أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها/ ترجمة: أحمد رباص















المزيد.....



جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها/ ترجمة: أحمد رباص


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 7955 - 2024 / 4 / 22 - 09:41
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تقديم:
يحيل العنوان أعلاه على الفصل الأول من كتاب "تجربة المفهوم: ميشال فوكو بين الإبستيمولوجيا والتاريخ" لصاحبه لوقا بالترينيري. "تجربة المفهوم" هو الاسم الذي اطلقه الكاتب على "شكل" فكر ميشيل فوكو، بين نظرية الإبستيمولوجيا والتاريخ: شكل صندوق أدوات ذي صلة خاصة بالتحليل التاريخي لنشوء المفاهيم في المجال العملي، يرغب المؤلف في "جعل استخدامه ممكنا لنا اليوم". في ما يلي محاولة لترجمة هذا الفصل إلى العربية عبر جزئين.
إن نقطة البداية للبحث الذي يجب أن ينتقل من التاريخ الإبستيمولوجي لجورج كانغيلام إلى "أنطولوجيا ذواتنا" الفوكوية لا يمكن إلا أن تكون العلاقة بين الفلسفة وأوجه "خارجها" العديدة. سواء كان الأمر يتعلق بالطب أو العلوم البيولوجية، بالنسبة إلى كانغيلام، أو بالطب النفسي، يالأدب بالاقتصاد ولكن أيضا بالسجون والتمارين الروحية، بالنسبة إلى فوكو، كل شيء يحدث كما لو أن النشاط الفلسفي لم يعد من الممكن فهمه ببساطة من خلال تقليد يخترع نفسه ويعلن نفسه على أنه فلسفي "على نحو أصيل". لم يعد يجب على الفيلسوف، أو لم يعد يستطيع، أن يقرأ الفلاسفة الآخرين فقط: عليه أن ينغمس في الأرشيف وفي راهنية عمل لم تعد حداثته تعترف به على أنه "فلسفي".
هكذا، يرى كانغيلام أن «الفلسفة هي تفكير بالنسبة إليه كل مادة غريبة جيدة، ونقول عن طواعية، بالنسبة إليه كل مادة جيدة غريبة». هذه العبلرة ليست زائدة عن الحاجة، فهي تشير في الوقت نفسه إلى أن الفلسفة ليست تأملا، "خلف أبواب مغلقة"، إذا جاز التعبير، لا تتغذى إلا على نفسها ومفاهيمها، بل إنها منفتحة بنيويا على الخارج، الذي يضع أمامها باستمرار سلسلة من المشاكل، الأسئلة، العوائق. إذا كان هناك تحول في الفلسفة، وإذا كانت هناك إعادة صياغة متواصلة لتساؤلاتها، فلا يحدث ذلك من خلال نوع من الرحلة المستقلة والتدريجية نحو الحقيقة التي تُطرح وتُكشف، بل بسبب انفتاحها البدائي على عالم الممارسات الإنسانية العلمية، السياسية، الجمالية التي تنتج المفاهيم في كل لحظة. إن الفلسفة المنفتحة حقا على الطابع التاريخي للممارسات النظرية لا تتجه نحو ما يشبه الحقيقة المطلقة، بل تبني نفسها من إنتاج الحقيقة الذي يحدث في جميع مجالات النشاط الإنساني. يمكننا أن نجد هنا مبدأ كل الإبستيمولوجيا التاريخية.
1- الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية
بيد أن انفتاح الفلسفة على ما هو خارج عنها يعني بشكل جدي مراعاة نوع معين من المفاهيم: تلك التي، وهي تظهر على شكل ملفوظات علمية، تحمل ادعاء الحقيقة. هذه هي المفاهيم التي تحدد أفق حداثتنا، أفق توجد فيه علاقة متجددة إلى حد ما بين "المعرفة" و"العلم" و"الحقيقة". خلال مقابلة مع آلان باديو، كان كانغيلام قد افترض في الواقع، بطريقة استفزازية إلى حد ما، التكافؤ بين جهات تكوين العبارات الحقيقية والخطاب العلمي، حيث أن العلم هو "المجال الوحيد الذي يمكننا فيه التحدث عن الحقيقة".
لا ينبغي فهم العبارة على أنها حكم قيمة ولا على أنها تأكيد وجودي على وجود الموضوعات العلمية باعتبارها "وقائع خارجية"، بل على أنها تحليل للشروط الصورية لاستخدام كلمة "صادق". في كتابه عن "اليقين"، أشار فيتجنشتاين إلى أننا نستخدم كلمة "صادق" في علاقة بنوع معين من العبارات: ليس تلك المتجذرة بعمق في نظام المعتقدات التي تعصب شكل حياتنا، ولكن تلك التي ما يزال الشك بشأنها ممكنا. إن حقيقة عبارة مثل "أعلم أن هذه يد" لا تقول الوجود الفعلي لليد، ولكنها تعني أن الشك الجدي في مثل هذه العبارة يعني بالفعل الشك في صرح يقينياتنا بأكمله ويجعل بأحد الأشكال من الممكن وضع شكل الحياة ككل موضع نقاش. في الواقع، وفقا لفيتجنشتاين، فإن يقين قضية تجريبية لا يعتمد على تجربتنا في العالم، ولكن على الشروط النحوية لاستخدامها؛ أي أن القضية "تنتمي إلى منظومتنا المرجعية" التي لا تكون فيها حقيقة عبارتنا ضمانة من العالم الخارجي، بل مجرد وسيلة للتحكم في فهمنا للعبارة.
إن الحقائق البديهية التي أشار إليها جورج إدوارد مور باعتبارها "أدلة" على العالم الخارجي لا تستند إلى الوجود الذي لا يقبل الشك لواقع خارجي، لكنها تشكل صرحا من القضايا الداعمة؛ إنها جزء من "سقالات جميع طرق رؤيتنا". في الواقع، تشكل معتقداتنا نظاما: قدرتها على الاندماج في النظام تمنحها قيمة اليقين. وبهذا المعنى، فإن بعض القضايا التي تظهر على أنها تجريبية تشكل في الواقع "قضبانًا" تنزلق عليها جميع القضايا التجريبية، أي أنها تؤدي الوظيفة المنطقية لقواعد اللعبة: فهي مثل قاع النهر الذي، بطريقة معينة، ينظم التدفق اللغوي.
من ناحية أخرى، من ضمن لعبة اللغة العلمية أن نتمكن من تعريف قضاياها بأنها "صادقة" أو "كاذبة"، وذلك على وجه التحديد لأن هذه الملفوظات ليست جزء من صرح اليقينيات لدينا والشك فيها ما زال قائما. انطلاقا من وجهة النظر هاته، تكون القضايا العلمية موجودة على «سطح» النهر: وطريقة تثبيتها تقضي بأن الشك في صدقها أو كذبها ما زال ممكنا بالنسبة إليها، دون أن يؤثر ذلك على قاع النهر. ولهذا السبب بالتحديد يؤكد إيان هاكينج أن العبارات العلمية هي تلك "التي يمكن تصويرها على أنها صادقة أو كاذبة"، أو بعبارة أخرى، تقدم نفسها على أنها "مرشحة" محتملة للصدق أو الكذب . وما يميز الملفوظ العلمي عن الملفوظ التجريبي هو في الحقيقة هذا الطابع المشكوك فيه الذي يدل على أن الملفوظ لا يمكن أن يكون صادقا أو كاذبا إلا بشرط الانتماء إلى أسلوب معين من الاستدلال يحدد هو نفسه شروط وطرق الاستدلال في شأنه: "[.. .] إن (القضايا) المرشحة للصدق أو للكذب ليس لها وجود مستقل عن أساليب التفكير التي تحدد ما الذي يكون صادقا أو كاذبا في مجالها.
الشيء المهم الذي يتعين ملاحظته في التحليل الفيتجنشتايني
لهاكينج هو أنه قبل أن نتمكن من تعيين قيم الصدق، يجب علينا أن نعرف كيف نستدل وفقا لأسلوب معين من الاستدلال. في مقالته عن جاليلي، عبر كانغيلام عن هذه الفكرة بالضبط من خلال التأكيد على أن جاليلي كان "على حق" قبل قول الحقيقة، ليس لأن تجاربه أكدت حساباته أو لأنه استبق الحقيقة بطريقة ما، ولكن لأنه ادرك أن "النظرية الجديدة للحركة، أي الديناميكا الجاليلية، قدمت نموذجا للحقائق الفيزيائية التي ما يزال يتعين الترويج لها، وهي حقائق من شأنها أن تؤسس لعلم الفلك الكوبرنيكي باعتباره دحضا جذريا ومتكاملًا للفيزياء والفلسفة الأرسطيتين. بمعنى آخر، كان جاليلي على حق لأنه استدل ضمن أسلوب معين من الاستدلال، وجدت أقواله شروطها من الصدق والكذب ضمن مجال الاستقرار، وكانت مفاهيمه في علاقة “تماسك منطقي مع مجموعة من المفاهيم الأخرى ". قال فوكو لاحقا إن الشيء الذي يعرّفه العلم بأنه خارجي ليس خاطئا بالمعنى الدقيق للكلمة، "لأن الخطأ لا يمكن أن ينشأ ويتم تحديده إلا ضمن مجموعة من الممارسات". إن أساليب الاستدلال لدى هاكينغ، و"علوم" كانغيلام، وإبستيميات فوكو، هي أنظمة ذاتية التحقق، تحدد هي نفسها حقائقها الخاصة والتي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر خارجي، أي طريقة للحكم على صدق قضية لا تتوقف على نظام القضايا الذي تنتمي إليه. وبهذا المعنى، أمكن لكانغيلام أن يؤكد أن العلم – دين الحداثيين – والعلم وحده، هو البحث عن الحقيقة، وبالتالي، لا يتطلب بأي حال من الأحوال "أساسا" انطلاقا من الفلسفة، لأن العلم يعطي الحقيقة من تلقاء ذاته. هكذا يستطيع أن يتحدث عن "أولوية المغامرة الفكرية على العقلنة" وعن أولوية متطلبات الحياة والعمل على ما "ينبغي علينا معرفته والتحقق منه". وبعبارة أخرى، فإن تطور الفكر العلمي لا يستجيب للمتطلبات الوظيفية التي تحددها الفلسفة، بل للممارسات والإجراءات التنظيمية والقرارات المتعلقة بتنظيم الحياة البشرية: وكما قال فيتجنشتاين، الخطاب العلمي لا أساس له من الصحة باعتباره مظهرا لسلوك إنساني هو في حد ذاته "طريقة غير مؤسسة في التصرف".
إذا تخلى الخطاب الفلسفي عن أي هدف تأسيسي، فإنه يتخذ على وجه التحديد هذا البحث العلمي عن الحقيقة كموضوع للتأمل: يبدأ الفيلسوف عمله بالضبط حيث ينتهي عمل العالم. وبالتالي، فإن الفلسفة، بحسب كانغيلام، ليست في “تنافس” مع العلم، كما اعتقد سارتر عندما قال: “في حضارة تكنوقراطية، لم يعد هناك مكان للفلسفة، اللهم إلا إذا تحولت هي نفسها إلى تقنية". على العكس من ذلك، يمكن للفلسفة أن توجد على وجه التحديد لأن المفاهيم العلمية المعقدة والمحددة بشكل متزايد تولد، تتغير وتنتشر من منطقة معرفية إلى أخرى، وتخلق دائما شبكات مفاهيمية جديدة: هذه هي الترتيبات التي تمثل في الواقع شروط التفكير في الحقيقة. وما دامت الفلسفة تفكيرا في الحقيقة العلمية، كيف يمكن للمرء بالفعل إثبات حقيقتها دون اللجوء إلى ما وراء الفلسفة، وفقا لعملية الازدواجية اللامتناهية التي سخر منها فيتجنشتاين، حيث رأى هناك جوهر الفلسفة السيئة؟ إذا لم تكن هناك "حقيقة الحقيقة"، فلا يمكن القول بأن الخطاب الفلسفي بدوره "ليس صادقا ولا كاذبا": لا وجود للحقيقة الفلسفية.
لكن، إذا لم تكن هناك حقيقة فلسفية بل حقيقة علمية فقط، فلماذا لا تقتصر المقاربة الكانغيلامية ببساطة على المقاربة الوضعية الجديدة التي تكون فيها الوقائع العلمية هي تلك التي تتعامل معها الفلسفة؟ إن النظرة الأخرى التي يلقيها الفيلسوف على الحقيقة العلمية تسمح له برؤية ما لا يستطيع العالم رؤيته، أي أن الحقيقة، في الممارسة العلمية نفسها، ليست موضوع تأمل أصلي وغير زمني، بل نتاج نشاط تكون سمته الرئيسية هي التصحيح الدائم، كما يؤكد باشلار في ما يتعلق بالحقيقة العلمية، أو نتاج "صراع"، نوع من المواجهة بين من يعرف وموضوعه، كما أكد أيضا فوكو الذي سار في أعقاب نيتشه. بمعنى آخر، من خلال التشكيك في الشروط التي يمكن من خلالها اعتبار المفهوم علميا، يأخذ الفيلسوف حتما في الاعتبار التاريخية الضرورية للمفاهيم العلمية. ولذلك، فمن خلال "إبستيمولوجيا جهوية"، التي تُفهم على أنها دراسة نقدية لمبادئ ومناهج ونتائج علم معين، يُقاد الفيلسوف إلى تسليط الضوء على الشروط التي يمكن من خلالها تحديد بعض العبارات كعبارات علمية، كعبارات "صادقة" أو "كاذبة". وللقيام بذلك، سيكون من الضروري التخلي عن وجهة النظر العالمية المتمثلة في "التاريخ الفلسفي" والاعتراف ليس فقط بوجود العديد من العقلانيات الجهوية، ولكن أيضا بوجود العديد من التواريخ التي تناسب كل واحد من هذه المجالات وكل مفهوم. ومع ذلك، فإن هذا المعيار الإبستيمولوجي الذي يسبق المهمة التاريخية ينطوي على التوائية فريدة في نشاط مؤرخ العلم والعلاقة بموضوعاته.
2- الموضوع العلمي وتاريخه
أجرى كانغيلام تمييزا جذريا بين موضوع العلم وموضوع تاريخ العلوم: الأول موضوع ليس له تاريخ، في حين:
"[...] تاريخ العلوم هو تاريخ الموضوع الذي هو تاريخ، وله تاريخ. [...] موضوع الخطاب التاريخي، في الواقع، هو تاريخية الخطاب العلمي، بقدر ما تمثل هذه التاريخية تنفيذ مشروع موحد داخليا، ولكن تخنرقه حوادث، وتؤخره أو تحرفه عوائق، وتقطعه الأزمات، أي لحظات الحكم والحقيقة".
باختصار، ليس لمؤرخ العلوم علاقة مباشرة بالموضوع، مثل العالم، بل مع تاريخية الخطاب حول الموضوع. لنأخذ على سبيل المثال العلم الديموغرافي. عندما يكون ما يهم الديموغرافي هو فقط "هنا والآن" لموضوع "السكان"، أي عدد الأفراد في منطقة ما في لحظة معينة، فإن مؤرخ الديموغرافيا يتعامل بدقة مع التغييرات التي تؤثر على الموضوع العلمي "السكان" مع مرور الوقت. وبطبيعة الحال، بالنسبة للديموغرافيا، فإن للسكان أيضا تاريخا: تاريخ تحركاتهم، أزماتهم، تطوراتهم، تفاعلهم مع عوامل طبيعية، اجتماعية وسياسية في آن واحد. تتعامل الديموغرافيا التاريخية مع تاريخ السكان هذا، ثم تأخذ في الاعتبار الحروب، الأمراض، التغذية، إلخ..، مثل العديد من العوامل التي تتفاعل مع تطور الكائن "السكاني". إن الديموغرافيا، كعلم يقع بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، لا يمكنها الاستغناء عن المعطى التاريخي (بخلاف الفيزياء، مثلا). ومع ذلك، بالنسبة للديمغرافي والمؤرخ الديموغرافي، "زمن هذا التاريخ هو في حد ذاته موضوع معطى هناك قبلا". وهذا يعني، بالنسبة إلى كانغيلام، أن تاريخ السكان يمكن أن يكون موضوع دراسة علمية يتم إجراؤها وفقا لنفس المعايير التي يدرس بها رجل العلم موضوعه.
بالمقابل، يجب أن يقع تاريخ العلم على مستوى آخر، وهو مستوى تاريخية الخطاب العلمي الذي يتعلق بالسكان، لأن هذه التاريخية وحدها هي التي تسمح لنا بالحديث عن "علم السكان". وبعيدا عن أن يمثل وجود تاريخ لهذا التخصص تهديدا لعلميته، فإنه يمثل بالضبط نقطة التمييز بين النشاط العلمي والأيديولوجيا، أو المعرفة العامة، لأن "العلم الزائف ليس له تاريخ". إن أخذ تاريخ العلم على محمل الجد لا يعني استخدام التاريخ لإضفاء النسبية أو التقليل من موضوعاته أو عقلانيته، بل على العكس من ذلك لإظهار خصوصيته في ما يتعلق بأنواع أخرى من المعرفة أو اللاعلم. وبما أن الأشكال التاريخية المتعاقبة التي تظهر فيها الموضوعية في العلم هي مكونات الموضوعية نفسها، فقد أمكن لكانغيلام أن يتحدث عن تاريخية الخطاب العلمي باعتباره “موضوعا” لتاريخ العلم. بكلمات أخرى، يتعلق الأمر ب"تحديد هوية الموضوعية والتاريخية هذه كمجال للحقيقة".
إن الطابع التاريخي الجوهري للفهم العلمي موجود أيضا في استخدام المفهوم الباشلاري للعائق، وهو مفهوم موجود في ما اقتبسه كانغيلام وما أشار فيه بالضبط إلى كون المعرفة العلمية تتقدم دائما من خلال عمليات إعادة التنظيم القائمة على المشكلات التي هي "مقاومات" للفكر.
بالنسبة إلى باشلار، تاريخ العلم هو تاريخ قطائع، أولاً مع المعرفة المشتركة، بل مع التجربة، المعرفة العامة، "فلسفة الفلاسفة" الذين يرغبون في التنظير للنشاط العلمي، وأخيرا مع النظريات العلمية الأخرى نفسها. إن حقيقة العلم ليست تأمل حقيقة أبدية منقوشة في الأشياء أو في العقل، ولا هي نتاج تقدم دائم نحو الحقيقة، بل هي نتيجة مؤقتة لسؤال دائم وفقا لعملية دينامية تنتمي، وفق كانغيلام، إلى الحياة نفسها:
"العلم هو خطاب موحد من خلال تصحيحه النقدي. إذا كان لهذا الخطاب تاريخ يعتقد المؤرخ أنه قادر على إعادة بنائه، فذلك لأنه تاريخ يجب على الإبستيمولوجي إعادة تنشيط معناه."
إن تغيير المستوى، من التاريخ إلى إبستيمولوجيا بدون التاريخ "ستكون نسخة غير ضرورية تماما للعلم الذي تدعي مناقشته"، يتم التحكم فيه من خلال المصادفة بين الموضوعية والتاريخية. لكن هذا التحول ما زال يعني ضمنا اعتماد منظور آخر للعلم نفسه، والذي سيلخصه كانغيلام في صيغة “استبدال تاريخ العلوم بالعلم وفق تاريخها”. وبينما يدمج المؤرخ سلسلة من الآثار في وصف منظم للعلاقات الزمنية والمنطقية بين المراحل المختلفة لتطور النسق العلمي، يتبع الإبستيمولوجي مسارا مختلفا تماما: يتمثل عمله في "تقليد ممارسة العالم من خلال محاولة استعادة الإيماءات التي تنتج المعرفة”. تبدو هذه العبارة متناقضة: فقد رأينا أن موقف المؤرخ تجاه موضوعه يختلف عن موقف العالم. ولذلك فمن الضروري توضيح معناها، لأنه في رأينا، في هذه العبارة، يتم إخفاء الرهان المركزي في تاريخ كانغيلام الإبستيمولوجي.
في المقام الأول، ما هو أساسي بالنسبة للإبستيمولوجي هو الحاضر، الحالة الراهنة للعلم: فبينما "ينطلق المؤرخ من الأصول نحو الحاضر"، فإن الإبستيمولوجي "ينطلق من الحاضر نحو بداياته بطريقة تجعل جزء فقط مما كان يُعتبر علما بالأمس قد أسسه الحاضر إلى حد ما. صاغ باشلار هذا المبدأ تحت عنوان "التاريخ المتكرر": "التاريخ الذي يبدأ من يقينيات الحاضر ويكتشف في الماضي التشكيلات التدريجية للحقيقة". ويعني "التكرار" الباشلاري إنشاء محكمة يمكنها، من آخر لغة يتحدث بها علم معين، العودة إلى الماضي لاكتشاف "اللحظة التي تتوقف فيها هذه اللغة عن أن تكون مفهومة أو قابلة للترجمة إلى لغة أخرى، أكثر وضاعة أو أكثر ابتذالاً كانت منداولة سابقا". وهكذا ينقاد الإبستيمولوجي إلى التمييز بين “المعارف منتهية الصلاحية” و”المعارف المعتمدة”، أي بين المعارف “الميتة” والمعارف التي ما تزال حية وفاعلة في الوقت الحاضر، والتي تبعد إلى الأبد تاريخ العلوم عن التاريخ الإبستيمولوجي:
"فالتاريخ، من حيث المبدأ، معادٍ في الواقع لأي حكم معياري. ومع ذلك، يجب علينا أن نضع أنفسنا وفقا لوجهة النظر المعيارية هذه، إذا أردنا الحكم على فعالية فكر ما. [...] ولذلك يجب على الإبستيمولوجي فرز الوثائق التي جمعها المؤرخ. يجب عليه أن يحكم عليها من وجهة نظر العقل وحتى من وجهة نظر العقل المتطور، لأنه فقط في أيامنا هذه يمكننا أن نحكم بشكل كامل على أخطاء الماضي الروحي. [...] يمكننا أن نرى هنا ما الذي يميز مهنة الإبستيمولوجي عن مهنة مؤرخ العلوم. يجب على مؤرخ العلم أن يأخذ الأفكار على أنها وقائع. يجب على الإبستيمولوجي أن يأخذ الوقائع كأفكار، ويدخلها في نسق من الأفكار. الواقعة التي أسيء تفسيرها في ذلك الوقت تظل واقعة بالنسبة للمؤرخ. هي، عند الابستمولوجي، عائق، فكرة مضادة".
بالنسبة لكانغيلام، يجب على عالم الإبستيمولوجي، من خلال غمر نفسه في تاريخ العلم، ان "يقيس
بأحدث نظرية علمية في الظهور تلك االنظريات التي سبقته"، وفقا لمبدأ التكرار. ولكنه، من خلال القيام بذلك، يوضح بدقة أن المفاهيم والأفكار والمواقف التي أصبحت الآن جزء من المعرفة العلمية "كانت في وقتها متفوقة وبالتالي [يبين] كيف يظل الماضي المتجاوز ماضيا لنشاط ما يجب الاحتفاظ له بصفة العلمي". لهذا السبب، يرى كانغيلام، أن مبدأ التبعية "الحاضرية" للفهم التاريخي للمهمة الإبستيمولوجية المتمثلة في توضيح أن النشاط العلمي لا يستسلم لغائية تجعل الحالة الأخيرة للعلم هي الإنجاز المطلق وليس المعرفة العلمية الأكثر إثارة للجدل. وتحديدا لأن التاريخ الإبتسمولوجي يعتبر العلم بناء تاريخيا تشكل حالاته السابقة جزء منه، فإنه يتخلى عن دور “الشرطة الإبتسمولوجية على نظريات الماضي”. وهكذا تظهر بوضوح وظيفة الإبستيمولوجيا في ما يتعلق بالعلم: إذا كان الإبستيمولوجي، بحسب كانغيلام، "يحاكي" فعل الإنتاج العلمي، فلا ينبغي له أن يؤسسه، لأن العلم ينتج من تلقاء ذاته معايير حقيقته الخاصة، بل بالأحرى أن يجعل البناء المصحح والمتناقض للعلم مفهوما من خلال وضعه في تاريخية هذه الحقيقة التي هي راهن رجل العلم الذي يواجه موضوعه.
ومع ذلك، هناك سبب آخر يجعل عمل الإبستيمولوجي نشاطا محاكيا باانظر إلى العمل العلمي: بما أن الإبستيمولوجي-المؤرخ لا يجد موضوعه في المكان النظري للعلم، بالتعريف اللازمني، "فإنه في حد ذاته يشكل موضوعا استنادا إلى الحالة الراهنة للعلوم البيولوجية والإنسانية، وهي حالة ليست النتيجة المنطقية ولا النتيجة التاريخية لأي حالة سابقة لعلم متميز [...] ]". ليس من خلال وصف التطور الخطي للنشاط العلمي، ولكن من خلال وضع الموضوع العلمي في "التاريخ غير المرئي، الإشكالي لتراكم المفاهيم" يبني المؤرخ موضوع عمله، أي تاريخية الخطاب العلمي. وهكذا يظهر في نفس الوقت أن الموضوع العلمي بناء. لأنه من الواضح أن موضوع العلم، بحسب كانغيلام، ليس "الموضوع الطبيعي" الذي تجده التجربة، إذا جاز التعبير بسذاجة، كما لو كانت الطبيعة موزعة مسبقا إلى موضوعات، بل هو نتاج البناء الدائم والمتقدم الذي هو بالضبط النظرية العلمية:
"نعني بالموضوع موضوع الدراسة، مادة العمل، التي يتيح لنا تاريخ العلم أن نثبت مرة أخرى أن العمل النظري التجريبي للمعرفة يشكلها، بعيدا عن إيجادها معدة بالكامل".
إن موضوع العلم، بعبارة أخرى، هو نتيجة منهج العمل النظري، وقد تم وضعه، كما قال باشلار، باعتباره "منظورا للأفكار ". إن مفهوم "القطيعة المعرفية" عند باشلار كان في الواقع يهدف إلى إظهار أن "البداهة الأولي ليس حقيقة أساسية" لأنه، في ما يتعلق بالموضوعات المعطاة مباشرة للتجربة اليومية، تقدم الموضوعات العلمية دائما جانبا مراوغا، غير واضح، تم اكتسابه بمسقة. إذا كان عمل الفينومينولوجيا الهوسرلية يتألف من العودة إلى "التجربة الحية" للقاء الأصلي مع ظاهرة متحررة من كل فهم مسبق، فيبدو، على العكس من ذلك، أن الظاهرة الوحيدة المثيرة للاهتمام بالنسبة للعلم هي تلك التي تم بناؤها نظريا وتقنيا، كموضوع، في تجربة المفهمة العلمية وفي تجربة المختبر. ولهذا السبب فإن "الظواهر العلمية الحقيقية هي في الأساس تقنية ظواهرية".
يمكننا أن نرى بوضوح أن العمل الذي يجب أن يجعل الموضوع العلمي ظاهرا هو على وجه التحديد عمل المفهوم: وبهذا المعنى، فإن موضوع العلم يشبه الGegenstand الكانطي لأنه على وجه التحديد تأثير "إدراك" توحيد وإقامة تعدد محسوس من قبل المفهوم.
إن المفهوم هو الشكل الذي يحتوي على "ما يعطي شكلا" لمحتوى معين أو "الامتداد"، أي مجموعة الأشياء التي "تشبعه"، حسب لغة فريجه. على الرغم من أن الBegriff الكانطي غالبًا ما يرتبط بشكل عام بتمثل العقلي، إلا أن وظيفته هي بالضبط وظيفة توحيد التعددية المعقولة المكانية والزمانية من خلال إعطائها شكل موضوع. لكن، على هذه الوظيفة الأخيرة، إعطاء "شكل"، يصر باشلار بشكل خاص محددا دور ما ظل يسميه "فكرة" والذي سيسميه كانغيلام "مفهوما"، أي الأثر المهيكل للنشاط العقلاني. إن المفهوم ليس انعكاسا ذهنيا لواقع يسبق العلم، وليس من "قبيل التذكر"، وليس جوهرا مخيبا للآمال، ولكنه "بالأحرى برنامج" لبناء الموضوعات العلمية.
من الواضح أنه أنطلاقا من هذا البناء الباشلاري للموضوع العلمي مرورا بالمفهوم استطاع كانغيلام أن يؤكد أن الموضوع العلمي يأتي دائما في المرتبة الثانية، لكنه “غير مشتق” من الموضوع “الطبيعي”. بمعنى آخر، إنه نتيجة منهج لا يضمن بأي حال من الأحوال مصادفته لواقع خارجي، لأنه ليس انعكاسا ثابتا للـ«شيء»، بل نتاج العمل التاريخي للمفهوم. لنلاحظ أن هذا هو بالضبط المكان الذي يقع فيه التاريخ الإبستيمولوجي للعلم: من خلال بناء آخر، من خلال إظهار على وجه الخصوص أن الشبكة المفاهيمية التي بفضلها يشكل العلم موضوعاته هي شبكة تاريخية، يؤكد المؤرخ الإبستيمولوجيي في الواقع أن بناء الموضوعات العلمية دائما يحدث من خلال "الضم" و"الإخبار" عن مجموعة من المواد والممارسات الخارجة عن العلم. لذلك يمكننا أن نؤكد أن تاريخ المفاهيم الكانغيلامية يصف بدقة هذا العمل المتمثل في استيعاب و"لإخبار" عم المزاد الغريبة من خلال المفاهيم التي تتداول وتنتشر من مجال معرفي إلى آخر:
"[...] لم يمكن للقياس الحيوي والقياس النفسي أن يتشكلا بواسطة كيتيلي، غالتون، كاتيل وبيني إلا منذ اللحظة التي كان فيها للممارسات غير العلمية تأثير (تجلى) في منح الملاحظة مادة متجانسة قابلة للمعالجة الرياضية. [...] لذلك، فإن تاريخ العلوم، بقدر ما ينطبق على الموضوع المحدد أعلاه، لا يتعلق فقط بمجموعة من العلوم التي ليس لديها تماسك جوهري، ولكن أيضًا باللاعلم والأيديولوجيا والممارسة السياسية والاجتماعية".
ثم يسعى تاريخ العلوم الكانغيلامي إلى ربط العلم بما هو خارج عنه، أو باللاعلم، أو بكل القيم غير العلمية. وهكذا يظهر هذه التاريخ أن العمل العلمي يخترع علاقات غير ضرورية مع الممارسات غير العلمية، مع "خارج" العلم الذي يقدم نفسه دائما على أنه إشكالي. استطاع كانغيلام بعد ذلك أن يؤكد أن اختراعات العلماء «هي إجابات لأسئلة طرحوها على أنفسهم بلغة كان عليهم أن يضعوها في شكل". تظهر الطبيعة "الحدثية" للمعرفة عندما تنشأ مشاكل جديدة ويتم تقديم إجابات جديدة محفوفة بالمخاطر وغير قابلة للتنبؤ بها. من هنا اهتمام كانغيلام بالولادات، بالقرابات، بالتغيرات في المعنى، بالقطائع، وب"تثبيتات" المفاهيم التي لا ينبغي إعادة صياغتها بناء على التسلسل المنطقي للنظريات: تاريخ المفهوم ليس "منطقيًا"، بمعنى أنه لا يستجيب للنمط النموذجي للمسيرة المتدرجة والعقلانية نحو الحقيقة. إن تفضيل تاريخ "انتسابات" المفاهيم إلى النظرية يعني، بالنسبة إلى كانغيلام، نفادي المخاطرة التي كانت موجودة بالفعل في التخطي الباشلاري: وهو الاعتقاد بأن حقيقة العلم توفر وجهة نظر متفوقة وبالتالي إمكانية الحكم ليس فقط في ما يتعلق بتاريخ العلم، ولكن أيضا في ما يتعلق بتاريخ العقلانية دون سواها.
من ناحية أخرى، فإن التفكير في التاريخ غير الخطي للعقلانية تنطلاقا من التاريخ غير الضروري للمفهوم لا يعني أن هذا التاريخ عشوائي تماما. على العكس من ذلك، يتعلق الأمر بتبيان أن ظهور المفهوم وتحوله في كل لحظة يستجيبان لشروط إمكانية دقيقة للغاية تتعلق بصياغة مشاكل معينة، تماما كما يشهد استمرار وجوده خلال فترة تاريخية معينة على "بقاء نفس المشكلة". إذا كان علينا أن نلخص في بضع كلمات النهج المتبع في التاريخ الإبستيمولوجي للمفاهيم، فيمكننا القول إن ذلك ينطوي على التفكير في الطرائق التي بموجبها لا تكون شروط إمكانية المفهوم شروطا ضرورية وفق تطور تدريجي لنظام عقلاني.
3- من تاريخ العلم إلى الفلسفة
هكذا يتمثل عمل كانغيلام في تأصيل النشاط العلمي ضمن سياق فريد ودقيق، وهو أولاً وقبل كل شيء سياق مجتمع معين في لحظة تاريخية معينة: "دراسة العلوم وفقا لتاريخها" تعني بالتالي أن "العلم يجب أن يظهر في عالم يجعله ممكنا"، أي مجموعة من الممارسات، التقنيات والمفاهيم التي يتم صياغتها للاستجابة للمشاكل الحالية. وهذا لا يعني أن إبراز «الظروف الخارجية» وشروط الحقيقة التاريخية يؤدي إلى تأكيد اعتمادها الكلي على قوانين مفترضة ذات طبيعة سوسيولوجية.
من وجهة نظر المؤرخ الإبستيمولوجي، تؤدي النزعتان الخارجية والداخلية في الواقع إلى معارضة زائفة بين "سوسيولوجيا طبيعانية للمؤسسات"، تهمل ادعاء الحقيقة من قبل الخطاب العلمي وتؤدي إلى تنسييه الكامل، من ناحية و"تاريخ بلا نظرية" للواقعة العلمية يتمثل في تن تطبق على النظريات العلمية نفس المعايير (النماذج الإرشادية، الفرضيات) التي يطبقها العلماء على موضوعاتهم، منىناحية اخرى. وفي كلتا الحالتين، يتم مماثلة موضوع تاريخ العلوم مع موضوع العلم. وبعبارة أخرى، سواء اعتبرت الحقيقة العلمية نتيجة لشروط "خارجة" عن النظرية، أو باعتبارها ملاءمة للموضوع الحقيقي - الذي تم الحصول عليه عن طريق منطق الفكر الخالص - فمن خلال النموذج النحوي من النوع السببي التمثيلي يتم نناول التفسير التاريخي. في المقابل، تبين النزعة الوضعية الواضحة في عبلرة كانغيلام، "لا حقيقة إلا وهي علمية"، أنها ضد كل نزعة علموية، ليس فقط لأن كانغيلام يؤكد بقوة استقلال عدد معين من القيم عن الحقيقة العلمية، ولكن أيضا لأنه يندد باختزال العلم إلى واقعة لا ينبغي فهمها إلا انطلاقا من الخطاب العلميىذاته:
"من خلال رغبتها في اختزال نشأة العلم ومعناه في الوقائع العلمية، تجعل العلموية نفسها غير قادرة على فهم قيمة ما تسعى إلى تصوره. تحول في الواقع يحول ما هو عمل ومجموعة منظمة من العمليات، التي ليس لها معنى إلا إذا وجدت في تجربة لم يقوموا بها شيئا يتعين فعله. العلموية تجعل العلم مستحيلا من خلال رغبتها في جعله إلزاميا".
وبعبارة أخرى، فإن البديل الخاطئ لـ “ترادف الباطنية-الخارجية” يمنع السياق التجريبي من أن يؤخذ بعين الاعتبار بشكل جدي، ليس فقط لأنه شرط لإمكانية الخطاب العلمي، ولكن أيضا كهدف للخطابات العلمية "النقدية والتدريجية لتحديد ما يجب اعتباره حقيقيا في التجربة". ومن وجهة نظر "تاريخ الحقيقة"، فإن عملية العقل ذاتها يجب أن تُفهم "كقوة لمؤسسة العلاقات المعيارية في تجربة الحياة أقل مما هي قوة لمؤسسة العلاقات المعيارية في واقع الأشياء أوفي العقل".
لكن المشكلة والتحدي الذي تطرحه الحقائق العلمية، باعتبارها التعبيرات الوحيدة عن الحقيقة في عصرنا، هما أن هذه الحقائق تُعطى لمجمل التجربة تحت نمط علاقة العالم بموضوعه. إنها تظهر في أشكال كونية نهائية وخالدة. علاوة على ذلك، لكي يتمكن العلم من تعريف نفسه على هذا النحو في لحظة معينة من تطوره، يجب أن يكون قادرا على التحقق من صحة حقائقه. وبما أن هذه الحقائق هي استجابات علمية لمشاكل نشأت في أماكن أخرى، في المجالات غير العلمية للممارسة السياسية، الاجتماعية والأخلاقية، إلخ..، فإنها تقدم نفسها باعتبارها استجابات معيارية ومجزية في هذه المجالات نفسها. وهكذا تقدم الحقيقة العلمية نفسها على أنها "وهم دوغمائي" مهيمن في مجال التجربة الإنسانية برمته، عندما يتم تصدير النموذج التفسيري الذي يميز الإجراءات "التأسيسية" للعلم إلى المناطق التي يفي فيها تقييم الحياة البشرية بمعايير غريبة عن الواقعية العلمية. إن "الصراع الحتمي" بين الحقيقة العلمية التي تقدم نفسها كإجراء مهيمن للتثمين والقيم الأخرى للحياة الإنسانية يشير بلا شك إلى المعركة النيتشوية بين التأويلات ولكنه يمكن أن يذكر أيضا بالنقد الفتجنشتايني ضد الحضارة الحديثة وما تقتضيه من "مكننة" الحياة. بالنسبة إلى كانغيلام، لا يمكن النظر إلى هذا الصراع إلا من التموقع على مستوى آخر، المستوى الفلسفي:
"لا مصلحة لنا في أن نطالب للحكم بالتقادم بشكل الحكم العلمي، ما دمنا لم نثبت أن شكل الحكم العلمي هو وحده الشكل الصحيح أو الصادق للحكم. ولكن من السهل أن نرى أن دراسة هذه المشكلة تتطلب تجاوز وجهة النظر العلمية الصارمة. التحقق من صحة الحكم العلمي يعني جعل الحكم العلمي يعتمد على حكم قيمة. لكن العلوم المعيارية تقترح العكس".
إن مسألة "التحقق من صحة الحكم العلمي"، وبالتالي رهان تفكير في الحقيقة، تعني أن مشاكل الفكر لا تختزل في مشاكل علمية وأن أحكام القيمة لا ترد إلى أحكام علمية. إن مبدأ عدم التنافس بين العلم والفلسفة على وجه التحديد هو الذي سمح لكانغيلام بتحديد مهمتين لمشروع فلسفي يتميز بوضع الحقائق العلمية في منظورها الصحيح في علاقة بمجمل الحياة البشرية: أولاً، يجب على الفلسفة، وفقا له، مواجهة لغات الخاصة، رموز خاصة، مع ما يظل ساذجا بشكل أساسي وجوهري في التجربة المعاشة. وثانيًا، الفلسفة هي “المكان الذي تواجه فيه حقيقة العلم قيما أخرى مثل القيم الجمالية أو القيم الأخلاقية” .
وفقًا لكانغيلام، تبدأ الفلسفة على وجه التحديد من "افتراض الكلية" التي هي غريبة عن تخصص الشعبة العلمية لأن هدفها هو "معرفة كيفية تحديد قيمة الحقيقة في ما يتعلق بالقيم الإنسانية الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار "جذورها الحيوية المشتركة"، أي تجربة ما تزال غير قابلة للاستيعاب أو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشملها الحقيقة العلمية. لا يتعلق الأمر إذن بـ"تحديد" الحقيقة العلمية باسم شرعية ترغب في طرح نفسها على أنها كونية، بل يتعلق بإظهار أن الحقيقة العلمية "ليست القيمة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يكرس نفسه لها". إن تاريخ العلوم إذن هو تاريخ فلسفي لأنه يوضح أن الحقيقة العلمية هي نتاج لقاء: لقاء العلم مع اللاعلم، أي الظروف السياسية، الاقتصادية والاجتماعية للعقلانية العلمية، وبشكل أعم مجموعة كاملة من الأنشطة والتجارب البشرية التي ليست غابتها المعرفة. وفي ما يتعلق بهذه الأنشطة المتعددة الأوجه، "فإن وجهة النظر العلمية هي وجهة نظر مجردة تعكس اختيارا وبالتالي إهمالًا". لكن هذا الاختيار بالتحديد هو الذي يسمح للحكم العلمي بأن يطرح نفسه كحكم على الواقع، وهذا الاختيار مرة أخرى هو الذي يسمح للعلم بأن يتشكل كشعبة. ومع ذلك، بالنسبة للفلسفة، فإن المهمل هو ما يثير الاهتمام، أي كل ما يبقى تحت "القطيعة" المقامة في الواقع من خلال اختيار الأشياء العلمية:
"من الناحية الفلسفية، فإن ما يرفضه العلم لا يقل أهمية عما يخطط للقيام به. رفض العلم، يسميه العلم باطلاً ولا يعترف له بأي قيمة. لكن هذا الباطل الذي يضعه المنطق في معارضة دائمة معرالحق، يجب على الفلسفة أن تطالب، إذا جاز التعبير بحقوقها فيه".
تتمثل وجهة النظر الفلسفية في تاريخ العلوم في تقييم الوظيفة المهيمنة للحقيقة العلمية في مجال من الأنشطة الإنسانية من خلال فحص التشكل التاريخي لكل ما رفضته هذه الحقيقة ذاتها، وبالتالي لا يجد ذاته أكثر "مؤسسا في الحاضر" بقدر أكبر: خطأ، وحش، "حطام" تاريخ العقلانية. لذلك لا يمكن وصف التاريخ الكانغيلامي للمفاهيم لل كعلم ولا كتاريخ للعلوم، بل كتفكير فلسفي في العلم، في الطريقة التي تبني بها العلوم موضوعاتها بفضل شبكة من المفاهيم التي ينطوي تطورها التاريخي على تأثيرات التكوين، التداول، الإقصاء: "من التاريخ إلى العلم، كموضوع للتساؤل الفلسفي، أي منىحيث تكوين، إصلاح وصياغة المفاهيم، تنشأ فلسفة العلم".
إن الدور الذي يخصصه كانغيلام للفلسفة ولعلاقتها بالعلم يكشف بالتالي كل غموض الإرث الكانطي في تفكيره. من ناحية، سنكون قد أدركنا الإلهام المتعالي عادة للفلسفة التي لا تمثل فهما مباشرا للموضوع، قصدا مستقيما تجاه الموضوع، بل بالأحرى بحثا عن شروط إمكانية المعرفة. بهذا المعنى، تتميز المقاربة الفلسفية للعلم بالقصد المائل في ما يتعلق بالموضوع، وهذا يعني أن الفيلسوف الإبستمولوجي يهتم بشكل أساسي بالأدوات المفاهيمية التي يستخدمها العلم لمعرفة الأشياء. من ناحية أخرى، سنلاحظ أنه عندما يذكر استحالة وجود حقيقة من النوع الفلسفي، يرفض كانغيلام ادعاء حقيقة التحليل الكانطي المتعالي، الذي حدد المتعالي بأشكال قبلية من المعرفة. نحن نعلم في الواقع أن قسما كبيرا من الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، بدء من فوكو إلى باشلار، ورجوعا إلى برونشفيغ، سعوا إلى اتباع البرنامج الكانطي المتمثل في تسليط الضوء على ما يتعالى على المعرفة ويسبقها، بينما يسعون إلى أرخنة المتعالي من أجل أن يكونوا قادرين على أن يأخذوا في الاعتبار بجدية "تاريخية هي في آن واحد تاريخية المفهوم والحقيقة، تجعل من الممكن الإبلاغ عن كيف ترى النور في كل مرة حقيقة أخرى تستعمل مفاهيم أخرى". بمعنى آخر، إذا كانت الفلسفة لا تستطيع التدخل إلا بعديا دون تحديد حقائق العلم، فذلك لأن هذه الحقائق ذاتها هي نتاج تاريخ، تتخلله عوائق تجريبية وقطائع إبستيمولوجية، وليست مجموعة من المقولات الثابتة والمشكلة قبلا التي اكتشفتها الفلسفة. إن مفهوم "القطيعة" الإبستيمولوجية عند باشلار لا يقول شيئا آخر. يتم بعد ذلك استبدال فكرة أن العلم نسق بمفهوم العلم كعملية.
الجانب الآخر من الإرث الكانطي في فلسفة كانغيلام هو دعوتها النقدية الصريحة: ضد العلموية التي ترغب في توسيع مبادئ المعرفة العلمية لتشمل سائر مجالات النشاط الإنساني، يتعلق الأمر على وجه التحديد بالقيام ب"نقد فلسفي"؛ أي تحديد حدود المعرفة العلمية باانسبة إلى جميع القيم الأخلاقية، السياسية، الجمالية، إلخ.. وهكذا فإن الفلسفة الكانغيلامية تقدم نفسها بالفعل على أنها هذا النشاط النقدي الذي سيتناوله فوكو لاحقا على حسابه: “لا يمكن للفلسفة ألا تكون موقفا نقديا، بالنسبة إلى جميع الوظائف الإنسانية التي تنوي الحكم عليها، لأنها تسعى من خلاله إلى المعنى مه إعادة دمجه في امتلاء الوعي". بهذا المعنى بغير شك، دعا كانغيلام إلى إنشاء "نقد للعقل الطبي العملي" الذي يمكن أن يتعرف في ظاهرة الشفاء على التعاون بين المعرفة العلمية التجريبية واللا معرفة للقيم الحيوية التي أنشأتها العضوية في حوار مع بيئتها. علاوة على ذلك، تظهر الفلسفة، في انفتاحها على جميع الأنشطة الإنسانية، ومن خلال سعيها إلى فهم روابطها مع التجربة المعاشة، دعوتها "الشعبية"، وتظهر نفسها على أنها "شأن الجميع، وليس فقط الفلاسفة".
ومن ناحية أخرى، ينصب نقد الفلسفة المتعالية الكانطية على العجز عن التفكير في تاريخية العلوم باعتباره عجزًا عن التفكير في التحول – الذي يقوم به العلم أيضا – في أطر التجربة الإنسانية. يتصور كانط المعرفة المتعالية تماما كما يتصور العالم موضوعه: فهو يدرس المعرفة القبلية كمجموعة ثابتة من المقولات والمفاهيم التي أمكن تحديدها بالمقولات الرياضية والفيزيائية في عصره. إذا كان الماقبلي مغلقل ونهائيا، فمن الطبيعي أن توفر الحساسية مواد جديدة لمفاهيم التجربة، لكنها لن تكون عندئذ اختراعا بل اكتشافًا، لأن ما يتغير تاريخيا هو على وجه التحديد التجربة وليس أشكال التجربة. وكما سنرى لاحقا، فإن الإرث
الصدامي للكانطية داخل التيار الإبستيمولوجي الفرنسي أدى، عند فوكو، إلى نقد المشروع الفينومينولوجي. كان هذا المشروع، في نظره، غير قادر على التفكير في تحولات شكل التجربة على ضوء تحولات المعرفة العلمية.
لتلخيص ذلك، يمكننا القول أن العلاقات بين العلم والفلسفة عند كانغيلام تتميز بانفتاح مزدوج. فمن ناحية، من خلال الانفتاح على عالم الحقيقة العلمية كنتيجة للتصحيح الدائم، تتوقف الفلسفة عن كونها تتنبأ بالحقائق الأبدية والخالدة. وهكذا يُظهر العلم، في تطوره التاريخي، للفلسفة حدودها وإمكانياتها الخاصة. ومن ناحية أخرى، الفلسفة هي التي تفتح العلم على عالمه الخارجي، من خلال إظهار كيف أن مفاهيمه ليست انعكاسا بسيطا لواقع خارجي، حيث تكون المعرفة "متوافقة معه"، ولكنها تستجيب لاستخدامات وظيفية ومفيدة ولشروط الإمكانية المتجذرة في مجموعة معقدة من الأنشطة البشرية.
يجب على المؤرخ الفيلسوف بعد ذلك أن يدرك في نفس الوقت كيف ولماذا تكون المعرفة نتيجة لظروف لا تقع ضمن نظام المعرفة، ولكن يجب عليه أيضا أن يفهم كيف تنطوي الحقيقة العلمية على سلسلة كاملة من التأثيرات على الممارسات غير علمية. تتمثل مهمة الفلسفة، بالنسبة لكانغيلام، في دراسة عقلانية المشروع العلمي - وخاصة نشاط العلوم البيولوجية والطبية - أنطلاقا من "آخره"، أي الطرائق غير العلمية لتثمين الحياة البشرية، وعلى وجه التحديد انطلاقا من معيارية الكائن الحي.
وهكذا تجد نفسها المفهمة الجارية في العلوم في مواجهة آخرية يعيد المؤرخ الإبستيمولوجي باستمرار طرح إشكاليتها كحدث لعقلانية بصدد خلق وتحديد ذاتها كذلك. ونتيجة هذه الحركة المزدوجة، والتي هي أيضا في استمرارية كاملة مع التقليد الإبستيمولوجي الفرنسي، هي أن تاريخ العقلانية الكانغيلامية يرتبط دائما بخارج تقني سياسي، بيولوجي، يتكون أيضًا من العديد من الممارسات بالإضافة إلى الأجسام الحية. بل أيضا من علاقات القوة، ولكن دون “التخلي عن قيم عقلانية، موضوعية وكونية الفكر العلمي”. وفقا لكانغيلام، إذا كانت هناك وجهة نظر فلسفية صحيحة تتكون من ربط حقيقة العلم بمجمل القيم الإنسانية الأخرى، فيجب أن تقع بالضبط بين هذين القطبين: الخبرة الذاتية كمركز للتقييم الذي لا يمكن تجاوزه وضرورة تقييم المفهوم الذي يوازن ويبرر باستمرار الأولى باسم العقلانية الموضوعية.
4- التجربة، الموضوعية واشتغال مفهوم
إذا كان من الممكن تصور التاريخ الإبستيمولوجي عند كانغيلام باعتباره تفكيرا في مصير العقل وتشعباته انطلاقا من تاريخ العلوم، فإن هذه المقاربة لا تعني على الإطلاق النسبية والعدمية، كما تشير القراءات التي تدين التاريخية والجهوية للتاريخ الإبستيمولوجي. على العكس من ذلك، فبدلاً من إفراغ العقلانية من قيمتها التفسيرية والمعيارية، فإن الأمر يتعلق بفهم ولادة وتكوين هذه العقلانية نفسها انطلاقا من آخرها، انطلاقا من عدم التمييز بين العقل واللاعقل، كما يؤكد فوكو خلال قراءة استرجاعية. من حياته المهنية وخاصة من دروس معلمه كانغيلام:
"[فيما يتعلق] بتحليلات تاريخ العلوم، فإن كل هذه الأشكلة في تاريخ العلوم (التي هي بلا شك متجذرة في الفينومينولوجيا، التي اتبعت في فرنسا، من خلال كافييس، ومن خلال باشلار، ومن خلال جورج كانغيلام، تاريخا آخر بأكمله)، يبدو لي أن المشكلة التاريخي لتاريخية العلوم لا تخلو من بعض العلاقات والتشبيهات، دون أن تكون إلى حد ما صدى لمشكلة تكوين المعنى: كيف تولد هذه العقلانية، كيف تتشكل، انطلاقا من شيء ما مختلف تماما؟"
يرجع فوكو السؤال: “كيف نفكر في تشكيل العقلانية من غير العقلاني؟”، إلى سؤال أوسع بكثير، طرحته الفينومينولوجيا في فترة ما قبل الحرب والذي أصبح أيضا السؤال المركزي للبنيوية، ولكن يمكننا أن نعتبره بشكل أكثر عمومية علامة الفكر الفرنسي في القرن العشرين: "كيف يكون هناك معنى من اللامعنى؟ كيف يأتي المعنى؟" في مقدمة شهيرة للطبعة الإنجليزية من عمل كانغيليم الرئيسي «الطبيعي والمرضي» ، رسم فوكو خطا فاصلا بين الإجابات التي تم تقديمها في فرنسا على هذا السؤال: من ناحية، «فلسفة الخبرة، المعنى، والذات» (سارتر وميرلو بونتي)، من ناحية أخرى، «فلسفة المعرفة، العقلانية والمفهوم» (كافييس، باشلار، كويري، كانغيلام).
لم يبين فوكو فقط أن هوسرل قد قُرئ في السياق الفرنسي انطلاقا من هذين الخطين الفكريين "المتباينين" والمتعارضين سابقا، لكنه عندما أعاد صياغة هذا النص، بعد ست سنوات، عاد بنفس المعارضة إلى انفصال أقدم بين "بيرجسون وبوانكاريه، لاشيلييه وكوتيرا، مين دي بيران وكومت". ومع ذلك، يمكننا القول، بالتبسيط، إن هذا التعارض قد استمر بين الحيوية والوضعية، بين اللاعقلانية والعقلانية، أو بكل بساطة، حسب وجهة نظرنا المحددة، بين المقاربتين الرئيسيتين لتحليل المفاهيم الموجودة منذ ديكارت والتي تتمثل في دراسة المفهوم من ناحية حسب علاقته بالذات، كشكل من أشكال العقل الذي يدرك الأشياء، ومن ناحية أخرى وفقا لوظيفته التمثيلية، وبالتالي علاقته بالأشياء. ومع ذلك، كما أشار آلان باديو، فإن هذا التعارض بين فلسفة المفهوم وفلسفة الوعي ليس في الواقع واضحا أو محددا. إن تبسيط المشاركة الفوكوية لا يسمح لنا بأن نضع، مثلا، مفكرين مثل دولوز، وهو حيوي ولكنه عدو لكل فلسفة الوعي، أو دريدا، المفتون بمشكلة المثل الرياضية عند هوسرل وبالفكر البنيوي، ولكن في نفس الوقت ناقد عنيد للعقلانية والمفاهيمية.
لكن هذه الصعوبة تنطبق بشكل خاص على كانغيلام الذي، رغم تأكيده على التعارض بين سارتر وكافييس، وبينما كان ينتمي إلى لإطار الباشلاري للبحث الفلسفي حول المفهوم والعقلانية، فقد امضم مع ذلك إلى التيار الحيوي، من خلال إعلانه بين الأربعينيات والخمسينيات (من القرن الماضي) عن وجود استمرارية بين فلسفته البيولوجية والبرغسونية، مع دعم "مقاومة الماركسية والوجودية لتشييء الحياة ووسمها بميسم الرياضيات". والأكثر من ذلك، فإن معارضة فلسفة كانغيلام لفلسفة الذات هي التي تطرح مشكلة. لأنه إذا كان التاريخ الإبستيمولوجي يشكك في الدور التقليدي للذات المعرفة ويمحو صورة الذاتية الإبداعية لصالح تحليل الشبكات المفاهيمية، فيمكننا أن نتذكر أن كانغيلام يعتبر، من وجهة نظر فلسفته في الطب، بمثابة منظّر عدم إمكانية اختزال التجربة الذاتية للمريض في مواجهة تشييئ المعرفة الطبية. إن المبدأ الأساسي لعمل كانغيلام الأساسي، "الطبيعي والمرضي"، هو في الواقع الأولوية التي يجب أن تعطيها فلسفة الطب الجديدة للتجربة الحياتية للمريض في ما يتعلق بخطاب الطبيب اللاإنساني والمطبع، وذلك لتفادي تذويب التفرد المرضي في تباين كمي طبيعي.
في أعقاب أعمال فايتسكر، روير وغولدشتاين، كان الأمر بالنسبة لكانغيلام يتعلق بتفسير المرض ليس باعتباره انحرافا عن المتوسط ​​الإحصائي، ولكن باعتباره ظهور سلوك جديد للكائن الحي في علاقته بالبيئة. كان درس كيرت غولدشتاين يتمثل في اعتبار الكائن الحي فردا بالمعنى الحرفي: كلا غير مقسم، ونشاطه وحده قادر على إعطاء معنى للعناصر التي يتكون منها. وبالتالي، فإن وحدة الكائن الحي هي التي لها معنى، والبيولوجيا نفسها، وفقا لجولدشتاين، هي علم الأفراد لأنها “تتعامل مع الأفراد الموجودين والميالين إلى الوجود، أي تحقيق قدراتهم كأفراد بأفضل قدر من الإمكان في بيئة معينة". كان مفهوم كانغيلام الفريد والذاتي للمرضي متجذرا في النهاية في السياق الأوسع لفلسفة الفردانية المؤسسة بيولوجيا والمؤدية إلى فكرة النشاط المعياري للكائن الحي.
في هذا الصدد، يجب أن نتحدث عن معنى مزدوج للمعيار في البيولوجيا والطب: ما هو طبيعي هو ما يتوافق مع القاعدة ولكن أيضا مع قيمة الحالة التي نرغب في إعادة إقامتها، حيث أن الإنسان الحي "يصف هو نفسه كمرضية، وبالتالي يلزم تجنبها أو تصحيحها، بعض الحالات والسلوكيات المدركة". ومن خلال التعبير عن التمييز بين الإيجابي والسلبي، بين الطبيعي والمرضي، فإن المعيار يحيل الواقع إلى قيمة، وبالتالي يتأهل كمفهوم جدلي بقدر ما يحدد المظهر الخارجي عن طريق تحميله تقييما سلبيا. وفي علاقتها بهذا الخارج، ومن خلال معارضة ما يمثله من شذوذ وغير السوي، يطرح المعيار نفسه كإمكانية للتنظيم. يجب علينا بعد ذلك أن نلاحظ الطابع المعياري لما هو طبيعي، أي حقيقة إمكانية اعتباره مرجعا لأشياء لا يمكن بعد أن يقال عنها كذلك: "إن الطبيعي إذن هو في كل من الامتداد والإظهار. يضاعف القاعدة وفي نفس الوقت يشير إليها".
في الأساس، التأكيد على أن المعيار مطابق للقاعدة التي تظهر فعلا في إنجاز مشروع معياري هو بمثابة القول بأن القاعدة في حد ذاتها لا معنى لها وأنها تنبثق عن القانون الطبيعي على وجه التحديد من خلال عرضيتها مادام أن إمكان التنظيم الذي تقدمه "يحتوي، بحكم أن الامر يتعلق بإمكانية واحدة، على نطاق إمكانية أخرى لا يمكن أن تكون إلا معكوسة ".
بمعنى آخر، إذا وصف كانغيليم النشاط المعياري باعتباره تعبيرا حيويا بدائيا، فليس من أجل إحالته إلى ثبات القانون الطبيعي، بل إحالته إلى الفرد في بيئة معينة، باختصار منىأجل جعله نوعا من الآلية الخلاقة المتجاوزة لذاتها باعتبارها نتاج "جهد عفوي للكائن الحي للسيطرة على البيئة وتنظيمها وفقا لقيمها الحية".
بالنسبة لكانغيلام، ليس وجود المعيار هو الذي يحدد الصحة في علاقتها بالمرض، بل وجود “وفرة زائدة من الوسائل” في العضوية السليمة. تسمح هذه الوفرة الزائدة للجسم بالتسامح مع الاختلافات في المعايير لإنشاء "ألعاب حيوية" أخرى، أي باختصار، اللعب وفقا لقواعد أخرى. وهو ما يعني قبل كل شيء أن العضوية في صحة جيدة قادرة على العيش والحفاظ على نفسها في بيئة أخرى – تستطيع أيضاً أن تبنيها وفقاً لقدراتها وضرورياتها الحيوية – في حين أن العضوية المريضة تضطر إلى العيش في بيئة “متقلصة” تفرض ذاتها عليه، مادام أنها غير قادرة على أي معيارية. وهكذا، تشهد الصحة على "قوة معيارية للتشكيك في المعايير الفسيولوجية المعتادة"، في حين أن غير السوي، بعيدا عن كونه الشخص الذي لا يطيع المعايير، يظهر في جميع الاحتمالات باعتباره الشخص الذي "يطيعها كثيرا". الحياة نفسها تمنح قيمة معينة للعضوية المعيرة على أساس قدرتها على تحديد وهيكلة بيئتها الحيوية. إن تحديد المعنى الموضوعي للمرضي الذي يبنيه العالم الفيسيولوجي في التجربة المختبرية ليس سوى تعبير عن القدرة المعيارية للعيش في البيئة المختبرية الجديدة: "إن الإنسان العادي هو الإنسان المعياري، القادر على تأسيس جديد للمعايير، حتى العضوية منها». وبهذا المعنى يعبر الزوج طبيعي/مرضي عن «قطبية دينامية» للحياة، حيث تكون الأخيرة في نفس الوقت متوافقة مع المعايير وتخلق معايير جديدة على وجه التحديد من خلال قدرتها على اللعب خارج أي معيار. وبينما يعمل المعيار كمبدإ للانتظام "الطبيعي"، فإنه يوجد بالتالي داخل وخارج الفردية الحية، ويفهم على أنه عملية معيرة (بفتح وتشديد الياء) ومعيرة (بكسر وتشديد الياء) في نفس الوقت، في حوار دائم مع بيئتها. وكما يقول باديو، معيدا صياغة كانغيلام، "كل شيء حي هو مركز، لأنه يشكل بيئة موحدة، حيث تأخذ السلوكيات والميول معنى في ما يتعلق بالحاجة".
هذا المفهوم عن النشاط المعياري للحياة يعني بالنسبة لكانغيلام أن مفاهيم الصحة والمرض والقيمة الحيوية والمعيار يجب تفسيرها "مع إشارة محددة إلى التجربة الإنسانية الذاتية، مع دلالاتها الوجودية والنفسية المعتادة. "إذا كان "العيش هو أن إشعاع (الكائن الحي)، وتنظيم بيئته انطلاقا من مركز"، فإن الإنسان، الذي لا يميز نفسه عن الحيوانات في هذه النقطة، يبني بيئته الخاصة: "عالم إدراكه، أي - لنقل، مجال إدراكه العملي". التجربة حيث أفعاله، الموجهة والمنظمه بالقيم المتأصلة في الميول، تنحت أشياء مؤهلة، وتضعها في علاقة مع بعضها البعض، وكل شيء في علاقة به ». وبهذا المعنى، يمكننا أن نؤكد أن كانغيلام يمارس إزاحة مزدوجة في ما يتعلق بالعقيدة الأنطولوجية الأساسية للبيولوجيا، والتي تتمثل في إسناد الفردية إلى أصغر جسيم من المادة (مثلا، الخلية). ومن ثم فهو يعرّف الفردية البيولوجية بأنها "مصطلح في علاقة"، كعلاقة مع البيئة الداخلية والخارجية للعضوية، وفي نفس الوقت كنشاط معياري أساسي يتكون من تجاوز مستمر لشكل الفرد ذاته. الامتياز الثلاثي الممنوح للعلاقة على المادة، وللسلطة على الشكل، وللتفرد على الفرد – حيث يمكننا أن نكشف بوضوح الفكرة النيتشوية عن خلق القيم كتأكيد للحياة. ومع ذلك، هل هذا الامتياز الثلاثي كافٍ للتأكيد على أن تجربة الحياة بحد ذاتها هي تجربة «ذاتية»؟ بمعنى آخر، هل يكفي الحديث عن الفردية البيولوجية لترسيخ أسس فلسفة الذات باعتبارها مجموعة من الوظائف التي تقاوم التشييء؟
وفي هذا الموضوع، لاحظ بيير ماشيري أن تجربة كانغيلام للإنسان الحي تتميز بالازدواجية الأساسية بين التجربة الواعية والتجربة اللاواعية، وهو ما يرجع إلى حقيقة أن الكائن الحي يمثل شيئين في وقت واحد: "إنه أولا وقبل كل شيء الفرد أو الكائن الحي"، الذي يُدرك في تفرده الوجودي، كما تكشفه بطريقة مميزة التجربة الواعية بالمرض؛ ولكنه أيضًا ما يمكن أن نسميه "حي الحي": هذه الحركة المستقطبة للحياة التي تدفعها، في كل كائن حي، إلى التطور إلى الحد الأقصى مما يجب أن تكون أو توجد". في تجربة المرض، يتميز الانتقال إلى الذاتية بأنه التجربة الإنسانية المحددة للفردية البيولوجية كعملية تفرد تضفي قيما على سلوكيات الفرد في علاقته بالحياة؛ باختصار، باعتبارها تجربة معيارية حيوية بحد ذاتها. وبهذا المعنى، فإن فكرة ثالثة للتجربة يقحمها كانغيلام في المقال بتكتم، “فكرة الدافع الذي يميل نحو النتيجة دون ضمان تحقيقها أو البقاء فيها؛ إنه الكائن الحي غير المنتظم، الخاضع لعدد لا نهائي من التجارب، وهو، في حالة الإنسان الحي، المصدر الإيجابي لجميع أنشطته. إذا كان الكائن الحي، بطريقة ما، دائما ذاتيا، “خاضعا لتجربة” مفروضة عليه من قبل البيئة، فإن تجربة الحياة هذه هي على وجه التحديد مصدر المعيارية التي تسمح للحي بأن يطرح نفسه كذات في بيئته. ومن خلال هيكلة بيئته بإنتاج المعايير وينشاط التثمين المستمر، يصبح الإنسان بعد ذلك مركز بيئته، أي مركز التجربة التي هي بناء المعايير.
ومع ذلك، لا بد من التوضيح أنه لا توجد حتى الآن عتبة للتمييز بين الإنسان والحيوان، حتى على مستوى العبور بين الفردية والذاتية، حتى لو لم نحدد خصائص التجربة التي عاشها الإنسان في بيئته. لكن، يتم تعريف التجربة الأنثروبولوجية بالضبط من خلال علاقة معينة بالمعرفة، وبالتالي من خلال علاقة معينة بين الحياة والمفهوم: فالإنسان لا يستخرج معلومات معينة من بيئته لبنيتها فحسب، بل يعطي أيضا قيمة معينة لتلك المعلومات كمعرفة ببيئته. في مقاله عام 1966 حول "المفهوم والحياة"، سعى كانغيلام إلى التغلب على التعارض، الذي رسمه برغسون بشكل كلاسيكي، بين الحياة كقوة دينامية للتجاوز والمفهوم باعتباره "تثبيتا" و"تشييئا" و"تطبيعا" للزخم الحيوي. يرى كانغيلام أن الحياة والمفهوم ليسا متعارضين: فالعيش يعني أيضا أن نعرف، وتكوين المفاهيم هو أسلوب حياة، لأن المفهوم نفسه يمكن فهمه على أنه معلومات "تأخذها جميع الكائنات الحية من بيئتها، والتي من خلالها على العكس من ذلك يهيكل وسطه". ومن ثم، فإن الفكر المجرد ليس هو الآخر للحياة، بل هو تعبير مذهل عن الحياة نفسها: «يتم استيعاب الملكة الخاصة بالمفاهيم باعتبارها لحظة إشكالية في تجربة الكائنات الحية». ومن هذا يمكننا استخلاص نتيجتين تعكسان في الوقت نفسه سلسلة من الإسكاليات المعاصرة والتأثير المتبادل بين كانغيلام وفوكو: أولا، إعادة صياغة مفهوم التجربة، وثانيا، تصور جديد للذات العارفة.
المصدر:
5- من الحيوي إلى الاجتماعي، أفهوم التجربه
إذا كان كانغيلام يحافظ على القطيعة بين التجربة والمعرفة، فهو ضمن تجربة أنثروبولوجية أوسع وهي تجربة التيه، أي القدرة الخاصة بالإنسان على ارتكاب الأخطاء لأنها قادرة على وجه التحديد على إعطاء تقييم معين للمعلومة، من شأنه أن يتعارض مع التقييمات الأخرى. يُظهر هذا الصراع الطابع الدينامي للتجربة الإنسانية، التي تواجه دائما بيئات جديدة تعيد هيكلتها بنفسها، لكن أيضا التحول الضروري والمستمر للمعرفة: "يخطئ الإنسان عندما لا يضع نفسه في المكان المناسب لاكتساب معلومة معينة يحتاج إليها. ولكن أيضا من خلال التنقل يقوم باكتساب المعلومة". إذا كان كانغيلام، في النسخة الأولى من المقال، قد أصر دائما على "القطع" بين الحياة والمعرفة لصالح التكنولوجيا، فقد أصبح انطلاقا من عام 1966 يتصور العلم كشكل من أشكال المعيارية الاجتماعية. يتم بعد ذلك إدراج الخطإ العلمي وكذلك التعارض الحقيقي والزائف في القوة التائهة للحياة نفسها، في "احتمال الخطأ المتأصل في الحياة" الذي تكتشفه البيولوجيا باعتباره بنية الوراثة ذاتها. وإذا كان للعلوم تاريخ ينطلق من أخطائها، فذلك لأنها أصبحت من الآن امتدادا لقوة غير منتظمة تشكل حياة الإنسان "كحياة محكوم عليها بـ"التيه" و"الخطإ".
تم فعلا إلقاء المحاضرات حول "المفهوم والحياة" خلال السنة التي نشرت فبها "تأملات جديدة حول السوي والمرضي"، حيث يوضح الفيلسوف أن المعيارية الاجتماعية يجب أن تُفهم على أنها امتداد إشكالي للمعيارية الحيوية. في "تأملات جديدة..."، عاد كانغيلام هكذا إلى مسألة معنى المعيار الحيوي كتعبير عن تكيف الكائن الحي مع البيئة من أجل مواجهته بنوع مختلف تماما من "المعايير": المعايير التي تأخذ، في العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع والاقتصاد والإثنولوجيا، معناها داخل المجتمع البشري وبالتالي تعبر عن تكيف الأفراد أو استبعادهم من الجماعات. كان هذا السؤال حاضرا بالفعل في المجموعة المنشورة عام 1965، بعنوان "معرفة الحياة"، حيث لاحظ كانغيلام أنه في ظروف الحياة البشرية، "يتم استبدال المعايير الاجتماعية للاستخدام بالمعايير البيولوجية للتمرين [...]، إن مسأللة المرضي لدى الإنسان لا يمكن أن تظل بيولوجية بحتة، لأن النشاط البشري والعمل والثقافة لها تأثير مباشر في تغيير البيئة المعيشية للإنسان باستمرار. ويأتي التاريخ الخاص بالإنسان ليعدل المشكلات”. تحت الدافع المزدوج لفوكو ومؤرخي الحوليات، قدم كانغيلام فرضية مفادها أن الإنسان قادر على التدخل في بيئته الخاصة من خلال معيارية ليست بيولوجية تماما. وبالتالي، نفس المعايير الفسيولوجية لدى البشر يجب أن تكون مرتبطة بمجموعة من السلوكيات المتعلقة بالمعايير الثقافية. وهذا النظام الثاني من المعايير هو بدوره نتيجة جهد الإنسان لتنظيم بيئته الاجتماعية، لكنه لم يعد من الممكن تصوره كمنظمة تمر دون مشاكل لأن "النظام الاجتماعي هو مجموعة من القواعد التي يهتم بها المستعملون والمستفيدون، والقادة في كل الأحوال": "التنظيم الاجتماعي هو، قبل كل شيء، اختراع للأعضاء"، يؤكد كانغيلام. لنلاحظ أيضا أن الفرق بين الأعضاء، العضويات والتنظيم أصبح أكثر وضوحا في محاضرة "مشكلة الأنظمة في العضوية وفي المجتمع":
"العضوية هي وضع استثنائي تماما من الوجود، حيث أنه بين وجوده ومثله الأعلى، بين وجوده وقاعدته أو معياره، لا يوجد فرق، بالمعنى الدقيق للكلمة. [...] إن خاصية العضوية هي أن تعيش ككل وأن تكون قادرة على العيش ككل فقط. صار ذلك ممكنا من خلال وجود مجموعة من الأجهزة أو الآليات التنظيمية في الجسم، والتي يتمثل تأثيرها على وجه التحديد في الحفاظ على هذه السلامة في استمرار العضوية ككل".
بمعنى آخر، تحافظ العضوية على علاقة "استتباب" بيولوجي مع بيئتها وفق آلية تنظيمية بسيطة: أي تباين في الطلب الخلوي، أو أي تغيير في البيئة، يدمر التوازن بين المدخلات والمخرجات الطاقية للعضوية. يعدل البيئة الداخلية ويحدث أثرا رجعيا يجب أن يعيد التوازن بين البيئة الداخلية والخارجية. لكن، كما يتابع كانغيلام، لا يمكننا أن ننظر إلى المجتمع كعضوية، فالمجتمع، بالمعنى الدقيق للكلمة، منظمة "هي ذات نظام فاعل أكثر منه تنظيم عضوي". ويرجع ذلك على وجه التحديد إلى حقيقة أن المجتمع ليس لديه مثله الأعلى وليس له غاية خاصة به. وبالتالي، فهو يدعو إلى ما يسمى بالتنظيم "الخارجي":
"[...] المجتمع عبارة عن مجموعة من الأحياء، ولكن هذه المجموعة ليست فردا ولا نوعا. إنها ليست فردا لأنها ليست عضوية مزودة بغاائيتها وكليتها التي حصل عليها نظام متخصص من الأجهزة التنظيمية؛ فهو ليس نوعاً لأنه، كما يقول برغسون، مغلق. [...] لذلك، نظرا لكونه ليس فردا ولا نوعا، فإن المجتمع، كونه من نوع غامض، هو آلة مثله مثل الحياة، وبما أنه ليس غاية في حد ذاته، فهو يمثل ببساطة وسيلة، إنه أداة. وبالتالي، فإن المجتمع، باعتباره ليس كائنا حيا، يفترض بل يدعو إلى وضع لوائح؛ فلا يوجد مجتمع بدون أنظمة، ولا يوجد مجتمع بدون قواعد، ولكن لا يوجد تنظيم ذاتي في المجتمع".
على عكس العضوية، بخلو المجتمع من جهاز التنظيم الذاتي الخاص به، وهذا هو بالضبط السبب وراء دعوته إلى "التنظيم الأعلى"، أي العدالة، التي لا يمكن أبدا أن تظهر كجهاز منتج تلقائيا من قبل المجتمع نفسه. "العدالة تأتي من مكان آخر"، كما يقول كانغيلام، معيدا صياغة بيرجسون، والعلامة الموضوعية على عدم وجود عدالة اجتماعية مستنتجة من التنظيم الذاتي الاجتماعي تأتي من حقيقة أن "النظام الطبيعي ربما يكون هو الفوضى والأزمة". يعيش المجتمع في أزمة دائمة، ولهذا السبب يدعو بشكل خاص إلى إنتاج معايير اجتماعية جديدة باستمرار.
إن ما يميز المعيار الاجتماعي عن المعيار البيولوجي ليس التهديد بعقوبة قانونية، بل واقعة أن "السجالية" الخاصة بها تنشأ من قرار معياري حتى عندما تشير إلى استخدام يتعلق بمعايير الحياة الجماعية. إن "ادعاء السلطة" للمعيار الاجتماعي، الذي أكد عليه فوكو، يرجع باختصار إلى تأسيسه من خلال تدخل إيجابي وتكويني مرتبط بـ "مشروع معياري" لا يزال، مع ذلك، جزء من تنظيم بيئته من خلال الإنسان، ولكن فقط إلى الحد الذي لا يمكن فيه اختزال الإنسان الاجتماعي إلى جزء من عضوبة. ومن ثم، فإن إحالة المعايير الإنسانية إلى التوازن، وإلى التكيف، وأخيرا إلى السيطرة على البيئة الخارجية، "يعني ذلك
أنها يتم تحديدها على أنها إمكانيات العضوية في موقف اجتماعي للتصرف وليس كوظائف للعضوية باعتبارها آلية مقترنة بالبيئة المادية. إن شكل الجسم البشري ووظائفه ليست فقط تعبيرا عن ظروف الحياة التي توفرها البيئة، بل هي تعبير عن طرق العيش المعتمدة اجتماعيا في البيئة".
ومن ثم فإن المعيار الاجتماعي هو نتاج إرادة تثمين الحياة البشرية، ولكن من خلاله ينظم الإنسان بيئته بطريقة ثقافية. في الواقع، يعمل المعيار الاجتماعي على المعيار البيولوجي من خلال هيكلة السلوك البشري وتعديل بيئته. ومن وجهة النظر هذه، فإن النظام السياسي ليس سوى طريقة معينة لبناء البيئة البشرية على وجه التحديد، ولكنه أيضا ما يميز التكيف مع هذه البيئة عن آلية الاستتباب. مثال مثير للاهتمام لهذه الفكرة كان موجودا بالفعل في الإصدار الأول لكتاب "الطبيعي والمرضي":
"كل شيء يحدث وكأن المجتمع لديه الوفيات التي تناسبه ، وعدد الوفيات وتوزيعها على مختلف الأعمار يعكس الأهمية التي يوليها المجتمع أو لا يوليها لإطالة العمر. باختصار، إن تقنيات النظافة الجماعية التي تميل إلى إطالة عمر الإنسان أو عادات الإهمال التي تؤدي إلى تقصيرها تعتمد على الثمن المرتبط بالحياة في مجتمع معين، وهو في نهاية المطاف حكم قيمي يتم التعبير عنه بهذا الرقم المجرد الذي هو متويط العمر. إن متوسط العمر ليس هو العمر الطبيعي بيولوجيا، ولكنه إلى حد ما هو العمر المعياري اجتماعيا".
إن التحول الذي أحدثه كانغيلام هنا ضروري لأنه يوضح أنه حتى المؤشر الديموغرافي مثل متوسط العمر في مجتمع معين لا يعتمد على التكيف مع البيئة من قبل "عضوية اجتماعية" غير موجودة، ولكن على تنظيم اجتماعي بأكمله يشمل أشكال الحياة الجماعية وأساليب الحياة والسياسات والتشريعات، إلخ. وهذا لا يمنع مؤشرا مثل متوسط العمر من أن يمثل حالة "طبيعية"، بقدر ما يكون تعبيرا عن المعيار وامتدادا له. وكما يشير ديدييه فاسان، فإن صيغة كانغيلام تقول إن "الكمية المقاسة للحياة، كحقيقة ديموغرافية، والتي يشير إليها متوسط العمر المتوقع، تتضمن وتكشف عن نوعية حياة مقدرة، كإنتاج اجتماعي، أي وفقا للاختيارات التي يتخذها المجتمع في الحفاظ على الحياة”. وإذا عدنا إلى موضوع "السكان" الذي سبق ذكره على أساس هذه الملاحظات، فإننا نؤكد أن الساكنة، حتى في جوانبها "الكمية" البحتة، هي كائن شبه طبيعي وشبه اجتماعي من الناحية المادية. علاوة على ذلك، يتبين أن مفهوم السكان يمثل عنصرا أساسيا في البناء المعياري/المعير كآلية اجتماعية سياسية .
باختصار، سواء فُهمت من وجهة النظر الفردية أو من وجهة نظر "الأشكال الجماعية لتنظيم الحياة "، تصبح التجربة الإنسانية هي المكان الذي يمكن فيه سماع عبارة "معرفة الحياة" بمعناها المزدوج: معرفة تكون فيها الحياة ذاتا وموضوعا في نفس الوقت. وبالتالي فإن المعرفة العلمية والموضوعية للحياة ليست معزولة عن تجربة التيه للحياة الإنسانية: “العلم يفسر التجربة، لكنه لا يلغيها بالضرورة ”. غير أن هذه المعرفة لا تتصالح مع التجربة: فهي بالأحرى تحدد موضع الصراع بين المتطلب المعياري للحقيقة العلمية والتقييمات الأخرى التي يعترف بها الإنسان الحي خلال تجربته باعتبارها "مركزا" لبيئته. هذا الصراع، وهو المكان المناسب للفلسفة، وصفه كانغيلام في مقالته عن “الحي وبيئته” هكذا:
"إن بيئة الإنسان الخاصة هي عالم إدراكه، أي مجال تجربته البراغماتية حيث أفعاله، الموجهة والمنظمه بالقيم المحايثة للميول، تنحت أشياء موصوفة، تضع بعضها إزاء البعض وكل شيء في علاقة به. بحيث تكون البيئة التي من المفترض أن يتفاعل معها تتمحور في الأصل حوله وبواسطته. لكن الإنسان، كعالم، يبني كونا من الظواهر والقوانين التي يعتبرها كونا مطلقا. إن الوظيفة الأساسية للعلم هي التقليل من قيمة الأشياء التي تشكل بيئته الخاصة، من خلال طرح نفسه كنظرية عامة لبيئة حقيقية، أي بيئة غير إنسانية. يتم استبعاد البيانات الحساسة وتحديد كميتها وتحديدها. يتم الشك في غير المحسوس ثم اكتشافه وإثباته. القياسات تحل محل التقييمات، والقوانين تحل محل العادات، والسببية تحل محل التسلسل الهرمي، والموضوعي محل الذاتي".
هذا "الكون المطلق" الذي بناه العلم يتناقض مع تجربة الإنسان الواعية، لكنه في الوقت نفسه يبني هذه التجربة بقدر ما ينظم تقنيا البيئة الإنسانية ويعطي الإنسان "نوعا من الغرور اللاواعي الذي يجعله يفضل بيئته الخاصة على بيئة الكائنات الحية الأخرى، باعتبارها تمتلك المزيد من الواقع وليس مجرد قيمة أخرى". إن مفهوم الحياة هو بطبيعة الحال تعبير عن هذا الاتفاق الصراعي بين التجربة والعلم، لدرجة أن ادعاء العلم بتذويب قيم الحياة “في مجهولية البيئة الميكانيكية، الفيزيائية والكيميائية، [..] "يجب أن يشمل الإنسان الحي نفسه"، وهو ما لا يمنع، علاوة على ذلك، من أن تكون المعرفة وإنتاج المفاهيم جزء من النشاط الذي "يسيطر" به الإنسان الحي على بيئته ويهيكلها.
6 - مسألة الذاتية والمعرفة
فيالواقع، تبدو إعادة التركيز على تجربة الحياة كآخرية غامضة منقوشة في قلب إنتاج المفهوم أنها تؤدي إلى تثمين الذاتية التجريبية. لكن، بأي موضوع يتعلق الأمر؟ إنه في العلاقة بين الفرد الحي والعارف (بمعنيي المعرفة: المعرفة العلمية والمعرفة التي يتم اختبارها من خلال المعيش) و"حي الحي"، أي الحياة نفسها، حيث تظهر الذات. إن الذات على وجه التحديد هي الشكل القابل للنقض دائما لهذا اللقاء، لأنها محل صراع بين قيم الحياة والموضوعية العلمية. تنشأ الذات الإنسانية في العلاقة بين المعرفة والحياة، أي في الصراع بين تجربتين تنتميان بنفس الطريقة إلى المعيارية الحيوية والمدرجة في هذا المعنى الثالث للتجربة كنشاط تائه: تجربة دقيقة للذات في المعيش وتجربة الذات كموضوع للمعرفة العلمية. لذلك، إذا كانت التجربة أولية وتكوينية في ما يتعلق بالموضوع، فهي دائما وأيضا تجربة معرفة الذات كموضوع. لأن الذات ليست هي بطل التجربة، فالذات نفسها هي أكثر من تأثير للتجربة التي تضعها في نفس الوقت كموضوع.
لذلك، يوجد بالطبع لدى كانغيلام ما يشبه تجربة ذاتية، لكن هذه التجربة هي أيضا على الفور تجربة اللاتذاوت من خلال اللقاء بين التجربة والمفهوم، من خلال وضع الذات كموضوع، وقبل كل شيء من خلال الخلق المتجدد للمعايير التي تتعارض مع التجربة الذاتية الأولية. يتعلق الأمر بتذاوت متناقض إلى حد ما، لأنه لا يمكن تقديمه إلا كتدمير لذاتية سابقة وبشروط تجاوزها. ولكن يمكننا أيضا أن نقول إنه إذا كانت هذه الذاتية مؤقتة وغير مستقرة، فذلك لأنها أيضًا تعبير عن تجربة خصوصيتها هي الخطأ. وهكذا تأخذ في نفس الوقت اسمي الضرورة والفشل، كمكان لتيهان الكائن الحي: “الذاتية إذن هي عدم الرضا فقط. ولكن ربما هذه هي الحياة نفسها".
علاوة على ذلك، ووفقا الإرث المتعارض مع الكانطية الذي أشرنا إليه أعلاه، فإن علاقة المحايثة بين المفهوم والحياة قادت كانغيلام إلى رفض فكرة الذات المتعالية. هذا بلا شك هو الدرس الأكثر ابتكارا في المقال حول "المفهوم والحياة"، وهو مقال يمثل بوضوح جزء من سلسلة الاكتشافات الجديدة في البيولوجيا الجزيئية والتي أكسبت فرانسوا جاكوب وأندريه لوف وجاك مونو جائزة نوبل في الفيسيولوجيا والطب عام 1965.
وفقا لكانغيلام، قادت هذه الاكتشافات البيولوجيا الجزيئية إلى تصور جديد للحياة باعتبارها بنية إعلامية تعتمد على فكرة أن الوراثة في حد ذاتها هي نقل رسالة. وبالتالي، فإن البيولوجيا هي الاي غيرت لغتها بالانتقال من استعارات هندسية وميكانيكية إلى لغة "نظرية اللغة و[إلى] نظرية الاتصالات". "المعرفة الجديدة بالحياة" لم تعد تشبه التمثيل، صورة الحياة. أصبحت من الآن تشبه "النحو، الدلالة والتركيب". يحدث كل شيء كما لو أن المنعطف اللغوي في الفلسفة - الذي جعل مشكلة اللغة ليست وسيلة بل موضوعا للتفكير - قد انضم أخيرا إلى المعرفة البيولوجية وأحدث ثورة فيها. إذا كان من الممكن الآن أن يصبح المفهوم جزء من الاستمرارية مع الحياة، فذلك لأن الكائنات الحية نفسها حاملة للوغوس، ومعلومة، ورمز. الحياة إذن ليست سوى نقل، تواصل منظم مفاهيميا؛ باختصار، يمكن تعريف الحياة بأنها "معنى منقوش في المادة". ونتيجة لذلك، فإن شبكة المعاني بأكملها التي تشكل بيئة الإنسان الخاصة تعود إلى هذا النشاط المتمثل في خلق المعنى من خلال نقل الرسائل التي هي الحياة:
"عملت الحياة دائما دون كتابة، قبل الكتابة بوقت طويل، ودون أي صلة بالكتابة، ما سعت إليه البشرية من خلال الرسم، النقش، الكتابة والطباعة، وهو نقل الرسائل.
مثل هذا التصور للحياة، كما يقول كانغيلام، يتضمن عودة معينة إلى الأرسطية، إلى فكرة أن إمكانية المعرفة منقوشة في الموضوع أو الشيء، في هذا الحي الذي تكون طبيعته روحا أو لوغوس. بالنسبة لأرسطو، “العالم معقول، والاحياء على وجه الخصوص هي كذلك، لأن المعقول موجود في العالم”، لأن أشكال الاستدلال تتوافق بالضرورة مع منطق الأحياء ذاته. ومع ذلك، بعد الثورة الكوبرنيكية، يبدو هذا الموقف غير مقبول بسبب فرضية كانط المزدوجة التي بموجبها كل مفهوم هو وجهة نظر وشروط التجربة هي شروط إمكانية التجربة لذات متعالية. وبالتالي، فإن نظرية المعرفة الكانطية تنطلق دائما من المعرفة إلى الشيء، أي من الأشكال القبلية للذات المتعالية. لكن ليس من غير المجدي أن نتذكر أن المنطق المتعالي لا يمكنه فهم ظاهرة الحياة باعتبارها تلك التي تسبق المعرفة نفسها وتجعلها ممكنة، ولا يمكنه فهم المعرفة كنتيجة لتنظيم الكائن الحي. استحالة المعرفة القبلية للسببية العاملة في الكائن الحي، والتي تم تأكيدها بشكل خاص في نقد ملكة الحكم، وقعت بذلك الطلاق بين أفق المنطق المتعالي، المقسم على بديهيات العلوم الفيزيائية والرياضية والموسع إلى العلوم الطبيعية و"الأفق الشعري للطبيعة الطابعة". ما يشير إليه كانغيلام هنا هو بالتالي إمكانية معرفة جديدة بالحياة التي لم تعد تمر عبر معرفة شروط إمكانية تجربة ذات ما، إذا جاز التعبير، منقطعة عن العالم وطبيعة معيشته، ولكن بهذا «المركز المرجعي» المطلق، وهو الكائن الحي على وجه التحديد: «ليس بسبب كوني مفكرا، وليس بسبب كوني ذاتا بالمعنى المتعالي للكلمة، بل لكوني يجب أن أبحث في الحياة عن الإحالة إلى الحياة.».
وفقا لوجهة النظر الجديدة هذه، فإن معرفة الحياة ممكنة ليس من خلال بناء الموضوع انطلاقا من الذات المفكرة، ولكن لأن الحياة نفسها منظمة كمفهوم، كـ«معلومة» عن المادة. ومن هنا جاءت الفكرة، المؤرخة قبلا لدى كانغيلام، القائلة بأن البداهات في معرفة الحياة تكون بجانب الموضوع وليس بجانب الذات. إن هذا الخلل الأساسي في نهاية المطاف هو الذي لا يجعل المعرفة تائهة فحسب، بل يجعل الذاتية أيضا مصدرا لعدم الرضا:
"إن تعريف الحياة باعتبارها معنى منقوشا في المادة يعني الاعتراف بوجود ما قبلي موصوعي، ما قبلي مادي بشكل صحيح وليس شكليا فقط. [...] إن تعريف الحياة كمعنى يعني التزام المرء بعمل الاكتشاف. [...] وبالتالي فإن المعرفة هي بحث لا يهدأ عن أكبر كمية وأكبر تنوع من المعلومات. وبالتالي، فإن كونك ذاتا للمعرفة، إذا كان الما قبلي في الأشياء، إذا كان المفهوم في الحياة، لا يعني إلا عدم الرضا عن المعنى الموجود".
رأينا كيف أن المقاربة الجديدة لمفهوم الحياة أعاد صياغة مسألة المعرفة بالكامل، والتي تُفهم الآن على أنها بحث غير منتظم عن معنى للحياة يعتمد على مفهوم شخصي للعيش "يعمل ضد فرضية الذات المتعالية". إن افتراض وجود ما قبلي مادي لا يمكن أن يؤدي إلى التطبيع وتشييئ الحياة لأن هذا التشييء كان يُفهم دائما انطلاقا من تذاوت لامشخص لتجربة تائهة لكائن حي. وبهذا المعنى، فإن هذه التجربة ذاتها هي انفتاح على التاريخ، تاريخ "أخطاء" الحياة، التي يشكل تاريخ حقيقة العلم وجهها الآخر. وكما يوضح فوكو في مقالته، يمكن للتاريخ الإبستيمولوجيي عند كانغيلام أن يطرح نفسه كبديل للفينومينولوجيا، وبالتالي كطريقة فلسفية للبحث فقط بشرط الاعتماد على تصور آخر للحياة والكائن الحي.
ولكن يمكننا أيضًا أن نرى أن هذه الأسئلة – الاستمرارية المتضاربة بين الحياة والمعرفة في التجربة، والذاتية باعتبارها حطًا دائمًا من الذات، والحياة باعتبارها نقشًا للمعنى في المادة – تتوافق في الواقع، أكثر من الرفض المباشر للظواهر، وإعادة صياغة كاملة. من حالاته. إن مصطلحات الثنائية الواردة في عنوان المقالة الأخيرة التي وقعها فوكو، "الخبرة والعلم"، تشير في الواقع إلى أكثر من تعارض، وصراع وقطبية تنتمي إلى الحياة نفسها. وبهذا المعنى، فإن تعريف الحياة البشرية الذي قدمه كانغيلام كان بالضرورة استجابة لتساؤل أوسع لم يكن بوسع البيولوجيا في الستينيات، بكل ثوراتها، أن تتجاهله. لقد كان هذا بالضبط هو السؤال الأنثروبولوجي، الذي يطرحه كائن حي، باعتباره موضوعًا للمعرفة، وهو في نفس الوقت موضوع تجربة الحيوية المعيارية التي تهزم دائمًا المعرفة الموضوعية. في الإجابة التي قدمها كانغيلام، تم حل مسألة وضع العلوم البيولوجية فيما يتعلق بأساس المعرفة الأنثروبولوجية بالإيجاب: "[...] نعتقد أن البيولوجيا البشرية والطب هما عنصران ضروريان في "الأنثروبولوجيا". وفي الوقت نفسه، وكما رأينا، فإن وجود التساؤل الفلسفي الذي هو مواجهة دائمة بين "اللغات الخاصة" للعلوم والقيم الأخرى الناتجة عن تجربة الحياة الإنسانية ككل يظهر بدقة شديدة أنه "لا يمكن لأي علم أن يحل على أرضه الخاصة مسألة ذات طبيعة غير علمية حول إمكانية استخدامه كنشاط للروح الإنسانية". إن تصور الفلسفة، باعتبارها مكانا تتجادل فيه قيم العلم مع القيم الإنسانية الأخرى، كان أيضا موقفا في الخلاف حول مكانة العلوم الإنسانية وعلاقتها بالفلسفة. سيكون هذا المفهوم الجديد للفلسفة موضوعًا لمزيد من التطوير في الفصل التالي.
المصدر: https://books.openedition.org/psorbonne/104052?lang=fr#tocfrom1n4



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع توجه رسالة مفتوح ...
- النقابة الوطنية للعدل/كدش تدعو موظفي هيئة كتاب الضبط إلى خوض ...
- جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (الجزء السادس والأخير)
- الجيهة المفربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تدين الاعتقالات ...
- جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (الجزء الخامس)
- أعوان الحراسة الخاصة والنظافة والطبخ بعلنون عن تنظيم وقفة اح ...
- التنسيق التعليمي الميداني ينفذ برنامجا نضاليا خلال الأيام ال ...
- جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (الجزء الرابع)
- فركوس.. فضيحة من العيار الثقيل
- هل تهدف لجنة دعم المهرجانات والتظاهرات السينمائية إلى توزيع ...
- جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (الجزء الثالث)
- جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (الجزء الثاني)
- كانغيليم: الفلسفة وخارجها (الجزء الاول)
- فاس: النقابة الديمقراطية للعدل تدعو إلى إضراب وطني إنذاري لم ...
- نقاش على فيسبوك: متى نتجاوز أسلوب الدردشة إلى النقاش المثمر ...
- بخصوص الغارة الجوية على القنصلية الإيرانية في دمشق: كيف نقول ...
- استقواء محمد الفايد بالمجتمع وامتناع أحمد عصيد عن الكلام في ...
- هذا ما جنته على نفسها الدول التي تأخذ قروضا من صندوق النقد ا ...
- استقواء الفايد بالمجتمع وسكوت عصيد عن الكلام في مفهوم الهوية
- متى تقلع لجنة الدعم عن التعامل مع المهرجانات السينمائية الجا ...


المزيد.....




- وزير إسرائيلي لنتنياهو: يجب استبعاد أردوغان من أي دور في مفا ...
- عدوى احتجاجات الطلاب تصل إلى جامعات أستراليا.. والمطالب واحد ...
- -حزب الله- ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي عند الحدود ...
- كينيدي جونيور يعارض ضم أوكرانيا للناتو
- لم يبق سوى قطع العلاقات.. تركيا توقف التجارة مع إسرائيل
- اشتباكات مع القوات الإسرائيلية شمال طولكرم وقصف منزل في دير ...
- الاتحاد الأوروبي يعتزم اتخاذ إجراءات ضد روسيا بسبب هجمات سيب ...
- شهداء ودمار هائل جراء قصف إسرائيلي لمنازل بمخيم جباليا
- اشتباكات بين مقاومين والاحتلال عقب محاصرة منزل في طولكرم
- وقفة أمام كلية لندن تضامنا مع الطلاب المعتصمين داخل الحرم ال ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها/ ترجمة: أحمد رباص