|
تأمألات 241
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8050 - 2024 / 7 / 26 - 15:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المجتمع المستلب لا يمكنه إنتاج علاقات حميمية، علاقات قائمة على الصدق والوضوح والحب. الحب هو المكان الأكثر أمانًا في الحياة، فيه يتجلى الصفاء والعطاء والراحة النفسية والجسدية ونكران الذات والحميمية والخلود، بيد أن المشوه لا يمكنه أن يعطي هذه المفاهيم العظيمة حقها، لأنه عاجز. والعاجز نفسيًا وحضاريًا وقيميًا مكانه في الحضائر. ما أصعب أن يعيش المرء في مكان لا أصدقاء له فيه. إن المكان الجاف، هو جفاف الروح والوعي، الجفاف الثقافي والإنساني والمعرفي. لا يوجد من يلتفت إلى نفسه، إن يعري نفسه أمام الشمس. كلهم منهمكون في الهرب من أنفسهم، ولكن إلى أين، إلى أي ملجأ؟ المال وحده لا يعطيك السعادة يا صديقي، ولا الحصانة. والسعادة ليست في الخارج، أنها في داخلك، في القناعة والعطاء والحب أنت موهوم إذا كنت تفكر المال هو كل شيء. المال يسند الجاهل ويعطيه حصانة وثقة كاذبة بالنفس، وإن يبقى حاجة لتسيير الحياة، وليس غاية بحد ذاته. الثقة إن لم تنبع من شروش شروشك لن تتوازن مهما فعلت. ولن تصبح كائنًا حقيقيًا. إنسان حقيقي. ما أصعب أن تعيش في مكان، وعلى مرمى خطوة منك راعي الخنازير يتجول بقطعانه بالقرب من أنفك يمنع عنك استنشاق الهواء.
" معالم في الطريق" كتاب لسيد قطب، يعتبر كتابا مهما وفق تصور الباحثين الإسلامين. ويقال خرج من صفحات هذا الكتاب أغلب الحركات الجهادية. يعتقد سيد قطب، ودون أفكاره في هذا الكتاب، السطحي حسب وجهة نظري، الفارغ من أي مضمون: إن الغرب مات سريريًا قيميًا، بمعنى، لم يعد لديه قيم، ومن تموت قيمه سيزول، بيد أنه يقدم لنا وصفة سحرية: الإسلام قادر على إملاء هذا الفراغ. أريد القول أن الإسلام مثله مثل أغلب التيارات السياسية والفكرية والأيديولوجية الموجودة، يتأثر ويوثر في البنية العالمية المعاصرة، بمعنى، الإسلام لم يعد لديه القيم الذي يتصوره أو يعتقده قطب، أنه جزء من النظام العام الذي يحكم البشرية. بمعنى أكثر، لا يوجد قيم نقية مئة بالمئة، شفافة، صافية تتناغم وتنسجم مع المصدر أو المنبع، بعد التحولات الهائلة الذي مر بها الإسلام وعالمه ومحيطه، فكل مرحلة تاريخية لها إفرازاتها وقيمها وأخلاقها. لقد ولد الإسلام في الزمن الخراجي، يسميه سمير أمين، النمط الخراجي، هذا النمط، هو علاقات اقتصادية سياسية اجتماعية قائم على النهب، والحصول على فائض القيمة من خلال الغزو الخارجي والنهب الداخلي وتنظيمه وشرائعه وبناه قائم على هذا النهج. بينما عصرنا هو عصر السوق، وقوانين السوق، والانتاج السريع للسلعة والنهب عبر السلعة، أما الجيوش فهو لحماية السوق وحركة السوق والنهب عبر السلعة، من الإنتاج إلى الاستهلاك. ولهذا العصر قيمه وأخلاقه وقناعاته وناسه، لهذا لا يمكن اسقاط تجربة سياسية اجتماعي اقتصادية في الزمن الخراجي على زمننا المعاصر، الزمن المعقد جدًا، زمن الروبوت والتكنولوجيا المتطورة جدًا، زمن النت والموبايل. كل زمن له أخلاقه يا سيد قطب، لهذا نقول لا يمكنك إحلال زمن الرسول محل زمن ايلون ماسك، كل واحد له أخلاقه وفق زمنه وعصره. لا نقول أن أخلاق أيلون ماسك ممتازة أو سيئة، لكنه ابن عصره، وأخلاق عصره، وإذا جاء ماسك بعد مئة سنة، ستكون أخلاقه متخلفة وغير مقبولة عن زمننا بعد مئة سنة. لا نقول أن أخلاق الناس قبل ألف سنة أفضل أو أسوأ، أنما الناس يقيمون حسب الظروف الذي يعيشون فيه، المأسورين في البنية السياسية الاقتصادية الاجتماعية المنتجة له. زمن الرسول كان مختلفًا عن زمن أبو بكر، وزمن ابو بكر كان مختلفًا عن زمن عمر، وزمن علي كان مختلفًا عن زمن معاوية، وهكذا. لا يمكننا إسقاط زمن على زمن.
آرام كرابيت ـ حوار ـ كيف تعامل كل من الأب وابنه الوريث مع المثقفين والمبدعين من الكتّاب ونكلا بهم في سجون الترهيب والقمع؟ ـ الاستبداد موضوعيًا كاره لكل ما هو جميل في الحياة، وهذا يتضمن الثقافة والفكر والإبداع، يرى فيهم أعداء له يريدون النيل منه، يعروه من ثيابه وينشرون ثيابه القذرة على حبال الغسيل تحت الضوء. الاستبداد منتج حصري للدكتاتورية، والجهل والقهر الاجتماعي والتراتبية الاجتماعية والسياسية، والأستزلام والخضوع. والاستبداد متعدد الأنواع، الثقافي والديني والاجتماعي والفكري، يضعهم الديكتاتور في جبته كصرة واحدة وينثرهم في فضاءه، فضاء سلطته الفردية، لهذا أرى أن التكوين النفسي والعقلي للديكتاتور متقاربة جدًا، منتج واحد، لهذا لا أرى هناك فارقًا كبيرًا بينهما بين حافظ الأسد وبشار وستالين وعبد الناصر وصدام. الدكتاتور يضرب التنظيم، خلايا فكرية وسياسية، مكونة من كتاب ومفكرين ومثقفين، وبضربه للخلايا المنظمة يرعب المجتمع ويركعه. ـ وكيف اُستخدمت سلطات الرقابة السياسية في عهدهما لتكميم الأفواه وحرمان الكتّاب من حرية الإبداع وتسليط سيف المحرم السياسي على رقابهم زمن الطغيان في (سورية الأسد)؟ ـ علينا أن نعلم أن الاستبداد الديني كان موجودًا، سابقًا على الأسد الأب وأبنه، منتجه الثقافي كان راسخًا في المجتمع منذ أكثر من ألف سنة. بمعنى عندما جاء الديكتاتور رأى البناء مشيدًا، بله راسخًا، أخذ المفاتيح ودخل بيته، إلى البناء الجاهز، حفر أكثر وبنى أكثر وكرس وجوده على الدعائم القائمة. بنى دولة أمنية، حول سوريا كلها إلى مؤسسات أمنية خادمة لسلطته. جلب كتابه، زلمه ومضى يكرس مفارخ الاستبداد في كل مكان. ـ ثم نسألك، ونحن نرصد أنّ السجن حاضر في الكثير مما تكتب، هل تعتقد أنك لم تخرج بعد منه؟ ـ السجن السياسي ما زال قائمًا، والدولة الأمنية مستمرة، فكيف يخرج السجين من سجنه. هذا على المستوى الفكري، أما على المستوى الشخصي ما زال السجن يشكل لي غربة وانطواء على الذات. ماتت الحياة الطبيعية في داخلي، لم اعد كائنًا مثل بقية البشر. أشعر بالنفور من الاجتماع العام بالناس، شيء ما في داخلي يوجهني ويبعدني عنهم. لا أعرف سيكولوجيًا السبب الحقيقي. أينما أذهب أرى نفسي حاملًا سجني تحت أبطي او قلبي أو ظهري. ـ وهل تعتقد أنك استطعت أن تعري السجان وأن تكون شاهدًا روائيًّا أدبيًّا على مرحلة هي من أهم وأخطر مراحل التاريخ السوري المعاصر؟ ـ كتبت روايتي عن السجن تحت عنوان، الرحيل إلى المجهول، ونشر في العام 2010، بيد أنه لم يلق رواجًا أو أي اهتمام من الكتاب والصحافة، اعتبر هذا مقصودًا، لأن مجتمعنا منقسم على نفسه. وجاءت الثورة السورية وكشفت عمق الخراب الذي فيه. ـ اعتبر ان الاستبداد تعرى اكثر في ظل هذه العشر سنوات الماضية، صعد على السطح التراكمات الماضوية الكامنة في المجتمع، كالطائفية والمناطقية، والعنصرية. بصراحة لا يكفي أن نعري الديكتاتور وحده، أنما علينا أن نعري الاستبداد، المنتج الحقيقي للدكتاتور. عريت الديكتاتور، بيد أني لم أعر مجساته، وهذا كان خطأ مني. كان الواجب أن أعري المعارضة أيضًا لأنها العينة المكملة له، أنهما من ذات المفرخة. ـ ما الذي يؤلم أكثر، السجن نفسه؟ أم الكتابة عنه؟ وهل فعلاً حين نكتب عن السجن نحن نعيش التجربة التي نفعل ما بوسعنا لنسيانها؟ ـ كنت في سجن تدمر العسكري، أقسى سجون العالم. هذا السجن مزقني نثرني حولني إلى أشلاء متناثرة. لا أعرف إلى اليوم كيف خرجنا منه أحياء. هل هي أرادة الحياة في داخل كل واحد منّا فقط، أم أن أرادة الحياة هي من تريد ذلك، هذا لا أعرفه بالضبط، بيد أني كنت اتمنى الموت ولم أحصل عليه. سجن تدمر اعتبره أكثر من ألم أو وجع أو قتل للنفس الحية. الكتابة عن السجن حرر جزء من الذاكرة. وبعد أن كتبت روايتي ونشرتها، شعرت أنني لم أعد أستطيع ان أعود للكتابة عنه مرة ثانية. ومن ماذا حررك السجن؟ ـ في عدرا كان السجن حجزًا للحرية، توفرت لنا الكتاب والتنفس اليومي والقراءة. هذا السجن حررني من الخوف، من الجهل. استطعت أن اقرأ بعمق وأدخل في حوارات مع الأصدقاء، وتعلمت الكثير من التجارب في علاقتي مع السجان والسجين. وعرفت أكثر عن الحياة والمجتمع وسبب خراب المجتمع. كنت أراقب سلوك الزملاء وأعكسها على نفسي وأقارن بيني وبينهم، كنت أقول لنفسي:، آه، الخراب بيننا مشترك، بل واحد. وأقول أن العلاقة بين السجان والسجين ليست ميكانيكية خالصة، أنما بنية كاملة، هي نتاج استبداد طويل وأن التغيير يجب أن يكون ثقافيًا اولًا حتى لا ننتج سلطة بديلة عن سلطة. سجن تدمر مدمر، أعادني إلى الفراغ والخوف مرة ثانية وحولني إلى إنسان غريب، فتح عيني على قسوة السلطة وقدرتها التدميرية. ما أسوأ ما فعله بك سجون الاستبداد الأسدي، تدمر وصيدنايا الذي أظهر تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) مدى بشاعته ومدى إجرام السجان ووحشيته؟ ـ السجون أنواع، حسب حركية المجتمع. النظام يتمفصل مع آلية المجتمع، بمعنى إذا كان هناك حركة اجتماعية تهدد دولته أو سلطته الديكتاتورية يتحول إلى وحش، يأكل الدولة والمجتمع بأنيابه وأسنانه، أما في فترة الراحة وخمول المجتمع يسترخي. في سجن عدرا بدمشق كان النظام قد بسط سيطرته على السياسة والمجتمع، بمعنى كان مرتاحًا، وكنّا في الثمانينات والتسعينات مرتاحين إلى حد كبير، أنا أتكلم عن القوى السياسية التي لم تحمل السلاح، أما الذين حملوا السلاح فكانت معاملتهم قاسية جدًا. وعندما رحلونا إلى تدمر كان ذلك بسبب رفضنا للعفو الرئاسي، بمعنى، كان تكسيرًا للرأس كما كان يقول الأمن. وماذا تتذكر اليوم عن تلك السجون والمعتقلات؟ وماذا عن حراس الزنازين؟ كيف كان تعاملهم معك؟ ـ حراس السجن مجرد أدوات سياسية، بمعنى منفذين لتوجيهات السلطة. إنهم العصا الأوامرية الذي يضرب بها المجتمع. يمكن إدانتهم لأنهم عملوا في هذه المؤوسسة الأمنية، لكنهم عمليًا مجرد كائنات مأمورة. السلطة السياسية الأمنية في سوريا هي الحارس الحقيقي للزنزانة، ولا أشعر بأي ضغينة نحوهم أو كره، ولا ألومهم. اقصد حراس السجن. في تدمر لا نرى السجان لأننا نغمض أعيننا وننكس رؤوسنا عندما نكون بحضرتهم. إنه شيء محزن أن لا ترى وجه سجانك، ولا تعرفه. إن إخفاء الوجه مخيف أكثر من السجان ذاته. وسجن تدمر لا يمكن أن أنساه، أنه في سريري. أخيرًا، هل يمكن الحديث اليوم عن "أدب السجون" في سورية؟ ـ سوريا كلها سجن منذ أكثر من خمسين سنة برعاية دولية وحمايتها. كتبنا عن السجن أدبيًا وسياسيًا، دخلنا في بعض مفاصل السجن، عريناه وعرينا أنفسنا، لكنه يعوزنا أن نفكك مفهوم السجن، تفاصيل تكوين السجن، غايته الباطنية وكيف يمكن تدميره من داخله. لا أعرف إذا كان يمكننا تسمية ما نكتبه عن السجن، بأدب السجون، هل هو مذكرات، تعرية، فش خلق كما يقال، محاولة أخذ التعاطف من المجتمع، أن نقول لهم، أنظروا لقد تعذبنا من أجلكم؟ أي تبرير ذمة لا اعتقد أننا كتبنا عن السجن بموضعية، كان توظيفًا. هل هذا يرقى تسميته بأدب السجون. لا أعرف؟
الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانت قد بان تفسخها في كل المجالات، حتى الاصلاح لم يكن يفيدها. لقد مسكها السلطان عبد الحميد بيد من حديد ونار، بمجرد وصوله للسلطة في العام 1876 خوفا من أن تتفكك الامبرطورية، لهذا طرح مفهوم الخلافة الاسلامية حتى يستقطب المسلمين، كالأكراد والالبان والعرب وبعض القوميات القاطنة في تركيا ومعهم الاتراك وغيرهم. ويتحول هو وعائلته إلى خليفة عليهم، والتي اصطدمت بمطالب أن الخلافة يجب أن تكون عربية. طالب عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد بهذا، إلى أن تكون أم القرى، مكة المكرمة، سلطة روحية وليس سياسية مما أدى الى تصفيته سياسيا. كما اعتمد السلطان على كبار العائلات الدمشقية والحلبية، وزعماء العشائر ووضع ممثليهم بالقرب منه في قصر يلدز. وتحالف مع بعض كبار عائلات الأعيان الأكراد الدينية لدعم سلطته. ولهذا لم تقم أي حركة تمرد كردية منذ العام 1880 حتى ثورة الشيخ سعيد في العام 1926.
حاولت الدولة العثمانية أن تقلد الغرب في قضايا حقوق الإنسان، ومنح بعض الحقوق للقوميات الواقعة تحت سيطرتها تحت ضغط هذا الغرب. لقد تحقق جزئيا ذلك، بيد أن الخراب الذي كان داخل دولة الاستبداد جعل البلقان كله يهب للمطالبة بالاستقلال، خاصة بعد ضعف الدولة بالكامل، وتدخل روسيا العسكري المباشر فيها. طرح مدحت باشا مشروع الدستور، وسار بهذ الموضوع الى الأمام، وتم إقراره في العام 1876 في البرلمان. اكتشف السلطان عبد الحميد ان الدستور سيمزق الدولة الى أجزاء، ويقلل من صلاحياته، فعطل الدستور وبطش بالجميع بدأها بالمعارضين السياسيين عبر تصفيتهم جسديًا، ونكل بزعماء القوميات، إلى أن جاء أرذل منه، الاتحاد والترقي ووضعوه في السجن، ومارسوا اجراما أكثر منه. وبممارساتهم السياسية اللامسؤولة مزقوا الجثة التي كان اسمها الامبرطورية بعد إدخالها في الحرب العالمية الأولى، الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، تحت ضغط الأحلام المريضة للحالمين المرضى، ببناء الحلم الطوراني الكبير. أغلب السياسيين لديهم هذيان، فمن الطبيعي أن نرى هذا الكم الهائل من التشوهات التي تصيب عالمنا في ماضيه وحاضره.
كان الخليفة العثماني أو السلطان يسيطر على دولة مترامية الأطراف والأبعاد، هي الأمبرطورية العثمانية. ما فعله السلطان عبد الحميد عندما جاء إلى السلطة في العام 1876، أنه حاول أن يوسع مفهوم الخلافة، ليأخذ بعدًا أكبر وأوسع، بعد ما بعد وطني. أستطيع القول أنه بعد وهمي ليس له مقومات واقعية ترفده أو تدعم هذا المفهوم. إنه مفهوم دعائي، معنوي أراد عبد الحميد تعويم ذاته المريضة ليكون محط أنظار العالم الإسلامي وداعم له. نعتبرها هواجس سياسية لا أرضية واقعية لها. سلطان معلق في الهواء تحته دولة مريضة مفككة مأزومة مديونة، وتقبع في اللوحة الخلفية من العالم المعاصر في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أراد أن يتحول إلى خليفة عالمي، يسود على جميع مسلمي العالم السني، وليس على مجال الدولة التي يحكمها. أي أن يحوز على سلطة روحية واسعة جدًا، يكون فيها قصره مرجعًا ومركزًا إسلاميًا كالبابوية في الفاتيكان. لهذا بدأ بمراسلات زعماء المسلمين الدينيين في العالم كله. أي أنه أراد من خلال استخدام مفهوم الخلافة على مستوى العالم، مركزه قصر يلدز، ان يمتص التناقضات الداخلية في الدولة العثمانية، والهروب إلى الأمام من الرابطة العثمانية القائمة على مفهوم المواطنة، إلى الرابطة القائمة على الأخوة الدينية. بتقديري، أن السلطان والنخبة المقربة منه لم يدركوا أن الغرب انتقل إلى بناء منظومة رأسمالية احتكارية متكاملة. وإن الدول الأوروبية أصبحوا دول رأسمالية مركزية، ممركز بيدها القوة والعلم والثروة والمال والسلعة المتطورة جدًا، وإن كل شيء أصبح قائمًا على قانون السوق وعلاقات السوق والنهب عبر السوق. نتيجة السياسات التي كان السلاطين ينتهجوها منذ نهاية القرن السادس عشر، كانت محصلته تصب في تحول الامبرطورية الى دولة تابعة، دولة رأسمالية طرفية، سوق لتصريف منتجات الغرب عبر الحصول على الامتيازات والوكالات التجارية، والدخول في علاقات اقتصادية متداخلة من موقع الضعيف. لقد ابتكر السلطان عبد الحميد مفهوم الخلافة أو الجامعة الإسلامية، تكون استانبول فيها وقصر يلدز مركزه، بيد أنه، أي السلطان كان متمسكًا بالسلطة لتبقى له ولأولاده من بعده أو عائلته وليس أي مسلم أخر يجري انتخابه حسب الكفاءة السياسية. نستطيع أن نقول عنها الرابطة النرجسية للسلطان عبد الحميد.
عندما كنت في المرحلة الأبتدائية، في ستينات القرن العشرين كان ملف المياه متداولًا، وكان يقول أن الحروب القادمة ستكون على المياه. أنا أتفق مع هذا الرأي، رغم ان أزمة المياه في الستينات كانت أقل بكثير من الأن، وكان عدد السكان أقل بكثير، ربما كان عدد السكان وقتها ثلاثة مليارات. البشر يتزايدون بمتوالية هندسية متقاربة دون وعي للكارثة القادمة التي تنتظرهم. مصر مثلًا، كانت عشرة ملايين في بداية الخمسينات، وفي نهاية الستينات كانت ثلاثين مليونًا، اليوم أصبحت مئة وعشرين مليونًا، الماء هو هو، نهر النيل يضخ 84 مليار متر مكعب من الماء في السنة، ربما ستتناقص غزارة النهر من المورد، أي من أثيوبيا، لهذا فإن أمام مصر خيارين أم أن تسيطر على التعداد السكاني أو تتركه على عواهنه، بالتالي تجهز شبابها وموارد في جلب الكثير من الأسلحة للدخول في حروب الدفاع عن مياهها، وبالتالي فناء شبابها. اليابان، وأوروبا الوسطى تحديدًا تدق ناقوس الخطر، وأضحت الإشارات أكثر من واضحة على احتمال جفاف أنهار عملاقة نتيجة ارتفاع درجات الحرار وشح الأمطار والتبدل المناجي السريع. وإن تتدخل الحكومات العربية في السياسات الاقتصادية والمائية والعامة للدولة، للترشيد، ولتحديد النسل الكارثي الذي تسير عليه، وإن لا يأخذوا بهذا القول: تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة، لأنه قول غير مؤكد، ولأنه جاء لزمن غير زماننا. مهما فعلت الولايات المتحدة فإنها لن تقف عائقًا أمام تزاوج أوروبا الغربية بالوسطى بروسيا، لأن الواقع الموضوعي سيفرض شروطه عليهم، خاصة أن هذه الأخيرة غنية جدًا بالماء والموارد، والمساحات الجغرافية الهائلة، والقوة العسكرية. نرى يوميًا أنهار كبيرة تفقد غزارتها وبحيرات كبيرة تجف خاصة في الولايات المتحدة، وأن الحاجة للتعاون بدأت تفرض نفسها على عالمنا، وبدأ الواقع يقول كلمته: إن الحروب الوظيفية من أجل تسويق القطاعات العسكرية والإعلامية ولتحريك السلعة ورأس المال أصبح في صراع بين البقاء أو الموت.
ربما لا أراك عندما تسرق أو تكذب أو تغش أو تلف وتدور، أو ترتشي أو تستغبي الدولة والمجتمع والأصدقاء، وتلعب على عشرة حبال، ثم تقدم نفسك على أنك إنسان محترم وراقي. ليس مهمًا أن لا أراك أو يراك الأخرين، يكفي أنك ترى نفسك. المهم هو أنت، أن تكون متصالحًا مع نفسك.
لا نستطيع أن نطرح الفكرة مباشرة، نلتف عليها، نتوارى حول الحدث لنقدمه بطريقة ملتوية مخافة المجابهة، هذا لم يأت من فراغ، أنه التاريخ بكل حمولاته. هذا التاريخ، ما زال بيننا، نستخدمه في كل علاقاتنا، مع الأب، الأم، الوزير، مع الزوجة أو الحبيبة، أو العشيقة، مع رئيس الجمهورية أو صاحب الدكان المجاور، ومع العاهر. نستخدم الخبث المتأصل فينا، للوصول إلى الكذب على أنفسنا وعلى حياتنا ووجودنا. ليس مهما الأخر، المهم نحن، كيف نصل إلى الغايات الخبيثة دون أن نؤذي أنفسنا، وليس مهمًا أن نؤذي غيرنا، المهم نحن، المقدسين لأنفسنا المريضة. قديش قذرين نحن، وما زلنا نبكي على كل شيء ضاع منّا لأننا لم نصل إليه بالحيلة والالتفاف. كل مراوغ إنسان كذاب، منافق، خبيث، ولا يمكن أن يؤتمن جانبه. سنتحول إلى إنسان إذا أصبحنا مباشرين في القول والفعل، أو تحولنا إلى صادقين مع أنفسنا وتكلمنا ما في أنفسنا بصدق ودون مواربة وبشكل مباشر.
المكان الذي يتواجد فيه الأخوان المسلمين لن تنتصر فيه ثورة. هذه مسلمة ثابتة، علينا أن لا ننساها إنه حزب مزيف قائم على أكتاف الدين الإسلامي، يستغله او يسخره من أجل الوصول إلى السلطة والمال والثروة. الدين الإسلامي مجرد مشجب، حمالة، المكان الذي يراد منه أن يعوموا عليه أنفسهم للوصول إلى مصالحهم الخاصة. هذه الجماعة ليس لديها رادع أخلاقي أو وطني، ولا مبادئ، مثل المأجورة، تبيع جسدها مقابل المال، الآهات التي تطلقها في الفراش هي للاستهلاك، هي خدمات، عدة الشغل. تونس على مفترق الطرق، بوجود هذه العاهات المعطلة للدولة والمجتمع. إنهم لا يستطيعون العمل دون أجندة خارجية، قبضني المال، اشتغل لحسابك. إنهم قوى لا وطنية، ولا يعرفون ما هو الوطن، ولا القيم الاجتماعية والمدنية أو تبادل السلطات، يريدون من الجميع أن يخضعوا لإرادتهم. اللعنة عليك يا منصف المرزوقي، يا أجير، يا بائع المواقف منذ أن كنت في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، مقرها باريس، إلى الأن لم تصرح من كان يمول لجنتك، ولا المصدر. هذه القوى المشوهة خطر على الحركات الاجتماعية التي تدعو إلى الحرية والديمقراطية. اتمنى أن تعمل الدولة التونسية على كشف ملفات الغنوشي الفاسدة، وارتباطاته، وتقديمه للمحاكمة والكشف عن الأموال التي قبضها، ويقبضها مع رئيس الحكومة المشيشي، وبقية أعضاء جماعة النهضة الأخوانية في البرلمان وبقية مؤسسات الدولة. واتمنى كمان أن يتم تقديم المرزوقي للمحاكمة، وكشف ارتباطاته، وقذارته عندما كان في باريس أو في تونس، هذا المأجور.
النصوص التي أكتبها غير مطواعة، أنها متمردة، تأخذ طريقها بعيدًا عني، تتمرد علي، تفتح لنفسها السواقي والجداول بعيدًا عن أنهاري. كثيرة هي المرات التي تنكرت لي، نابذة لرغبتي بالخروج إلى الضوء، لا تجاريني في نهجي، لا تقبل ما أريده، تؤمن بحريتها لذاتها، وكارها لذاتي. مرات كثيرة ترجمني، تبصق في وجهي، تدير ظهرها لي، وكأني كائن لا وجود له، وكأنها لا تريد مني أن أخرجها إلى الضوء. أرى نفسي ممزقًا، حردانًا، أعيش التناقض بين الحرية والكبت، يراوغني الكبت، يدغدغني، يدخلني في نفسه، يريد أن يبقى مسجونًا مأسورًا في صمته، وأبقى حارس عليه. الكبت ديمومة، والرعشة خلق مؤقت.
لن تكتشف في شريكك الجديد أي شيء جديد، ولن يختلف عن القديم بأي شيء. إن غياب الوعي والثقافة سيعيدك إلى القديم، بكل ثقله ورتابته وحديثه وتصرفاته وسلوكه وقرفه. إنه يشبهك كثيرًا، لأنكما من طينة واحدة، بيد أن سبب نهمك في البحث عن الجديد هو الخواء الذي في داخلك وداخله، والفراغ العاطفي، والكذب على الذات والآخر. على المحك، قشر الطبقة الخارجية الرقيقة للجديد، حكها قليلًا، ستكتشف أن الفارق لا فارق بينكما. الموضوع برمته هو الاندهاش بالجديد، بالشكل الخارجي، الطلاء، في ظل التجربة سترى أنكما على المسار القديم ذاته. إن الخواء والفراغ لا يملأه الآخر، ولن تشعر بذاتك إلا إذا انطلقت إلى الآخر من ذاتك المملؤءة بالثقافة والحكمة والمعرفة. أدخل إلى ذاتك، إلى الأعماق وتعرف على النواقص والعيوب في داخلك، وتعرف على سبب هشاشتك وضعفك، حصنها بالبحث العميق، أدخل خلجات النفس، أين الخطأ وأين الصواب، عد إلى ذاكرتك البعيدة، إلى الطفولة. في ذلك المكان يكمن خرابك، أهدم ذلك البناء المتأكل وأبني عليه الجديد. الشريك الذي تبحث عنه مكسور مثلك، ضعيف مثلك، ضعيف الحجة أمامك، وأمام الحياة والآخر، يريد أن يكتشف نفسه باكتشافك، وذلك بعد أن استهلك القديم. وإذا كنت على ما أنت عليه ستستهلك الجديد أيضًا لأنك في الاساس مستهلك بالكامل. جمال الاكتشاف لن يكون طويلًا، والعودة للخواء لن يطول. الجهلاء يتشابهون في كل شيء. عليك بالعمل على نفسك، اشتغل عليها، الثقافة، الأدب والفن والموسيقا، والرقص مع الكواكب البعيدة والقريبة ممرات إلى عالمك الأخر، الجميل، بعيدًا عن الرتابة والعيش في القوقعة
ما أصعب أن تعيش في مكان لا أصدقاء لك فيه. إن المكان الجاف، هو جفاف الروح والوعي، الجفاف الثقافي والإنساني والمعرفي. لا يوجد من يلتفت إلى نفسه، إن يعري نفسه أمام الشمس. كلهم منمهكون في الهرب من أنفسهم، ولكن إلى أين، إلى أي ملجأ. المال وحده لا يعطيك السعادة يا صديقي،. أنت موهوم. المال يسند الجاهل ويعطيه حصانة وثقة كاذبة بالنفس. الثقة إن لم تنبع من شروش شروشك لن تتوازن مهما فعلت. ولن تصبح كائنًا حقيقيًا. إنسان حقيقي. ما أصعب أن تعيش في مكان، وعلى مرمى خطوة منك راعي خنازير يتجول بقطعانه بالقرب من أنفك يمنع عنك استنشاق الهواء.
الكثير من الناس ينبهرن بكلمة استاذ جامعة أو دكتور في الجامعة أو دكتور ما أو طبيب ما أو مهندس، وينطلقون من هذا الاسم المبهر إلى التعامل معه على أنه إله في ثوب إنسان. أنت تنطلق من دونيتك، من الاحساس بأنك لا شيء، بأنك فارغ ولا قيمة معنوية أو مادية لك. وهذا الاسم يغطي على الهشاشة الشخصية التي في داخلك وداخل ابوك وامك. الدكتور أو غيره من عيوب المجتمع، من الثمرة ذاتها، ثمرة البلاد التي انتجته وقدمته لنا ولك. اللقب والاسماء ليست بذات القيمة. وإن المكانة لا مكانة إن لم ترفد بالثقافة والسلوك والممارسة الحقيقية على الأرض. الكثير من الاسماء اللأمعة مجرد واجهة لخراب البنية النفسية للفرد في بلاد الاستبداد. وهذا لا يمحي التقلبات الشخصية والاحساس بالدونية والخواء الداخلي في داخل هذا الذي تتماهى به وتلغي ذاتك من أجله. لا تنبهر بالاسم، أنه يشبهك كثيرًا، ربما كذابًا ومنحطًا على كل الصعد. لا تأخذ بالشكل أو الديكور الخارجي، كن أنت، محبًا لنفسك، اعطها حقها إذا كنت على حق ولا تلتفت إلى الاسماء. في بلاد الاستبداد، كل الناس أطفال صغار، مكسورون من الداخل، مهزومون، لهذا يتفاخرون بأبيهم الرمزي، الدكتور، المسؤول الكبير، القائد التاريخي. الألقاب مدعاة مفخرة لأبناء بلدان الاستبداد السياسي والاجتماعي والفكري، للتغطية على الهزيمة الداخلية. بالمناسبة هذا القائد التاريخي مهزوم مثلك، لا فارق بينك وبينه، أنه يشبهك إلى درجة التطابق.
الجسد الإنسان ملك شخصي لصاحبه, ولا يحق لكائن من يكون أن يمارس وصاية عليه تحت أية حجة سواء دينية أو أخلاقية أو عادات أو تقاليد. لو كان هناك احترام للجسد الإنساني لما كان هناك سجون أو قهر أو رجم أو قطع جزء أو أجزاء منه. ما زلنا في طور التوحش, لم نتغير, ولم يجري أي تطور في هذا المجال في هذا العالم كله.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس الديمقراطية والعبودية ــ240 ــ
-
هواجس وتأملات 239
-
قراءة في كتاب آرام كرابيت 238
-
تأملات ثقافية وسياسية 237
-
تأملات في الثقافة ــ 236 ــ
-
هواجس وتأملات في الشأن العالمي ـ 235 ـ
-
هواجس الديمقراطية 234
-
هواجس فكرية وأدبية 233
-
هواجس ثقافية وفكرية ـ 232 ـ
-
هواجس ثقافية وسياسية ــ 231 ــ
-
هواجس ثقافية ـ 230 ـ
-
هواجس ثقافية ـ 229 ـ
-
هواجس ثقافية وسياسية ـ 228 ـ
-
هواجس ثقافية ـ 227 ـ
-
هواجس ثقافية 226
-
هواجس ثقافية وفكرية وسياسية 225
-
هواجس ثقافية ـ 224 ـ
-
هواجس ثقافية أدبية فكرية 223
-
هواجس ثقافية ـ 222 ـ
-
هواجس ثقافية 221
المزيد.....
-
دراسة: إسرائيل أسقطت قنابل تزن 2000 رطل قرب أغلب مستشفيات غز
...
-
كوسوفو على شفير التوتر: محاكمة صرب متهمين بتهديد الأمن والاس
...
-
رضع ونساء بين الضحايا.. ارتفاع حصيلة أكبر -مذبحة- في تاريخ ه
...
-
وزير الخارجية الإسرائيلي يهاجم أردوغان بصورة للسنوار
-
عمدة كييف: الضغط على وسائل الإعلام المنتقدة للحكومة أمر غير
...
-
السعودية تؤكد حرصها على عودة السلام إلى اليمن ورفع المعاناة
...
-
أدوات في الحمام تزخر بفيروسات خفية!
-
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض هدف جوي فوق البحر الأحمر (فيديو
...
-
مصر.. وزارة الخارجية تنفي مزاعم قائد قوات الدعم السريع في ال
...
-
يارون اللبنانية.. ما قبل وبعد الحرب
المزيد.....
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
-
التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري
/ عبد السلام أديب
-
فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا
...
/ نجم الدين فارس
-
The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun
/ سامي القسيمي
المزيد.....
|