لغة عصرية، من بينها الاستعاضة بالحرف اللاتيني عن الحرف العربي، وعلى هذا فقد طغى علي امتعاض، حبس الجملة في حلقي، فاستعصى علي ابتلاعها، حتى ظننت أن لن يساعدني لا ماء زمزم ولا عسل اليمن، إذ كان لها ما يشبه طعماً لاذعاً، على شيء من مرارة غير مستساغة شابت توابلها، كأنما نبتٌ غريب خالط تلك التوابل، فخالفها وشذّ عن تآلفها. قررت البحث عن الجملة، للتأكد من دقتها وظرفها وسياقها، فوجدتها في كتاب قاسم أمين: " كلمات"، وصحا فجأة بيت المتنبي سالف الذكر، كأنما هو المتنبي أو جواده، قلقاً ربما، أو حائراً، بين فتحٍ وكسر. وبين يدي سؤال يبحث عن جواب، لحقيقة أنْ، بناءً على فتحة أو كسرة، في كلمة من بيت، من قصيدة، نحن أمام وصف يقلب الحال من وصف لحال المتنبي، إلى حال لوصف جواده، فأيهما، ولماذا، وكيف؟ ولأنتبه إلى ما غاب عني طيلة سنوات من عمري، بحكم العادة والألفة بيني وبين اللغة العربية ربما، من أن هذا أمر جوهري في بنية اللغة العربية ونظام تركيبها. واتسعت الفكرة أكثر، وضاقت عنها العبارة أكثر، مع الاعتذار للنفَّري، لماذا في اللغة العربية يجب أن نفهم أولاً حتى نقرأ؟ المنطق معكوس، إذ لماذا يتعلق الماضي بالمستقبل، ينتظر قراراً منه حتى يولد مكتملاً غير مشوه، أو عديم الجدوى والمعنى، وكيف يفعل المستقبل في الماضي؟ أي كيف يفعل ما يلي في ما سبق، فيحكمه ويخضعه، ولا يملك الماضي منه إفلاتاً، ليكتسب دوره ومعناه وهو عكس المنطق، إذ المنطق أو ما ألفنا منه على الأقل، أن يضبط السابق اللاحق، وليس العكس، فكيف نحن أمام منطق يخالف ما ألفناه من منطق؟ وانفتح السؤال على عالم من الأسئلة اللغوية والفكرية والفلسفية والعلمية، لا أدعي أنني بمقالة، أو حتى بحث مصغر، قادرة على تغطية أسئلة إجاباتها توغل في عمق اللغة والفلسفة والتاريخ والعلم، والتي لا أدعي أيضاً أنني بهذا البحث المختصر، يمكن لي أن أكون قد أوفيت على المطلوب. لكن السؤال عصي على الاستسلام، وأنا بحار مركبه صغير، على أن يلج بحوراً ما زالت تنتظر النوارس. لكن السؤال عريق في التاريخ، وملحاح في الحاضر، وأنا لا أملك له دفعاً، بحثاً عن منارة، على شاطيء بحر لجي. والسؤال لغة، والجواب لغة، وما بينهما لغة، فهل اللغة هي وعاء الفكر، أم هي إنجاز الفكر ونتاجه أثناء حركته في الواقع؟ وهل الأساس في اللغة أنها وسيلة الفكر للتفكير؟ أم هي وسيلته للتواصل؟ وهل الفكر هو جوهر اللغة حيث بدونه، اللغة إطار هش، خالٍ من المعنى؟ أم اللغة هي منعقد الفكر لاستمرار فعاليته وتطوره في النفس أو خارجها؟ كثرت التعريفات بين تعريف ونقيضه، وتعريف وسواه، كأنما هي دائرة مغلقة من ثنائيات تحيل إلى محض مفاضلة معلقة دون حسم، وإن أسست لإجابات، كل منها لنظرية تخالف سواها ، وفي أحسن الحالات لا تتوقف عندها. فالأسئلة لا تنتهي، والإجابات مفتوحة، كل منها تحمل رؤية الإنسان لنفسه وللوجود وللعلاقات بين هذا وذاك. وعلى هذا فهي تتجاوز أن تكون محض ثنائيات، أو محض وسيلة للتواصل، وبالتالي فالعلاقة بين الإنسان واللغة والفكر، هي تجلٍّ آخر يندرج ويتداخل مع تجليات علاقة الإنسان بنفسه وبالوجود، وعلاقته بمكوناته بعضها ببعض، ذاك أن ما في الوجود، ليس مجموع أحاديات، على الرغم من تبدّيه السطحي على شكل أحاديات، في حين أنه في واقع الأمر، تجليات لعلاقات بين وبين، تتأبى على الحصر والعد، ذاك أنها علاقات متداخلة، متشابكة، مركبة، وغير قابلة للإفراد إلا مجازاً، أو عزلاً بحثياً. ولعل الدراسات والنظريات الفلسفية واللغوية الحديثة الناتجة عنها، لم تهمل مسألة العلاقات تلك، لكنها أبقتها علاقات أحادية إفرادية، بين وبين، وليست علاقات كليّة، لا تستقيم رؤيتها وجودياً، أو حتى بشكل أدق، لا تستقيم علمياً إلا من خلال العلاقات الكلّيّة المتداخلة. ومن أرسطو، ومن قبله أفلاطون، وحتى العصر الحديث، في مايتعلق بتعريف اللغة وتحليل اللغة، على اختلاف المدارس والنظريات الغربية، من بنيوية، وتفكيكيّة، وتوليدية، وسياقية، ووظيفية... آلخ، فإنها بوجه عام ركزت على التواصل كغاية، والأحادية أو الإفرادية كنظام اجتماعي، يجد تجلّيه الفلسفي في بنية الجملة كتركيب، كما هو في تتالي الكلمات المفردة كنسق، يترتب عليه تركيب لغوي ذو معنى ورؤية فكرية، وعلى هذا فإن المدارس اللغوية الغربية، على اختلافها، قد اعتمدت على أحادية الكلمة في الجملة واستقلاليتها بداية، ومن ثَم علاقتها بما يليها، وهي مسألة في بنية الجملة أساساً، وقبل ذلك، في بنية الفكر الذي أنتجها، ففي العقد الاجتماعي، كما جاء على لسان روسو: "يولد الإنسان حراً، ومع ذلك، فهو يرسف في الأغلال، حتى أولئك الذين يعتقدون أنفسهم أسياداً على غيرهم، هم أيضاً لا يتحررون اكثر منهم، كيف حدث هذا التحول؟ لا أدري ما الذي يمكن أن يجعله مشروعاً. أعتقد أن بإمكاني الإجابة على هذا السؤال". هذا النص يعبر عن الفكرة المركزية لروسو، بأن الحرية الطبيعية للفرد، هي الأساس، ويتم التضحية بها، في إطار المجتمع السياسي المنظم، وذلك لتحقيق الحرية المدنية، وضمان حقوق الجميع، تحت سلطة القوانين المشتركة. هذا الفكر نظر إلى الموجودات والإنسان على وجه الخصوص كآحاد مجتمعة، تتشكل بينها علاقات، وليس إلى المجتمع والعلائقية، من حيث المبدأ، والتي تتأسس على ألا شيء منفصل وحده ومستقل أساساً، ويضاف إلى غيره، فيكتسب وجوده، من خلال علاقاته الفردية مع أفراد غيره، وبالتالي فإن اعتماد الجملة في اللغات الغربية، على العلاقات وحيدة الاتجاه، من السابق وحده، إلى اللاحق وحده، جعل بناء الجملة متكئاً على علاقة الكلمة المفردة، بما يليها، من كلمات مفردات متتاليات، ليكتمل معناها به. وبالعودة إلى الإطار الاجتماعي ذاته، رأى ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، رأى الاجتماع الإنساني، لا كما رآه روسو، مجموع أفراد، وعبر حزن وجودي لا بد منه، تخلى كل فرد عن جزء من حريته الفردية، ليشكل مع أفراد آخرين نظاماً اجتماعياً مدنياً يمكنهم جميعاً من التعايش معاً، بينما عرف ابن خلدون، ومن حيث المبدأ، الوجود الجمعي كضرورة أساساً، موجود في طبع الإنسان، مخالفاً روسو، بأن الوجود الجمعي إكراه لا بد منه، حيث الأفراد مضطرون إلى التنازل عما هو من صميم وجودهم، وهو الحرية الفردية، لصالح النظام العام. بينما يقرر ابن خلدون في كتابه "المقدمة" على أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، يقول في /المقدمة/: "الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع، الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو معنى العمران" وعلى الرغم من أن ما اجتهد فيه ابن خلدون، هو وليد عبقرية متوهجة، إلا أنه في الآن ذاته، وليد ثقافة ضاربة بجذورها عميقاً، إلى آلاف من السنين في المنطقة العربية، ثم هي قبل ذلك وبعده مؤكدة بالثقافة القرآنية، والتي هي تتمة رسالات متتالية في المنطقة العربية، وبالتالي فإن رؤية ابن خلدون الفكرية، إنما صدرت عن ثقافة مغايرة تماماً، للثقافة التي صدر عنها روسو، في مرحلة ما تم التعارف عليه، بعصر الأنوار، بكل ما حملته تلك المرحلة من نظريات وعلوم وفلسفات، عنوانها البرَّاق الحرية، ومن ثم الخروج على الكنيسة، بما تمثله من أفكار وأحكام مناهضة للحرية والعلم والتطور، بدءاً بكونها عنواناً للدين، ومن ثَم الخروج على الدين ذاته، وهنا تجدر الإشارة إلى تغاير وتباين سبيلي النشأة، بين كل من الحضارتين الغربية والعربية. إذ بينما جاءت العلوم والفلسفات الغربية الحديثة من القطيعة بين العلم والدين كما مثلته الكنيسة في حينه، جاءت العلوم العربية، بوجهيها النظري والتطبيقي، في مجالات العلم كافة، والعلوم الفكرية إذا جاز التعبير بخاصة، بما فيها علوم اللغة، جاءت بناء على وأخذاً من القرآن، الذي ليس فقط لم يشكل تعارضاً مع العلم، بل بالأحرى، كان هو المصدر الأساس للعلم والمعرفة، نبعاً ومصباً، وفي هذا السياق، ليس القصد هو المفاضلة بين حضارتين، أو نمطين من الفكر، لكن المقصود هو البحث في اللغة التي عبرت فيها كل من الحضارتين عن نفسها، والينابيع التي استقت منها لغتها، إذ لا يمكن البحث من حيث الجوهر بين الفكر، واللغة التي تحمل هذا الفكر. وبالعودة إلى الينابيع الاولى، لكلتا اللغتين العربية والغربية - مجازاً - على مقياس انقسامها اللاحق، وغربتها السابقة بين أثينا وروما، سوف نجد أن العربية امتلكت أصالة بذاتها، تعود إلى أكثر من ١٥٠٠ عام، وقد عمرت حدائق معلقة وأهرامات، من قواعد وبنى وتراكيب، تفردت بالتميز والثراء، عن لهجاتها الشقيقات القديمات، اللواتي لهن القواعد ذاتها، من صلصال الفكر ذاته. وعلى هذا فمن أرسطو، وحتى علماء اللغويات المعاصرين، تأسست النظريات اللغوية الغربية، بناء على التعامل مع نظام الجملة السهمي، من حيث وضوح معاني ومقاصد الكلمات بالتتالي بداية، ثم في البنية الحديثة للجملة، فإن أي تغيير يلحق بمواقع الكلمات، فإنه يفسدها، الأمر الذي يؤدي إلى جملة مغلوطة أو خالية من المعنى. هذا الاتجاه السهمي محدد المعاني بداية، ليكون للجملة معنى، قبل أن تخضع للتشريح والجمع والطرح والتحليل والتركيب، إنما ينسجم، مع خط الزمن النيوتني، من القبل إلى البعد، أو ما يمكن أن نسميه، العلاقة القبلية لبناء الجملة، إذ يكتمل المعنى بالانتقال خطوة خطوة باتجاه السهم من السابق إلى اللاحق، وهذا معاكس تماماً لنظام الجملة العربية، أو ما يمكن أن نسميه العلاقة البعدية، والذي يتأسس على ما هو بَعد من الكلمات، عطفاً على ما سبقها، حيث معنى الجملة دائماً، أسير العلاقة في ومع الما بعد. وحيث الما بعد مستقبل دائم الحضور، كخطوة ماتزال متفلتة من قيد الزمن، إذ بأي معيار يمكن أن نضبط لحظة آتية دوماً، معلقة على زمن آت بلا توقف، مربوط إلى حرف جر، إلى…؟ وعلى مقياس العلاقة بين اللغة والفكر، باعتبار اللغة فكراً يتحرك، فمن الضروري أن يكون لهذه الحركة نظام، حتى لا تكون عشوائية الخطا، فوضوية النتائج أو نافلتها على أحسن تقدير، فهل يكفي لهذا النظام أن يكون محض خط سهمي، يصل بين سبب ونتيجة؟ كما هو حال القوانين الفيزيائية، مع التغاضي مبدئياً، عن حتمية القانون الفيزيائي، أو احتماليته، ذاك أن الخط السهمي سيترك القانون الفيزيائي مشدود الساقين، على وتر، السبب- النتيجة. لم تبتعد العلاقة بين الفكر واللغة في العالم الغربي، وعلى مدى مئات من السنين، عن هذا المسار، غير متناقضة مع العلم ، حتى تصادف أن اكتشف العلماء، نمطاً فيزيائياً غير خطي، وغير حتمي، في مجال العلوم الحديثة الدقيقة، أدى إلى نتائج ونظريات، تجاوزت ما كان متعارفاً عليه، من بدهيات فيزيائية حتمية، إلى لا حتمية واحتمالية، من علاقات، متشابكة، ومتداخلة، وغير أحادية، ومفتوحة على عالم من الاحتمالات، أرْخَت بظلال نتائجها الفكرية والفلسفية، على مجالات المعرفة كافة، ومن بينها العلاقة بين الفكر واللغة، الأمر الذي أدى إلى عمل اللغويين، على فكِّ اللغة من قيدها وخطها السهمي العريق، إلى تراكيب أخرى، ونظريات عملت عليها مدارس عدة، من بنيوية، وتوليدية، وتفكيكيّة، إلخ.. وبالانتقال إلى اللغة العربية، على الضفة الأخرى من الأرض، حيث كان للّغة مسار آخر، في نهر آخر، من نبع آخر، تغلغل بعيداً في الزمن، بين بابل وآشور شرقاً ، والجناح الغربي من أفريقيا غرباً ، حيث ما عُرِف باللغات السامية، أو العربية، بناء على ما يقرره د. جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" وحيث الأبجدية الأولى في التاريخ، طُبعت، بختم صنع في أوغاريت. وبالعودة إلى ما يزيد على ألف وخمسمئة عام، كانت اللغة التي استقر التعريف عليها بالعربية، والتي نمتها الجزيرة العربية، نخلة مايزال طلحها عناقيد إلى الآن على ما كان، ومايزال نظامها مركَّباً متعالقاً، لا أحادياً ولا سهمياً، وعندما امتد ذراعا الجزيرة العربية بعد الإسلام، ليحيطا بشرق الأرض وغربها، حمل هذا النظام معه، جدليته المعرفية بين الفكر واللغة، حتى أن الحسن بن الهيثم، كان يستخدم في مصطلحاته العلمية الفيزيائية، مصطلحات مأخوذة عن المعتزلة. ذاك كان جانباً من الجدلية بين الفكر واللغة، أما بنية اللغة فلها شأن آخر، إذ اللافت للنظر أن علماء العربية، وفلاسفتها، قد أوْلوا جُلَّ اهتمامهم، بعد تعريف اللغة وغايتها، إلى بنية اللغة ذاتها، وبالتحديد، في نحوها وصرفها، وبالإضافة إلى ضرورة تقعيدها بسبب انتشارها بين شعوب لم تكن تعرفها، فإن العربية اعتمدت في بنيتها على النحو والصرف سليقة أولاً، ضبطها القرآن لدى نزوله تالياً، أساساً لضبط المعنى، وهو ما اهتمّ له وبه علماء العربية، فمنذ نشأتها لم تكن العربية سهمية، بالتعامل معها، ذات اتجاه واحد في التركيب والفهم، وإنما علائقية، متعددة الاتجاهات، موضعُ الكلمة فيها، أو ترتيبها، ليس هو الحَكّم، وإنما دورها في الجملة، والذي تعمل الحركات على ضبطه، فلماذا أخذت الجملة العربية مسار العلائقية وليس الخطية أو السهمية؟ ومع أنه ليس من العلم أو الحكمة القول: إن أحداً يعلم على وجه اليقين، لماذا أو كيف تشكلت الجملة العربية على هذا الشكل التالي من الكلمات، يرسل إلى ما سبقه بتحديد وضبط معناه ودوره في الجملة، وهو ما يسمى في العلوم والفلسفة الحديثة، بالتأثير المقلوب أو المعكوس، وعلى هذا فإنه لاشيء يمنع من أن يكون السؤال مشروعاً، حول العلاقة بين بناء الجملة العربية، القائم على نظام العلائقية والاحتمالات، ونظريات العلوم الحديثة، سواء في العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، أو العلوم الدقيقة، كعلوم الفيزياء، في النسبية والكمومية، ففي الزمن النيوتني، الأزمان متتالية، بينما في الزمن النسبي الحديث، الأزمان كلها حاضرة في آن واحد، واحتمالاتها متعددة ونسبية، وهو ما ينطبق في مجال اللغة، على الجملة العربية، حيث ما يأتي لاحقاً، هو ما سيحدد ما أتى سابقاً، بل إن السابق غير المحدد، يطرح احتمالات واختيارات، لا تتحدد إلا في ما بعد. حتى في النظريات الفلسفية الحديثة، وقد أرخى العلم الحديث بظلاله عليها، فإنها تتناول أفكاراً حول كيفية تأثير الأحداث المستقبلية، على الأحداث الماضية، وبطبيعة الحال فإن السؤال حول هذا الإنسجام اللافت للنظر، بين العلوم الحديثة وبنية الجملة العربية، لا يقول بما لا يتناسب مع العقل والمنطق، من أن الجملة العربية تشكلت بناء على معرفة علمية، ما كان لها أن تكون معروفة حينذاك. لكنه سؤال عنيد وله الحق، إذ كيف تنسجم هذه اللغة مع تلك العلوم؟ ولعلنا بالعودة إلى ابن خلدون وتعريفه للاجتماع الإنساني، نضع يدنا على المفتاح الأول، لنظام اللغة العربية، وبنية الجملة العربية، كتعبيرعن المنظومة المعرفية لتلك اللغة، المؤسسة على المجتمع وليس الفرد، وبالتالي على الجملة كعلاقة مركَّبة، وليس الكلمة. هذا سطر من القراءة في الجملة العربية. وسطر آخر، يستدعي وضع نشأة وتطور العربية، في السياق الفكري لتاريخ المنطقة، والمقصود بالتاريخ هنا، التاريخ المعرفي والثقافي والفكري بشكل عام. وفي تفاصيل هذا السطر، يأتي السؤال، إذا كانت المعرفة أسيرة أدواتها ومن بينها اللغة، أليست اللغة بدورها أسيرة المعرفة وأدواتها؟ وعلى هذا ففي السياق التاريخي المعرفي للمنطقة التي امتدّت من الخليج إلى المحيط، وعلى ما هو مختلفٌ على أولويته، متفقٌ على حدوثه، وهو أن هذه المنطقة هي منطقة ديانات ورسالات، بكتب أو بدون، نزلت من السماء، أو طلعت من الأرض، فإنها تركت أثرها في رقم أو صحف، عمل على ترجمتها باحثون مستشرقون أو عرب، ودرسها باحثون غربيون وعرب، واختلف فيها من بحث، ما إذا كانت كتباً سماوية، انحلّت مع مرور الزمن إلى قصص حملت اسم الأساطير، أو هي كما أَحَبً باحثون آخرون أن يروا، أساطير نشأت عنها أديان فيما بعد. وبالتأكيد ليست غاية هذا البحث الجدال في خلاف ديني وفكري، وعلى هذا فإن فكر المنطقة، على أي من الوجهين، هو سطر ثالث، وقد استقى ولغتها من نبع واحد، من قبل الدعوة الإسلامية، وبالتأكيد من بعدها، وقد رسخت تلك الدعوة لغتها، طالعة من القرآن مرجعاً ومرتكزاً دينياً وفكرياً ولغوياً، الاختيار فيه، سبيل إلى غاية، والغاية ليست سيزيفية جبرية، واحدة المصير والسبيل، الغاية هنا اختيار، والاختيار سبيل، والسبيل حركة وفعل، وهذه هي تماماً بنية الجملة العربية، بنية علائقية، لا يمكن الفصل فيها بين الغاية والاختيار والحركة، الغاية قفل ومفتاح، والاختيار مفتاح وقفل، والحركة احتمالات لفعل حمّال أوجه بين الغاية والاختيار، وذاك هو نظام الكون، إلّا أنه ليس اختياراً، فذاك حق الإنسان ومسؤوليته، وليس شواشاً وفوضى وعشوائية، كما أحب الغرب أن يراه، بينما هو نظام قائم على احتمالات، غير قابلة للإمساك، كما للإنسان أن يمسك بغايته واختياره وفعله ولغته، تلك هي بنية الجملة العربية، واللغة العربية، ختم غير قابل للتقليد.
#بدورعبد_الكريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المكسيك تخطط لفرض رسوم على ركاب سفن الرحلات البحرية.. كم تبل
...
-
أسرار غامضة وراء أغرب علم وطني في العالم
-
ترامب يعين محاميته ألينا حبا مستشارة له بالبيت الأبيض
-
وزير خارجية إسرائيل: هاجمنا -أنظمة أسلحة استراتيجية في سوريا
...
-
بدأ حياته في المنفى خوفًا من أن تلاحقه جرائمه الشنيعة.. كوال
...
-
بعد أكثر من 50 عامًا.. كاميرا CNN ترصد تحركات قوات إسرائيلية
...
-
لليوم الرابع .. استمرار الاشتباكات بين أجهزة الأمن الفلسطيني
...
-
تمارين رياضية قد تقلص عمرك البيولوجي لعدة سنوات!
-
من هي الفصائل التي أسقطت الأسد؟
-
هل لهيئة تحرير الشام مشروع سياسي لسوريا؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|