أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سوبو جاباريدزه - صراعات أجنحة النيوليبرالية في جورجيا















المزيد.....


صراعات أجنحة النيوليبرالية في جورجيا


سوبو جاباريدزه

الحوار المتمدن-العدد: 7972 - 2024 / 5 / 9 - 09:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بقلم سوبو جاباريدزه؛ ألموت روشوفانسكي

نشر المقال في موقع LeftEast بتاريخ 2 أيار/مايو 2024



إن الدور الهائل الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب في صناعة السياسات في جورجيا، والخدمات العامة فيها كانت سبباً في دفع البلد إلى أزمة مزمنة لديمقراطيتها.

تكمن مشكلة ضخمة في قلب الاقتصاد السياسي الغريب لجورجيا. ويعود تاريخها إلى ربع قرن، أي قبل ثورة الورود عام 2003. كان الرئيس الراحل إدوارد شيفرنادزه قد أعطى وكالات الإعانة الدولية حرية كبيرة، لذلك ومع نهاية حكمه الضعيف والفاسد، تمكنت المنظمات غير الحكومية من تسجيل حضور كبير في الخطاب السياسي للبلاد وحافظت على علاقات وثيقة بالجهات الدولية المانحة. بعد سنوات من الاضطرابات وانهيار الدولة، استغل الجورجيون الفرصة لبناء مجتمعهم. وقد بدا الأمر منعشاً وحيوياً، إذ كان مدفوعاً من جانب المستثمرين الاجتماعيين وليس من جانب الحركات الشعبية القاعدية. أطاح وزير العدل السابق، ميخائيل ساكاشفيلي، بشيفرنادزه خلال ثورة الورود، سارع موظفو المنظمات غير الحكومية لتولي المناصب العليا في الإدارة. وقد بات الحيز السياسي للبلاد مفتوحاً على مصراعيه أمام أي مساعدات أو تجارب إصلاحية أجنبية. وكان الرهان وراء ذلك هو أن صافي الفوائد الجيوسياسية والمادية سيفوق بكثير السلبيات.

أعقب ذلك، تدفقات مرتفعة من المساعدات الأجنبية، وبدأت برامج المساعدات الثنائية، والبنك الدولي، ومنظمات الأمم المتحدة، ومجموعات التنمية الدولية الصغيرة والكبيرة، وحتى المؤسسات الخيرية الغربية الخاصة بافتتاح مكاتب لها ووظفت عدداً كبيراً من الموظفين في تبليسي. لإنفاق كل أموالها، وتنفيذ مشاريعها، أدرجت ضمن موازنتها بنداً عن “التشاور والتعاون مع المجتمع”، وبالتالي كانت بحاجة إلى المنظمات غير الحكومية المحلية. الطلب يخلق العرض، واليوم لدينا في جورجيا أكثر من 25 ألف منظمة غير حكومية مسجلة. وبحسب السلطات الجورجية، إن 90 بالمئة من تمويلها يأتي من الخارج، ولكن هذا المعدل يخفي أن الغالبية العظمى من المنظمات غير الحكومية الجورجية لا تمويل محلي لها على الإطلاق.

لقد استعمرت الوكالات الأجنبية ومقاولوها من المنظمات غير الحكومية المحلية منذ فترة طويلة مجالات السياسة والخدمات العامة- التعليم والرعاية الصحية وإصلاح القضاء والتنمية الريفية والبنية التحتية…

عملياً، إن ما يحصل هو على الشكل التالي: توصلت إحدى وكالات مساعدات التنمية الكبرى أو المقرض الدولي، مثلاً، الوكالة الأميركية للتنمية، أو المفوضية الأوروبية، أو البنك الدولي، إلى نموذج جديد لإصلاح التعليم، والتي تخطط الآن لنشره ليس فقط في جورجيا، إنما كذلك في مجموعة واسعة من الدول. ولإعطاء صبغة المشاركة المجتمعية، تتعاقد هذه الوكالات مع المنظمات غير الحكومية المحلية للقيام بالأعمال اليومية: تقديم هذه الطريقة أو تلك للمسؤولين في مجالات التعليم والمعلمين وتدريبهم على المهارات الجديدة التي يفترضون أنهم بحاجة إليها. في كل هذه المراحل، لا يستشير أي أحد المعلمين أو الأهالي أو الطلاب أو الناخبين بشكل عام، عما هم بحاجة إليه ويريدونه وكيف يمكنهم تحسين الأمور. يترك الناس غارقين بشعور أنهم غير مسموعين، ويتم تجاهلهم، ويتعرضون للوعظ- كما يظهرونهم غير مؤهلين عندما يفشلون في الوصول إلى المعايير التي كان من المفترض أن يحققها هذا التدريب.

وقد تكون المنظمات غير الحكومية الجورجية التي تحصل على المنح لتنفيذ هذا العمل محلية، لكنها تتمتع بسلطة كبيرة على الجورجيين. وتأتي هذه القوة بسبب علاقاتها بالسفارات والموارد الغربية والشرعية التي تنالها من ذلك وليس بسبب الدعم الشعبي. في الديمقراطية التمثيلية، ينتخب الشعب المشرعين والسلطة التنفيذية لخدمتهم وتنفيذ مطالبه وتمثيل مصالحه. في جورجيا، تحصل المنظمات غير الحكومية غير المنتخبة على تفويضها من الهيئات الدولية، التي تعد وتمول لوائح المهام المطلوبة لإصلاح السياسات في جورجيا. وتفتقر المنظمات غير الحكومية المحلية إلى الحافز للنظر في تأثير المشاريع التي تطبقها لأنها غير مسؤولة أمام المواطنين التي تمارس دوراً تدخلياً في حياتهم.

وقد أدى ذلك إلى تراجع وكالة المواطنين الجورجيين عن أنفسهم ناهيك عن سيادة البلاد وديمقراطيتها.

مع ذلك، فإن مشروع قانون “شفافية النفوذ الأجنبي” الذي طرحته الحكومة الجورجية للعام التالي على التوالي لن يعالج هذه المشكلة الكبيرة الكامنة في صلب الاقتصاد السياسي للبلاد. حتى أن هذا القانون لا يعنى بحل هذه المشكلة. إن الحكومة الجورجية لا تهتم فعلياً بسيادة جورجيا، وكذلك الجهات المانحة الأجنبية ووكالات المعونة ولا نخبة المنظمات غير الحكومية المحلية.

الحلم الجورجي، الحزب الذي يتولى السلطة منذ عام 2012، ليس عنده أي نية للقضاء على كل التمويل الأجنبي من الاقتصاد السياسي الجورجي. إنما على العكس من ذلك، هو سعيد تماماً بالدخول المستمر للمساعدات الأجنبية وطريقة عمل المجمع الصناعي للمانحين والمنظمات غير الحكومية على إنتاج السياسات والخدمات. قد تكون السياسة في جورجيا خاضعة للتجاذبات الاستقطابية على نحو ملحوظ، لكن حزب الحلم الجورجي ومعظم أحزاب المعارضة متفقون بشكل واضح على أيديولوجيتهم: فهم يؤمنون بالحكم التكنوقراطي والنيولبيرالية وسياسة عدم التسييس، بحيث تصمم السياسات من جانب خبراء أجانب بالاستناد إلى موضوعية مفترضة قائمة على البيانات والتكنولوجيا. وكلما زادت الخدمات العامة التي يقدمها السوق كلما كان ذلك أفضل.

ويتجلى هذا في مصير قانون الحرية، وهو التشريع التاريخي الذي يمنع زيادة معدلات الضرائب والضرائب التصاعدية ويضع سقفاً للإنفاق الحكومي بنسبة 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد طرحه ساكاشفيلي، ولم يلغَ طوال 12 سنة من حكم حزب الحلم الجورجي، كما نظمت منظمة الشفافية الدولية في جورجيا (أكثر المنظمات غير الحكومية تشدداً والتي تقود المظاهرات ضد حزب الحلم الجورجي) حملة للحفاظ عليه. وقد تصارعت هذه المعسكرات السياسية بكل قوتها حول من سيتولى إدارة البلاد ولكن اتفقت كلها على إدارة البلاد وفق نفس الطريقة.

إن استمرار الاستعانة بمصادر خارجية لصنع السياسات والحوكمة وتقديم الخدمات للجهات المانحة للمساعدات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية المحلية والسوق الحرة يناسب أذواق كوادر حزب الحلم الجورجي. حيث درس العديد منهم في الغرب (القانون أو الإدارة العامة) بفضل منح غربية وبدؤوا حياتهم المهنية في مكاتب الأمم المتحدة ووكالات المعونة، والمنظمات غير الحكومية المحلية. إنهم ينحدرون من المجمع الصناعي والإداري للمنظمات غير الحكومية، والتي تشكل رافعة اجتماعية للطبقة الوسطى (أو على نحو أدق، أعلى 10 بالمئة منها) في بلد حيث الأوساط الأكاديمية أو الطبية أو القانونية أو العلمية أو المستثمرين لا تستطيع تأمين تكاليف انتمائها للطبقة الوسطى أو أنماط حياتها. إن السيرة المهنية لقادة حزب الحلم الجورجي تشبه إلى حد كبير تلك الخاصة بخصومهم اللدودين في قطاع المنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج.

في ظل هذا المناخ، من الصعب العثور على شخص يهتم حقاً بالناس ورفاههم. إن مشهد المنظمات غير الحكومية المحلية يشكل قطاعاً تنافسياً للغاية يحفز للترويج للذات والازدواجية بدلا من التعاون، فضلا عن التضامن. بالنسبة للعديد من المتخصصين في هذا المجال، يعتبر العمل في منظمة غير حكومية طريقاً سريعاً للحصول على دخل مرتفع، وامتيازات مثل السفر إلى الخارج وحفلات الاستقبال في السفارات، وأن تكون جزءاً من النخبة.

إذا كان حزب الحلم الجورجي يرتكز على حكم تكنوقراطي وغير مسيس ويحركه المانحون والحفاظ على قطاع المنظمات غير الحكومية الممول من الغرب، فلماذا يخاطر بنشوب احتجاجات في الداخل وضغطاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتمرير ما يسمى بمشروع قانون “العميل الأجنبي”؟

لأنه على رأس هذه المشكلة في قلب الاقتصاد السياسي لجورجيا تكمن مشكلة أخرى، وهي مصدر إزعاج كبير لحزب الحلم الجورجي: مجموعة صغيرة ولكن قوية من المنظمات غير الحكومية ذات ميزانيات ضخمة تصل إلى ملايين الدولارات واليوروهات الآتية من الغرب. إضافة إلى جهات مانحة، بعضها قريب من حكومة ميخائيل ساكاشفيلي السابقة، الحركة الوطنية المتحدة، والتي تستعمل مكانتها للانخراط في السياسة الحزبية بشكل علني. منذ حوالي 5 سنوات، استمرت بنكران شرعية الحكومة وطالبت باستقالتها، ليس فقط عن طريق دعم المعارضة في الانتخابات، وهو ما يتجاوز الخطوط الحمراء الأخلاقية للمنظمات غير الحكومية (إضافة إلى تمويلها من الغرب). إنها تدعو إلى تغيير ثوري للسلطة من خارج العمليات الدستورية الديمقراطية. في السابق، طالبت بتولي حكومة تكنوقراطية السلطة، ولكن بما أن السلطة (وليس الناخبين الجورجيين طبعاً) لم تتقبل هذا العرض، فغامرت بالخروج بمظاهرات في الشوارع واقتحام البرلمان والمباني الحكومية. وها هي تضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لفرض عقوبات على زعماء حزب الحلم الجورجي أو فرض منع سفر عليهم.

إن قانون “العميل الأجنبي” في جورجيا، الذي طرح للمرة الأولى في ربيع عام 2023 وأعيد تسميته في المرة الثانية بـ”قانون النفوذ الأجنبي”، يشكل هدفاً مباشراً لهذه المجموعة المجتمع_مدنية الممولة تمويلاً سخياً. ثمة العديد من النظريات، بعضها أكثر باروكية من غيرها، تفسر السبب الذي دفع حزب الحلم الجورجي إلى طرح مشروع القانون هذا من جديد بعد مرور عام على المحاولة الأولى التي تراجعوا عنها. أحدها هو أن حزب الحلم الجورجي يتوقع الفوز في عملية لي الذراع هذه لأنه يعتبر المعارضة ضعيفة. وهناك سبب آخر، ذكره حزب الحلم الجورجي نفسه، هو أن الحكومة حاولت خلال العام الماضي التوصل إلى اتفاق مع السفارات الغربية والجهات المانحة حتى لا تمول هذه المنظمات غير الحكومية المسيسة أو تعدل سلوكها المسيس. ولكن هذا الطلب قوبل بالرفض، إن لم يكن من الجميع، فعلى الأقل من بعض الجهات المانحة الرئيسة، خلف الأبواب المغلقة، يعترف الديبلوماسيون الغربيون بأن سلوك المنظمات غير الحكومية التي يمولونها يتجاوز العديد من الخطوط، وأنه يجب القيام بشيء حيال ذلك. ولكن عندما يحصل الضغط عليهم لمعرفة ما الذي سيفعلونه لوقف ذلك، فإنهم يشعرون بالقلق.

أين يقود ذلك المجتمع المدني الجورجي؟ إلى مكان أسوأ، من دون شك. ستواجه كل المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلاً أجنبياً المزيد من التدقيق والشك وسيكون عليها القيام بمهمات إدارية إضافية. الأسوأ من ذلك، ستتعرض للغرامات. إن المنظمات غير الحكومية التي ابتعدت عن الانحيازات، وحاولت أن تقوم عملها بعيدا عن تأثيرات المانحين، ومارست التضامن الحقيقي، واحترمت وكالة المواطنين عن أنفسهم، ستجد نفسها عالقة في سياسة لم تكن تستهدفها حتى. فضلاً عن أن هذا القانون من شأنه فرض الشفافية المالية على المنظمات غير الحكومية في حين لا يفرض الأمر نفسه على الشركات. وهذا القانون لن يعيد سيادة الجورجيين، ولا يعني بكل تأكيد إعادة تمكين المواطنين وإعادة تسييس عملية صنع السياسات. وعلى الرغم من كل هذه المشاكل، من المحتمل ألا يؤدي ذلك إلى إضعاف المنظمات غير الحكومية المنحازة أو التخفيف من سلوكها. إنها ليست سوى أداة جلفة، ولكنها أداة سيئة.

إن الادعاءات المحمومة والوطنية الكاذبة التي تطلقها الحكومة والمعارضة تظهر مدى ضآلة ما يقدمه الجانبان للجورجيين العاديين من ناحية التمكين الديمقراطي الحقيقي أو الأمل في تحسين حياتهم. عندما التقى أحد المؤلفين بأعضاء نقابة الممرضات، لم يتأثرن بالخطاب العنيف والشعور بالأزمة، كانت هؤلاء النساء منشغلات بعملهن، وبالصراعات مع مدرائهن ووزير الصحة. وأعربن عن قلقهن بشأن تدمير السلطات المحلية لعياداتهن، وهي واحدة من المستشفيات الحكومية القليلة الباقية.

إنهن يحاولن فهم كيف يحول المانحون والمقرضون الدوليون، بالتعاون الشديد مع الحكومة، مجتمعاتهن وسبل عيشهن دون علمهن، فضلاً عن سؤالهن عن خبراتهن وما يرغبن أن يتحقق.

“لماذا يعيد البنك الدولي تأهيل جناح في مستشفانا؟ من المفترض أن يكون للمستشفى الميزانية اللازمة لفعل ذلك بمفردها، ولكننا لا نعرف الآن ما الذي حصل لهذه الأموال. لا يبلغوننا بطريقة إنفاق المال أو كيفية اتخاذ القرارات. عندما احتاجوا إلينا خلال جائحة الكوفيد، أخبرونا أنهم لا يمكن التخلي عنا. اليوم، بات بإمكانهم فعل ذلك.”


في الاجتماع الأخير، أبدت عضوات النقابة القليل من الاهتمام بقانون النفوذ الأجنبي، ولم يهتممن كثيراً به، لم يرغبن بأن تتخذ النقابة موقفاً منه بطريقة أو أخرى. وقد كن سعيدات لسماع أن النقابيين لن ينضموا للاحتجاجات ضد القانون ولن يدعموا اعتماده. لقد سمعوا شائعات بأنه قانون روسي وقرروا النظر في ذلك، ووجدوا أنه ليس كذلك. وحتى كتابة هذه الأسطر باتت الأزمة عنيفة. استعملت الشرطة خراطيم المياه والفلفل وضربت المتظاهرين المناهضين للحكومة في تبليسي. وانتشرت صور الكدمات والعيون الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي. خلال الأسابيع الماضية، انحط الخطاب السياسي إلى مستويات جديدة، وهذا يعني شيئاً ما. إن الساحة العامة في جورجيا غارقة في الأكاذيب والهستيريا والتلاعب. وهذا من شأنه كذلك أخذ جورجيا بعيداً عن استعادة الديمقراطية وبناء السياسات التقدمية. وهناك شعور، عبر عنه مراقب جورجي يقول: “أيا كان الطريق الذي نسلكه فهو بمثابة خطوة إلى الوراء”.

رغم أن الأمر محبط وممل، لكننا مضطرون إلى مواجهة الأكاذيب والتلاعب الحاصل حول هذا الموقف حتى نستطيع البدء في استعادة النقاش العقلاني. من المقزز أن نرى المانحين الأجانب يحاضرون بالجمهور الجورجي بالقول إنه لا يوجد نفوذ أجنبي مرتبط بالمال الأجنبي، وإن المانحين يريدون فقط دعم “مجتمع مدني حي” ولن يحلموا أبداً بإخبار المنظمات غير الحكومية بما يجب فعله. أي شخص على دراية بكيفية تقديم المنظمات غير الحكومية للمنح والتنافس عليها يعرف أن الجهات المانحة تضع قواعد محددة جداً لأنواع المنظمات، ونوع العمل، ونوع القضية التي ستتولاها حتى تحصل على التمويل، هذا عدا عن الشروط غير المكتوبة والتحيزات المخفية لاختيار المستفيدين من المنح.

يعرف الناشطون في جورجيا جيدا ما هو متوقع منهم، وما هي السلوكيات المعاقب والمكافأ عليها: إن انتقاد الحكومة على الفايسبوك سيعطيك مِنحاً أكثر من التواجد في وسط المجتمع لمساعدة الناس. قبل عدة سنوات قليلة، عندما اعتبر المانحون الغربيون حزب الحلم الجورجي حليفاً قيماً لهم، كانوا يطلبون من الناشطين الجورجيين التوقف عن انتقاده. واليوم، يريدون من الناشطين التحدث علناً ضد حزب الحلم الجورجي. حتى أن الجهات المانحة تراقب حسابات الناشطين الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تكون هناك نتائج لنشر الأشياء الخاطئة.

إن الاستعمال الفاضح لعبارة “قانون روسي” يشكل تلاعباً منافقاً إضافياً يمارسه الناشطون الجورجيون، والمعارضون، إضافة إلى المسؤولين الغربيين. فقد قالوا لنا إن مشروع القانون مستنسخ عن آخر في الكرملين (لا حاجة لهم لتدقيق الحقائق) وأنه سوف يحول جورجيا إلى روسيا و/أو يخرج البلد عن مسار الاندماج في الاتحاد الأوروبي. ولكن هذا القانون هو أحد أعراض الحقائق السياسية الجورجية الفريدة من نوعها. إن جورجيا عام 2024 لا تشبه روسيا عام 2012، عندما اعتمدت الأخيرة قانون العملاء الأجانب، سواء من الناحية السياسية، أو من ناحية تحالفاتها الدولية، ولا من حيث الديمقراطية وحكم القانون، والتأكيد الدور الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية. إن أهداف القانون الروسي لا تشبه مطلقاً أهداف القانون الجورجي.

والأكثر سخافة هو الادعاءات أن حزب الحلم الجورجي ومؤسسه الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي هما دمى روسية، في جيبة بوتين بالكامل، وأنهما طرحا القانون لأن بوتين طلب منهما ذلك. ووفق نفس المنطق، لا بد من أن بوتين قد أصدر تعليماته للحلم الجورجي لمواصلة مسار الاندماج بأوروبا لأكثر من 10 سنوات، وتكريس الانخراط الأوروبي- الأطلسي في الدستور، والحصول على نتائج أعلى من المرشحين الآخرين في معايير الإصلاح، والفوز بوضعية المرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن هذا الضجيج المستمر حيال “القانون الروسي” يلعب على وتر مخاوف واستياء الرأي العام الجورجي، إضافة إلى الفكرة الجيوسياسية الثابتة لدى شركاء جورجيا الغربيين.

ولكن ما هو أكثر نفاقية وخطورة هو ربط هذا القانون بعملية انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي. بحيث تذرف الدموع من أعين المراقبين الغربيين من وقوف الجورجيين دفاعاً عن “مجتمعهم المدني الحي”، ولكن على أرض الواقع، لا يهتمون بهم كثيراً. وتدعم هذه الانطباعات الشعبية سنوات من استطلاعات الرأي التي تبين انخفاض ثقة الجورجيين بالمنظمات غير الحكومية. بل على العكس، نزل الناس إلى الشوارع عندما قيل لهم إنها لحظة حاسمة بالنسبة لمستقبل جورجيا في الاتحاد الأوروبي.

إن طموح جورجيا في الدخول بالاتحاد الأوروبي يشكل عصب السياسة والثقافة الجورجية. بعد ثلاثة عقود من الإفقار في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، والتعب والألم والصدمات والإجهاد المزمن وانعدام الأمان والإذلال، باتت العضوية في الاتحاد مشروعاً خلاصياً بالنسبة للكثير من الجورجيين: فهي تمثل وعداً بالخلاص بعد فترة طويلة ظالمة من المعاناة والتضحية. إن الاتحاد الأوروبي لا يسعى فقط إلى تحقيق الأحلام- بالرفاهية المادية والسلامة والكرامة والراحة- إنما كذلك إلى الاعتراف بالهوية “الأوروبية” المتأصلة في جورجيا، وتميزه وتفوقه الثقافي بالمقارنة مع جيرانه “الآسيويين”.

من جديد، إن العديد من الجورجيين الذين خرجوا إلى الشوارع حاملين أعلام الاتحاد الأوروبي لديهم مخاوف أقل خلاصية وأكثر واقعية: بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، اعتبر الجورجيون فرصة الهجرة باعتبارها السبب الأول وراء رغبتهم في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. في الواقع، كان الجورجيون “يصوتون بأقدامهم”- ففي عامي 2021 و2022 وحدهما، غادر أكثر من 5 بالمئة من السكان، أغلبهم إلى أسواق العمل في أوروبا.

ولكن سواء كان الأمر يرتبط بالخلاص الروحي أو الفرص المادية النادرة، فإن احتمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يمثل مسألة وجودية بالنسبة إلى الجورجيين. وقد سمح هذا الأمر للمعارضة وجماعاتها وسط المنظمات غير الحكومية ومانحيها الغربيين إلى اصطناع أزمة “قانون النفوذ الأجنبي” وتحويلها إلى معركة ملحمية يائسة من أجل تحقيق مستقبل مزدهر للجورجيين. والأسوأ والأكثر انعداماً للمسؤولية هو انضمام المسؤولين في الاتحاد الأوروبي إلى هذا الوضع، حيث كرروا الواحد تلو الآخر، أن مثل هذا القانون لا يتوافق مع “معايير وقيم الاتحاد الأوروبي”. إن “المعايير والقيم” غامضة بدرجة كبيرة، وعلى العكس من قوانين الاتحاد الأوروبي الفعلية، التي لا تمنع تنظيم تمويل المنظمات غير الحكومية. مؤخراً، صرح متحدث باسم الاتحاد الأوروبي بأن اعتماد القانون من شأنه التعارض مع “قيم وتوقعات” الاتحاد الأوروبي، ما ينقل أهدافها إلى المنطقة الغامضة بشكل متزايد. لقد تحولت عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي التي يفترض أنها موضوعية ومستندة إلى الجدارة، إلى عملية تعسفية ومزعجة.

إن تهديد المسؤولين الأوروبيين في الاتحاد الأوروبي بعرقلة عملية انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي يبدو وكأنه ابتزاز غير لائق. وفي الأساس، إن الشكوك المتزايدة لدى أي حكومة في أهداف المانحين الأجانب لتمويل المنظمات غير الحكومية المنحازة تزيد من خلال إرغام الحكومة بواسطة التهديدات المتزايدة على الاستمرار بالسماح بمرور مثل هذا التمويل. في هذه الظروف، ومع تشدد الجبهات والتلاعب بمخاوف الناس الوجودية، لم يعد من الممكن إجراء نقاش صريح حول المشاكل المستمرة منذ عقود والتي أفضت إلى مشروع القانون هذا، وحول مدى فعالية القانون وملاءمته.



#سوبو_جاباريدزه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراعات أجنحة النيوليبرالية في جورجيا


المزيد.....




- آلاف المتظاهرين في بروكسل يطالبون بفرض عقوبات على إسرائيل
- الحراك الثوري الجنوبي يعيد هيكلة المجلس في مديرية الضالع وين ...
- مظاهرات في عدن بجنوب اليمن تنديدا بانهيار الأوضاع المعيشية و ...
- الحراك الثوري الجنوبي ينفي حل نشاطة ويؤكد على استمرار نصالة ...
- أيقونة الثورتين الجزائرية والفلسطينية.. نضالات محمد بودية بر ...
- رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي يدعو لمنح كاليدونيا الجديدة -شكلا ...
- شرطة نيويورك تقمع المتظاهرين المؤيدين لوقف إطلاق النار في غز ...
- أستراليا تعتقل متظاهرين داعمين لغزة والشرطة الأميركية تفض بع ...
- الجزائر: لويزا حنون زعيمة حزب العمال تعلن ترشحها للانتخابات ...
- الجزائر.. زعيمة حزب العمال تعلن ترشحها للانتخابات الرئاسية


المزيد.....

- كيف درس لينين هيغل / حميد علي زاده
- كراسات شيوغية:(الدولة الحديثة) من العصور الإقطاعية إلى يومنا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سوبو جاباريدزه - صراعات أجنحة النيوليبرالية في جورجيا